تحولات البياتي

 

 عبد الكريم كاصد

 

منذ أباريق مهشمة والبياتي يشرع أبواب شعره على الحياة يستقي منها موضوعاته، لم يحدّه في ذلك موقفٌ، أو ظرفٌ ما، فلا غرابة إن رأينا قصيدة ذات منحى ثوريّ كقصيدة (فيت مين):

 

وكرنّة العصفور صوتُكِ لا يزال

في ليل باريس يناديني تعال

 

إلى جانب قصيدة ذات منحىً وجوديّ كقصيدة (مسافر بلا حقائب) التي استمد فكرتها من مقالة طويلة نشرتها مجلة ( الأديب) اللبنانية، أوائل الحمسينات، عن رواية لسيمون دو بوفوار، يعاني بطلها سأم الخلود، كتبها الكاتب العراقي نهاد التكرلي الذي كان يجيد الفرتسية، ومن أشدّ المتحمسين لشعر البياتي آنذاك، ولم يتردد البياتي من استعارة كلمات وجمل من المقالة هذه ليضعها في شعره، مازجاً إياها بتجربته الشخصية ومضفياً عليها طابعه الخاص، كهذا المطلع:

 

من لا مكان

لا وجه لا تاريخ لي ، من لا مكان

 

ولعلّ هذا الطابع الخاص هو الذي أنقذ بساطته من العادية التي وسمت شعرغيره من الشعراء ممن تقدمت الشعاراتُ أشعارَهم، إلاّ أن ذلك لا يعني أن البياتي لم يكتب الشعر العاديّ في مرحلة تطلّبت حضورَهُ الشعريّ الدائم ، ففي شعره، مثلما في شعر معظم الروّاد تطالعنا القصائد الرديئة إلى جانب القصائد الجيدة.

لم تضرّ البساطة شعر البياتي كثيراً مثلما أضرّ به افتعاله. وهذا يصحّ على شعرنا العربيّ عموماً. لقد قادته بساطته في ديوانيه (المجد للأطفال والزيتون) و(أشعار في المنفى) إلى قصائده الغنائية في  مجموعتيه اللاحقتين (كلمات لا تموت) و (النار والكلمات)، مثل (الطفل والحمامة)، (الوحدة)، (أحبها)، ( هيهات)، (ثلاث رباعيات)، (المغني والقمر) . هذه القصائد التي يقول البياتي نفسه عن كلماتها إنها "لن تهرم".

سأورد النموذجين الأخيرين اللذين كتبهما البياتي: (ثلاث رباعيات) (1960/1/14)، (المغني والقمر) (1961/1/2) أي الفترة التي كتب فيها البياتي ديوانه (عشرون قصيدة من برلين). الأولى هي:

 

رأيتُ في المنام

محبوبتي عارية ترقص في كأسٍ من المدام

أردتُ أن أشربه لكنّني غرقتُ في الكأس وفي المدام

لأنني كنتُ مغنّي صاحب الجلالة السلطان

 

*

 

أردتُ أن أعانق الأطفال في الطريق

أردتُ أن أشعل في قصائدي الحريق

لكنني غرقت في بحر حياتي الأسود العميق

لأنني كنتُ مغني صاحب الجلالة السلطان

 

*

 

 

وضعت قلبي في إناءٍ ووضعت السيف في إناء

محبوبتي امتلكتها تقطر من شفاهها الصهباء

صدحت بالغناء

لأنني قتلت صاحب الجلالة السلطان

 

 

أما الثانية فهي:

 

 

-1-

 

رأيته يلعب بالقلوب والياقوت

 

-2-

 

رأيته يموت

-3-

 

قميصه ملطّخٌ بالتوت

وخنجر في قلبه

وخيط عنكبوت

يلتفّ حول نايه المحطّم الصموت

وقمر أخضرُ في عيونه

يغيب عبر شرفات الليل والبيوت

وهو على قارعة الطريق في سكينةٍ يموت

 

 

ولو قارنا القصيدتين الأخيرتين بشعرنا العراقي آنذاك لبدت هاتان القصيدتان متقدمتين عليه، لا أستثني منه سوى شعر السياب.

لماذا؟

1- لأنهما ألمحتا إلى مسار آخر للشعر ... هو مسار الحكاية الشعبية المتطورة، بديلاً عن الأسطورة التي شاع استعمالها آنذاك والتي استعارها الشعراء من ثقافات غربية تحديداً.

