|
|||||||
الصورة في شعر ياسين طه حافظ عباس الغالبي
توطئة يشكل جيل الستينيات في القرن الماضي- الذي ينتمي إليه الشاعر ياسين طه حافظ- أكثر الموجات الشعرية إثارة, وعمقاً في الشعر العراقي الحديث. ولم يكن بزوغ هذا الجيل طارئاً, أونزوعاً فهرسياً محضاً للنصوص الشعرية أنسياقاً وراء سطوة زمنية « أعمار الشعراء وسنوات نتاجهم» أو سطوة تاريخية وسياسية, تربط المنجز النصي بحدود النقلات أو العثرات المهمة في تاريخ البلد, وإنما كان هذا البزوغ للجيل الستيني بمثابة حاجة فكرية وإبداعية كبرى كان المجتمع العراقي يضج بها على المستويات كافة. ويرى بعض النقاد المحدثين أن تجييل الأصوات الشعرية «أمر تكتيكي لا بد منه لإنجاز أية قراءة أو بحث, ولعل هذا التصنيف الجيلي واحد من أفعال النقد الخفية التي لا يراها المبدعون أو ينكرها المتشككون بجدوى النقد وفاعليته». لذا فإن الضرورة تقودنا إلى أن ننأى عن المفهوم الزمني عند التعرض لذا الجيل ودراسته, ذلك أن جيل الستينيات ليس انتماء للتاريخ, أو الزمن في تعاقبه سنوات وأجيالاً, بل هو إنتماء للرؤية التي تفيض من النتاج الإبداعي لشعراء هذا الجيل. حيث أن شعراء الستينيات لم يكونوا مشغولين بهواجس أو هموم شكلية عابرة, بل كانوا يجسدون رؤية جديدة للشعر والحياة, للعصر والتراث, ولقد انبثق هذا الجيل الشعري وسط ركام محزن من الخيبات السياسية والانكسارات العامة، وإذ تمثلت خيبة الشاعر الستيني في تداعيات هزيمة حزيران عام 1967م فضلاً عن الاهتزازات الكبرى في العالم فكرياً وسياسياً, فكان ظهور جيل الستينيات زلزالاً واضحاً وسط تحولات عميقة في الوعي, وبناء الروح, وهاجس التمرد على أغلال ظلت موضع تقديس قروناً طويلة. لقد كان ابناً حميماً للتحولات العالمية التي تجلت في الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968م, وتمردات اليسار العالمي فضلاً عن الوجودية التي وصلتنا عبر كتابات سارتر وسيمون دير بوفورا ومن الواضح تماماً أن جيل الستينيات كان يمثل ردة فعل جمالية وفكرية على الأجيال الشعرية السابقة, ولا سيما جيل الرواد الذي أحدث تغييراً في مضامين القصيدة ودلالاتها الإجتماعية أو السياسية فضلا عن ثراء الشكل الشعري. لذلك كان شعر الستينيات, في نماذجه المتقدمة, تمرداً على سيادة الموضوع, وهيمنة الدلالة,و كان إلى حد واضح, شعراً متقداً بالخيبة جراء الهزات والانكسارات التي تعرض لها الجو العام. ولم يكن التجريب الذي اعتمده شعراء الجيل, الستيني شكلياً مجرداً, بل كان التجريب أكثر عمقاً وشمولاً باحثاً على طول الخط عن أفق أغنى في الشعر والفكر والعلاقات الإنسانية, فهو تجريب يغور في أعماق الروح لا على القشرة الخارجية حيث كان الشاعر الستيني - وكما أفصحت نصوصه- يتعامل مع القصيدة بأنها ليست حديثاًً عن موضوع ما أو فكرة ما, بقدر ما هي رؤية يمتزج فيها النص والموقف, وتتماهى فيها اللغة بالدلالة والشكل بالمضمون...... وأن الدافع لكتابة القصيدة لدى الشاعر الستيني, ما عاد كما كان في معظم شعر الخمسينيات«الإصلاح أو الوعظ, أو التغني بلغة مباشرة»,بل كان الدافع الأعمق للكتابة الشعريةهو«إنطلاق الروح الشاعرة للتماس مع الحقيقة التي تعذب كياننا» ولقد انطلق الشاعر الستيني من هوس داخلي, وإحتفاء بالفرد وانكساراته الروحية والسياسية, لأن هذا الفرد هو الحقيقة الثابتة التي لا يكتب الشعر إلا بوحي منها. ولم يكن جيل الستينيات على الرغم من كثير الخصائص المشتركة, جيلاً دون تمايزات, فلكل منهم طريقته في التوجه الفني والموضوعي والفكري, حيث يرى شاعرنا ياسين طه حافظ أن الشعر الستيني «هو نتاج مرحلة عبور الخنادق لأرض وسماء جديدتين, فتية متمردون أو متحمسون أو دعاة وجدوا عقب خراب, تماماً مثل أولئك الشعراء الأنجليز عقب الحرب العالمية الأولى كان عليهم أن يؤسسوا جديداً, بعضهم قدّم مفهومات جديدة, وبعضهم قدم قصائد خارج الأنماط الموروثة, والبعض أحب الشعر كله, والبعض أحبوا أنفسهم». ويرى أحد الباحثين أن الشاعر ياسين طه حافظ ينتمي إلى موجة بعينها من النهر الستيني تتعامل مع القصيدة بأنها تستمد نشاطها من استيعاب للتراث القريب والبعيد وتمثل له لا من هاجس التضاد والتنافر, وأن رؤيتهم الشعرية تستمد لهبها الفاتن من العصر والماضي وقوته معاً, رؤية ترتبط بالحياة ارتباطاً ممضاً وترتفع بها إلى مستوى الحلم وتوهج البصيرة, إذ تصبح القصيدة لدى هذه الموجة تجسيداً لعذاب النفس وضغط الحياة في شكل شعري تتحول فيه الأشياء والأفكار والموضوعات إلى طينة تشع بالدفء والتجانس. ويمكن لي أن أؤكد أن هذا الرأي أقرب إلى واقع الحال ذلك أن المتن الشعري للشاعر ياسين طه حافظ لا يندرج في سياق المتن الشعري لبعض شعراء الستينيات أمثال «سامي مهدي وحميد سعيد وحسب الشيخ جعفر وخالد علي مصطفى وعبد الأمير معلة», حيث بدا لي من خلال اطلاعي على نتاجه الشعري ونتاج مجايليه على حد سواء أن شاعرنا ينحت في إتجاه مغاير دالٍ عليه, وإذا كان من طبيعة الحركات الإبداعية أن تبدأ عادة بتجمعات تنحو إلى التوكيد على المشترك بين أعضائها أكثر من توكيدها على الخصوصية والتفرد, لتنتهي أفراداً يبحث كل منهم عمّا يميزه عن الآخرين فإن الوضع مع ياسين طه حافظ كان مختلفاُ إلى حدٍ ما إذ أنه قد عمل, منذ وقت مبكر, على تكريس خصائص فنية وفكرية معينة