خطوط وألوان لاحتضان الشاعر

 

يوسف الناصر

 

اقام سركون معي في شقتي الصغيرة في منطقة ايلنغ ـ غرب لندن. أذكر بوضوح أحاديثنا الطويلة، حيث كنا نجلس كل ليلة وحيدين غالبا، متقابلين حول المنضدة العتيقة في المطبخ الذي هو غرفة الجلوس ايضا .

كنا نشرب وندخن بلا كلل حتى اول اصوات الطيور ،  لم يكن يعنينا موضوع الحديث، كنا نتكلم بلا انقطاع عن كل شيء، عن الحياة والعراق والطعام والنساء والشعر ، اما انا فكنت أكتفي بمتعة مراقبة سركون، وهو يبدي دهشة تنعكس على كل ملامح وجهه، لكل ما يقال له، ولكل ما يقوله هو نفسه، مختتما كل موضوع بـ ( أيباه عجيب!!! ) العراقية الخالصة.

في تلك الفترة ـ واظن انها كانت عام 1999 ـ كان يحلو له ان يحدثني عن حياته في اميركا، محاولا دائما ان يجد، من خلال الموضوعات التي يرويها، عذراً كافياً لعدم رغبته بالعودته الى هناك . حدثني عن مشاعرالوحدة، والليالي الطويلة، والمدينة الموحشة. أو على الأقل هذا ما بقي في ذاكرتي من تلك الاحاديث . لكن ما لم يستطع ان يجد له العذر الكافي هو خيط المرارة، الذي ينبثق بين الفينة والاخرى، عندما يصل الحديث الى تلك المرأة المنتظرة هناك . لم تنفعه أعذارُ البعد، ولا تذكر الخصومات، ولا التوله الذي انطفأ او كاد.

حدثني ليلة عن موضع في اميركا يقطنه عراقيون مهاجرون كثيرون ، من الاشوريين خصوصا . قال إن احدهم كان مسافرا في باص قاصدا مدينة كبيرة يقطنها بعض اصدقائه المهاجرين، وكان قد وصل من العراق للتو بعد رحلة طويلة ومعذبة، عبر بلدان كثيرة وكان يتحرق شوقا للقاء اصدقائة ويحسب لذلك الساعات .

مر الباص بموضع شبه مهجور لكنه اثار فيه شعورا غريبا وقويا وكأن شيئا ما تحرك عميقا في روحه، فاندفع بشكل مفاجئ خارج مقعده لا يدري ماذا يفعل، وصاح بلا ارادة منه في سائق الباص ان يتوقف ، وبين ذهول جميع الركاب لملم متاعه القليل ونزل في الفراغ متبوعا بتساؤلاتهم وشكاواهم عن معنى النزول في هذا المكان المهجور.

سار الرجل الى امام بثقة من يعرف الارض جيدا، حتى وصل بعد ساعات من المشي الى قرية أو مدينة صغيرة ، وما ان أطل على المكان حتى ردد مع نفسه ، ها هنا بيتي . استأجر غرفة رخيصة وبدأ يستعد للاقامة لبقية حياته، ثم ارسل في طلب اصدقائه ومعارفه مشجعا اياهم ومزينا فضائل المكان ، قال انه لم يشعر في بيته كما شعر هنا منذ غادر العراق ، قال ان العذاء طيب والماء لذيذ ، قال ان الناس طيبون حسنو المعشر ولهم سحنات اهل العراق، وللخضار والفاكهة طعم تلك التي في العراق ، والخبز ولحم الدجاج كانها عراقية، والصباح عذب كصباح العراق ، اما المساء وكاس العرق والجاجيك والليمون فتهاي بهاي !!!!

كتب، واتصل، وتوسل، ووعد أن يساعد، حتى وصل عراقيون مرتابون إلىجنته هذه، واتصلوا بغيرهم حتى اتسعت القرية او المدينة، وهي تبدو الان عراقا صغيرا في مفاوز الغرب القصية.

كنت استمع الى سركون مسحورا وهو يروي بطريقة الطفل متعجبا مما يقوله هو وبين جملة واخرى ( عجيب ) او ( تمام .. ياالهي ) و ( لك هاي شنووو!! ) ، متقافزا بين الجغرافيا التي لا يفهم منها شيئا والشعر والتاريخ ، منحنيا ومستندا ابدا بكوعيه على المنضدة العتيقة في ذلك المكان الذي شهد الكثير والذي احبه الاصدقاء وكان ملاذا دافئا على مدى سنوات، قبل أن اهجره إلى سكن آخر . على أني لازلت احتفظ بالمنضدة العتيقة والصور التي كنت التقطها لهم .