2- إنهما أحالتا إلى تراث عريق آخر هو تراث الشرق مجسّداً في شعر فارس والهند.

3- إنهما جاءتا في مواجهة القصائد الطويلة التي افتقدت كثيراً البناء والعالم المحدّد.

4- إنّ إحداهما (رباعيات) استعارت شكلاً تقليديّاً لتتجاوزه إلى شكلٍ من الرباعيات أكثر تطوّراً.

5- وأخيراً لغتهما التي كانت كسراً حقيقيّاً للبلاغة الشائعة آنذاك.

ولو تطلعنا إلى المشهد الشعري آنذاك فماذا نرى؟

مجموعات شعرية لا ترقى إلى هذين النموذجين، على أهمية بعضها: (جئتم مع الفجر) لبلند الحيدري "وهي أضعف مجموعاته"، (النجم والرماد) لسعدي يوسف، قصائد متفرقة لمحمود البريكان، قصائد متواضعة لرشدي العامل، وحسين مردان، أمّا نازك فإنّ تأثيرها بدأ ينحسر في هذه الفترة.

ولم يكن هذا التوجّه طارئاً لدى البياتي، بل هو نتيجة تعميم ومعرفة بمسار شعريّ خاص به، عبّر عنه نفسه، في إحدى مقابلاته، عندما أخذ على إحسان عباس في كتابه عن البياتي "مرجعيته الغربيّة البحتة".

نقّاد كثيرون، أذكر من  بينهم الناقد اللبناني علي سعد المرهف في تذوّقه للشعر آنذاك، أشار إلى هذا المنحى الذي يمكن تلمّسه في قصائد دواوينه الأولى، كما في قصيدة "الأميرة والبلبل" في ديوان "أشعار في المنفى":

 

 

يوم دخلت في الضحى

حديقة الليمون

أمطرت السماء عطراً

أمطرت شجون

واستيقط البلبل

يا أميرتي

والتقت العيون

وأورقت غصون

ورنّ صوتٌ دافئٌ حنون

موعدنا هنا غداً

 

 

هذا المنحى طوّره البياتي، بشكل فائق في ديوانه (الذي يأتي ولا يأتي)، مستوحياً فيه سيرة عمر الخيام، ومستلهماً فيه كتاب (هارولد لام) عن الخيام، مستعيراً ومتمثّلاً مقاطع كاملة من هذا الكتاب الآسر. وللأسف فإن نقّادنا لم يشيروا، أو لم ينتبهوا إلى هذا المصدر المهم في ديوان هو من بين أهم الأعمال الشعرية في شعرنا العربيّ ، والذي أصبح عنوانه، بالذات، من موروثنا الثقافيّ مثلما أصبحت عبارت لبوب أو شكسبير جزءاً من الموروث الثقافيّ الإنجليزيّ.

ومثلها القصائد الغنائية في ديوان (سفر الفقر والثورة) التي شابتها مسحة حزن عميق، حتّى بدت القصائد، وكأنها تكتب نفسها بلا أثرٍ للشاعر:

 

 

مدنٌ بلا فجرٍ يغطيها الجليد

هجرت كنائسها عصافير الربيع

لمن تغنّي؟ والمقاهي أوصدت أبوابها

ولمن تصلّي؟ أيها القلب الصديع

والليل مات

والمركبات

عادت بلا خيلٍ يغطيها الصقيع وسائقوها ميّتون

أ هكذا تمضي السنون

ويمزّق القلب العذاب؟

ونحن من منفى إلى منفى ومن بابٍ لباب

نذوي كما تذوي الزنابق في التراب

فقراء ياقمري نموت

وقطارنا أبداً يفوت

 

إلاّ إن الشاعر الذي تمرّس في الشعر البسيط كان قادراً أن يمدّ شعره ببعدٍ إنسانيّ يتجاوز الذات المقهورة إلى عالمٍ هو مسرحٌ تمتزج فيه مأساة البطل بمأساة الجوقة والجمهور، حيث يختفي أثر الشاعر ولا يظهر إلاّ حاملاً ناره الخفيّة في (الذي يأتي ولا يأتي).

