سلفاتور كواسيمودو: قصائد مختارة (صدر عن دار المدى، 2001)
مختارات من الكتاب:
المقدمة
كانت المختارات الصغيرة في الانكليزية للشاعر الإيطالي «سالفاتوري كواسيمودو»، والتي وضعها «جاك بيفان» لمسلسل «پنگوين»: «شعراء أورپيون معاصرون»، مفتاحاً للتعرف على هذا الشاعر المقرّب. بعدها أصدر «بيفان» المجموعة الكاملة (لندن- أنفِل- 1983)، فكانت فرصة لصحبة طويلة مع هذا الصوت الاستثنائي الذي لم يُشعرني بما تُفسد الترجمة عادة. فقصائده لا تعتمد لغةً لذاتها، ولا تقنية لذاتها، ولا صورة اعتباطية لذاتها. بل هي تهدف إلى المأزق الإنساني، تتأمله وسط زحمة من علامات الاستفهام. وهذا الهدف يخترق، بفعل نبله، كل حواجز الترجمة فيصل روحاً بروح. إن غرائبية «كواسيمودو» غنائية. وكنت ألتزم بنصيحة «جاك بيفان» في أن أقرأ قصائد هذا الشاعر مستسلماً «لها وفقَ أهوائها هي. فهي قصائد عميقة ولكن دون ذكاء، ماهرة ولكن دون حيلةٍ أو مكرٍ. وهي بالرغم من أنها تصدر عن خبرة شخصية عالية النبرة إلا أنها تحقق المعاني الأوسع». والتزام نصيحة كهذه دربة في القراءة الشعرية ثمينة. وكنت أشعر أن غرائبية الشاعر الغنائية تحولت إلى صلب الانكليزية. على أني كنت أعرف أن هناك بعداً موسيقياً لهذه الغنائية لا بدّ أن يُفقد في الترجمة، خاصة وأن «كواسيمودو» يتميز عن شعراء جيله بهذه «الموسيقى الحسية»،، التي لا يرى لها الناقد «لويس روسي» شبيهاً في الشعر الإيطالي الحديث، «ولكي تقع على شبيه لغناها اللحني عليك أن ترجع القهقرى إلى شاعر كـ «تاسو». وهذا التمثل والاستيعاب للموروث يشكل أحد العناصر المتينة في شاعرية «كواسيمودو». عبر هذا الاستسلام لأهواء القصيدة كنتُ أجدني ميالاً، بين حين وآخر، إلى أن أترجم هذه القصيدة أو تلك إلى العربية، وعلى الهامش الفارغ بجوار القصيدة مباشرة. أضعها بذات طواعية القراءة، وكأني أريد بذلك أن أقرب «كواسيمودو»، عبر العربية، إلى النفس. ولم يكن لي هدف أبعد من ذلك. وكلما أعود إلى قراءاته أخلف بضعة هوامش جديدة، حتى تجمعت لدي من «كواسيمودو» نصوص نثرية كثيرة، تحاول أن تكشف عن ظلال الشعر الذي كانته، يوم كانت إيطالية اللغة. هذه القصائد لم تترجم شعراً، إذن، بل نثراً، شأن الكثير مما يترجم إلى العربية من شعر، دون الإشارة إلى طبيعة الترجمة. وهي ظاهرة لم يلتفت إلى مقدار خطورتها أحد. فقد شكلت مع الأيام إحدى مصادر الالتباس، الذي يتورط فيه الشعر العربي، في الظن بأن الشعر العربي، والعالمي، الحديث يكتب دون إيقاع وقاعدة وزنية. حتى أصبحت قاعدة ترجمة الشعر شعراً استثناءً. وأصبح هذا الاستثناء مثار استنكار وسخرية.