تجسّد فهماً تغلب عليه عناصر الإختلاف عمن سواه من شعراء مرحلته..... حيث أن نتاجه الإبداعي يتحدث عن خزين ثقافي يمتلكه الشاعر, ولذا فإنه عندما تفرد عن مجايليه لم يتأت ذلك إعتباطاً, بل كانت بسبب بوتقة ثقافته التي غذّتها روافد عدة ارتبطت بشعره, وبدت منعكسة عليه ويبدو أن التراث الديني كان رافداً مهماً في تكوين الشاعر الثقافي والفكري بما فيه الثقافة الدينية الموروثة من خلال اطلاعه على القرآن الكريم والسيرة النبوية والتفسير والحديث إذ يشير الشاعر ياسين طه حافظ «إلى أنه نشأ وترعرع في كنف عائلة دينية» ألقت بظلالها على تكوينه الثقافي الأول ، هذا فضلا عن الثقافة الدينية المستجدة التي تعهد الشاعر بتثقيف نفسه بنفسه من خلال القراءات والإطلاعات العامة, حيث بدا شعره متأثراً ومتلبساً بالتراث بشكل يظهر بجلاء مقدار الثقافة المتميزة التي يكتنزها منجزه الإبداعي. ولم تكن الثقافة التراثية هي التيار الوحيد الذي يتنازع شعر ياسين طه حافظ, بل كان الشعر الغربي وبخاصة الأنكليزي هو الرافد الآخر الذي أسهم في تكوين شعره حيث يقول في هذا الإتجاه: «الثقافة الأدبية المكتسبة لها فعل مؤثر في الأفكار والتعبير أيضاً واللغات يسعف بعضها بعضاً في التمكن من المشهد الشائك أو الحال, أن تمتلك لغة أجنبية يعني أن تمتلك عوناً لغوياً غير مباشر لابتداع العبارة, وهذه فائدة عظمى غير منظورة». ويبدو أيضاً أن الشعر الإنكليزي جعله يتعامل مع القصيدة وصورها الشعرية على وفق أصول ونظام تقاني صارم, إذ يقول:« إن اطلاعي على الشعر الإنكليزي جعلني أعطي للقصيدة التي أكتب قيمة تقانية من حيث كتابتها, دون أن يكون فيها إسراف لغوي سواء أكانت هذه القصيدة موروثة أو مستحدثة, وأيضاً علمني الأدب الإنكليزي أن لكل قصيدة جواً عاماً, وموضوعاً, وهذا ما يخالف القصيدة العربية الكلاسيكية». ويبدو كذلك أن الشاعر بسبب اطلاعه الواسع, وثقافته متعددة الجوانب والإتجاهات, خاض التجريب كسائر مجايليه من الشعراء الستينيين, إلا أنه كان يختط لنفسه طريقاً ومسلكاً خاصين به في تجريبه الشعري تجلى في قصائد عده, وبدا لي أولاً في مجموعته الثانية «قصائد الأعراف عام1974م», وأحسب أن تلك الحماسة التجريبية لياسين تعد مسعىً للوصول إلى تقنية جديدة, وإلى شكل جديد, حيث تجلت في «قصائد الأعراف», تجربة في اللون, وتجربة في الموسيقى, وأخرى في الإفادة من موسيقى الحرف العربي وطاقته التعبيرية, وتجربة أخرى في الإخراج السينمائي, بحيث تماهت في شعره مؤثرات المسرح, والموسيقى والسينما والرسم, وفي كل هذا كان ياسين طه حافظ يرغب بالمجيء بجديد, وتطلع إلى التغيير, وإحكام هندسة النص شكلاً, ومضموناً, ولا أشك في أنها أيضاً رغبة داخلية في التفوق على الآخرين, والفرادة وسط جيل «الموجة الصاخبة»* ولم يتوقف عند هذا الحد, بل أجتهد كثيراً في الإتيان بالجديد في تقنية القصيدة المنتجة والطافحة بالصور الشعرية على اختلاف تشكيلاتها وانزياحاتها, فمثلما قال ذات مرة: «إن الرواية وريثة الملحمة», فقد افاد ياسين طه حافظ من مزايا الفن الروائي في شعره, ولم يكن هذا محض مصادفة بل أرى أن ثقافته الأدبية هدته إلى أن الفن الروائي الذي استفاد من الملحمة يمكن أن يأتي في بداية مساره التجريبي بديوانه الثالث «البرج عام 1976», حيث قسمه إلى ثلاثة فصول هي «المشاهدة –المواجهة- تغيير الإتجاه» وهي بلا شك تقنية روائية واضحة, وطوّر هذه التجربة في ديوانه الرابع «عبد الله الدرويش عام 1980م»الذي جاء على شكل أربعة فصول هي «الحلم, الاعتراض, التردد, السقوط والمراثي» وفي كل فصل مجموعة قصائد قصار بلا عنوانات تتكامل لترسم فصلاً من الملحمة والفصول تتكامل لترسم ملحمة «عبد الله الدرويش» وهي بلا شك تقنية روائية أكثر تقدماً مما كان في «البرج». وانتقل بعد ذلك شاعرنا ياسين طه حافظ بالتجربة السردية هذه عبر مطولاته المتتابعة, فكانت قصيدته الطويلة «الحرب عام 1985م» تلك القصيدة البانورامية التي أشرت ذلك الصراع الأزلي بين الموت والحياة, بتداخل الحوارات, والمشاهد, وتكريس الرموز, حيث تكشف هذه القصيدة الطويلة عن محنة الإنسان في حريته الشخصية والعامة وهو يتعاطف مع النماذج البشرية الممتحنة وأيضاً تكشف «الحرب» كقصيدة عن تقنية جديدة أطلّ بها ياسين جاءت في أتون بروز القصيدة المنبرية الحماسية أبان الحرب العراقية –الإيرانية خلال ثمانينيات القرن الماضي.... وظل شاعرنا مولعاً بالتجريب, فأفاد من تقنيات المسرح بما فيه من شخصيات وحوارات ومشاهد مع الاحتفاظ بالنفس الروائي والملحمي معاً, فجاءت قصيدته الطويلة «ليلة زجاج», حيث كشفت هذه القصيدة عن أربع شخصيات تطلّ بحواراتها, وأصواتها, كما ترك الشاعر فيها فرصة للمتلقي لأن يكتشف مزياتها أو محنها الإنسانية من دون أن يشير هو إلى ذلك, وفيها أربع شخصيات ممتحنة هي (الرجل الضيف, السيدة المضيفة, وزوجها, والصديقة الشابة), بحيث تستفيد هذه القصيدة من ميزات الفن المسرحي , والشخصيات الأربع هنا, كلها ممتحنة, وكلها طيبة, وكلها خاسرة, وكلها تتمنى تحقيق حلمها المنشود: «لكل فينا خاسر شيئاً ويرضى إنه- ولكل فينا سارق شيئاً ويرضى إنه- فخل كل شيء هادئاً باركه رغم الحيف, هذا الفرح الطالع, وارتضى اللذة وهي هاربة إليك من كلاب هذا الزمن- أغتنمها اللحظة الجميلة وكن أمام اللحظة, السيد