25/6- 7/7/2007 أجهزة السماع الموسيقية لدي تتوزع بين: جهاز المذياع ، جهاز الهاي فاي، جهاز الكومبيوتر، وجهاز الفيديو. التلفزيون يصلح فقط في مناسبة تقديم برنامج أو عرض موسيقي. وفرة تحيطني إحاطة العائلة الرءوم. المزاج الموسيقي لدي يتوزع بين نظام المتابعة المنهجية، والسماع الاعتباطي، وبين الهوس المحموم. في الفترة الأخيرة استعبدني المزاج الأخير، ومع الأوبرا بالذات. مشكلة الأوبرا، مقارنة بأي عمل آلي، أنها تستغرق وقتاً يتراوح بين الساعة والنصف، حتى الساعات الأربع أو الخمس (الأخيرة تحدث مع أوبرات فاغنر خاصة). ولذا لن يُسمح لهوسي المحموم أن يستغرق ساعات يومي كاملة. أوبرا واحدة لليوم الواحد. خطة تكفي لإطفاء الحمى، وإنجاز مهمة الإصغاء لكل هذه الأعمال الموسيقية الجديدة على مكتبتي الموسيقية. مهمة يسيرة لأنها ممتعة وملهمة في إغناء الوعي الموسيقي، والوعي بكل معانيه. ولكنها قد لا تكون مهمة يسيرة ومشوقة لقارئ هذه المادة. إن لم يكن عاشقاً محموماً للموسيقى. أو تواقاً لأن يكون هذا العاشق المحموم.
هل أبدأ بـ "بابا روسّيني"؟ من الأعمال الصادرة حديثاً (دار النشر (Opera Rara أوبرا بعنوان "سيدة البحيرة" La donna del lago ، عن رواية شعرية للأسكتنلندي الشهير سير ولتر سكوت. مسحة الرواية الشعرية أنعشت المزاج الرومانتيكي في إنكلترا، وفي فرنسا، حين تُرجمت اليها، وفي إيطاليا حين شاعت موسيقى روسيني. كان روسيني حينها في فرنسا، بعد أن غادر بلده إيطاليا عام 1824، وقد اطلع على الترجمة في الفرنسية، واستجاب عن طواعية للمفتتح الذي قدم فيه سكوت بطلته العاشقة "ألينا" ,وهي تغادر مسكنها وتعبر بحيرة كاترينا الهادئة، وعلى فمها أغنية حب لمالكولم: آه كم عجّل بكِ الحب أيتها الإضاءة المبكرة للصباح. آه أيتها الصورة العزيزة للرجل الذي أحب.....
في طرف البحيرة الآخر تلتقي الملك جيمس، المتخفي، بفعل ظروف الحرب عليه، بهوية هوبيرت. تحدثه عن عداوة أبيها للملك، وكيف أنه يطمع بزواجها من رودريغو (عدو الملك) من أجل دعمه. مع أنها تحب آخر. الملك المتخفي يقع في حب ألينا حالاً بفعل وهم أنها تعنيه بالاشارة، على عادة فانتازيات الأوبرا. الملك، بعد أن ينتصر، يكشف لألينا عن هويته فيعفو عن والدها، ويتنازل عن حبه بعد معرفته بصدق محبتها لملكولم. زحمة عواطف حب ومواقف نبل لم يقصر فيها روسيني عن عطايا ألحانه، خاصة في اللحن الأول الذي أشرت إليه، وفي اللحن الثنائي الحزين بين ألينا ومالكولم: وسط هذا المعترك بين الحب والواجب وسط هذا الأذى، ما الذي على ألينا أنْ تفعل؟ واللحن الثالث لمالكولم بعد أن غرق في وهمه بأن قلب ألينا قد حلّ في قبضة عاطفة تجاه رجل آخر: دعنى أتلاشى الآن، فالموتُ أدعى للشفاء من أذى هذه العلل... ولعل لحن الكورس الذي تُختتم به الأوبرا هو الآخر من الدقائق الموسيقية الجذابة.
ألحان روسيني لا تقتصر على الآريات (الأغنيات) المنفردة أو المشتركة، أو على أغنيات الكورس، بل هي تمتد طوال الأوبرا مع الحوار الملحّن Recitative . ولعل روسيني هو أول من تجاوز التقليد الأوبرالي القديم، الذي فرض على الحوار أن يكون مجردا من الموسيقى ومن اللحن. ( سيدة البحيرة، في هذا الإنتاج الجديد، قدمتها الأوركسترا الأسكتلندية، تحت قيادة Maurizio Benine ).
