اللحظة الأبدية (كتاب قيد التأليف، من شعر ميووش وزاگايڤسكي: دراسة ومختارات)
اللحظة الأبدية تشيسلاف ميووش قصائد مختارة
الصانع البارع
مشتعلا ، يمشي في تيار حروف تخفق ومزامير ، وآلات تنبض أسرع من نبض القلب ، رؤوس وثابة ، وقماشات حرير ، وتحت السماء يقف
يرفع تجاهها قبضتين متماسكتين . مؤمنون ينطرحون على بطونهم ، يحسبونها القربان المشع وما هي إلا أصابع ، براجم تشع هكذا يا أصدقائي .
يقطع إلى نصفين المباني الصفراءَ المتوهجة يكسر الجدرانَ إلى نصفين متنافرين ، باستغراق ينظر إلى العسل يسرُبُ من أقراصه الهائلة نبضات البيانو ، صرخات الأطفال ، الأصوات المكتوبة لارتطام الرؤوس بالأرض . هو المشهد الوحيد الذي يمكنه من الشعور .
يعجب من جمجمة أخيه وقد شُكلت كبيضة ، عن جبينه ينفض شعره الفاحم كل يوم وذات يوم يثـبّـت حزمة كبيرة من الديناميت ويدهش إذ تبدد بالانفجار ، كل شيء فاغر الفم ، يرقب السحب وما يعلق بها : من ذكرياتٍ ، دساتير جزاءٍ ، قطط ميتةٍ تطوّفُ على ظهورها ، وقاطراتٍ يستحلن خصلات من غيوم بيضاء ، تشبه نفاية في بركة موحلة بينا تخفقُ على الأرض رايةٌ ، لونُ زهرة رومانتيكية وصُفّـةٌ طويلة من مواكب عسكرية تزحف فوق الطرق الشائكة 1931
عشية عيد القديسين
في الصمت العظيم لشهري المحبب أكتوبر (حمرة شجرة القبقب ، ونحاس البلوط أوراق البتولا خالصة الصفرة هنا وهناك) ، احتفيتُ بالتوقف التام للزمن .
البلد الواسع للموتى يبدأ في كل مكان : في منعطف الممشى الشجري ، وعبر المروج ، ولأني لم أُدعَ بعد ، لم يتوجب علي الدخول .
الزوارق البخارية أُرسيت على ضفة النهر ، وحلت الظلمة بصورة مبكرة ، وما من أضواء على الضفة الأخرى .
كنت ذاهبا إلى الحفلة التنكرية للأشباح والساحرات ، حيث سيبدو المفوضون بالأقنعة والشعور المستعارة مجهولين ، سيرقصون ، داخل كورس الأحياء . 1985
إهداء
فلتصغِ لي ، أنت يا من فشلتُ في إنقاذك . وتفهم بساطة حديثي ، وكم أحرجني حديث سواه . ما من غرابة سحر في كلماتي . وعلى هذا أقسم وبالصمت الذي يشبه سحابة أو شجرة أتحدث إليك .
ما كان علة قوتي ، كان علة موتك . أنت خلطت وداع عهد بتباشير آخر جديد ، وحي كراهية بجمال غنائي قوة عمياء بالهيئة المنجزة .
ها هنا وادي الأنهار البولندية الضحلة ، والجسر الهائل مخترقا الضباب الأبيض . ها هنا المدينة المحطومة والريح تقذف بصرخات النوارس داخل قبرك . لحظة حديثي إليك .
ما الشعر ، الذي لا ينقذ الأوطان والناس ؟ تستر على الأكاذيب الرسمية ، أغنية سكيرين ينتظرون استئصال حناجرهم، أو قراءة للطالبات الجامعيات .
لذا أردت شعرا جيدا دون أن أعرف ، لذا اكتشفت ، متأخرا ، هدفه النافع ، في هذا وحده وجدتُ خلاصي .
هم اعتادوا نثر الدُخن على القبور وبذور الخشخاش غذاء للموتى الذين سيأتون على هيئة الطير . هنا أضع هذا الكتاب من أجلك ، يا من عشت مرة كي لا تطمعْ بزيارتنا ثانية .
بورتريت إغريقي
لحيتي كثة ، وجفناي نصف مطبقين وكأنني مع أولئك الذين يعرفون قيمة الأشياء المرئية . احتفظ بصمتي إذ من المناسب للمرء أن يعرف بأن قلب الإنسان يحفظ ما لا يحفظه الكلام . تركت ورائي وطني ، أهلي ووظيفتي لا بالربح طمعا أو بالمغامرة لست غريبا جواب بحار وجهي البسيط ، وجه جامع الضرائب ، أو التاجر ، أو الجندي ، جعلني واحدا من هذه الجموع ولست منكرا ولائي للآلهة المحلية آكل ما يأكل الآخرون . وفي هذا القدر كفاية لي. 1948
على الجانب الآخر
"ثمة جحيم يأخذ شكل حطام بيوت ومدن بعد حريق هائل ، حيث تسكن الأرواح الجحيمية وتتخفى . الجحيم الأكثر اعتدالا يأخذ مظهر الأكواخ البسيطة ، وفي حالات تبدو متجاورة على هيئة مدينة وأزقة وشوارع" عمانويل سويدنبيرغ
أمسكت بالستارة كان مخملها آخر عهدي بالأرض وأنا أتهاوى عاويا : آآه! آآه!