في الزمان يلوذ منك فرح الإنسان-» «اللحظة الجميلة كل الذي نملكه كل الذي نخسره اللحظة الجميلة!» وعلى الرغم من أن الشاعر ياسين طه حافظ مترجمٌ بارعٌ, فقد ترجم العديد من الكتب الأجنبية إلى العربية, وقد يحسب كثير من النقاد والدارسين أنه قد تأثر بالآداب الأجنبية بحيث عدّه بعضهم ملمحاً بارزاَ من ملامح تجربته الشعرية, إلا أنني ومن خلال هذه الدراسة وبعد اطلاعي المتمعن على انتاجه الإبداعي الشعري بأكمله, لم ألمس هذا التأثير الذي عدّه البعض طاغياً إلا بقدر ما لمسته من إتقان للجملة الشعرية, وخلوّها من الحشو الزائد, وابتعادها عن الإسراف اللغوي وهذا ما أحسبه من ميزات للشعر الأجنبي الذي اطلع عليه ياسين طه حافظ, حتى أنه كان يؤكد في أكثر من مقابلة صحفية «أنه ليس مترجماً محترفاً». ويرى شاعرنا أيضاً أن الترجمة تزيد من المعرفة والثقافة, وتنمي الأفكار, وتوسع المدارك من خلال الاطلاع على الثقافات الأخرى, والإفادة من ميزات ومزيات كل ثقافة بما يفضي إلى ترصين الأفكار وتسلسلها ورصفها في إطار اللغة والثقافة الأم. لذا فإن هذا الرافد الذي شكل أحد الروافد الثقافية لحافظ والتي صبّت في تشكيل مسيرته الإبداعية أفاده في كيفية الإتيان بقوالب تقانية خاصة بشعره ولكن بطريقة ممزوجة بالتراث العربي والديني, ومتعاملة مع البيئة المحلية بشكل أفضى إلى إنتاج قصيدة عصرية خاصة بياسين طه حافظ دون غيره من مجايليه في المرحلة الستينية المتقدة. ويبدو أن الصحافة, ولا سيما الأدبية المتخصصة منها قد إستأثرت باهتمام الشاعر, خاصة بعد أن أطل شاعراً ستينياً, مجدداً, مبتكراً, مجرّباً, مجتهداً, وبدأ عند نهاية ستينيات القرن الماضي, وبداية سبعينياته بإصدار مجموعاته الشعرية البكر «الوحش والذاكرة عام 1969م, قصائد الأعراف عام 1974م», حيث تولى سكرتير تحرير مجلة الطليعة الأدبية عام 1976م, وفي عام 1980م ارتقى إلى رئاسة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية ولمدة خمسة وعشرين عاماً, وخلال تلك الحقبة الطويلة قدمت «مجلة الثقافة الأجنبية» للثقافة العراقية والعربية الكثير من التجارب الإبداعية والفكرية الغربية, ويقول عنها شاعرنا ياسين طه حافظ:«أعتقد أن المجلة شهدت نهوضاً ملحوظاً وتجدداً أكيداً في حيويتها عبر فترة الخمسة والعشرين عاماً المنصرمة, وما تزال مطبوعاً مرموقاً» إذ رفدت الساحة الثقافية بالنصوص المترجمة المنتقاة بشكل جيد مما جعلها نافذة حقيقية يطل من خلالها القارئ على حركة الأدب الغربي شعراً وقصة ورواية ونقداًوفكراً ويقيناً أن إشتغال الشاعر ياسين طه حافظ في حقل الصحافة, كشف لنا كتابات نثرية (مقالية), أستطيع أن أصفها بالدقة والسعة فضلاً عن تميزها بسلامة اللغة والحفاظ على أصول الذائقة البلاغية العربية, وهي بلا شك ملكة أخرى لياسين طه حافظ تضاف إلى ملكته الشعرية الخالصة, ما يؤكد ذلك عن ثقافته الواسعة, واطلاعه العميق والانفتاح على تجارب الآخرين, ولا سيما الثقافات والآداب الأجنبية المتنوعة. ومن خلال ما تقدم لثقافة الشاعر, وروافدها, ومنابعها, وتكوينها, نرى جلياً أن عنايته بالصورة في نتاجه الشعري يكاد يكون ملموساً, فهو شاعر صورة يعرض الفكرة عرضاً من الفن ما يرتفع به فوق التقليد, لقد نثر صوره في شعره, وتفنن في كثير منه ولوّن صوره الشعرية بألوان غريبة وجميلة .
منابع الصورة في شعر ياسين طه حافظ
المبحث الأول المنابع الذاتية *مدخل: إن كون انطلاق جذور الصورة من منبعها الذاتي يعزى إلى سبب دينامي يرقى إلى مؤثرات نفسية آيلة إلى تفسير الحياة إذ إن لهذا النسق أصداء تتجدد بلبس أقنعة مختلفة ذات مغزى يبدو فيها الوجود للشاعر مصبوغاً بلون نفسه، مما يرفع الحجب عن غوامض حياته ومتناقضاتها. ولقد درج علماء النفس على عدّ حياة الفنان الحقيقية متمثِّلة في عالمه الداخلي المستقل. وحيث انه لا يمكن الفصل بين الذات والموضوع بشكل قاطع إلا أني لا يمكن لي أن أتجاهل النزعة الذاتية المتطرفة التي يظل المبدع من خلالها أسير كيانه فيكوّن الكيان عبر عملية مزاوجة مع محاور أخرى هيكلاً تتم داخله عملية هدم المفاهيم الذاتية الأولية ثم بناؤها من جديد فتطغى أفكار وتتراجع أخرى فيخفت الضوء الموضوعي بعد ارتباطه بالكيان الوجداني عندما يبرز الأثر الإبداعي. وتكمن أهمية هذه الحقيقة في «أن المبدع يحاول الوصول إلى فضاءات أشياء يكتشفها في ذاته, لا النزول إلى أرضية الذات المسطحة». إلا أن السعي في هذا الجانب معرض لخطر يتمثل في الغموض المفرط الذي تكون غايته الرؤية الشعرية التي تؤطر مبدعها بإطار الظلامية مما تجعله غير قادر على الرؤية للحقيقة كاملة . كما تتداخل كثير من سمات النرجسية مع أبنية الرؤية الشعرية التي تسهم بدورها في إخفاء الوجه الحقيقي للنرجسية الواقعية الملغاة فتكتسي ملامح دينامية فعالة تتحقق موضوعياً في الصورة أكثر مما يتحقق في أي عنصر من عناصر البناء الشعري. ولذا فإن دينامية الذات وحركتها يمكن تمييزها بوصفها ثمرة من ثمرات الاضطراب النفسي والاصطراع الداخلي لشعراء ستينيات القرن الماضي ومنهم شاعرنا ياسين طه حافظ نتيجة الوضع المضطرب للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي آنذاك, فمن الطبيعي أن تكون منابع ذاتية للصورة لدى ياسين طه حافظ تمظهرت عبر ثيمات مختلفة سنعرض لها تباعاً.