ما إن أنجزت مهمة البحران مع التراجيدية الخفيفة الوقع (كل تراجيديات روسيني خفيفة الوقع، بالمقارنة مع تراجيديات فيردي أو بوتشيني مثلاً) حتى قفزتُ إلى روسينية أخرى تنتظرني من أيام اقتنائها من محل بيع الاسطوانة السوداء المستعملة LP، وهي La Gazza Ladra، أو العقعق السارق. أوبرا ميلودرامية تتوسط بين فن الأوبرا التراجيدي Opera Seria، وفن الأوبرا الكوميدي .Opera Buffa ولعلها أول عمل يدشن به روسيني هذا النمط من التأليف. تتميز بطولها النسبي (أربع اسطوانات سوداء)، وبافتتاحيتها الرائعة (و روسيني سيد الافتتاحيات). وضعها المؤلف عام 1817، في ميلان، عن نص شعري مع زحمة شخوص وكتل كورس. الحكاية، شأن معظم الأوبرات شبه الجدية، تتصل بامرأة تتهم بجريمة وهي بريئة. التهمة تقودها إلى السجن والى الحكم بالموت. ولكن ضرورة النهاية السعيدة تقودها إلى التبرئة. العلاقة المحورية المؤثرة هي بين البطلة "نينيتا" وأبيها المطارد، لا بين البطلة وحبيبها "جيانيتو". محافظ البلدة يطارد نينيتا باسم اتهامها بجريمة اقترفتها، وباسم أبيها المطارد. ولكن سبب المطاردة الحقيقي كامن في رغبته الشهوانية تجاهها (كم يذكر برئيس الشرطة "سكاربيا" الشهير، في أوبرا "توسكا" لبوتشيني!). في الأوبرا موسيقى دائمة، حتى مع الحوار الخالص الكلام. وفي الموسيقى ألحان كثيرة. المؤسف أن نسخة النص الشعري Libretto التي بين يدي بالإيطالية، ولم أستطع إلا متابعة الحدث الخيطي. على أن متعتي لم تنحدر ولو أنملة. حتى وأنا أتابع نص الحوار أو نص الآريا، إنما أتحسس حلاوة الايطالية، وكأن القدر خلقها خصيصاً للصوت الأوبرالي. روسيني خفيف الظل في الفرح والأسى. إيطالي في كل شيء موسيقي. استعدت وأنا أصغي حماسات الفرنسي ستاندال الذي وضع كتاباً شهيراً عن روسيني، وحماسات الإنكليزي دي.أج. لورنس تجاه الأوبرا الإيطالية، وضيقه بفاغنر (عن غير حق!) لحظة المقارنة: "أحب الايطاليين الذين يلاحقون نبض قلوبهم، ولا تعنيني مشاغل فاغنر بالقدر والموت." اليوم التالي لولعي الأوبرالي كان مخصصاً لإصدار جديد عن Naxos، وللإيطالي روسيني أيضاً. لا بأس من كأس نبيذ استعداداً لواحدة من أطرف وأذكى أعماله الكوميدية. وضعها، وهو يقيم وسط بحبوحة الشهرة في باريس، عام 1828. الحكاية غاية في البراعة والاستثارة. شخصية "دون جوانية" تُدعى الكونت أوري Le Comte Ory يستغل بشناعة غياب الرجال في مدينته، في العصر الوسيط المبكر، بسبب حملتهم في الحروب الصليبية لتحرير بيت المقدس من المسلمين (الأوبرا تطلق عليهم لقب "الترك"). يستغلها لغرض المغامرة والمتعة وإرضاء الشهوات. يتنكر أولا بشخصية راهب معتزل من أجل اصطياد الكونتيسة المتوحدة، مع عصابة فتيان تأمل بغنائم مشابهة. ولكنه يفشل ويُفتضح معهم في الفصل الأول من الأوبرا. في الفصل الثاني يحاول حيلة أخرى، إذ يتنكر وإياهم بزي راهبات متبتلات، يلجؤون هرباً من العواصف والأمطار إلى قصر الكونتيسة ثانية. وهناك تستقبلهم بكرم وورع باسم الأحباء الغائبين. وبعد أن يستنفدوا خزين النبيذ في القصر يحاول أوري مجاذبة الكونتيسة العواطف بزي الراهبة، ويُفتضح ثانية. ولا ييأس إلا بعد سماعه أناشيد العائدين من حملة الحرب الصليبية، فيندحر هارباً.
