جزء من حوار طويل لم ينشر: مع ياسين عدنان
خطابك النقدي يكاد يقوم على الذائقة وضرورة إعادة الاعتبار لها في تلقي الشعر.كيف تشرح ذلك؟ أقصد كيف تبرر تركيزك على الذائقة؟ وألا ترى أن ذلك يتم على حساب عناصر أخرى قد لا تقل أهمية؟ Üقد يذهب خيالك إلى الذائقة المألوفة في حديثنا العام الشائع. كل فرد له ذائقته، حتى في قراءة الشعر، بالتأكيد. هذه الذائقة تولدها السليقة عادة. وهي بالتأكيد غير معتمدة في حديثي عن الذائقة التي يصح أن أضيف عليها كلمة "النقدية"، لكي يبدو المعنى أكثر وضوحاً. ولكن دعني أصرف بعض الوقت مع المعنى العام الذي ذكرناه. الكثير من قراء الشعر، في الوسط الثقافي هذه الأيام، يفتقدون إلى حاسة الطرب، التي يثيرها النص الشعري كما تثيرها الأغنية. وهي حاسة دنيا بالتأكيد، إلا أنها ضرورة أولية تُبنى عليها مراحل التذوق التالية. التعامل مع المفاهيم الحداثية (أو ما بعدها!) العربية تتم في سياق نظري، أي في س ذهني. حتى كلمة "اللذة"، التي ترد في رطانات الحديث الحداثي، سرعان ما تكتشف أنها وليدة اجتهاد ذهني. هذا الأمر هو الذي جعلني أقتنع مع الأيام بأن معظم ممارسي النقد الشعري لدينا لا يملكون حاسة الطرب هذه. لأنهم أولاً انفردوا مع النصوص ذات الطبيعة الذهنية زمناً، ثم أسرهم مع الأيام دورهم الريادي، ثانياً، في الغرق في التنظير الذي لا شواطئ له. معززين لغتهم وعقولهم بمزيد من( الصياغات المترجمة) لتيارات البنيوية والتفكيكية، التي أماتت المؤلف، ونفت النص عن الإنسان، وجعلت الكلمة لا متناهية الدلالة. إن مدخلاً كهذا لا بد سيكون مدخلاً سحرياً! واحدة من أخطر نتائج هذا الخوض الذهني المجاني تكمن في أنهم صاروا يفتقدون إلى أبسط معايير التمييز بين النص الشعري الرديء والآخر الجيد. صار واحدهم ينصرف، بفعل مصالح السوق الثقافي، إلى كتّاب ونصوص لا قيمة لها، على اختلاف المعايير الذوقية. تجد ذلك في أكثر المقالات والكتب النقدية شيوعاً اليوم. ألا تعتقد أن مشاعر اللذة الأولية هذه ضرورية في خلق جاذبية بين النص والقارئ؟ الآن أنتقل إلى المستوى الآخر من الذائقة، والتي ألحقتُ بها كلمة "نقدية" لا اعتباطاً، وإنما للفت نظرك إلى الجانب المعرفي الضروري لدى القارئ والناقد، لكي يتذوقا النص الشعري بصورة حقيقية. أقول الجانب المعرفي الذي لا يقتصر على اللذاذات النظرية. وأرجو أن يوضع هذا في الاعتبار الأول، عزيزي ياسين. نقاد ما بعد الحداثة العربية يخلطون عن سوء نية، للأسف، بين الجانب المعرفي النظري وبين الجانب المعرفي الذي تتطلبه الفنون. ما قيمة كل المعادلات الذهنية في كتب النقد النظرية إذا كانت حواس الناقد عاجزة عن الاستجابة؟ ما قيمتها أمام منحوتة لم تكتمل بعد لمايكل أنجلوا؟ حيث الجسد أسير الحجارة؟ أو أمام قصيدة للسياب، لا يفلت البطل فيها من جاذبية الموت؟ قارئ وناقد الشعر، الذي يفتقد إلى هذا النوع من الثقافة النظرية، والحسية، والروحية، يفضل بالتأكيد أن يلوذ بحرم النظريات البنيوية والتفكيكية (العربية!). إنه معها يفلت من أسار البحث عن الدلالات، والتقاط الخفي بمجسات الكيان الحار الحي. كنا نضيق بالنقاد الأكاديميين القدامى بتهمة انعدام الروح. النقاد الأكاديميون اليوم، أبناء صنعة قد تحسن معرفة بحور الشعر مثلاً، ولكنها تفتقد الى الإحساس بها. تعرف معنى لا نهائية الدلالة، ولكنها لا تعرف لأي هدف، لأي غاية! قراءة الشعر تفترض إحساساً مرهفاً بالموسيقى، حتى لو كان النص قصيدة نثر. وقراءة الشعر تفترض احتضاناً لموروث الشعر العربي، حتى لو كان القارئ متطرفاً في حداثيته. وتفترض مخيلة طليقة، حتى لو كان القارئ أو الناقد مُثقلاً بالمعرفة النظرية. ولكنّ إتقان بحور الشعر لا يولد حساسية موسيقية. فكيف إذا انعدم الإتقان والحساسية معاً؟ وكذلك مع الموروث، والمعرفة النظرية.