1- الطفولة: لعل عودة ياسين طه حافظ إلى الطفولة لم تكن حالة تمظهرية اعتباطية كما تُظهرها عدد من نصوصه الشعرية التي لم تتقوقع في مدة زمنية واحدة ولا في مجموعة شعرية بعينها بقدر ما تناثرت على مجاميع شعرية متفرقة مما يؤكد حالة عودة ياسين إلى الطفولة حنيناً واستذكاراً ورفضاً للواقع المعيش وكما اعتقد فإن صورة الطفولة ظلت ماثلة وراسخة في ذهنه وإذا أمكن أو جاز لي أن أعد «البعقوبيات» محاولة ياسين طه حافظ في إقامة يوتوبيا* كصور متخيلة في ذهنه اتقدت عبر قصائد عده ولعل عودته إلى بعقوبة وقراها وبساتينها كما اراها تعود إلى عاملين الأول: يكمن بمزاحمة المدينة وصدّها لملامح وسمات كان قد أحياها الشاعر في مرابع حياته الأولى، والثاني: هو النزوع الرومانسي المتأصل إلى عالم الطفولة والبراءة والبساطة فكانت قرى بعقوبة وبساتينها وأنهرها في وعيه, ولا وعيه دائماً هي العالم المضاد لكل ما هو ملوّث إن لم تكن هي الطهر والحياة ذاتها. فحاول أن يأتينا بقصائد زاخرة بصور لرؤياه الخاصة حاولت الكشف عن أسرار النفس, وأسرار الحياة, وأسرار القصيدة ذاتها وتنبؤنا هذه الصور في قصيدته (البيت القديم) عن حالة استذكار لمواطن طفولته الأولى:
أوقَفْتَني يا أيها البيتُ, الذي خلّفتُ في ركنٍ من الدنيا بعيدْ يا بيتُ كنتَ تَضمّني طفلاً, صبيّاً ناقراً, هوسٌ به: يتسلق الأشجار والأعمدة الملساء مجنوناً ويرفس حيث سارَ: العلب، الاطفال والاحجار
وإذ تتوالى هذه الإستذكارات فإنها تطفح بالحنين واللوعة في تصوير عبَّر عن سر الحياة وديمومتها ووشائجها التي لا تنقطع ويفيض نداؤه:
يا أيها البيت القديمْ أحزنتني وكسرتَ فيَ زجاجةً بقيت زمن مضى ومضت حياة والذي بقى الغبارْ
وهانحن إزاء ثيمة الحنين إلى زمن مضى يستعاد شعرياً وبشكل تأملي برؤية متقنة فعندما يصف ياسين طه حافظ نهراً كان يقصده أيام طفولته:
لم يكن ذاك نهراً, فقد كان مجرى أساطير وسحر وتعاويذ شافية ونذور حينما تتأخر في السبح فيه, تلامس سيقاننا سمكه تلك روح مباركة أو هي الشارة المُهْلِكة
ويستمر البث الشعري إلى حدٍ يتجاوز صور السباحة الطفولية مع ما يرتبط بها من مخاوف تمنح كائنات النهر معاني ترتبط بالوعي في تشكّله الأول إذ نقرأ:
أتأمله الآن: ممرٌّ من الماء ماكنة وقناطرُ محنيّة وجسورْ ضيّع السحر, ضاعت كرامتُهُ في الزمانِ فنحن ندوس على ظهره ونسيرْ.......
ونرى أن هذا المقطع أوجد معادلاً فكرياً أوحى بدلالة رمزية للنص فالواضح ضمنا أن النهر لم يكن النهر الأول بل عانى تغيراً أو أن الذات التي تشاهده وتنقل لنا تأملاتها عنه قد تغيّرت نتيجة لفعل التجربة الذي يجرد النفس البشرية من براءتها وتعاملها.
2- ثنائية الريف والمدينة: تعد المدينة وجودا مكانياً يمثل حاضر الشاعر وتعبر عن مكنوناته التي تتجسد أيما تجسيد في شعره, في حين أن الريف هو حيز يمثل ماضي الشاعر –المنحدر من الريف- أصلاً ولذا فهو دائم الحضور في نصه الشعري عبر انثيالات تمثل إاسترجاعات الذاكرة ذلك أن الإنسان بطبيعته تواق إلى حيث لا يوجد أو كما يقول جان بيرجوف «لأننا نكون حيث لا نوجد». وربما كان للتمظهر المعماري في تباينه الهندسي ما بين الريف والمدينة أثره الواسع في تكثيف الصراع الداخلي لدى الشاعر, وقد تصبح حياته مع هذا الصراع جحيماً لا يطاق, ذلك أن «تعارضاً هندسياً بسيطاً يصبح مشوباً بالعدائية, إن التعارض الشكلي لا يستطيع أن يظل ساكناًَ». إذ إنه يوّلد خوفاً وإحباطاًَ في ذات الشاعر, قد لا تكون له أية مسوّغات على ارض الواقع بل هو نسيج توهمي, وحصيلة لجملة من التصورات والتخيلات والمعتقدات التي تصل حد السذاجة ـ لاسيما عند الريفي- حول المدينة وغرابتها وطرافتها كانت متجذرة في مخيلته البسيطة, وقد يكون هذا شعوراً طبيعياً إزاء المكان الجديد وغير المألوف, أي المدنية. ومع أن حيثيات القرية, ومعها حيثيات المدينة كل منها تتجاذب الإنسان الوافد إلى المدينة, فإن شعوراً بخيبة الأمل يبدو واضحاً لكل ريفي نازح نحو المدينة بشكل تظهر فيه احتمالات الهزيمة والإنكسار عالية(3), إذ«تتحول المدينة في خيال الشاعر إلى جنة موعودة فيما يصبح الخيال حقيقة, تتحول الجنة إلى جحيم, وهذا هو الحال بالنسبة «لشعراء القرى» الذين يحلمون بالمدينة و ينجذبون إليها على نحو قدري شبه مأساوي». إن القصور التي بنيت من قبل على أساس وهمي تنهار الآن على أساس مادي, ولاتصل القصيدة إلى أية «محاجة شعرية» وراء هذه الثنائية المباشرة (ثنائية القرية والمدينة), فيوضع النقاء والإخلاص في جانب, والتلوث والتنكر في الجانب الآخر. ولكن «تحول الشعراء عن القرية إلى المدينة لم يحدث طفرة, فقد ظل الحنين إلى القرية ينازع التجربة الحية في المدينة بعض الوقت, ولم يتخلص الشاعر من هذا الحنين إلا بعد عناء كثير, حين رسخ في نفسه أنه مهما نقم من حياة المدينة ما يزال جزءاً منها, ومحبّاً لها». وكان شاعرنا ياسين طه حافظ شديد الصلة بمدينته (بعقوبة) إلا أن حنينه إلى مرابع كينونته الأولى في أجواء الريف الفسيح كان حاضراً أيضاً بتجليات شديدة النزوع نحو القرية والعودة إليها بشكل ظلت أجواء الريف ممسكة بتصويراته الشعرية, وهذا ما أفصحت عنه قصيدته (الطير) التي يقول فيها:
كان نهر المدينة يجري سريعاً يهاجمه مطر مستمر وتدفعه ريح ليلْ, كان نهر المدينة يفلت من جدرانها ليسافر بين صفوف البساتين, ويلمع في الجهة الثانية, المدينة ملتمة, تتشق ظلمتها حينما يخطف البرق, تتلامع أسطحها: القباب المذهبة، الشجرات الكبيرة, الثكنات, الدوائر والأضرحة ثم تعزف ثانية في الظلام.