لقد وجد البياتي روحه في الخيّام، وصورته في عائشة الحيّة الميّتة، مفتوناًَ بعالمه المسحور هذا، لم يغادره إلاّ ليعود إليه، لذلك ظلّت عائشة ذلك الاسم الذي يشيع في قارئه إيحاءات إسلامية عدبدة، ماثلة في ديوانه اللاحق (الموت في الحياة)، غير أن استعادة عالم (الذي يأتي ولا يأتي)، في هذا الديوان اللاحق ظلّ عصيّاً، وحلّ محلّ ذلك الاختلاط الساحر الذي شهدناه في (الذي يأتي ولا يأتي).. اختلاط  آخر هو اختلاط الرؤية المشوّشة. وحلّ الصوت الواحد محلّ الأصوات العديدة، وأعلنت الأشياء والحيوات في قصائده عن أسمائها دون أن تعلن عن هويّتها: العنقاء، لوركا، ديك الجنّ، مدريد، غرناطة، عشتار، وعادت الفراشة الأليفة الغريبة التي "لا تعبر السور ولا تنام":

 

فراشة تطير في حدائق الليل إذا ما استيقظت باريس

يتبعها أوليس

عبر الممرات إلى منفيس

 

وطلّ البياتي أسير عالمه القديم حتّى بألفاظه:

 

يأتي مع الفجر ولا يأتي

حبّي الذي أغرق في الصمتِ

 

 

ولم ينقذه من هذا الأسر إلاّ قصائد معدودة، كقصيدة (روميّات أبي فراس)، تميّزت باختلاف أشكالها عن قصائده السابقة، وإن اقتربت في مضمونها منها، ومع انطفاء عالمه الجديد انطفأ تبشيره ونبوءاته التي طالعنا بها في دواوينه السابقة:

 

بابل لم ببعث ولم يظهر على أسوارها المبشّر الإنسان

 

 

وباختصار لقد حلّت القصيدة-الأشلاء محل القصيدة- الجسد وهذه كانت البداية لمرحلة مرهقة حقّاً في مسيرة البياتي.

خيّل للبياتي أن خلاصه من أسر عالمه السابق هو التوجّه كليّاً إلى عالم آخر هو عالم آشور وبابل، الذي طالعتنا آثاره في ديوان (الموت في الحياة)، وبرزت معالمه في ديوان (كتابة على الطين)، لكن سرعان ما تكشّف عن عالم قاتم شبيه بعالم الأموات، لا أثر فيه لـ "أفراح العالم الكبير،"، عالم الذي (يأتي ولا يأتي)، وغدت تحولات الشاعر لا تحولات عائشة، باعثة على الاختناق:

 

يرتدي الشاعر ثوب الساحر الميّت يخفي وجهه تحت القناع

 

*

 

فأنا لوح من الطين وخيطٌ من دخان

كتبوه في الرقى والصلوات

 

 

وأصبح استنجاده بعائشة التي أصبحت عشتار في هذه المجموعة، بلا جدوى، وفي هذا العالم المظلم القاتم كسرداب موتى لم يعد الشاعر قادراً على تمييز صوته: أ صوته هو أم صوت عشتار؟ أ هو الذي يناديها أم هي التي تناديه؟:

 

عبثاً تصرخ فالليل طويل

وخطا ساعاته في مدن النمل حريق

 

 

كلّما نادتك عشتار من القبر ومدّت يدها ذاب الجليد

 

مثلما لم يعد الشاعر في تحولاته يميّز"الكاهن الذي يبعثر أشلاءه" عن "الكاهن الذي يباركه بالخبز والماء الطهور" ولم تشفع للشاعر حتّى إشراقاته المفاجئة:

 

جسدي أصبح وردهْ

عارياً في النور وحدهْ

 

مثلما لم تسعفه لغته في تبديد العالم الكثيف الذي تردّدت بين جدرانه، أحياناً، أصداء أشعاره القديمة الشجية:

 

تتنكّرين بزيّ ساحرة وفي ورق الخريف أميرة تتقنّعين

وتضاجعين البرق في قاع البحار وفي الجبال غزالة تتراكضين

وتمارسين السحر في الواحات كاهنة وفي سعف النخيل

للسائرين بنومهم والهائمين

وتضاجعين الميّتين

وتهوّمين وتختفين

وإلى بلادك ترحلين

وأنا أموت كقطرة المطر الحزين

على وجوه العابرين

 

 