Û تحدثت قبل قليل عن افتقار النقاد اليوم إلى أبسط معايير التمييز بين النص الشعري الجيد والنص الرديء، كيف نضع باعتقادك معايير الجودة ومعايير الرداءة ؟ وهل هناك من معايير عامة وثابتة لها وجودها الخاص والمجرد خارج النصوص، أم أن هذه المعايير هي هلامية في الواقع ونسبية جداً ومرتهنة بالضرورة بحساسية القارئ وتصوره الشعري الخاص؟ وبالتالي فالمعايير تتعدد بتعدد الحساسيات والاختيارات الشعرية. نفس الشيء ينطبق على الحساسية الموسيقية، ألا تعتقد أن ما قد تعتبره أنت غياباً تاماً ومطلقاً للحساسية الموسيقية في تجربة شعرية ما هو حساسية موسيقية من نوع خاص ربما يجب التجرد قليلاً من حساسيتك الخاصة لتذوقها؟ بل ربما كان عدم إتقان بحور الشعر الذي اعتبرتَهُ ضعفاً في العُدَّة الشعرية عنصراً إيجابيا يفتح الشاعر على مُمْكِنات موسيقية وإيقاعية جديدة؟ Ü بشأن المعايير، أرجو أن تتوقف عند صفة "أبسط"، وأن لا تغفلها. هناك معايير في مقدار ملوحة الطعام الذي نأكل. صحيح أن المصاب بضغط الدم يتجنب الطعام المملح، إلا أن ذلك استثناءً، ولا يدخل دائرة "المعايير الأبسط". وصحيح أن قد يأتي يوم على الناس، يتجنبون فيه جميعاً تمليح الطعام، بدافع الوعي الصحي. حينها سيشيع معيار معاكس. وسيصبح من "أبسط المعايير" هو الآخر. الحياة، ومن ضمنها كتابة الشعر وقراءته، تتطلب أبسط المعايير. وكما بدأت حديثي معك عن المفهوم البسيط المعتاد للذائقة، أتحدث الآن عن أبسط المعايير. حين يقبل أحدنا على قراءة قصيدة، لا بد أن يكون على وعي ما بأنه يقبل على نص يسمى شعراً، لا افتتاحية جريدة. ولا بد أن يكون وعيُه ذاك قادراً على التمييز بأن ما يقرأه هو قصيدة حقاً. وإذا ما كان افتتاحية جريدة فسيفاجأ دون شك. قد تقول لي أن القارئ ربما يكون رجلاً تقليدياً، لم يعتد إلا على القصيدة العمودية المحاكة بنسيج عباسي، وبأنه سيفاجأ بقصيدة السياب التي سيظنها شعراً، وإذا بها تقريراً صحفياً عن البؤس، على درجة عالية من الالتباس! ولكن ألا ترى هذا القارئ التقليدي أشبه ما يكون بالرجل المصاب بضغط الدم، مجرد استثناء؟ هناك أبسط المعايير في تعريف الشعر أيضاً. على الأقل المعيار الذي يميزه عن اللوحة، وإعلانات السوق، والرواية. طبعاً، هناك من يطالب بصوت عال بتصفية "الرواية" و"الإعلان" و "القصيدة" و التعويض عنها بكتابة "النص". وأيضاً أعيد القول بأن هذا صوت الاستثناء، شأن الذائقة العباسية، ومريض ضغط الدم. القصيدة فن شأن اللوحة، والعمل الموسيقى، والمنحوتة، فرضتها رغبة في محاولة محاكاة الطبيعة، ثم صارت ترغب بأن تتولد من ذاتها. هاجس الرغبة في التعبير عن المشاعر والأفكار، وهاجس المتعة بالشكل الذي يولده التعبير، اندفعا مع الأيام الى هواجس أكثر تعقيداً. لعل الغموض، التواصل مع غير المرئي، مع غير الأرضي، أو اعتماد الايحاء السحري في الكلمات ...الخ، ليس إلا عدداً من مظاهر تطلعاتها. ولكن القصيدة في كل تحولاتها المتولدة من تراكم الخبرة الإنسانية، لم تفقد الأنْوية الأولية والجوهرية، التي تجعل منها قصيدة، لا لوحة، أو إعلان سوق، أو رواية. على أنها يمكن أن تنتفع من هذه النشاطات الإنسانية الثلاثة. من هنا أرى عبارتك في سؤالك: " وهل هناك من معايير عامة وثابتة لها وجودها الخاص والمجرد خارج النصوص، أم أن هذه المعايير هي هلامية في الواقع...."، عبارة خالية من الدلالة. إذ ما من معايير عامة وثابتة خارج النصوص! وما من أحد قال ذلك في تاريخ النقد، وتاريخ الذائقة الشعرية. كما أنه ما من معايير هلامية. وما من أحد قال ذلك في كل ما نعرف من تاريخ النقد والشعر. وإنما هي صياغات اعتدنا عليها، مع مئات مثلها، ولدتها صحافة التسلية والتهريج الثقافي. شيوع انعدام الدلالة تسرب داخل سؤالك، على هيئة محاججة ذات قناعة حتى تبلورت في الاستنتاج الغريب التالي: "بل ربما كان عدم إتقان بحور الشعر الذي اعتبرتَهُ ضعفاً في العُدَّة الشعرية عنصراً إيجابيا يفتح الشاعر على مُمْكِنات موسيقية وإيقاعية جديدة؟". أي ممكنات موسيقية وإيقاعية جديدة تتولد من الجهل بأدوات التقنية الأولية؟! ولِِمَ يصحُّ هذا في الدائرة (العربية) للأدب والشعر وحدها، لا في الدائرة العالمية لهما، ولا في دوائر الفنون، والعلوم، والحِرف، بصورة عامة. أعتقد أن الأدب والشعر خاصة، هما وليدا مؤسسة ما أسميه بـ "ثقافة الإعلام"، التي