لقد عبر الشاعر عن وشيجة قوية بمدينته (بعقوبة) تلك المدينة الجميلة بريفها وبساتينها التي جعلت منه مشدوداً إليها بمشاعره الفياضة بارتباط وثيق بهذا المكان, فهو يرى في مجرى النهر مسرى حياته، كما يلمح في البساتين جوهر الحياة, وهكذا تتداعى أحاسيسه عبر صور شعرية متتابعة تؤكد العمق الوجداني بين الشاعر و الريف في (بعقوبة) وبينه وبين المدينة بشكل عام, لذا فهو يتلفت بين المدينة والريف, مع أنه استقر في المدينة فهو يقول: «أتذكر اليوم صبياً مرّ بين البساتين وبين ناس طيبين جوهرهم جوهر الحياة, أتذكر الأيام الصافية والصلة البريئة الحميمية بالتراب والأشجار, وأحاول أن أستعيد نقاء أولئك الصبية لأشم من جديد ذراعي وأجد صلة بيني وبين التراب أنني اليوم أكثر يقيناً بتلك الصلة, وإذا ما افتقدت ذلك الشذى قد خسرت صلة بالتراث, صلة الأزل ». وهذا ما يؤكده في قصيدته (بعقوبة) التي يظهر فيها الخطاب الدرامي في السرد والوصف والحوار مجسداً موقفه من مدينته التي يحن إليها كثيراً, بكل ما تتضمنه في بساتينها وشيوخها وحاراتها مقاهيها ودروبها, إذ يقول:
كنت هذي المدينة أعرفُها فأنا كنت فيها ركضت صبياً بأفيائها وأنا أتذكر بعقوبة حلوة الثوب ملمومةً ومهذبةً, سلةً من ثمر وسْطها غصنٌ أخضرٌ- أو نهرْ! ولبعقوبة ذاك الزمان أفانينُ بهجتها تتناثر ألوانها – رسمَ طفلْ وأنا أتعقبها فوق دراجتي وأدور أزقتها مثل من يقتفي حاجةً خفِيَتْ في استدارتها كان ذاك الفريق من الصبية النزقين يتبارون: كم مرّةٍ سندور عليها, من الجسر حتى طريق الهويدر, فالقيصرية, مقهى مجيد..........
إنها صورة جميلة (لبعقوبة) الطفولة, حيث استرجعت ذاكرة الشاعر محطات وملامح جميلة أنثالت فيها مشاهد من الطيبة والحب والأماكن الأثيرة إلى النفس, من خلال صور متوالية, أنبأت من خلال الحوار الداخلي مع الذات أن تغيرا أصاب ملامح المدينة بفعل تراكمات الزمن, فلم تكن ملامح (بعقوبة) ذاتها, وما عادت هي هي:
جئت أمس, دخلت المدينة- فجأة, انسحبتْ واختفيت بجلدي من زمانٍ هنا لم يلُحْ قنفذٌ فأنا اليوم قنفذها في الطريق.... أتباعدُ, ألتمّ تلك التي أعرفها غرقتْ في الزمان وأنا رجلٌ طارئ وخريسان أضلاعُهُ قُتلت بالسمنتْ اخترت مقهى سأدخلها ربما هي واحدة بقيت ربما جددت, ربما اجتذبتني, التخوت القديمة.....أدخلها
وفي فسحة أخرى يتمظهر جدل المدينة والريف عند ياسين طه حافظ في عودة لمجرى النهر وارتباط شديد بريفه الجميل:
أرجعت؟ أحس بعودة مجرى النهر وأراني مازلت أقول الكلمات بصوت مسموع وأميّز بين لهيب التنور وصفو الينبوع
ومثلما تعرّف شاعرنا ياسين طه حافظ على حقيقة المدينة عبر وسائله المتاحة من خلال عيشه في المدينة الاولى (بعقوبة) ثم استقراره في (بغداد) وغوصه في أعماق المنظومة المدينية وتحري نبضات الحياة فيها نراه كسائر الشعراء العراقيين الآخرين من مجايليه قد صُدِمَ بواقع المدينة المأزوم بحيث اهتزت الصورة الحالمة التي كوّنها في أعماقه تجاه منظومة المدينة الحياتية ما جعله يكشف عن عالم مزيف متداخل متشابك وضعه في اغتراب وربما ضياع وانكسار فكان يرتد في أحايين كثيرة وعبر قصائد عدة إلى عالم الريف وفي اتجاه آخر فإن دهشة الشاعر تلك وارتداده نحو القرية أو الريف بعمومه كوسيلة ناجعة للخلاص تولد بؤرة صراع حادة تمثل تضادية الريف والمدينة وهذا ما تفصح عنه قصيدة (في الخرائب حلية ذهب) في ضدية الائتلاف, بين الريف والمدينة ففي الخرائب حلية ذهب, حيث يصور تلك البيوت الخربة التي هجرها أهلها وغطت في صمت رهيب, وحلية ذهب نسيها المهاجرون بدون إرادة منهم, ربما بفعل التسرع حيث الهروب, فكانوا إن أعطوا لهذه الخرائب مكانة وأهمية وانتباه.... فعنوان القصيدة مستمد من (قروية) الشاعر.... أي أن له تأثيراً قروياً شديداً حيث أن ابن المدينة يبتعد عن تلك المسميات, لا يعرف الخرائب كما يعرفها القرويون بذلك الهيكل المادي. وأنه يشكّل ما بين الريف والمدينة, حيث أثاث البيت المنيف باحساسٍ من القطيعة مع الحياة والآخرين حيث انهدّ هذا البيت ودمرّ البرابرة كل شيء ولم تعد هناك سوى كومة من الأنقاض والخرائب:
مضى البيتُ المنيفُ أتى البرابرة الحفاة لقد أكلت شراهتُهم زجاج البيت صارتْ ربةُ الإرث الجميل خرافة يروون قصَّتها إذا تعبوا وأدركهم غيابْ فالشاعر هنا يقدم مرثاة لخراب العصر, وخراب القيم وخراب الروح: تغادرنا النبالةُ, غادرتنا الروحْ. وظلّتْ لصقَ أتربة الخرائب: حليةُ ذهب وبعض أسً على ثنياتِ زخرفها وبعض ترابْ
وهكذا نرى ياسين طه حافظ يقدم استعارات وصفية لا تتعدى التهديم والأنقاض حيث الدلالة الأساسية لكلمة (الخرائب) تأتي من بيوت الطين التي رفعت سقوفها جمعاً، وهجرها أهلها مجبرين وتركوا فيها (حلية الذهب) حيث يقصد الشاعر هنا القيم والأخلاق بقوله تأكيداً:
أقلبها: توهَّج نارُ أسلافي بداخلها ومهوى القرط فسحةُ روح عاشقها ولمعُ الله كان يلوح ضوء الله في البيت.