2
المصادر التي تتحدث عن «كواسيمودو» تكاد تكون نادرة في الانكليزية، وهو أمر مثير للدهشة. فباستثناء المقدمة التي وضعها مترجم قصائده «جاك بيفان»، ومقالة نشرها «لويس روسي» في مجلة «شيكاغو ريفيو»، لا تكاد تقع على شيء ذي قيمة نقدية تتجاوز التعريفات المألوفة في كتب تاريخ الأدب. وكأن «كواسيمودو» لم يكن الشاعر الكبير الذي حصل، عن جدارة، على جائزة نوبل ذات يوم. ولكن هذه الظاهرة، التي تثير الدهشة تكشف عن شيء من الحيف طال هذا الشاعر المعتزل. وهذا الحيف ذو طابع وطني حقق له امتداداً عالمياً. وتكفي، لكي نتعرف على ذلك، هذه الإشارة التي جاءت في كلمة «أنا ماريا أنجيوليتي» صديقة الشاعر الشابة للسنوات الثمان الأخيرة من حياته، والتي كتبتها حول مناسبة الاحتفال الذي عقد في حزيران عام 1967، في جامعة أكسفورد لتقديم شهادة فخرية للشاعر:«في حزيران 1967، في السنة التي سبقت سنة وفاته، كان كواسيمودو يتمتع بفرصة أخرى للسعادة بعد نوبل. جاءته مرة ثانية من بلد غير بلده يمنحه فيها تقديراً فخرياً واحتراماً لقيمته، من قبل رجال لم يختلفوا فيما بينهم خلافاً ضيق الأفق، ولم يكونوا مدفوعين بمحسوبية أو تحزب. رجال ارتضوا القرار العالمي بسلام مع الطبيعة والعلم والله. إن وطنه إيطاليا حتى سنة وفاته، وحتى في مناسبة وفاته ذاتها لم يُره إلا مشاعر العداء والحسد والحقد». وكان «كواسيمودو» لا يخفي، هو الآخر، خاصة في السنوات التسع التي تلت جائزة نوبل إلى سنة موته عام 1968، شكواه من إهمال مواطنيه ومن العزلة. ولكن ما أليق هذا الحصار وهذه العزلة بصوت «كواسيمودو» الشعري، الذي عانق محاور: الموت، الصمت والعزلة في أكثر ما كتب. وما أعمق حميمية هذه العزلة مع دم مخيلته وذاكرته! ولد «سالفاتوري كواسيمودو» Salvatore Quasimodo في جزيرة «سيسلي» عام 1901. في السابعة من العمر عاش تجربة هزة أرضية قاسية فامتلأت مخيلة طفولته بصور الموت والخراب، صور لصوص يلقى القبض عليهم ويعدمون رمياً بالرصاص وسط الظلام. وفي مرحلة دراسته كعامل ميكانيك في «باليرمو»، أرض الفوسفور ومناجم الملح، أرض الفلاحات بالثياب السوداء، أرض المياه ومخلفات الإغريق، أرض الأساطير، ولد تيار تلك المحاور الشعرية التي أشرت إليها: محاور الموت والصمت والعزلة. حتى لقد اتسعت المعالجة المباشرة إلى 84 قصيدة من تعداد قصائده الغنائية التي تبلغ 173، وبالإمكان إضافة موضوعات أخرى إلى تلك المحاور مثل الإحساس بالحرمان والمنفى، نتيجة تمزق الشاعر وانبتار جذوره عن تلك «الأرض التي لا تقارن»،أرض سيسلي في الجنوب. اقتلاع الجذور هذا هو الذي دفع أحد النقاد إلى إنكار صحة انتساب «كواسيمودو» إلى المدرسة الشعرية «الهرمسية» Hermeticism، لأن أحزان «كواسيمودو» إنما تتجه إلى أرض الوطن البعيدة، سيسلي. إن الحنين والإحساس بالأسف ذو طبيعة إيطالية وسيسلية أكثر فردية من أن يكونا جزءاً من مشاعر الوجودية الأوروبية. فموسيقى اللغة الإيطالية تستعاد في قصائده. قيمها الصوتية وتعبيريتها تتعارض مع الجوهر المكثف المستعمل في لغة مجايليه الشهيرين «أونگاريتي» و«مونتالي». فإذا كان هذان الشاعران يتطلعان إلى ماوراء حدود إيطاليا من أجل التعبير عن قيم جيلهما المتمثلة شعرياً فيما هو غير زمني وعالمي، فإن رؤيا «كواسيمودو» أضيق حدوداً، لأنها تستدير إلى تمثل دروس الماضي، ولكن بصورة أكثر محلية من وطنية، وأكثر وطنية من فردية. الفارق بين «كواسيمودو» ومجايليه الشهيرين «أونگاريتي» و«مونتالي»، كما يرى الناقد، هو الفارق بين «كواسيمودو» و«المدرسة الشعرية الهرمسية». لأن الشاعرين أهم أعلامها في الشعر الإيطالي. ولكن هذا الرأي يبدو شذوذاً عن القاعدة النقدية العامة التي ترى في «كواسيمودو» ثالث الأثافي التي تستقيم عليها المدرسة الهرمسية.قبل أن أواصل الحديث عن الشاعر لا بد من تعريف سريع لمدرسته الشعرية هذه.