في هذا الديوان، ديوان (الكتابة على الطين)، يبلغ الاختلاط أشدّه، حين يعتنق الميلاد والموت، فلا ندري ولا يدري الشاعر أ ميلاد ما يتحدّث عنه أم موت:

 

 

سبح العاشق يا سيّدتي في دمه وانهار سور الصين بعد المعجزهْ

واستردّ الميّت الحيّ حصان العربهْ

واستقرّت روحه الهائمة المضطربهْ

في الغصون المزهرهْ

ونواة الثمرهْ

فإذا ما عرّت الريح قميص الشجرهْ

وهوت أوراقها ذابلة في المقبرهْ

مدّ من فصلٍ إلى فصلٍ يد الشحّاذ للنور وقطرات المطر

كامناً كالنار في الأشياء مأسوراً طليق

باحثاً كالنهر عن مجراه في أرض الخرافات وغابات الحريق

كلّما دقّ على أبواب قصر الساحرهْ

في الليالي الماطرهْ

غابت الأبواب والقصر وخلاّني وحيد

 

 

لم يخرج البياتي من عالمه الخانق هذا، إلاّ وقد استنفد تحوّلاته وتحوّلات عائشة، متطلّعاً إلى العالم الخارجي، في ديوانه (بوّابات العالم السبع)، لعلّه يجد ضالته في نماذج لا تقلّ تعقيداً عن شخصه، كشخصية ابن عربي العصيّة على الإمساك، وإن كاد أن يدركها في هذا المقطع:

 

 

أحملُ قاسيون

تفاحة أقضمها

وصورة أضمها

تحت قميص الصوف

أكلّم العصفور

وبردى المسحور

فكلّ شاردٍ وواردٍ أذكرهُ، عنها أكنّي واسمها أعني

وكلّ دارٍ في الضحى أندبها، فدارها أعني

توحّد الواحد في الكلّ

والظلّ في الظلّ

وولد العالم من بعدي ومن قبلي

 

 

لكنّ نماذجه الأخرى كانت تنأى عنه كالظلال كلّما همّ بالإمساك بها: وضّاح اليمن، الشافعي....

وهو في سعيه هذا كان يرتدّ إلى نفسه أسفاً، وسط اختلاط الأزمنة:

 

أتيتُ قبل موعد الوليمه

وبعد أن تفرّق الضيوف

 

 

في هذه القصائد تغيب ملامح الشخصيات ليطلّ علينا وجه البياتي، مجنون عائشة، وقد أرهقه البحث:

 

فأعبر الصحارى

أمشي وراء ناقتي والفجر قدّامي إلى بخارى

أعود منها حاملاً نذري إلى دمشق

مطارداً وجائعاً للحب

 

 

مع إطلالة مجنون عائشة يطلّ الشعر ثانيةً، بعد أن غاب في متاهة البحث:

 

خبّأت وجهي بيدي

رأيت

عائشة تطوف حول الحجر الأسود في أكفانها

وعندما ناديتها هوت على الأرض رماداً وأنا هويت

فنثرتنا الريح

جنباً إلى جنبٍ على لافتة الضريح

 

(ولو قال شاهدة الضريح لكان أفضل وأكثر استقامة)

 

*

 

وا أسفاه ذهبت صيحاتنا سدى

 

هذا البحث الوجوديّ، وسط زحمة الأساطير ووقائع التاريخ، أنقذ البياتي من السقوط في فخّ العاديّ واليوميّ، ولعلّ المفارقة التي لم ينتبه لها شاتموه تكمن في أن شعر البياتي هو نقيض شخصه تماماً، (شخصه كما يتصوّرونه طبعاً)، ففي الوقت الذي كان شعره يجوب الأزمنة والأمكنة الغابرة، كان شخصه مشدوداً إلى ما هو يوميّ وعاديّ. وهذا مثال لشاتميه، لا لنا، على الهوّة التي توجد أحياناً بين الإبداع وشخص المبدع.