المبحث الثاني المنابع التراثية والثقافية
1- المنحى الصوفي: اختلفت آراء الباحثين في أصل تسمية (التصوف), فمنهم من أرجعها إلى الصفا, ومنهم من أعادها إلى الصفة, ومنهم من ردّها إلى الصوف الذي اعتاد المتصوفة لبسه مخالفة منهم للناس في لبس فاخر الثياب, ويقول ابن خلدون في مقدمته: «إن التصوف مذهب يقوم على العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى, والاعراض عن زخرف الدنيا وزينتها, والزهد بما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍ وجاه, والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة». ويطلق لفظ الصوفية في أيامنا هذه على الفلاسفة الذين يقولون بإمكان الاتحاد الباطني المباشر بين الفكر البشري ومبدأ الوجود, بحيث يؤلف هذا الاتحاد حالتي الوجود والمعرفة البعيدتين عن حالتي الوجود والمعرفة الطبيعيتين وحلها منهما. كما يطلق لفظ التصوف على مجموع الاستعدادات الانفعالية والعقلية والخلقية المتصلة بهذا الاتحاد, وظاهرة التصوف الذاتية بهذا المعنى هي الوجد(Extase) وهي حالة تشعر فيها النفس بالاتحاد بينها وبين حقيقة داخلية هي الموجود الكامل أي الموجود اللانهائي, أي الله لانقطاع الاتصال بينها وبين العالم الخارجي ولكن إرجاع التصوف إلى هذه الظاهرة التي هي نهايته يجعل تصورنا له ناقصاً, لأن التصوف حياة وحركة ونمو ذو اتجاه واحد ومراحل هذا النمو هي التطلع إلى المطلق, ثم المجاهدة لتخلية القلب وتجلية النفس, والزهد, والإعراض عن الدنيا, ثم الوجد, ثم محاسبة المرء نفسه على ما فرط فيه في حياته السابقة, ثم توجيه الحكم والإرادة توجيهاً جديداً, ثم تحقيق الحياة الكاملة فردية كانت أو اجتماعية. والتصوف بهذا المعنى هو الطريقة السلوكية الموصلة إلى الحياة الكاملة لا بل هي مجموع النظريات الموضحة للمعارف التي هي ثمرة من ثمرات هذه الحياة, وهو سلوك إنساني ارتبط بدوافع معينة أدت إلى نهوضه, وهي دوافع لها صفتها الخاصة المرتبطة بالفرد ثم بالمجتمع ومما لا شك فيه أن الاحساس الفردي شديد الارتباط بالظروف الاجتماعية. وتثار في شعرنا المعاصر, صوفية معاصرة تلبست في أذهان القراء حتى استحال كل ماهو غامض, بالنسبة لفهمهم, صوفية تقتضي من يفك أسرارها, ويجلو رموزها, فالصوفية إذن في شعرنا المعاصر واردة, بل هي واردة في كل شعر حقيقي إذا فهمنا أن الشعر يقوم في جانب كبير منه على الدهشة والإلهام والكشف فالشاعر لا يرى أي حرج في أن يحطم معطيات العلم والمنطق وأن يقلب العالم الموضوعي رأساً على عقب, ليعيد تشكيله من جديد وفق ذوقه وفهمه الخاص, كل شيء:« اللغة , الفكر, العالم, الله, الإنسان, هو غيره لدى الصوفي, لأن فكره وعالمه انبثاقي اشراقي في تحول وتغير مستمرين». ولذا فإن انفتاح شعرائنا المعاصرين على التراث الصوفي خاصة ومنهم شعراء ستينيات القرن الماضي ممن جايلوا شاعرنا ياسين طه حافظ ليس دليل جدب, ولا هرباً من مواجهة الواقع, إنما هو دليل وعي وإدراك سليمين, وانفتاح على جانب خصب جداً في تراثنا الشعري والفكري والانساني واللغوي معاً, «فمن لا يعرف الماضي لا يعرف المستقبل, ولا يعرف الحاضر كذلك». وقد ذكر الشاعر ياسين طه حافظ أنه اتكأ على التراث كثيراً وإنه استلهم من التراث الديني كثيراً بسبب طبيعة نشأته الدينية وسط عائلة أطلعته على التعاليم والفقه والتدين. ولكن عندما اطلعت على نتاجه الشعري وجدتُ خصيصة انزياحه نحو الفكر الديني التصوفي في قصائدَ عدّة, كما رأيت أنها شكَّلت منبعاً ثرياً للصورة في شعره, فمثلما كان يحاول أن يؤسس له رؤيا خاصة تكشف عن أسرار الحياة, وأسرار النفس, وأسرار القصيدة ذاتها, يحاول في الوقت عينه أن يكشف عن أسرار الوجد لعوالم جديدة من خلال تعامله مع شخصية (عِبْدان) ذلك الولي الصوفي الذي أمضى عمره في عزلةٍ يترقب الرؤيا كما أفصح الشاعر في قصيدة «عِبْدان وزائره الغريب»:
عِبدان من يجيئوه يحمل صورةً غريبةً عنه, ومن يرحل صورةً: لا أحد يعرفه: «وهج غريب يتراءى آخر الليلِ وفي الضبابْ....» عِبْدان كان يسهرُ الليل وعيناهُ إلى العتمةِ بانتظار الضوءِ, بانتظار ذلك البهاء حتى إذا لاحت له, استراحْ نام إلى الصباح هانئاً ووجهه الناعم للترابْ
إنه استخدام لشخصية صوفية في مدينته بعقوبة في استنتاج إلى أنه يحمل معه رؤيا تعبر عن حلم الشاعر في افتراق سحب المستحيل, بعد أن كان الحلم أحد مرادفات الذاكرة التي يخشى عليها من التلاشي تحت ضغط الحاضر الذي يحمل معه مأساة العصر. وكان عبدان الولي الصوفي بالنسبة له رائياً يتكلم بلسان حاله كما تظهر جلياً أستعارات واضحةً ضمنها في قصيدته (انكسار البهجة) في سير ذي منحى صوفي فيقول: انكسرت زجاجة أخرى على مبعدةٍ وظلَ ذلك الشحوب أظلني غمامها, منطفئاً أرنو إلى الضوء الذي يغرب في صباح وجهها أرنو إليه: أشتملت عليَّ فيها الرغبة, استولى على روحي صباحُ وجهها نظرتها تهوي إلى أسفل, وجهها النبيل يمنحُ دفئاً ناعماً شاحبةً! الفجرُ والمساءُ شي واحد قصيّة جذورُ هذا الشرف الأبعد, هذه سلالة غامضة ووجهها مختلف يأخذني أليه هادئة ظلاله, بقية الضياء فوق آخر الشجر واستسلمت هذا هلاكٌ ممتعٌ, غصة فقد وانكسار رغبة.
وعبر هذا الحوار الصوفي نجد أن صوراً متتالية عبارة عن استعارات وتأملات صوفية تعامل معها الشاعر بلغةٍ متقنةٍ أكّدت رؤياه الخاصة ومثّلت وعياً شعرياً لشاعر كان يحرص على الإفصاح عن منجزٍ جديد بملامح جديدة وفكرةٍ جديدة.
2- الادب الأوربي: لقد أحس شعراء المهجر ومعهم الرواد وصولاً إلى شعراء الستينيات من القرن الماضي بتأثير الأدب الغربي وبدأوا يشعرون بالحاجة إلى تغيير موضوعات شعرهم واستعاراته والافادة من الأدب الغربي في تقنيات القصيدة فحاولوا احتذاء المنهج الغربي في موضوعات الشعر ونظام القافية واستعاراته وتكنيكاته ومن هؤلاء الشعراء شاعرنا ياسين طه حافظ, وبفعل تمكنه من اللغة الانكليزية تمظهرت عنده القصيدة بشكل متقن إذ ظهرت خالية من الاسراف اللغوي ومكتوبة وفق نظام تقني صارم, ويقول ياسين طه حافظ في هذا الاتجاه: «أن الأدب الأجنبي علّمني أن لكل قصيدة جواً عاماً وموضوعاً وهذا ما يخالف القصيدة العربية الكلاسيكية». وقد بدا لي أن التراث الأوربي تجلى منعكساً في أفق القصيدة لدى ياسين طه حافظ كما أني أرى في الوقت ذاته أن اطلاعه وتأثره بالأدب الأوربي والانكليزي على وجه الخصوص ساعده على الابتكار الدائم لتقنيات جديدة في القصيدة فضلاً عن الدلالات الجديدة بحيث أضحت القصيدة الحديثة وبسبب الثقافة الأجنبية حاجة فكرية ولم تعد امتهاناً أو حاجة مناسباتية. كما يظهر جلياً في قصيدة (الحرب والسلام)التي تظهر تقنية حديثة خاصة به على شكل ومضمون جديدين:
عربات القطار تجيء محملةً بالبنادقِ, بار المحطة ممتليء بالنجوم التي تتلامع والقهقهات وقرب المحطةِ, أعلان فيلم جديد, وسيارة تعلنُ عن سحبة اليانصيب, وسيلٌ من البشر القلق المتهامس, امرأة نصف عريانة تستدير الرؤوس إليها: الجليدُ المذهب فوق السيول السريعة إن نافلةً تطرحُ الآن أثقالها. فتيات ثلاث تهامسن عن ضابط أشقر يوقد سيكارةً بانفعال...... يفضي هذا السيناريو عن تقنية جديدة تضمنت صوراً شعريةًً لمشاهد معيشه تبدأ بتوصيف المكان والشخوص وبشكل على شاكلة القصيدة الغربية التي تعتمد هكذا تقنيات والذي لم يبرع فيه ياسين طه حافظ ما لم يكن ملمّاً ومطلعاً ومتأثراً بالأدب الأوروبي.