3
«الهرمسية» تيار فلسفي ديني علمي ينسب إلى هرمس المثلث بالحكمة أو النبي إدريس كما جاء في المؤلفات العربية. ولقد أطلق اليونان اسمه على «تحوت» أو «طوط» المصري، مخترع الكتابة، وبالتالي جميع الفنون والعلوم التي تعتمد على الكتابة وتمارس في المعابد كالسحر والطب والتنجيم والعرافة. ثم ارتقى «طوط» درجة في سلم الألوهية، بحسب الأساطير المصرية، فنسب إليه خلق العالم بقوة تأثير صوته، قوة الكلمة. وتقول الأساطير المصرية إن صوته يتكثف بنفسه فيصير مادة، ومن هنا كانت قوته كامنة في صوته. أما في الميثولوجيا اليونانية فلقد حظي هرمس بمكانة مرموقة إذ كان ابناً لكبير الآلهة «زيوس» وقد نسبوا إليه، أيضاً، اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والحساب. الفن الذي يعتمد على الكتابة ويُمارس كضرب من السحر والعرافة يفترض غموضاً واتصالاً ماورائياً. يفترض إلهاماً، ومقاصد عصية على المدركات العامة ولذلك تُتوسل الرموز والمجازات. ومن هنا يأخذ هذا المفهوم، من الناحية الشعرية، بعداً تاريخياً يعود في تدرجه إلى أفلاطون وموقفه الشهير من الشعر. إحدى المفاهيم الأربعة التي تستخلص من موقف أفلاطون تتعين في «الشعر كرمزية هرمسية»، بالإضافة إلى المفاهيم الثلاثة الأخرى: «الشعر كتربية» و«الشعر كمحاكاة» و«الشعر كإلهام». لأن أفلاطون، الذي حارب الشعر كفيلسوف، كان شاعراً من طراز فريد. فلقد استخدم عبر حواراته الأساطير والمجازات والرموز وسائل للتعبير عن أفكاره. وهذه الوسائل الشعرية لها جذور في الشعر اليوناني الأسبق، «الأورفي» و«الهرمسي»، ولها امتدادات في الشعر الأوروبي تصل إلى «بليك» و«ييتس» ومن يليهما. خاصة وأن مفاهيم «الشعر كمحاكاة» و«الشعر كإلهام» عززت العناصر السحرية والغموض في الشعر، وكأن الشاعر يحاول إيصال رؤيا أعمق من رؤيا الإنسان فيه. إن «الهرمسية الشعرية»، إذن، تصلح على كل شعر يستخدم الأساليب الرمزية الغامضة التي تشير إلى ما هو غائم وخفي وسحري. هذه إشارة عامة. أما كمدرسة فتشير إلى تيار شعري نشط في منتصف القرن العشرين منتفعاً من جذور تعود إلى «نوفاليس» و«پو»، ثم ترقى إلى الرمزيين الفرنسيين مثل «بودلير» و«مالارميه» و«رامبو»، و«فاليري»، وتتحدد تماماً على يد حفنة من الشعراء الإيطاليين يقف «أونگاريتي» على رأسهم. هذا التيار له ريادة عند الشاعر الإيطالي ارتور اونوفري (1885-1928) ذي النزعة الشعرية الخالصة (الشعر الخالص أو الصافي لدى الفرنسيين). وعند العقد الثاني من القرن العشرين تعززت هذه النزعة في التعرية الكاملة للغة الشعرية من أي زخرف وهواجس بيانية، وفي تكثيف الإمكانات الغنائية في الكلمة المفردة المجردة من كل ديكور، ومن كل العناصر المنطقية. وجد الشاعر بديلاً عن هذا في