هيمنت على مقدرات الحياة العربية، منذ الستينيات. إنني لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون الجهل داخل اختصاصي عنصراً إيجابياً. قد يحدث هذا في الاستثناء الذي تحدثنا عنه، أو تحت طائلة الصدفة. إنني لم أدرس الرسم في معهد أو أكاديمية، ولكنني أمارسه منذ الصغر، وفي أوقات الفراغ من القراءة والكتابة والموسيقى. الرسام رافع الناصري أجاب شكواي له من مشكلة صعوبة تعاملي مع الألوان، بسبب عدم دراستها أكاديمياً، بأن هذا الضعف قد يكون فضيلة. من الواضح أنه لم يقصد أن على الرسام أن لا يدرس الألوان، وأن يحرص على جهله بعالمها الثري. لو كان حظ الرسم مثل حظ الشعر، أي أن "ثقافة الاعلام" طوته تحت عباءتها داخل الصحافة والنشر والمهرجان، لولد مثله تيّاها بتحطيم الحدود، وحرق المراحل، وتبني فضيلة الجهل الاستنكاري. ولكن الأدب، والشعر خاصة، فعل ذلك منفرداً. "الغياب المطلق للحساسية الموسيقية"، كما جاء في سؤالك، لا يمكن أن يولّد حساسيةً من نوع خاص. الحساسية الموسيقية لا يُغيّبها الطرشُ ذاته، ولقد حدث ذلك مع بيتهوڤن كما هو معروف. ولكن انعدامها لا يولّد حساسيةً خاصة حتى مع عشرة آذان. ثقافة الصحافة الناشطة، مع غياب حياة ثقافية في الواقع المعاش، جعلت قدرة التوليد الذهنية في الكلمات تقوم مقام قدرة التوليد الغائبة في الفعل الثقافي. ولذلك يبدو توليد المعرفة من الجهل ممكناً. الموسيقى الشعرية، مثل موسيقى الآلات أو موسيقى الحنجرة، تحتاج الى خبرة ومران، الى جانب حاجتها الى الموهبة. أما "إتقان بحور الشعر"،الذي ورد في سؤالك، فلا ينتسب الى المران والخبرة، ولا الى الموهبة. أنا لم أعد أذكر من بحور الشعر إلا القليل. وأكاد لا أذكر من الزحافات والعلل شيئاً. ولم يرد على لساني هذا "الإتقان لبحور الشعر" بالمرة. الفارق بين "إتقان بحور الشعر" وبين الحساسية الموسيقية كالفارق بين امرئ القيس وبين الخليل بن أحمد الفراهيدي. الأول شاعر والثاني عروضي. المؤسف أن كاتب "النص" هذه الأيام لا شاعر ولا عروضي. الشاعر الذي ينفتح "على ممكنات موسيقية وإيقاعية جديدة"، كما ورد في سؤالك، إنما هو الشاعر الذي خَبَر ممكناتِ البحور، وممكناتِ الكلام المتدفق على لسان الناس، وممكناتِ العلاقة الخفية بين العاطفة ودرجة الصوت، وممكناتِ الغرائز البدائية الدفينة في توليد طاقة الرقص في الكلمات، وعشرات أخرى من الممكنات، دعك عن ممكنات الموسيقى المجردة أو موسيقى الحنجرة. من هنا ينفتح الشاعر على "الممكنات"، لا من جهله بهن جميعاً، وخاصة أنظمة الإيقاع الكلامي! Û في حديثك عن الذائقة والسليقة و"المعايير الأبسط" انتصارٌ للبداهة، بداهةٌ تشهرها أحياناً في وجه الحداثة والمعرفة الصادرة عن فكرها، فهل تعتبر حقاً أفق الحداثة مُضاداً للبداهة وللتطور الطبيعي للذائقة الشعرية العربية التي أرى أنك متشبث ببعض "خصوصياتها" وكأنك بذلك لا ترضى لها مطمح الكونية؟ أيضاً حينما كنت تحكي عن "الذائقة النقدية" لم تتردد في التعريض بنوع من المعرفة اعتبرته نظرياً محضاً ووليد اجتهاد ذهني. ألا تخشى أن تكون هنا بصدد إطلاق أحكام عامة حول الحداثة التي تبقى موضوعاتها أكثر تعقيداً وإرباكاً؟ Ü البداهة التي أعنيها تنطوي على نوع من العودة الى معنى: لماذا نقرأ، ولماذا نكتب؟ معنى الحداثة وما بعدها لدى الأجيال، التي تتسابق مع بعض باتجاه مجاراة الغرب، عطلت المعنى الحي للمعرفة. لم تعد المعرفة سعي من أجل إنسان أسمى وأنبل. من أجل حياة أكثر كثافة وغنى، ومن أجل وجود يستحق أن يُعاش . صارت " رحىً تطحن قروناً" لغوية، إذا صحّ أن أتمثل ما قاله أبو العلاء المعري في شعر ابن هانئ الأندلسي. وأحسب أنك تعرف أن لا فرق بين مطحنة الكلمات ومطحنة الأفكار والنظريات، ما دامت الغاية ضرباً من المباراة. الشاعر والمثقف العربي في الانسان أشبه ببطل نص أدبي على مسرح. يستيقظ حين يحين الدور، ويخفى حين تحل الحياة. تجلس مع صاحبك المثقف فتجده نتاج ردود أفعال لا تنتهي، شأنه شأن أي رقم من مخلوقات الله، وما أن تقحمه في الدور الثقافي، حتى يلتحق كمن يستيقظ من نوم. فتراه ذا موقف على موقد. هذا الموقف الحار معلّق كبالونة خارج الحياة، حياته. موقف ينتمي الى الكتب في رأسه. وعلاقته بهذه الكتب عادة ما تُستنفد على خشبة المسرح. ولا دور لها في حياته العملية. قلة هم اولئك الذين