الموسيقى المجردة، والأغنيات المنفردة والثنائية والثلاثية والكورس، ومفاجآت الأحداث، كلها تحتفي بمدى قدرتك على الاستجابة للمتعة الفائقة. ولن تتكتم، حتى في وحدتك، عن طلاقة في الضحك. تنتهي الأوبرا، في فصلين، بعد ساعتين من الزمان، وكأنك قطعت خلوة آسرة مع مسرة مبرأة من صخب التاريخ حولك. أمر ما أحوج أحدنا اليه بين حين وحين. كنت، حين انتهيت، ممتناً من بابا روسيني على موسيقاه، وألحان أغنياته التي لا تُنسى هنا، في هذه الأوبرا التي وضعها في الثلاثينيات من عمر، وهي ذرة نشاطه الابداعي، الذي تقف عنه بعد فترة وجيزة حتى مماته عام 1868. الإصدار الجديد فاعلية من أطراف خليطة: فرقة وكورس تشيكيان. مغنون من بلدان أوربية عدة. قائد الأوركسترا (براد كوهِن) من استراليا.
بين يدي من مشتريات الاسطوانة القديمة السوداء أوبرا لغير روسيني، ولكني اشتريتها تحت تأثير روسيني بالتأكيد، لأن عنوانها لصيق يروسيني وحده هي "حلاق إشبيليه". الأوبرا لمعاصر روسيني الأكبر سناً جيوفاني بايسيللو Paisiello (1740-1816)، الذي حاز شهرة عظيمة في عصره، حتى أن روسيني، حين ساورته الرغبة في تأليف موسيقى لحكاية "حلاق إشبيليه"، اتصل ببايسيللو موضحاً أنه لم يقصد منافسة الموسيقي الكبير، وأن نص الحكاية الشعري الذي يعتمده يختلف في كل شيء عن نص أوبرا بايسيللو. غمر النسيان الجاحد بايسيللو بعد موته، ونُسيت معه أوبراه الفاتنة. واليوم لا نعرف من "حلاق اشبيليه" إلا تلك التي لروسيني. على أن الأمر لا يعني بأن أوبرا روسيني الشهيرة ليست متميزة حقاً، ورفيعة حقاً، وروسينية بامتياز. كمْ اعتدت أيام بغداد، يوم كانت بغداد!، الإصغاء إلى افتتاحيتها الموسيقية المداعبة لكل حاسة، والتي كانت تعزف كمقدمة لبرنامج "الرياضة في أسبوع"!
إصدار قديم على الاسطوانة السوداء أيضاً صدر عن دار فرنسية في عام 1977، لمؤلف موسيقي فرنسي غمره النسيان اليوم هو الآخر، هو هنري رابو rabaud (1873-1949). لقد استوحى حكاية أوبراه "معروف حذّاء القاهرة" من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، التي تُرجمت الى الفرنسية منذ مطلع القرن الثامن عشر، على أن ترجمتها الكاملة لم تتم إلا في يداية القرن العشرين على يد المستشرق Dr. Mardrus (1904). في هذا شيء من دافع اقتنائها. بالرغم من ولعي العام في اقتناء كل أوبرا تقع عليها عيني، دون تمييز. خاصة تلك النادرة، المجهولة منها. الأوبرا بفصول خمسة، وحكايتها تنتسب خالصة للخيال العربي الشرقي. حذّاء فقير عانى من سوء الحظ كثيراً، حتى شاء (عفريتُ) القدر أن يحرره من ذلك ويمنحه فرصة الغنى والزواج من ابنة السلطان. أجمل ما في الأوبرا، إلى جانب حكايتها التي تتدفق كالموسيقى ذاتها، هو هذا الخيط اللحني الخفي المنتفع فيه من الموسيقى الشرقية عامة. إن حكاية القوافل التجارية المحملة بالثروة، والتي كان معروف يدعي ملكيتها وينتظر وصولها داخل مخيلته وحدها، وحكاية وصولها الحقيقي الى العاصمة تحت بصر السلطان المنتظر، هو الآخر، بين مصدق ومكذّب، لتلتحم مع الموسيقى والغناء بصورة أكثر من رائعة. والآن هل أنتقل إلى حفنة من إصدارات جديدة للأوبرا: هاندل، كورنغولد، ألبينيز؟
|
|