الإمكانات الموسيقية للكلمات، في ذلك التداخل الفاعل والسحري بين صوت الكلمة وبين الصمت، بين لحظات الإشراق وبين لحظات الفراغ الأبيض، غافلاً عن بنية النص وشكله. إن هذه المحاولة لتصيير العوالم المافوق حسية إلى حسية قادت بالضرورة إلى لغة شعرية عالية الذاتية والشخصية، وبسبب هذا العامل ارتبطت صفة الغموض بهذا التيار. على ضوء هذه الخصائص هل ينتمي «كواسيمودو» حقاً إلى هذا التيار؟ عدد من قصائده يشي بذلك. ولكن مجمل نتاجه، مقارنة بنتاج «أونگاريتي» و«مونتالي»، يكشف عن إضاءات أخرى، يبدو عنصر الأسى والحنين ومشاعر الأسف لفقدان أرض الجذور أرجح كفة من خصائص «الهرمسية».
4
عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد أكمل «كواسيمودو» دراسته المتوسطة، غادر أرض «سيسلي» إلى «روما» ليدرس الهندسة الميكانيكية في «الپوليتكنك». إلا أن الظروف دفعته إلى هجران الدراسة واتخاذ وظائف عدة. فقد عمل مصمماً تقنياً، ومساعداً في مخزن تجاري. وعبر هذا الزمن المعيشي المضطرب، 1921، كان «كواسيمودو» ينهل من المعارف ما استطاع. فتعلم اللغة اليونانية وقرأ «أفلاطون» و«القديس أوغسطين» و«اسبينوزا»، كما قرأ «دانتي» و«بيترارك» و«تاسو». في عام 1926 عاد إلى الجنوب ثانية كموظف في وزارة الأشغال في «ريجيو كالابريا». وهناك وبصحبة أصدقاء قدامى من «ميسينيا» واصل ولسنوات ثلاث قراءة وكتابة وإنشاد الشعر في اجتماعات أيام الآحاد المتواصلة. كانت تلك سنوات دربة مهمة. ولقد ضمت تلك الصحبة الأدبية: «بوغلياتي»، «ناتولي»، «آنتو»، «ساجيو»... وكانت أمسيات الآحاد تتضمن نزهات إلى «تنداري». وقصيدة «رياح عند تنداري» في هذه المختارات واحدة من نتاج هذه النزهات. في هذه المرحلة تعرف على جماعة «سولارا» وهم عصبة ثقافية تضم أشخاصاً مثل «مونتالي» و«بونزانتي». ولقد نشر هذا الأخير ثلاث قصائد له في مجلته الفصلية، كما ساعده على نشر مجموعته الأولى «مياه ويابسة» عام 1930. في السنوات القليلة التالية عاش في «ايمبيرا»، بالقرب من «سان ريمو»، حيث شارك في بناء طريق عسكري مع 1500 عامل. ومن ثم في «سردينيا». ثم انتقل إلى ميلان عام 1938. بعد سنوات من متاعب العمل قرر «كواسيمودو» أن يتخلى عن كل عمل يخص مهنته التي درس من أجلها، وأن ينصرف تماماً للنشاط الأدبي، بحيث أصدر مجموعته الثانية على الفور، وعمل محرراً في مجلة «Tempo». بعدها عرضت عليه وظيفة أستاذ للأدب الإيطالي في المعهد الموسيقي في ميلان عام 1940. وفي هذا العام نشرت له «قصائد غنائية من اليونان»، وهي نصوص مترجمة منحته سمعة واسعة في عالم الأدب الإيطالي. حصل «كواسيمودو» على جائزة «سان بابليا» عام 1950، وفي عام 1955 تناصف جائزة «ايتناورمينا» مع الشاعر الويلزي «ديلان