في الصباح التالي لقصة المهاجر العراقي خرج سركون لملاقاة بعض الأصدقاء، وانا لشراء خارطة للعالم محاولا معرفة سر هذا القرار المفجيء بتغيير خط الاقامة التي بحثها صاحبنا ودرسها بامعان ولفترة طويلة ، وفي الطريق الى المكتبة تذكرت خرائط دروس الجغرافيا الكبيرة التي كانت تعلق على السبورة ، ورق لماع ملصوق على قماش خفيف من الشاش القطني ينخزها المعلم من بعيد بخيزرانته الرفيعة مشيرا الى المدن والانهار والفيافي البعيدة التي تنتقل من السطح اللماع الى خزانة الاحلام .

لم اعثر على بغيتي في مكتبات المنطقة. دخلت الى دكان شركة للملاحة البحرية ، قلت اسأل من اين يجيئون بخرائطهم ، فحدثتهم عما اريد ولماذا اريده . حدثتهم عن العراقي المهاجر، وقصة سركون فقام رجل طويل ضخم احمر الشعر الى حاجز خلف طاولات المكتب وعاد بخارطة كبيرة علقها على الجدار ، فلاحظت انها من نوع خرائط دروس الجغرافيا التي يغلب عليها اللونان الازرق والاصفر، ولها عارضتان واحدة في الاعلى والاخرى في الاسفل، وكان الأزرق فيها يكاد يكون مطموسا بخطوط سير السفن السود والحمر والرمادية، ونقاط الاستراحة والموانيء وغيرها، لكنها خارطة العالم وعليها خطوط الطول والعرض الاعتيادية وفيها العراق واميركا .

قال الرجل وهو يلوك طعامه انه لا يقدر ان يعطيني افضل من هذه الخارطة ، فاجأني فحاولت أن اشرح له انني لم اكن اتوقع منه ان يعطيني شيئا وان ما اردته هو ان يدلني فقط ، فقال: "ان كانت تلك الخارطة ذات فائدة لك فتستطيع ان تأخذها وأردف ضاحكا ولقمة الطعام في فمه "هذا قبل ان أغير رأيي " .. التقطتها وخرجت الى الشارع مهرولا.

علقت الخارطة على الجدار وبدأت البحث عما سأسميه منذ الأن ( مدينة سركون ) السحرية . وجدت المدينة الأم ، ثم بدأت عملية (المسح الهندسي ) والبحث في الخارطة الصماء عن ذلك الهاتف الداخلي الذي حمل مهاجرا عراقياً خائفا ، وهو في طريقه إلى مدينة المهاجرين قبله من أهليه، على التوقف والنزول الى المجهول ، مع ان سركون حاول مساعدتي في معرفة السر واراحتي من عناء البحث قائلا : "تره هذا واحد امخبل ، مدري كان سكران من الخوف".

اجريت اتصالات مثابرة بالتلفون بشأن معلومة اية معلومة ، وعندما عاد سركون مساء كان بانتظاره خبر اقعده بلا حراك ... ان مدينته تلك تقع على نفس خط عرض ودرجة عرض مدينة الموصل ! .

بدأنا سهرتنا تلك الليلة صامتين محدقين بالخارطة ، وبين فترة واخرى يقوم سركون مقتربا منها محدقا في موضع ما، أو في لا موضع ،ثم يعود الى مكانه وكان الاكتشاف الجديد اخرجنا من لغز ليوقعنا في آخر اكبر .

ولكي اكسر الصمت اقترحت على سركون مداعبا ان نسمي هؤلاء الذين قادتهم قلوبهم الى مدينة أمريكية فيها طعم مدينتهم ومذاق ايامهم السابقات: ( طيور اشور )

رسمت حينها تخطيطات وبضع لوحات تسكن فيها طيور وعرضت بعضها على سركون . وعندما وصلني خبر رحيله رسمت طيورا تهوي، وطائرات تحترق، وأخرى تنحدر مغيرة كتلك التي اشبعتني هلعا وخوفا أيام حرب لبنان . رسمت مدنا او بيوتا تظهر من بعيد على الافق ، ليست من تلك التي يتوق المسافر البردان لدفئها ، ويحلم العابر الغريب بحميميتها . بيوت تنبعث من الحكاية ، الحكاية الجميلة ، لكنها لم تعد لا هي ولا الحكاية ذات معنى ، بيوت شبه ممحية تبدو شاحبة للعيون الكليلة .