قادتهم المعرفة الى فعل التغيير باتجاه الأسمى والأغنى. العالِم في مختبره لا يمكن أن يكون الانسان ذاته قبل اكتشافه،أو اختراعه، أو بعدهما. الشاعر والمثقف العربي موظف مرهق يتسلى داخل مختبر الكلمات، بالرغم من أنه يعطي عمله مظهراً عبوساً جدياً. هذا المختبر لن يغير من كيانه ووجوده مقدار قيراط. لأن ثقافته وشعره لم يكونا يوماً مسعىً للبحث عن الحقيقة. التطور الطبيعي للذائقة الشعرية، إذا ما كنت متحمساً له، لا يقدر على إخفاء علل سايكولوجية، كالتي تخفيها الرغبة بالتطاول على الثقافة الغربية، وادعاء مجاراتها، بل تجاوزها. معظم ما أرقبه من نتاج شعري ونقدي وليد قفزات سايكولوجية فردية وجماعية، وليس وليد فعل ثقافي. إما رغبة دفينة في الهرب من الواقع، أو محاولة تسامٍ بفعل العجز، أو تطاول بسبب انعدام الثقة بالنفس. تصفحت البارحة بضعة أوراق من مجلة أكاديمية تصدر في البحرين. الأوراق من ملف كبير حول الفيلسوف الفرنسي دريدا وتفكيكيته. لم أفهم شيئاً مما قيل فيها، ولك أن تطمئن أن أحداً غيرنا لن يفهم شيئاً مما قيل فيها، وإنما هي مطحنة لغوية اتفق الجميع على مقدار الروع الذي ستخلفه في المحيط الثقافي العربي البائس. المثقفون المشاركون في البحرين، هم صدى الكورس الأكثر إيصاتاً في المغرب، أو لبنان، أو العراق. لا بد أنهم محتفون بالدلالات التي لا تخرج من صَدَفة الكلمة. محتفون بمقدار القطيعة بين تفكيكيتهم وبين كل ما يمت الى الحياة، والى الانسان، والى الميتافيزيق الذي وراء الحياة والانسان! واحتفاؤهم أيضاً لا يعدو احتفاء موظف الأدب داخل مبناه. يتلاشى ما أن يهم بالخروج منه الى بيته وعائلته.
Û استئنافاً لهذا الحديث تذكرت ما قلت لي مرة من أن شعراء الحداثة لا يقرؤون، هل تعني ذلك حقاً؟ أقصد ألم تكن في هذا التصريح مبالغة من طرفك؟ Ü Ü كلمة "لا يقرؤون" "مجازية"، وقد تكون فيها لمسة لجوهر معنى القراءة. فأنا لا أعتقد أن كل من يقرأ "يعرف" بمقدار ما يقرأ، فالمعرفة شيء، والمعلومات شيء. يمكن أن تخزن مادة هائلة في جهاز "الكمبيوتر". القراءة وسيلة معرفة. والمعرفة بحث دائب عن الحقيقة. والذي يقرأ خارج هذا المدار إنما يقرأ وفق متطلبات السوق. لمزيد من الشهرة، للإمساك بجاه اجتماعي، مزاحمة السياسي باتجاه مركز الصدارة. وهنا تخذله الفاعلية الثقافية، لأنها سرعان ما تتحول الى مجرد أداة بيد السياسي. لأن المثقف حرّف مهمتها عن طريقها غير الغائية وأقحمها في طريق السياسي ذات الهدف المرحلي المحدود. وأنا أعذر السياسي، والحزبي في مسعاه إلى أن يكون في المقدمة، وأن يكون في موقع النجوم، وفي سلطة قوية مهيمنة. انتقال هذه المطامح الى المثقف والشاعر سرعان ما تحول فاعليته الى أداة تخريب. وأنت تعرف أن الفعل الثقافي أكثر قدرة على التخريب من الفعل السياسي. السياسة تهدم الظاهر، ولكن الثقافة تهدم الأسس، وهذا ما حدث على امتداد الخمسين سنة الأخيرة، منذ زوال أبطال عصر النهضة، الذين أعطتهم النقاهة السياسية آنذاك دوراً تأسيسياً وبطولياً. بعدهم جاء عصر الثورات، ثمار أفكار المثقفين، الذي لم يتوقف لحظة عن تهديم وحرق الانسان والحياة جملة. أنا عراقي وأعرف أن صدام حسين، الذي سُحق تحت عجلة دبابة أمريكية، كان ثمرة أفكار المثقفين الثورية. ولو سُحق الدكتاتور بدبابة وطنية من الداخل، أو دبابة من داخل الوطن العربي، لما حملت الدبابتان إلا مشروع دكتاتور جديد. لأن الوطنية العراقية والعربية ما زالتا ترزحان تحت هيمنة الفكر الثوري الانقلابي بالغ العمى والخطورة. بهذا المعنى المتداخل الخطوط أشرت الى قراءة المثقف. الشعراء الستينيون، وهم الثمرة المعلنة لهيمنة "ثقافة الاعلام" منذ الخمسينات، قرؤوا شعر الغربيين مترجماً(الى العربية، أو مترجماً في الرأس لمن خبر اللغة ولم يختبر الحياة!)، وعبر الترجمة تبنَّوا كل التيارات، وليدة الزمان والمكان المحددين. ولكي تناسب كيانهم الشرقي المحزون أعطوا هذه "الخبرة المترجمة" صبغة "لامكانية" و"لازمانية"، و"لاإنسانية" بالتالي. حتى أنهم التزموا قاعدة الكتابة دون أوزان، أسوة بأودن المترجم، وإليوت المترجم!! الكتب النظرية، في السياسة أو نقد الأدب، عُزلت هي الأخرى عن زمانها ومكانها وإنسانها، وأُعطيت لبوساً كفيلة بإثارة الروع، أو الضحك (كالاهتمام المابعد حداثي البحريني بدريدا!). Û هل أفهم من كلامك أنه ليس من حق المثقف البحريني أن يبدي أي شكل من أشكال الفضول المعرفي إزاء دريدا؟ وبالتالي سيكون من العبث أن ينصرف المغاربة أيضا إلى قراءة سوزان برنار ومحاولة الإطلاع على مجهودها التنظيري بخصوص قصيدة النثر؟ القصد هنا طبعاً ليس تصيُّد الأمثلة واختزال حديثك في مفارقاتها الجارحة، بل أريد فقط أن نتأمل أكثر سؤال القراءة مستفيدين من مثالك. فما المطلوب برأيك: أن نتجاهل دريدا لأنه ينتمي إلى زمن معرفي لم نبلغه بعد؟ أم نحاول الانفتاح عليه بالقراءة والترجمة ومحاولة الاقتراب من ناره؟ أم أن ملاحظتك لا تصادر في العمق قراءتنا لدريدا بل الطريقة التي نقرأه بها هو وغيره في العالم العربي؟ Û Û إنك أحطت بمعنى كلامي، لا أشك في ذلك. الفضول أحد أهم دوافع المعرفة. ولا أحسب أنك تعتقد، على خلاف ما أعتقده أنا، بأن المثقف البحريني ذهب الى دريدا والتفكيكية بدافع الفضول. وأن الصدفة وحدها أيقظت كل هذا الفضول العربي، من البحرين والإمارات إلى المغرب، باتجاه البنيوية والتفكيكية، ودريدا؟ الفضول، في المناخ الثقافي الصحي، واسع رحب. نحن نجهل التيارات النقدية الغربية، في مراحل نضجها، منذ القرن التاسع عشر، حتى السنوات الأخيرة المتزاحمة. وأحرى بالفضول العربي الذي تشير اليه أن يتسع لكل تلك التيارات النقدية ولكل هؤلاء النقاد. فلم اقتصر اتساعه على هذا الأفق الضيق؟ مع العلم أنك لم تترك فسحة في تساؤلك للتعميات اللفظية التي أشرتُ إليها أنا، في إجابتي السابقة. إنني أعجب من هذا الهوس بالاهتمام بكتابات دريدا، وهو مصدر شكوى في لغته، وفي اللغة الانكليزية؟ مع أن هاتين اللغتين ألصق بحضارة الغرب من العربية، التي لم تجرؤ حتى اليوم على ترجمة واحد من المصطلحات النقدية الغربية، وباتفاق عربي عام. السبب ببساطة لا يكمن في اجتهادات المترجمين، بل في أن هذا المصطلح لا قاعدة ثقافية ونقدية له في العربية. تعميات دريدا في الفرنسية والانكليزية محيرة، ولكنها في العربية مضحكة. لأنها تريد للكلمة أفقاً لانهائي الدلالة، داخل حياة عربية تبدأ خطوتها الأولى، وبشق الأنفس، في تعزيز الدلالة وتحديدها. المثقف العربي يستهويه اللعب دون استشعار المخاطر. ألم يلعب قبل ذلك مع كل تنويعات الثورة الفلاحية، والبروليتارية، والطلابية، حيث لا زراعة مقننة، ولا معامل إنتاج، ولا جامعات! فقط لأن هذه الكلمات استهوته في الفكر الغربي، عبأها بعواطفه المضطربة، ثم ألقاها في سوق الفعل السياسي، فتحولت الى ثعابين. طبعاً الثعابين قتلت الناس ولم تقتله هو! أنت أهملت ما هو جوهري في موقفي النقدي، وانصرفت الى ما لم ألتفت اليه مطلقاً، وهو مشروعية فضول المثقف وتطلعه لمتابعة دريدا أو برنار! ولكنك لم تهمل دوافع قراءتنا لدريدا وبرنار بالتأكيد، التي أحطتها بالريبة والتساؤل. إن كل كتاب قصيدة النثر العربية لا تعنيهم الدوافع التي تقف وراء الشاعر الفرنسي، حتى لو صرّحت بها برنار. ولا تهمهم حقيقة أن كتّاب هذه القصيدة في الانكليزية قلة تماماً. المهم أن هذه القصيدة العربية الجديدة أفلتت زمام الخيول من يد الشاعر، وألقت عنه أعباء القوانين حتى الأولية، باتجاه متاهة الحرية داخل غاب الثقافة الفقيرة. في ختام إجابتي على سؤالك الأخير أرجو أن تصرف وقتاً نافعاً وممتعاً مع وعي المثقف البحريني لتجليات دريدا، ومحاولة الاقتراب من ناره، في هذا الشاهد (المقطع أخذته عفو الخاطر، إذ لا فرق بينه وبين سواه على كل حال!):
" ... ويلاحظ دريدا أن الميتافيزيقا قامت باستبعاد اللاحضور من خلال تعريفها للمكمل بأنه مجرد عنصر خارجي بسيط أي إضافة خالصة أو غياب خالص، فكما يضاف الكلام إلى الحضور الحدسي إلى الوجود إلى الجوهر، فكذلك تضاف الكتابة إلى الكلام الحي الحاضر، كما تأتي الثقافة لتضاف إلى الطبيعة وهكذا لا يكون "المكمل" شيئاً على الإطلاق، فهو محض زيادة خارجية أو جسم طفيلي يُضاف إلى حضور جوهري ممتلئ. غير أن التناقض يكمن في أنه في الوقت الذي يعتبر المكمل محض إضافة تكميلية لأصل ما، إلا أن الحاصل هو أن الأصل لا يوجد ولا يتميّز ولا يكتسب حضوره إلا بفضل المكمل هذا، فروسو الذي يعالج الكتابة كزيادة تكميلية على الكلام، يرتد في مواضع ليعالج الكتابة بوصفها ما يكمّل أو يسد نقصاً حاصلاً في الكلام. ومن هنا يخلص دريدا إلى القول بأن مفهوم الأصل ليس إلا أسطورة الإضافة أو الإكمال، إنه أسطورة محو الأثر