توماس». وفي عام 1958 حصل على جائزة «مايريجيو». ثم توجت نوبل مسيرته حيث منحت له في السنة التالية عام 1959، «لأن شعره يعبر بناره الكلاسيكية عن الخبرة التراجيدية لحياتنا المعاصرة». وكان منح الجائزة تأكيداً على أن الجمهور العالمي قد أصبح جاهزاً، أخيراً، للاعتراف بالإنجاز الشعري الإيطالي. إن منح جائزة نوبل قوبلت بمشاعر متعارضة في إيطاليا. فمن جهة هناك ارتياح بالتأكيد لمنح الجائزة لشاعر إيطالي، ولكن هذا الارتياح مشوب بمشاعر أسف لأنها لم تمنح لواحد من الشاعرين الأكبر سناً: «أونگاريتي» و«مونتالي». الجائزة ركزت، بشكل واضح، على شعر «كواسيمودو» الذي كتبه بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب مسحة الالتزام الإنساني الذي فيه. ولكن أكثر النقاد الذين ميزوا تغير الصوت الشعري، خاصة بعد مجموعته «وفجأة يحل المساء» 1942، كانوا أميل إلى شعره ذي الصبغة الهرمسية لما قبل الحرب. ومنذ وفاته عام 1968 يبدو الفاصل بين شعره لما قبل وما بعد الحرب فاصلاً إيهامياً (جاك بيفان). إن خبرة الحرب في إيطاليا لا شك ولدت ضرورات جديدة، وضغوطات لا يمكن إنكارها. خاصة وإن بعض تلك القصائد «الملتزمة» تنطوي على حدة خطابية وانفعالية، التي ينطوي عليها الشعر الجماهيري عادة. ولكن تأمل نتاج الشاعر، لما بعد الحرب، عن قرب، يؤكد تشرب تلك الخبرة المثيرة بموضوعات وأشكال ميزت الشاعر في أحسن مستوياته. إن التميز بني مناخ شعره المبكر والمتأخر لم يكن حاداً. إلا أن مواقف الشاعر النقدية قد تكون ذات تأثير على وجهات النظر التي قُرئ فيها شعره. إنه تحدث عن نمو «الشعر الاجتماعي» الذي يطمح إلى «الحوار» بدل «الحوار الداخلي»، وإلى الأسلوب الملحمي والدرامي بدل أسلوب القول المأثور والمثل السائر، «اليوم، وبعد حربين عالميتين... على الشاعر أن يعيد صنع الإنسان». إن عبارة الشاعر نفسه تفترض أن ينزع إلى الانتقال من موقع المنسحب إلى موقع المشارك، إلى هدف موجه سياسياً واجتماعياً. بين 1930 و1938 كان «كواسيمودو» أحد الشعراء الذين يوصف شعرهم بأنه «هرمسي» Hermetic. ومع الحرب أصبح شعره هادفاً باتجاه الخبرة الأخلاقية. وبعض القصائد كشفت عن تغير في النسيج والنبرة. إلا أن موضوعته الشعرية، التي بقيت في الجوهر واحدة، هي مأزق الإنسان، تاريخه ومصيره في هذا الكون الممزق. الشاعر يقيس حاضره بماضيه، ويسبر أغوار وعيه. قصائده تزدحم بعلامات الاستفهام، تتحدث عن البراءة وفقدانها، عن الحيوانات والزروع، وعن الكون. إنها تعبر عن حاسة من ينتمي لعوالم ضائعة، مدحورة، منفية وقمعية. قصائده تمثل بحثاً عن معنى في زمن تلاشت فيه المعاني. وبالرغم من مباشرتها تبدو هذه القصائد غامضة، ملغزة. إن ثمة قوة تتخفى وراءها، تبدد تعارضاتها الظاهرة