بعدما استحضر البياتي نماذجه في ديوانه (بوابات العالم السبع) كانت دورة شعره قد اكتملتْ وبدت كلّ خطوة قادمة محضَ دوران، هو دوران التائه العائد إلى ذاته دوماً. والحقيقة أن البياتي أرهقه الدوران فانطفأت جذوة شعره تماماً في (كتاب البحر) وتبعثر عالمه، فلا مركزولا نماذج هناك، بل أشياء تتداعى، لا تشير حتى إلى نفسها، ولم تستطع رؤاه المتوهجة في مقاطع من قصائده (سيرة ذاتية لسارق النار)، (قصائد الفراق والموت)، (الموت في البسفور). في ديوانه (سيرة ذاتية لسارق النار)، من انقاذه من حالة الدوران، لكنّ الشاعرالمرهق سرعان ما يجمع، في ديوانه (قمر شيراز)، وفي قصيدة (أولد وأحترق بحبّي) بالذات، رماده، ثانية، لتنطلق عنقاء الشعر، مؤكّدة أن البياتي ليس شاعراً فحسب، وإنما هو شاعر كبير، ورائد لا يعيش حاضره وحده، وإنما يعيش الأزمنة كلّها وقد تجاورت في هذه القصيدة،حيث الحاضر أبديّ والمسرح لا نظّارة فيه، والوحشة لا حدّ لها والحلم يقظة، واليقظة حلم.

في هذه القصيدة تغتني البساطة الآسرة القديمة، لتصبح عمقاً لا يمتدّ في زمنٍ واحد، بل في كلّ الأزمنة والأمكنة.. قصيدة لا تجد فيها أثراً لصنعةٍ وهي التي تتجلّى فيها كلّ صنعة الشعر، ولا أثراً لتعقيد وهي المعقّدة في كلّ شئ: شخوصها، زمنها، مكانها، علاقاتها، أحداثها، تعاقب فصولها. إنها القصيدة الأوضح والأعمق في شعر البياتي:

 

تستيقظ لارا في ذاكرتي قطّاً تتريّاً، يتربص بي، يتمطى، يتثاءب، يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم، أراها في قاع المدن القطبية تشنقني بضفائرها وتعلّقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدوداً في خيط دموعي أصرخ: "لارا" فتجيب الريح المذعورة: "لارا". أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى. لا يدري أحد. أمضي تحت الثلج وحيداً، أبكي حبّي العاثر في كلّ مقاهي العالم والحانات.

 

لقد أطبقت الوحشة على قلب البياتي، ولكنّها انتجت لنا شعراً بهيّاً، ويبدو أنّ نعمة الشعر التي حلّت في ديوان (قمر شيراز) لم تتكرّر في ما بعد في كتابات البيّاتي، فقد انتهت تحوّلاته إلى حجرٍ سمّاه البياتي نفسه بـ "بحجر التحوّل"، في ديوانه (مملكة السنبلة)، ولم يستعد هذه النعمة إلاّ نادراً، عندما استعاد أعزّ ما لديه : ذكرى عائشة:

 

بستان عائشةٍ على الخابور

كان مدينة مسحورة

عربُ الشمال

يتطلّعون إلى قلاع حصونها

ويواصلون البحث عن أبوابها

ويقدّمون ضحيّة للنهر في فصل الربيع

لعلّ أبواب المدينة

تستجيب لهم

فتفتح/ كلّما داروا

اختفى البستان

واختفت الحصون

فإذا خبا نجم الصباح

عادوا إلى "حلبٍ" لينتظروا

ويبكوا ألف عام

فلعلّهم في رحلة أخرى إلى الخابور

يفتتحونها

ولعلّهم لا يفلحون

 

 

 

 

هامش:

 

1- قصيدة أولى:

 

 

 ما أوسع المقبرة..!

ما أضيق الجبل..!

 

إلى الصديق الشاعر محمد مظلوم ذكرى زيارتنا قبر البياتي

 

 

 

وأخيراً

ها هو الموت

يرفع قبرك بمخالبه

 ويودعهُ صخرة

في أعالي الجبل

 

*

 

قلتُ للبياتي:

لماذا أنت على الحافة دوماً

عالياً

وموشكاً على السقوط؟

 

*

 

ما أشقى أن يحمل قبراً

طائرٌ

لا يحطّ!

 

*

 

ما أغرب الطريق إليك:

*سماء تقبل صامتة

*شجرٌ كالمسوس يخبئ خضرته

*أجنحة تصطفق ولا يبصرها أحدٌ

*عرباتٌ قادمة بالأشباح

*وهذا البائع

- ما يزن؟

- الهواء

 

 

*

 

ما أبعد قبرك عن الأرض

وما اقربه إلى السماء!!