وإلغاء الإرجاء الأصلي، فالحضور الأصلي ليس بحضور ولا غياب، بل هو الإكمال بوصفه بنية، أو هو منطق الإكمال والإضافة الذي اكتشفه دريدا في أعمال روسو، والذي يتلخص في أن الشيء المضاف إليه (الكلام والطبيعة مثلاً) بحاجة إلى المضاف أو المكمّل، لأن الاثنين يمتلكان الخصائص ذاتها التي كان يعتقد أنها من خصائص المكمّل أو الملحق فقط." Û أتفق معك على أننا لم ننجح بعد في الاستفادة بعمق من فيض المعارف والنظريات والمشاريع النقدية التي جاءتنا من الغرب. فتهافُت الترجمات وتعاطي "المؤسسة" النقدية والأكاديمية العربية مع جديد السوق النقدية الغربية، والفرنسية خصوصاً كما في حالتنا المغربية، بعقلية السبق الصحفي أفسح المجال للكثير من الدجل الذي قد يتسرب أحياناً إلى أكثر المجلات العربية رصانة. لكن دعني أعرج بك على "دجل" آخر –لاحظ أنني أضعه بين قوسين هذه المرة- إنه ذلك "الجانب الدجلي في شعر الحداثة العربية". والعبارة لك طبعاً. فكيف يغيب في هذه القصيدة برأيك الفيض الروحي للشعر وعذوبته الداخلية لحساب اشتغال شكلي وحذلقات لغوية لا علاقة لها بجوهر الشعر؟
لا أعرف كيف وردت العبارة السابقة على لساني، ربما في حديث سابق لهذا الحديث! أنت تعرف أن الكذب إرث مشرّع في شعرنا العربي. "الأغراض" الشعرية الأساسية الثلاثة: "المدح"، "الهجاء"، "الفخر" هي ثلاث أثافٍ طُبخ عليها الشعر العربي، منذ الجاهلية الأولى. وعماد هذه الأغراض الكذب والمبالغة، حتى لو أعد لها النقاد كل المبررات التاريخية. لقد عرضت لهذا الجانب في كتابي "ثياب الامبراطور"، على كل حال. الشاعر المتنبي، ظل حتى هذه اللحظة منارة هداية للتوق الشعري العربي. بالرغم من أن شعره لم يكن يمسُّ النفس، إذا ما استطعت استعادة جملة طه حسين، ويبلغُ القلبَ إلا حين كان يتغنى حزنه ويشكو بثّه ويصور آلامه في تواضع واعتدال. على أني أعرف، كما كان طه حسين يعرف، أن الذائقة العربية السائدة حتى اليوم لا ترى رأيه. فالمتنبي مثير لديها، ويمس النفسَ ويبلغ القلبَ، حتى في مدحه وهجائه وفخره، خارج تغنيه وشكواه وتواضعه واعتداله. الذائقة العربية تلتهب مع: " أنا صخرةُ الوادي إذا ما زوحمت"، تماما ً كما تلتهب اليوم مع: " قادرٌ أن أغيّر: لغمُ الحضارة، هذا هو اسمي". الزمن الذي يعيد بناء الفكر والذائقة معاُ لم يتغير كثيراً. الزمن العربي يضطر الى استبدال الأقنعة. "الحداثة" الغائمة المعنى واحدة من هذه الأقنعة، استُلبت من مكان وزمان شديدي الخصوصية، ومقتصرين على ما حدث في القارة الأوربية، منذ القرن السابع عشر، ثم في القارة الأمريكية، وما جاء على أثرها. و "ما بعد الحداثة" قناع أكثر إثارة للرثاء. إنها أقنعة وليست مصطلحات. المصطلح عادة ما يكون وليد المختبر الحي، في أي حقل من حقول المعرفة العلمية، أو الفنية. إن الطقس المذهل للمخيلة في ليل ساحة "جامع الفنا" أو الشعائر الشيعية يتعارض مع "الحداثة" المذهلة بدورها. هذا الليل وليد زمنه، ولا قناع. وأنا أقرب الى الانتساب اليه، لا من باب الاعتزاز القومي والتاريخي، (لأني أسعى كشاعر ومفكر الى تغييره)، بل من باب الانتساب الطبيعي. الحداثة لا تعطي قصيدة جيدة، وهي ليست شرطا من شروطها. "ساحة الفنا"، والشعائر، وقصيدتي وليدة مخيلة واحدة. لأن كل منها يتطلع الى تجاوز ما هو أرضي، أو مستهلك مبتذل. طبعاً سيأتيك من يفهم من كلامي دعوة للتخلف، ومحاربة للحداثة. مع أني أكثر من يندب حظ هذه الأمة لكثرة عثراتها باتجاه التحديث والتنوير. والرغبة باستعارة المصطلح من الغرب (الذي سرعان ما يتحول بالضرورة الى قناع)، هي واحدة من هذه العثرات. والمسؤول فيها هو المثقف بالتأكيد. أرجو أن لا يذهب بك الظن الى أني ابتعدت عن سياق سؤالك. على العكس، فكل الذي فعلت أني انحدرت قليلاً الى الجذور. الى ما يجعل "الفيض الروحي" للشعر ينحسر لصالح "الاشتغال الشكلي والحذلقات اللغوية". إن كذب المتنبي (المدهش!) لا يختلف في الجوهر عن قناع الحداثي (المدهش!). كلاهما ملهم للذائقة غير الصحية ومثير. كان أبو نؤاس، الذي سبق المتنبي، وأبو العلاء الذي جاء بعده، يعيش ذات الإرث الذي عاشه المتنبي، ويخضع لذات المؤثرات والظروف. ولكن ما الذي جعل أبا نؤاس وأبا العلاء يصفوان، بكل كيانهما، الى شعر آخر؟ إنه ليس سؤالاً محيراً. سياق الشعر العربي تيار كبير ليس من السهل الوقوف في وجهه. المرحلة العربية في العقود الأخيرة قطعت أكثر مراحل انحطاطها كارثية. فلم لا نتوقع أن تكون في هذا فرصة لسياق الشعر غير الصحي أن يصبح تياره أكثر طغياناً؟ خاصة وقد خبرنا، قبل الشعر، ما حدث مع الأقنعة النظرية التي ألهبت الذائقة غير الصحية في حقل الفكر والسياسة الثوريين، الذي لم ينتج إلا دكتاتوريات ومقابر جماعية وضحايا! النظرية الثورية، والانقلابية، وقفز المراحل، وكل الصياغات المتعالية لبست إلا "أقنعة"، لا مصطلحات. تماماً مثل أقنعة الحداثة وما بعدها. وكما ان الثوري الانقلابي كاذب (مدهش)، لا يعنيه من المصائر البشرية وعذاباتها إلا ما تسبغ عليه من هالة الجاه والمجد، كذلك الشاعر الحداثي، وما بعد الحداثي، كاذب (مدهش)، لا يعنيه شيءٌ من علاقة ما يكتب بما يرى حقاً، أو بما يضطرب في داخله. المضطرب الروحي لدى الشاعر يتميز بدرجة عالية من التوتر، حتى لو كان هذا التوتر خفياً غير ظاهر. قد يولّد لديه حاجة للبحث عن منفذ في موقف أو طريق خلاص، وقد يكون متطامناً مع المضطرب، وابن طبيعة متدفقة. ظاهرة الشاعر العربي السائدة تعيش مع أقنعتها بإدهاش متواصل باسم حداثة مستعارة، دون مضطرب داخلي باحث، أو متطامن. استثناءات أبي نؤاس وأبي العلاء، (السياب، البريكان، عبد الصبور...) دائمة الحضور. وإنارات الحداثة العالمية في كل حقول المعرفة بالغة التأثير اليوم، وفي المستقبل. ولذا أشعر أن الوقت على شيء من النضج لمواجهة الأقنعة الثقيلة وإزالتها، وإلقاء مزيد من الضوء على جادة الشبيبة الشعرية من أجل إعادة الاعتبار الى المعترك الداخلي، مولّد الشعر الصحي، والتشكك بقيمة المعترك الخارجي مع الآخر. بهذا المعنى تعرف الشبيبة أن الذي يمارس الخديعة، لا يمارسها إلا على ذاته. والذات الخادعة لا يمكن أن تكتب شعراً! Û المشكلة تكمن برأيك في عدم القدرة على خلق التوازن المطلوب بين الاستجابة للأعماق باعتبارها ينبوع الشعر الحقيقي والاستجابة لفيض المعارف التي جاءتنا من الغرب. ولقد سبق لك أن تحدثت في "ثياب الإمبراطور" عن السياب باعتباره أحد القلائل الذين خلقوا التوازن المطلوب، وهو ما فشل فيه آخرون كانت ازدواجيتهم الثقافية والفكرية أعمق من ازدواجية السياب. أفكر هنا بأدونيس الذي لا يخفى تعمقه في المعرفة الشعرية التراثية وكذا انفتاحه الكبير والنوعي على ثقافة الغرب. لنكن أكثر دقة ونحدد مثلاً ما الذي جعل أدونيس يفشل فيما ترى أن السياب نجح فيه؟ Ü الجملة التي بدأت بها سؤالك ملتبسة قليلاً. لأنها وجه من وجوه الاشكال. ولكن لنأخذها منطلقاً، أنا وأنت. فالسياب بهذا المعنى كان مخلصاً للإنتساب لمعتركه الروحي الداخلي. هناك كانت تنهمر تيارات الحياة والثقافة وتنصهر، وتُخرج زبدتها الشعرية. أدونيس، بالمقابل، كان مخلصاً في الانتساب لثقافته، "وذكياً" في نخل هذه الثقافة وتسريبها الى داخله. ولكن مشكلة الذكاء انه يُقحم العقل في استخلاص الزبدة الشعرية. وشعر أدونيس مزدحم بالذكاء. ثم أن عزلة السياب عن المعترك الايديولوجي الصاخب في محيطه العراقي والعربي كانت عزلة "شعرية" عميقة. الشعر، وليد المعترك الداخلي، لم يترك للسياب فرصة الخوض في المعترك الخارجي إلا في الظاهر. بسبب ضعف شخصيته، وانعدام إرادته، وسهولة مكسره، ومحدودية ثقافته أيضاً. ولذلك فإن كل انتماءات السياب، وحماساته الايديولوجية، هوائية، وقشرية، ووليدة استجابة لا يد له عليها. رغم كل المسحة الجدية التي منحها لها النقاد. لأنهم يرون الشاعر، ببساطة، عبوة أفكار ومواقف مسؤولة، وملتزمة. لا عبوة مشاعر والتباسات ناسفة. أدونيس، على الجانب النقيض، أحد أطراف هذا المعترك الايديولوجي الصاخب، في محيطه اللبناني والعربي. وشعره خالص لهذا المعترك الخارجي، صادق فيه، مهموم بدور الداعية، الذي يجد من الضروري القيام به. بحيث لم يترك الأخير للشاعر في أدونيس فرصة الانصراف الى المعترك الداخلي إلا في الظاهر. لأن كل الاحتدام الأدونيسي، والاحتراقات، والتفجرات، التي توهم أنها داخلية، إنما هي وليدة ذهن متوقد، وثقافة وافرة. شاعرية أدونيس الكبيرة لا يمكن أن يتم الحماس لها إلا عبر معيار الشعر العربي. فهو كالمتنبي، لا يمس النفس ويبلغ القلب إلا في اللحظات التي يبدو فيها ضعيفاً حقاً، متواضعاً حقاً. ولكن أدونيس دائم القوة، دائم الرفعة، دائم النبوة. وتدفقات ضعفه وتواضعه خطرات في شعره نادرة، للأسف!