وإلى النهاية لم أستطع أن أصدق أنا الآخر ، بأنني يجب أن ... شأن الآخرين
بعدها خطوت على اثر عربة ، في طريق وعر أكواخ خشبية ، بيت في حقل الأشواك الضارة أرض بطاطا مسيجة بالأسلاك الشائكة. كل شيء يبدو شبيها: لعب الورق، رائحة الكرنب، الڤودكا، القذارة والوقت! قلت "انظروا هنا..." ولكنهم هزوا أكتافهم لا مبالاة وغضوا من أبصارهم هذه أرض لا تعرف الدهشة ولا الأزهار ... الجيرانيوم في علب الصفيح، والغبار اللزج قناع الخضار الخادع.
تلك الأروقة
أقطع بمشعل تلك الأروقة مصغيا إلى الماء يقطر على البلاطات المحطمة عميقا داخل الجبل. في المحاريب تماثيل نصفية لأصدقائي، بعيون من الرخام. وحده الضوء والظل يلقي على وجوههم التكشيرة الموجزة البغيضة للحياة. ولذا،بعيدا في المتاهة التي تقود إلى الداخل المعتم، حيث لا أرواح شريرة، بل صدى خطواتي وحدها، بعيدا حتى يُستنفد الضوءُ، وفي الاستدارة المجهولة حيث المحتوم. سأتحول إلى حجارة. ولكن في المدخل المسدود بانهيار الحجارة والمنسي، في غابة التنوب جوار المجرى المنحدر من نهر الجليد. ثمة أنثى أيّل ستضع وليدا وكل مسرة صباح سوف تُكتشف ثانية. مطعمة بمذاق تفاح منتقى من بستان. لذا أستطيع أن أهجر بسلام كل ما أحببت. سوف تحمل الأرض قنوات، قارورات، وثريات من نحاس وفي يوم ما، حين تلاحق كلابٌ دبا مختبئا في صدع وتحل أجيالٌ بعيدة مغالقَ حروفنا الخشنة على الجدران ستدهشهم معرفتنا للكثير من مسراتهم، رغم أن بلاطنا غير المجدي لم يعد يعني إلا القليل. 1964
مع ذلك
ومع ذلك كنا شبيهين وقد توهمنا ذلك التنين الكسول وهو يتمطى في الهواء توهمنا أخوة وأخوات يلعبون سوية في الحديقة المشمسة. وحدنا الذين لمْ نكن نعرف ذلك. منطوين تحت جلودنا، كلاً على حدة لا في الحديقة، على الأرض المرة.
ومع ذلك كنا شبيهين رغم أن لكلّ ورقةِ عشبٍ قدَرُها تماماً مثل عصفور على السطح، ومثل فأرِ الحقل ويتيم قد يُدعى جون أو تيريزا مولود لسعادة طويلة أو خزي وعذاب مرة واحدة ، حتى نهاية العالم.
معنى
حين أموت سأرى بطانة العالم. الجانب الآخر خلف الطير، والجبل ومغيب الشمس. المعنى الحقيقي جاهز للقراءة وما لم يُضف بعدُ سيضاف وما لم يُدرك بعدُ سيدرك
وإذا لم تكن ثمة بطانة للعالم؟ وإذا لم يكن الدج على الغصن علامة بل دجّاً على غصن؟ وإذا لم يكن ثمة معنى لتعاقب النهار والليل؟ وعلى هذه الأرض لا شيء سوى هذه الأرض؟
حتى لو أن الأمر كذلك، سوف تبقى كلمة توقظها الشفاه الفانية، رسول لا يكل، يعدو ويعدو عبر حقول ما بين الكواكب، وعبر المجرات الدوارة. يستنجد ويحتج ويصرخ.
..................... ................. .......................
من قصائد وزاگايڤسكي
عند منتصف الليل
طويلا تحدثنا ليلاً في المطبخ، كان المصباح الزيتي يتوهج بنعومة، والأشياء، نابضة بفعل دعتها، أقبلت من قلب الظلمة لتعرض أسماءها: كرسي، منضدة، إبريق.
أخرج، قلت في منتصف الليل، وفي الظلمة هناك رأينا سماء أوغست تتفجر بالنجوم. قماشة الليل الشاحبة، بلا حدود وأبدية، ترتجف فوقنا.
العالم احترق بصمت، نارٌ بيضاء طوته جميعاً، قرىً، كنائسَ، أكوام قش معطرة بالبرسيم والنعناع. أشجارٌ احترقت، أوراق عشبٍ، ريحٌ، لهبٌ، ماء ونار.
لم الليل صامت الى هذا الحد إذا ما ظلت عيون البراكين راصدة والماضي بقي حاضراً، مهدداً، متخفيا داخل ملاذه كأشجار العرعر أو القمر؟ شفتاك باردتان، والفجر سيكون، أيضاً، قماشة على الجبين المحموم.
تكتب هي في الظلام
تكتب في الظلام يُملي عليها اليأسُ كلماتٍ ثقيلةٍ كمذنّب. في صمت لا تربكه إلا تنهداتِ ساعةِ الحائط.
حتى الأحرف تنمو ناعسة مدلاة الرؤوس على الصفحة.
الظلمة كتبت، وقد اتخذت من هذه المرأة المتوسطة العمر مداداً لها.
حنى عليها الليلُ، وسجنُ الصباحِ الأشيبُ ارتفع فوق المدينة فجراً وردي الأصابع.
وبينما أخذتها الإغفاءةُ استيقظت الشحاريرُ فما من نهاية للأسى وللأغنية.
|
|