على السطح لتكشف عن كون لم يقتحم بعد. على قارئ هذه القصائد أن يستسلم لها وفق أهوائها هي. وهي بالرغم من أنها تصدر عن خبرة شخصية عالية إلا أنها تحقق معاني أوسع. إن «كواسيمودو» ليس نتاج حركة شعرية واحدة، بل هو امتص تأثيراتها وبقي دونها متماسكاً، ثابتاً في دائرة طبيعته هو. إن التغيرات في شعره، بدءاً من مجموعته الأولى، كانت انعكاسات حقيقية لتغيراته هو كشاعر. في حين كان مسار الشعر الإيطالي، الذي يمتد منذ القرن التاسع عشر، كمن يتطلع لشعراء يستطيعون أن ينجزوا الموروث البلاغي ويوصلوه إلى مرحلة نضجه. ولكن «كواسيمودو» كان متحفظاً. ولقد امتص، شأن «أونگاريتي» و«مونتالي»، التأثيرات الفرنسية وطور فيها لغة ملائمة لأهدافه، ومتناغمة مع الرغبة بارتياد الأبعاد الداخلية لتجربته.
فوزي كريم
مادة هذه المقدمة مأخوذة ومنتفعة من المصادر التالية: * Salvatore Quasimodo - Complete Poems- introduced and translated by Jack Bevan. Anvil press. London, 1983. * الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني، مادة «الهرمسية»، معهد الإنماء العربي 1988. * Princeton Encyclopedia of Poetry and Poetics- 1974. * Louis Rossi: زS.Quasimodo: A Presentation, Chicago Review Vol. 14, No, 1,1960.
المختار من قصائده
ريحٌ في تنداري أعرفكِ وديعةً يا تنداري معلّقةً، في التلالِ الممتدة، على مياهِ جزرِ الله الحلوة. تغيرين عليَّ اليومَ وإلى قلبي تنحدرين.
أتسلّقُ القممَ والمنحدراتِ الشاهقة وبين رياحِ الصنوبر أشقّ طريقاً. والحشدُ السعيد الذي صحبني يتلاشى في الهواء، موجةَ أصواتٍ وحب: فلتأخذني أنت، يا من تعلمتُ منه الشرَّ، والخوفَ من الظلالِ والصمت، وقد كانت يوماً ملاذاً أكيداً للحلاوة، وموتَ الروح.
الأرضُ مجهولةٌ لديك حيثُ أذهبُ عميقاً كلَّ يوم وأغذّي أبجديةً سرّية. ضوءٌ آخر يعرّيك وأنت بملابسك الليلية، ومباهج لا تنتسبُ إليَّ تستريح بين جوانحك.
قاس هو المنفى وبحثي عن السلام الذي انتهى بي إليك تحوّلَ اليومَ إلى رغبةٍ في الموتِ مبكرة. كلُّ حبّ وقاءٌ من الحزن. خطوةٌ خرساء في الظلام حيث الخبزة المرّة التي تركت من أجلي.
فلتعودي رائعةً يا تنداري. أيقظيني أيتها الصديقةُ الوديعة علني أرتقي إلى السماء من وهدةِ الحجارة، متظاهراً بالخوف من أجل أولئك الذين لا يعرفون أية ريح عميقة تلاحقني.
ملائكة
كلُّ حلاوةٍ في الحياة تفتقدكِ أيتها الأحلامُ العزيزة. دعي الشاطئ المجهول يُقبلُ قبلَ موعده للقائك حيثُ يتداعى الماء هادئاً مثقلاً بملائكةٍ من أشجار خضر.
دعيها غيرَ محدودةٍ، توّجي كلَّ ساعةٍ من ساعاتك بالزمن الذي يلوح خالداً، بابتسامةِ الشبابِ، بالألمِ، حيثُ بحثتِ سرّاً عن ميلادِ النهارِ والليل.