Û لنعد إلى ظاهرة أخرى وهي ظاهرة الأغراض الشعرية التي صاحبت الشعر العربي منذ الجاهلية إلى الآن. فقط تم استبدال المدح والفخر والهجاء بالمرأة والثورة والوطن. كيف تفسر شخصياً هذه النزوع غير المفهوم للشاعر العربي في أن يربط اسمه وتجربته بموضوعات محددة ليصير نزار شاعر المرأة ودرويش شاعر القضية (الفلسطينية)، وفلان شاعر الحزب وعلان شاعر الموت وهكذا؟ ثم ما المانع-لاحظ أنني فقط أحاول فتح باب السؤال على مصراعيه- في أن يزهر صوت شعري ما في مزهرية بعينها، كأن تكون المرأة مثلاً الملهمة الأولى وربما الوحيدة لشاعر كنزار؟ وتصير الكتابة عن قضية ما شأنا شعرياً خالصاً؟ ما المانع إذا أزهرت نبتة الشعر في مزهرية الغرض؟
إنني لا اعترض أن تزهر موهبة شعرية في حقل تجربة روحية واحدة. فليختص نزار بالمرأة، أو بالحب، والبياتي بالثورة والحرية. ولكنني أعترض حين أجد أن هؤلاء لا يتعاملون مع هذه المحاور الحية كقضايا كبرى. لقد أحالوها الى "أغراض" شعرية، وعلينا، أنا وأنت، أن نفهم أن الغرض الشعري العربي ينطوي، في طبيعته على جوهر كاذب! أيّ محور من هذه المحاور لا يصبح قضية كبرى في الشعر إلا عبر صيرورته تجربةً داخلية خاصة. ومن هذا نملك أن نفهم لمَ يكون الشاعر الحقيقي ذا جاذبية فائقة للقارئ. لأنه ببساطة يعرض له أسرار هويّة جديدة، تجربة داخلية فريدة الخصوصية. ولك أن تفهم، أيضاً، أن نزار قباني، شأن أدونيس، شاعر كبير بذات المعيار الشعري السائد. وأنا لست ضده، ولكني معترض على سيادته، (أو سيادة الغرض). لأن طبيعة "الغرض" في شعر نزار جعل الشعر مصدر تسلية، ومتعة، لا مصدر وعي وكشف. قصائده زخرف دمشقي آسر. مرآة لحظور المرأة نفسياً، واجتماعياً. وبفعل الجاني الكاذب في "الغرض"، سرعان ما سهّل على نزار، حين استنفد قصيدة المرأة والحب، أن ينتقل الى حقل الاحتجاج السياسي، وأقنع نفسه بأنه تحول "من شاعر الحب والحنين، الى شاعر يكتب بالسكين"!. في حين أن الأمر لم يكن جدياً معه في الحالين: لا الحنين، ولا الكتابة بالسكين، وإنما هي مهارة في الاستعارة، ورشاقة في استخدام الصور. الغرض الشعري العربي ـ وكل دعاوى "الثورة"، و"الحب"، والتمرد"، "والتجاوز"، و"القضية" الحديثة التي تتوالد تحت مظلته ـ تحرم الموهبة الشعرية من غنى التباساتها، وعمق توزعها، وأتون مصطرعها الداخلي. إن عبارة "المرأة الملهمة الأولى، وربما الوحيدة لنزار"، عبارة نقدية عربية خالية من المعنى، لأنها خالية من المصداقية، شأن كثير من العبارات النقدية. إنها ببساطة قادرة على تبديل جلدها في عبارة" "فساد النظام العربي الملهم الأول، وربما الوحيد لنزار"، لأن نزار صرف النصف الثاني من نشاطه مع شعره الذي يسميه سياسياً. وهنا، هل لك أن تفسر لي ما معنى أن يكون الشعر سياسياً، أو اجتماعياً، دون أن ينضوي في واحدة من تلك "الأغراض"؟ لا تصير "الكتابة عن قضية ما شأناً شعرياً خالصاً" إلا عبر معترك، أو طمأنينة، الموهبة الشعرية الداخلي. وفي "مزهرية الغرض" الخارجي لا تزهر إلا النبتة المصنوعة بمهارة وذكاء.
|
|