3- الفنون (السينما): دأب الشاعر الحديث على توظيف المعطى التشكيلي والسينمائي في قصيدته والصعود بها إلى أرقى مستويات التعبير, فكلما أحس بقصور ما في قدرتها على تمثيل تجربته وإيصالها, أو أنها بدأت تفقد بريقها الشعري, راح يسخر جميع التقانات التي تستطيع النهوض واستئناف ألقها الشعري وتفجرها التعبيري, سواء أكانت هذه التقانات نابعة من منطقة الشعر ذاتها أم مستعارة من حقول أدبية أو فنية أو جمالية أخرى, إذا أن « الشعر كعمل المخيلة, الشاعر يقتبس أريحيته من الفنون عامة ويسبغ روحه عليها» وكذلك اعتاد الشاعر المحدث الاتجاه إلى الافادة من الإمكانات التشكيلية والجمالية للفنون الأخرى كالرسم والسينما, رافعاً بذلك جميع الفواصل بينهما, والتفاعل معها وتوظيف كل ما هو متاح من عناصرها الفنية ومناسب من تقانتها لتصعيد مستوى شعرية القصيدة بما «ينسجم أولاً مع الطبيعة الشعرية للقصيدة وبما يعزز موقع الحداثة فيها ثانياً» ومن الفنون التي اقترب الشعر منها كثيراً وأحدث بينه وبينها تفاعلاً وتبادلاً كبيراً هي السينما (الفن السابع) الذي على الرغم من صغر عمره الفني, إلا أنه استطاع التأثير في جميع الفنون الأخرى. إذ «هي الطفلة المدللة, إنتاج الفن والطباعة, آخر الفنون وأخطرها, سطت خلال تاريخها القصير الطويل, على الكثير من الانجازات والممارسات في عالم الفنون التشكيلية والموسيقية والأدبية» .
وقد حقق ذلك التقارب الكبير بين السينما والأدب, نتائج باهرة من خلال التفاعل المتبادل بينهما, إذ إن «العلاقة بين السينما والأدب لم تكن ذات طريق واحد كما أشار العديد من المعلقين إلى القيمة السينمائية لأكثر الشعر والروايات الحديثة». وتحتوي السينما على مجموعة من الأساليب في عمل المادة السينمائية ومن بين تلك الأساليب التي استطاع الشاعر المعاصر استعارتها وتوظيفها توظيفاً فاعلاً في قصيدته, هو أسلوب التقطيع الصوري او التوليف( المونتاج) إذ يعد من التقانات المهمة في السينما الحديثة,فهو عصب اللغة السينمائية, وقد استطاع هذا الأسلوب إختصار الكثير من الصعوبات التي كانت تواجه السينما وتسعى إلى تذليلها, إذ «لولا هذه العملية لأصبح الفلم السينمائي وصناعته عملية صعبة ومجهدة». فالمونتاج بالمعنى السينمائي هو«ربط شريحة فلمية (لقطة واحدة) مع أخرى, واللقطات ترتبط مع بعضها البعض لتكوّن مشاهد, والمشاهد تلك ترتبط معاً لتكوّن مقاطع متسلسلة». ويتم إيصال تلك اللقطات المفردة المنفصلة إما عن طريق «المزج أو المسح أو طبع اللقطات فوق بعضها, وذلك للتعبير عن مرور فترات من الزمن أو أي تغير آخر»(5)بحيث تأتي جميع هذه اللقطات«في السياق الطبيعي, ليطابق السرد العلمي أو التقطيع الفني, الذي صنعه المخرج مع المؤلف», ولكي تستطيع هذه اللقطات وعن طريق العملية التوليفية أن تعطي «معنى خاصاً لم تكن تعطيه فيما لو رتبت بطريقة مختلفة أو قدمت منفردة»(2) من هنا نجد مدى أهمية التوليف في العمل السينمائي, إذ إنه استطاع اختصار الكثير من الأحداث التي يمكن أن تؤثر في مجرى الفيلم, والبقاء على المشاهد الرئيسة التي تساعد على سير أحداث الفيلم وهي الفكرة التي تلقفها الشاعر الحديث إمعاناً في تركيز قصيدته وتكثيفها. إذ يقدم لنا الشاعر من خلال توظيف هذه التقانة قصيدة ممنتجة, محتشدة بمجموعة من الصور المتباعدة التي لا يمكن للمتلقي إيجاد أي رابط مباشر فيما بينها, ولكن عند متابعة سير أحداث القصيدة وتحولاتها التقانية, وبعد الانتقال من جزئها السطحي الظاهر إلى أعماقها ولتجميع تلك الصور المتباعدة, فإنه «يتسنى للمتلقي –بعد أن يستوعب هذه اللقطات في مجموعها- أن يسبر أغوار التجربة الشعرية بكل أبعادها», حيث يجدها ذات مدلول فني ونفسي لتحقيق الأثر الفني المطلوب إذ هو «تعاقب الصور على نحو خاص مستهدفاً نتيجة عاطفية معينة. فضلاً عن كونهما وسيلة للتعبير عن أحوال مضطربة معينة وإيقاعات وسرعات مدمرة. ويقترب أسلوب التوليف في سياقه التشكيلي والتقاني كثيراً من مفهوم القصيدة المركزة*, إذ أن التوليف في العمل السينمائي يقوم أساساً على النقلات الأساسية في المادة السينمائية, والإيجاز الذي يعد «ضرورة مهمة من ضرورات تكثيف قوة الإيحاء التي تقوم عليها السينما بشكل عام» فضلا عما «تمتاز به من أختزال وتكثيف وفتح الصورة على دلالة جديدة». ونظراً لما يمتاز به هذا الاسلوب من مميزات, عملت (القصيدة المركزة) على توظيف ذلك في بنائها, لأنه يلائم روح ذلك البناء, إذ يقدم الشاعر من خلال قصيدته المركزة مجموعة من الصور المتعددة والمتنوعة للتعبير عن موقف أو فكرة معينة, ولكن جميع هذه الصور«تعد صوراًَ خاطفة سريعة لا مجال فيها للسرد» فضلاً عن استخدامه عين كاميراتيه لتصوير ذلك الموقف, «ولتحقيق درجة عالية من التركيز الجمالي». ومن خلال تلك الصور المتعددة يستطيع المتلقي فهم التجربة التي يحاول الشاعر إيصالها إليه, والإحساس بها على نحو أكثر جمالية وفنية, ومن هنا نجد أن (أسلوب المونتاج) يقترب على نحو أو آخر من القصيدة المركزة ذلك لأن التركيز هو الأساس التقاني والفني الذي يعمل عليه كلاهما. وسعى جيل الرواد أولاً إلى توظيف تقانة المونتاج أو التوليف في قصائدهم بعدما استعاروا هذا الأسلوب من الشعر الغربي بفعل تأثرهم بالشعراء الغربيين فضلاً عن كونه وسيلة فنية استخدمها الشاعر ملاذاً لحل اشكالاته, والتعبير عن عمق التناقض الذي يحياه بين روحه التواقة للحرية والسعادة, ومصدّات الواقع المرير الذي لا ينتج سوى مصادر الاحباط والهزيمة. وعلى الرغم من أن جيل ستينيات القرن الماضي ومنهم شاعرنا ياسين طه حافظ هو امتداد لجيل الرواد, فقد استطاعوا تطوير –أسلوب التوليف- وتوظيفه توظيفاً فاعلاً في قصائدهم, إذ لم يكن استخدامهم للتوليف استخداماً اعتباطياً, بل كان استخداماً قائماً على أسس تفاعلية يتلاقح فيها الوعي التقاني الشعري مع الوعي التقاني السينمائي, وتفرضه التجربة التي يحاول الشاعر من خلالها بناء قصيدته*. وتجلى هذا الأسلوب في قصيدة (لوحة) لشاعرنا ياسين طه حافظ التي اعتمدت على إسلوب التقطيع الفوتغرافي في محاولة منه لنقل تلك اللوحة نقلاً حرفياً من خلال التقاطه, وعلى نحو سريع ومركز للجوانب الأساسية التي تتألف منها اللوحة التشكيلية:
رجلٌ أشيبٌ ونساء ثلاث وطفل وطعام بأطباقه لم يُمسَ وأحداقهم كلهم بانتظار!