ولكنْ

لماذا كلّ هذه الضجة

تحدثها هذه الشجرة؟

 

*

 

ما أفجعَ الغروبَ عند الجبل

حين تنحدرُ الشمس بين المآذن

ويرنّ جرسٌ بعيد

في برج

 

*

 

هذا البحر المتلاطم

- الفجر -

من يوقفه؟

كاد يزحزح قبرك عن صخرتهِ!

 

 

*

 

ما أكثرَ أعداءك!

حتى في الموت

مع أنك صامتٌ..صامتٌ

كطفل

 

*

 

النسر

الذي نهش صدرك قبل ثلاثين قرناً

ها هو الآن يعود

ليحط على الصخرة ذاتها

حيث تنام

 

*

 

حين يتسامر الموتى في الليل

بمَ تحدّثهم؟

 

*

 

حين تضئ النجوم

فيصبح قبرك بيتاً

ماذا تفعل يا عزيزي البياتي؟

هل تسهر وحدك؟

 

 

*

 

متردّداً أمام الباب

يقف الربيع

مستأذناً للدخول

 

*

 

كلّ شئ هنا يتنفس:

أرواح الموتى

الأشجار

الحجر

الحجر أيضاً

 

*

 

ما أوسعَ المقبرة..!

وما أضيقَ الجبل..!

 

*

 

أما زلت هنالك

عند ضريح الكيلاني ببغداد

تمرّ بك الأغنام المسلوخة والناس؟

 

*

 

حين تغادر قبرك

من ببقى في القبر هناك؟

 

*

 

الضرير

الذي أوقفنا

هل يعرف أنك ميْت؟

 

*

 

قبل عشرين عاماً

ثلاثين عاماً

مررتُ بهذا المكان

كانت الظهيرة ترمقني

بعينين حمراوين

والبيوت الصغيرة كالأفاعي

تتمرغ في الشمس

 

 

*

 

(ما الذي جاء بك ميْتاً إلى هنا؟)

ما الذي جاء بي؟

حاملاً بيتي الصغير أسفل الجبل

بابوابه

ونوافذه

باشباحه ومراياه

هل..

لأغلقهُ عليّ؟

 

 

*

 

اللغة التي اصطحبتها يوماً إلى الشارع

لتبتهجا بالأشجار..

                      وبالناس

ها هي الآن تتسوّل

 

*

 

سأعود إلى البيت

ومن يدري؟

فقد لا ارى صورتي في المرآة

 

 

 

 

2- قصيدة ثانية:

 

 

التباس

 

                إلى البياتي ذكرى لقائنا في مقهى لاباس في القاهرة     

 

 

 

 

 

 

في مقهى "لا باس"

كان هناك اثنان

ينتظران

من منهما ينتظر الآخر؟

 

في مقهى "لاباس"

غادر أحدهما

وظلّ الآخر

منتظراً

(منْ غادرَ...؟)

 

في مقهى "لا باس"

 

 

 

 

3- قصيدة ثالثة:

 

 

قطارك الذي فات

ملأته الأشباح

 

 

 

 

 

* من كتاب (متنٌ أم هامش؟) المعدّ للطبع.

 

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 

غريْهَم هولدرنَس : قراءةٌ لقصيدة فيليب لاركن

عبد الكريم كاصد : تحولات البياتي

طالب عبد العزيز : أغلال الوجود الحر

عبد الخالق كيطان : خماسية الصباح

خزعل الماجدي :  آخر صفحات الشعر الرافديني

نصير فليح : 3 قصائد

 

*


ملف: سركون بولص

 

محمد غازي الأخرس : نهار سركون بولص

 علـي جعفـر العـلاق :  شـعـرية الطـوفــان  

حسن ناظم : مآل ُسركون بولص

فوزي كريم :  مشروع نص نقدي

سركون : قصائد مبكرة

باسم فرات : حوارات عابرة للزمان

يوسف الناصر: خطوط وألوان لاحتضان الشاعر

رحمن النجار: معبد سركون بولص

صالح زامل : قراءة في شعرية سركون بولص

 

*

 

حصاد المحرر: الشعر


أبجدية الرمل

عروس الثلج

 

حصاد المحرر: الموسيقى
 

عزلة الكورال

مقتطفات كافكا

 

حصاد المحرر: الفن

صادق طعمة : من العباسية إلى سومر

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009