وملابسُك بيض
وأنت تنظرين إليّ، أحنيتِ رأسَكِ مَلابسُك بيض وثدياك يفلتان من الأزرار الفالتة عن كتفك الأيسر.
يتجاوزُني الضوء وعلى زنديك العاريين يتهاوى مضطرباً
ثانيةً أراك. كلماتكِ كانت متسارعةً، ملمومةً. منحتني قلباً بثقَلِ حياة أعرفها، كحياةِ سيرك. الدرب عميقاً كان حتى أن الريحَ انحدرت في ليالٍ بعينها من آذار، وأيقظتنا مجهولين في زمن يشبه الزمنَ الأولَ البكر.
شجرة
ظلٌّ يرقُّ من ظلالك جاعلاً ظلي يبدو ظلاً ميتاً، وكأنَّ مع حركتهِ ارتجف أو تفجَّرَ ماءٌ بزرقةِ السماء من ضفافِ «أنابو»، من حيث رجعتُ هذا المساء مدفوعاً بسحر آذار المقمر، آذار الغني بالعشبِ والأجنحة.
إنني لم أعشْ في الظلّ وحده فالأرضُ والشمسُ، وهِبةُ الماء العذب جددت كلَّ غصنٍ فيك، بينما مضيت، كسيراً وجافاً، أتحسسُ لحاءك بوجهي.
برج الحمل
في الاندفاعةِ الكسولةِ للسماوات يعلنُ الموسمُ عن نفسه: شارة للريح، لشجرة اللوز، لسهول الفيء العارية، لسحبِ الظلالِ والحنطة المتسارعةِ: وحدوا شملَ الأصواتِ الدفينةِ من جديد أصواتِ الأنهار والقنوات والأيام الخرافية للمجد.
كل خُضرةٍ تَتفتّح. واستكانةُ أكاليلِ الثلج آلهةٌ وثنيةٌ عاريةٌ تغطي المياه المعزولة. أنظر، إنهم يطلعون من حصى الأعماق، رأساً على عقبٍ غارقينَ في نوم سماوي.
أرض
يا ليلُ، يا ظلالاً رائقةً، يا مهدَ الأثير، إذا أنا شتّتُ نفسي فيك تأتي الريح بنكهةِ الأرضِ البحرية حيث يُنشدُ ملاحونا على الشاطئ للشباكِ والأشرعةِ، والأطفالِ يقظين قبل الفجر.
يا تلالاً، يا سهولَ العشبِ الغضّ في انتظار الرعاةِ والفيضان، إن وباءك في داخلي، يُفرغني.
يوم يطأطئ رأسه
في يومك تجدني مهجوراً، أيها الرب، محروماً من كلِّ ضوء.
دونك يتملّكُني الفزَعُ، والدربُ الضالُ للحب، ولا مجدَ لي. ولا جرأة حتى على الاعتراف، ورغائبي، لذا، يباب.
أحببتُك، حاربتُك. يومٌ يطأطئ رأسَه، وأنا ألملمُ ظلالاً من الأعالي. كم هو حزينٌ قلبي الذي من لحمٍ ودم.
شتاءٌ قديم
رغبةُ يديك السمحتين في اللهبِ نصفِ المضاء. نكهةُ السنديان، نكهةُ الورد والموت
أيها الشتاء القديم.
الطيورُ تبحثُ عن قوتها فإذا القوتُ فجأةً ثلجٌ.
وكذا الكلمات: شمسٌ صغيرة، مجدٌ مكلّلٌ بالقداسةِ، ثمةَ ضبابٌ. والأشجار، ونحن إذ نستحيلُ هواءً في الصباح.
حزنُ أشياء لا أعرفها
كتلةُ جذور بيضاء وسوداء معبأةٌ برائحةِ خميرةٍ وديدان، بُترت بفعل المياه - الأرض. حزنُ أشياءٍ لا أعرفُها مزروعٌ في داخلي: موتٌ آخر أبداً أحسُّه يُثقلُ قلبي بالعشبِ، والمَرْج.
|
|