يقسم الشاعر هنا القصيدة على أربع مناطق صورية رئيسة داخل اللوحة التشكيلية, فاللقطة الأولى هي (رجلٌ أشيب) ينتقل بعدها وعلى نحو مركز ومكثف بالمتلقي إلى اللقطة الصورية الثانية المتمثلة بـ (ثلاث نساء), أما اللقطة الثالثة فتتركز في (طفل) ثم تتجمع تلك اللقطات الصورية السابقة في لقطة مونتاجية رابعة, تعدّ البؤرة المركزية في القصيدة (وطعام بأطباقه لم يُمس), فهي الرابط الوحيد الذي يربط بين تلك اللقطات السابقة حيث يهيمن عليها الإنتظار. ومن هنا نجد أن تلك اللوحة صوّرت الحرمان الذي كان يعيشه الشاعر والمجتمع, من خلال اختياره العناصر الرئيسة التي يتكون منها في تلك المدة, بدلالة (أحداقهم كلها بانتظار), ترميزاً لحالة التلهف التي يعيشها كلّ منهم بانتظار حصته من رفاهية مؤجلة ومن خلال تلك (اللوحة) استطاع الشاعر بيان رؤيته في الحياة لذا نجد ياسين طه حافظ يسخر جميع الإمكانات مهما كانت درجة تباينها واختلافها, بشرط أن تكون قادرة على إيصال تجربته الشعرية ففي قصيدة (خريف) يتخذ الشاعر من ذلك الفصل الذي يرمز إلى الشيخوخة والهرم موضوعاً شعرياً لتجسيد رؤيته الشعرية:
الخريفُ استهان باسلابه فتبرأ مما أستبى ثم ألقى بآخر قمصانِه وتبرأ من جلده, فاكتأبْ. الخريفْ حينما حاصرته الرياحُ الجديدةُ ألقى مفاتيحه وخناجره واكتفى بالغضبْ كنت أسمع قصّته من فم الريح, أفعالهُ, ومكائده المُخجلة, في الطريق تأمّلتُ كومةَ أوراقِه ورثيت لهيأتِه العارية.
تنهض القصيدة على أربع لطقات شعرية ممنتجة بشكل زمني, مكرساً لذلك الأنموذج البصري الملائم لبناء قصيدته, إذ نجد بين لقطة وأخرى فاصلاً من الصمت (البياض) يبيّن إستقلال تلك اللقطات التي يتحدث فيها الشاعر عن فصل الخريف الذي يعد الموضوع الشعري الرئيس في القصيدة. ففي اللقطة المونتاجية يحاول الشاعر أنسنة ذلك الفصل وتشخيصه (أسلابه, قمصانه, جلده, أكتأب) فجميع تلك الصفات هي صفات تدل على الأنسنة, فكأنما الشاعر يتحدث عن شخصٍ لا عن فصلٍ من فصول السنة:
الخريف استهان بأسلابه فتبرأ مما استبى ثم ألقى بآخر قمصانه وتبرأ من جلده فاكتأب
أما اللقطة المونتاجية الثانية فجاءت مفصلة للقطة السابقة, فبعد الوصف الخارجي الذي يعكس فيه الشاعر أنهزاميته, نجده هنا أيضاً يضاعف طاقة الأنسنة, من خلال دخوله في مواجهة ضاربة مع الريح ومحاصرته «حاصرته, ألقى, مفاتيحه, خناجره, الغضب» إذ تدل هذه الإشارات على تلك المواجهة التي تنتهي بانتصارها عليه واكتفائه بالغضب:
الخريف حينما حاصرته الرياح الجديدة ألقى مفاتيحه وخناجره واكتفى بالغضب
ونجد ذات الشاعر تظهر وعلى نحو جلي وواضح في اللقطة الثالثة والرابعة إذ تصبح هذه اللقطات موازية للقطتين المونتاجيتين السابقتين ففي اللقطة الثالثة يحاول الشاعر الاستفسار عنه والتعرف على تفصيلات كثيرة عن ذلك الفصل, والواردة في اللقطات السابقة والاستماع إلى قصته: كنت أسمع قصته من فم الريح أفعاله, ومكائده المخجلة أما في اللقطة المونتاجية الرابعة, فنجد الاستفسار عنه والتعرف عليه يرثي الشاعر ذلك الخريف المؤنسن من خلال تأمله بعض بقاياه والمتمثلة بـ(الأوراق), وهو في الوقت عينه يرثي فيها ذاته, المواجهة لذات الخريف: في الطريق تأملتُ كومة أوراقه ورثيت لهيأته العارية ويبدو أن هذه القصيدة جاءت تصوّر على نحو أو آخر ذات الشاعر وتأريخه إذ نجده يؤنسن الخريف ويشخصنه في اللقطة المونتاجية الأولى والثانية لكي يصبح المشهد قابلاً للتشكيل الصوري, وموازياً للأنا الشعرية التي تتدخل في اللقطة الثالثة والرابعة.
بعض المراجع المعتمدة: (1)نظرات في الفن الشعري/ابراهيم العريص، الكويت ،ط2 ، 1974م/ 105. (2) القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الايقاعية / د.محمد صابرعبيد ،منشورات إتحاد الكتاب العرب ، دمشق ،2001م/ 45. (3) تأثير السينما في الاسلوب الروائي / رضا الطيار ، مجلة الكلمة ، عدد3 ، 1974م / 108.
(4) الاعمال الشعرية الكاملة / ياسين طه حافظ االجزء الاول والثاني / دار الشؤون الثقافية / بغداد / 1995 م عالم آخر/ ياسين طه حافظ / دار الشؤون الثقافية، / (5) بغداد 2004 م (6) حوارات صحفية للشاعر في جريدة الصباح البغدادية.
|
|
||||||
|