           ورسمت اشجارا اغصانها وجذوعها من تلك المادة التي يتحول اليها الخشب بعد ان تجوسة مرارة النار ، وثمارها من رماد ايضا ، فما معنى (النسغ الصاعد) و ( النسغ النازل ) في حضرة الغياب ؟

رسمت مشهد المدينة وأردته شاحبا مريعا ، ينظر اليه الغريب من شرفته : الأسيجة، والأبواب ، والشبابيك، والمزاريب، والاشجار ،والسناجب .. الاطفال والعربات .. ملابس على الحبال ودخان ينبعث من السقوف ، وهي مشاهد ذات الوان وابعاد هندسية لكنها بلا عمق ولا تاريخ وبلا ظلال .. فالقط لا يترك اثرا، والشجرة بلا فيء، والقهوة بلا عطر .

حاولت ان افعل عكس ما فعله بعض من رسامي المدن الايرلنديين ، مدن تضج بالحياة والاحاسيس والمفآجات ايضا .

انا لم ارسم عن سركون ولم ( استلهم ) شعره في لوحاتي وتخطيطاتي ، انا رسمت من الحال التي كنت او اكون فيها بعد رحيله ، عندما ارسم واشعر به قريبا يحوم حولي ، او عندما ارسم واتذكره او اقرر ان ارسم عنه او عني معه وقد ارسم شجرة او امراة ، لا يهم فانا ارسم ما كنت ارسمه دائما رغم انه يتغير باستمرار ولا يبقى كما هو ، لم اجترح مادة وثيمة مختلفة  فالشرفة هي ذاتها والنافذة هي ذاتها والزهرة كذلك لكنها لا تتكرر ابدا .

ها انا الان اعود للكتابة عن سركون في عيادة الطبيب ، كنت قد بدات الكتابة في المستشفى لاجراء فحوصات لنفس السبب الذي قضى فيه سركون ، وقد مرت عشرة ايام على ذلك ، بعد رحيله باسبوع دعوت الاصدقاء لامسية في مرسمي في لندن ، تذكرناه وقرانا من قصائده واسترجعنا سيرة حياته وابداعه وعلاقتنا به ، اما احتفائي الخاص بحياة الصديق الراحل فكان ان ازلت كل الصور واللوحات عن الجدران لافسح المجال  لصورتين كبيرتين لوجهه احتلتا الجدارين الابيضين المتقابلين ، قسمت كل صورة الى ستة اجزاء ورسمت كل جزء على ورقة كبيرة ( 50x70 سم) ثم جمعتها معا ، كان الوجهان يملان القاعة ويجعلان كل ما عداهما صغيرا ، نقلتهما من صورتين يبدو سركون فيهما في شكله الامثل ، لا حركة ولا التفاتة ولا جانب لا نعرفه فيه او لا نتوقعه ، الصورة او اللقطة التي يعرفها الجميع ويتوقعها الجميع ، كنت اقصد الى صناعة صورة فيها عنصر البقاء الذي تعودناه في صور الشخصيات القليلة التي كنا نعرفها ونحن في العراق ، مثل صور الشخصيات الرسمية والرؤساء المبرمجة بدقة والمعدة سلفا ، اي الصورة المصنوعة التي لازمن فيها رغم ان فيها ظلا من حياة وذلك على امل النفاذ من الوقت وتجاوز المحنة وعبور الموت .

 

 اضغط على اللوحات لطفاً

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 

غريْهَم هولدرنَس : قراءةٌ لقصيدة فيليب لاركن

عبد الكريم كاصد : تحولات البياتي

طالب عبد العزيز : أغلال الوجود الحر

عبد الخالق كيطان : خماسية الصباح

خزعل الماجدي :  آخر صفحات الشعر الرافديني

نصير فليح : 3 قصائد

 

*


ملف: سركون بولص

 

محمد غازي الأخرس : نهار سركون بولص

 علـي جعفـر العـلاق :  شـعـرية الطـوفــان  

حسن ناظم : مآل ُسركون بولص

فوزي كريم :  مشروع نص نقدي

سركون : قصائد مبكرة

باسم فرات : حوارات عابرة للزمان

يوسف الناصر: خطوط وألوان لاحتضان الشاعر

رحمن النجار: معبد سركون بولص

صالح زامل : قراءة في شعرية سركون بولص

 

*

 

حصاد المحرر: الشعر


أبجدية الرمل

عروس الثلج

 

حصاد المحرر: الموسيقى
 

عزلة الكورال

مقتطفات كافكا

 

حصاد المحرر: الفن

صادق طعمة : من العباسية إلى سومر

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009