الثلاثاء، 20 آذار، 2007
لعله من أكثر الفنانين إثارة في تاريخ الفن. الإيطالي المشاكس كارافاجيو (1571-1601). كان في ذروة شهرته حين ارتكب جريمة قتل لرجل في مبارزة، هرب بعدها من روما ولم يعد إليها. صار جوالا متخفيا لسنوات أربع في كل من مالطا ونابلس وصقلية. في هذه السنوات المتبقية من حياته لم يتوقف عن الرسم، ولكنه فيها أصبح أكثر كثافة في مراقبة الواقع الحي، وانتفاعاً من عنصر الضوء لمزيد من الاحتدام الدرامي. صار مزاج اللوحة أكثر فحصاً للداخل الانساني المرير وأكثر تعاطفا معه. وكان طيلة المرحلة الحرجة يستعين، حتى في رسم أبطاله الدينيين، بشخوص من حياة الشارع، في الحياة العامة، ليضعهم موديلات أمامه لرسم رؤياه الفنية. لم يتورع حتى من اختيار امرأة فقيرة قد تكون من بناة الهوى لتكون نموذجاً للعذراء المقدسة. كان بذلك يسعى لأن يظل لصيق الواقع الانساني، المليء بالحياة والحرارة. والذي لا يخلو من كثير العنف.
في لحظات الرغبة في التأمل الفني أتطلع الى لوحات كارافاجيو. ويحدث الأمر ذاته معي حين أصغي للموسيقي المعاصر والممائل له گشوالدو Gesualdo (1561- 1613). حين لجأ كارافاجيو بعد اقترافه جريمته، الى نابولي، كان أحد أمرائها رجلاً يعيش محنة مشابهة لمحنته، هو مجايله الموسيقي گشوالدو، الذي اقترف هو الآخر جريمة قتل لزوجته وعشيقها في المرحلة ذاتها، حين وقع عليهما في خلوة خيانة. هرب لاجئا لأحد قصوره، وأصابته من مشاعر الخطيئة ما أصاب كارافاجيو. كلا الفنانين اندفعا في نشاط إبداعي في السنوات التالية للجريمة، وكان كل واحد منهما يبحث في الفن عن سبيل خلاص وتطهير، ولذلك تميزت أعمالهما الأخيرة بالعمق والسعي للكشف عن الخبايا الملتبسة للكائن الانساني. الأمير الموسيقي بعد اقتراف جريمته، وبعد كارثة وفاة ولديه، غرق في بحران اسى تحول مع الأيام الى كآبة حادة ورغبة في جلد الذات ( كلف شباناً بجلده يومياً!)، حتى انتهى به الأمر الى الجنون التام. أعماله الموسيقية تلاقي هذه الأيام رواجاً بين دور النشر الموسيقية، لأنها، على ما فيها من أجواء ترتيلية نصف معتمة، طليعية في تعبيرها عن الدراما الداخلية للإنسان، في ذروة صراعه مع نفسه، أو صراع العناصر المتعارضة في داخله. ولا يعدم المستمع تلك التنافرات الصوتية الحادة التي لم تألفها الموسيقى المبكرة، تنافرات تمليها الرغبة في التعبير عن وجود مضطرب، غير سعيد. تنافرات في الهارموني لم تجد مكانها رحباً إلا في أول القرن العشرين، على يد مدرسة فيينا الثانية. ولذلك بدت في مرحلتها المبكرة تلك موسيقى دون مستقبل. آخر الإصدارات CD مزدوج جاء من دار النشر warner، ومن سلسلتها الزهيدة الثمن apex. الأعمال تحت عنوان "استجابات لأسبوع مقدس": مجموعة من تسع "ليليات" تؤدى بأصوات مجموعة مغنين منفردين . اللليليات، شأن كل ليلية، تخرج من قلب الأسرار الى الأفق نصف المضاء. هنا، لا تخرج منسابة بصورة تُطمئن القلب. بل لائبة، ممرورة، محتدمة، كثيفة، ذات رؤية غريبة، متعارضة، مفرطة الحساسية ومعذَّبة، لرجل ملاحقٍ بمشاعر الذنب. ليس من اليسير على الكائن أن ينصرف مع هذه الموسيقى للجمال الخالص، أو الموسيقى الخالصة. هناك كائن إنساني فيها دائم الحضور.
|
|