في التنقيب عن الكتب عادة ما يستهدف المرء عنواناً في حقل بعينه. في الموسيقى ما من حقل. التنقيب يتم في بستان المفاجآت. كالوميريس Kalomiris (1883 -1962) يوناني وقعت عليه بين إصدارات Naxos الجديدة لهذا الشهر. بدأت مع Symphonic Triptych: Crete في ثلاث حركات. العمل رثائي واضح الملامح، ولكن بطولي أيضاً. في 1943، فترة الاحتلال النازي لليونان وضع كالوميريس هذا العمل على أثر وفاة الرمز اليوناني الوطني Eleftherios Venizelos، ولذا جعل عمله "في ذكرى بطل". ولكن الموسيقي كان كثير التعلق أيضاً بصوت شاعر لا يقل وطنية وتأثيراً هو بالاماس Costis Palamas (1859-1934). ولقد حكم القدر أن يكون رحيل بالاماس في العام ذاته. كالوميريس لم يضع عمله السيمفوني الثالث في استعادة ذكراه إلا بعد أكثر من عشرة سنوات (1955). مع أن رائحة الشاعر الكبير تفشت عميقة في السيمفونيات الأولى والثانية أيضاً. في الثالثة ( واسمها الرسمي "السيمفونية البالامية")، وبعد الضربة الموسيقية المُنبّهة في مفتتح الحركة الأولى (معتدلة بحماس) يطلع علينا صوتٌ منشد عميق الهدوء لمقطع من قصيدة بالاماس:
أبي كان إنساناً زائلاً، وجنيةٌ تلكَ التي أنْجبتني. ...... وها أنا أطوفُ، غريباً في طريقِ المتاهة.
في الحركة الثانية(راقصة وبرائحة فولكلورية) لا يهدأ صوت الشاعر:
حين جاءوا و أبعدوني، حين جاءوا وقالوا لي: "أيها الغجريُّ تنحّ مع خطواتِك"، وحينَ أخذتُ طريقي وحيداً، طريقَ العزلة، كم أحسستُ الحزنَ عميقاً في داخلي، حزنٌ ثقيلٌ وباكٍ....
في الحركةِ الثالثة (بطيئة، رائقة وشجية، تحت عنوان: حب) الصوتُ ذاته:
آهٍ، أيّتها العرافةُ، يا من تُخاطبينَ النجوم في الليلِ، بلغةٍ آمرة،
(..) أتحدّثُ وتُصغين، وباتجاهي استدرتِ، فوا أسفاه، وا أسفاه، كمْ كان خاطفاً عناقُك، بالرغم من قُبلاتِك!
(..) على النهدينِ الرجْراجينِ المُنْتصرين لم أجدْ غيرَ خيانةِ امرأةٍ واستعبادِ جسد!
(..) كمْ أنتِ قريبةٌ وبعيدةٌ في آن، يا منْ رفعتِ صوتَكِ الآمرِ ليلاً، باتجاهِ النجوم، واتجاهِ الطبيعةِ مجتمعةً، وحينَ ضممْتِني في عناقِكِ الحار، أيتها المرأةُ، كمْ كنتِ كالأخريات ماكرةً وذليلة. فمنْ تكونين إذنْ؟
في الحركة الرابعة الأخيرة:
الى جوارِ بوّابةِ رومانوس، ثمّة مَرجٌ ممتدٌّ، يانعاً ومُزهرا. وحولَ كلِّ حدائقِ الربيع ثمّة أكاليل عطرة، وحين تُقاربُ أيامُ الربيع نهايتَها تظلُّ القلاعُ الضخمةُ هناك بأعمدتها الجليّةِ معشبةً، ......... ............... إنهم يقبلون ، الغجر، ...الغجر!
الموسيقي كالوميريس يقبل، ساعةَ الإصغاء، مع الشاعر بالاماس إليَّ، داخل جدران أربع. نتطلع كالمأخوذين الى غبار خيول الغجر وصرخاتهم. ما أوسع أفقُِ الموسيقيّ والشاعر وأضيق حركتِهما؟! كان بالاماس قد وضع أنضج وأشهر قصائده " أغنيات الغجر الإثنتا عشرة"، وهو عند أكثر مراحله تأثيراً في الشعر اليوناني، مرحلة انتصار الموجة المجددة "مدرسة أثينا الجديدة" تحت ريادته، والتي اعتمدت أدباً ولغة محكية، في مواجهة التيار الأدبي اللغوي الكلاسيكي. القصيدة غنائية ولكن مشبعة بالروح الفلسفي. بطلها غجري موسيقي يجسد الحرية والفن معاً. تتوحد فيه عناصر اليوناني الوطني المحلي بالهِلليني العالمي التوجه. تيار بالاماس ومدرسته جاهد في ارتياد قدرات اللغة المحكية على إغناء العبارة والوزن الشعريين، وعلى إضفاء المسحة الرمزية للشعر الحر، الفتي في يونان القرن العشرين. كان الشاعر كاڤافي الاسكندراني بالولادة (1863-1933) مجايلاً لبالاماس، ولكنه في منأى عن تأثيراته وتأثيرات حركة أثينا الجديدة. كان يرصد التراجيديا الإنسانية عبر تجربته الشخصية بالغة الحسية. ولأني أعرف كاڤافي جيداً، وأجهل بالاماس جيداً، صرت أسعى الى التعرف على الأخير تحت رشاد كالوميريس الطيب. هذا الأخير قال في سنواته الأخيرة: "يعود الفضل في جودة وصفاء إنتاجي الموسيقي، إذا ما توفرا، الى الشعر البالامي، والفكرة البالامية. اليوم وفي سنوات انحداري باتجاه الرحلة القصوى، كم أرغب أن أغني ثانية تحت ظل قيثارته السماوية، وأن أقدم سيمفونيتي الثالثة "البالامية" كمذبح كنيسة، ونصب تذكاري لولائي للفن اليوناني الخالد وللشاعر الذي صار له رمزا." هل أملك أن أجاريه؟!
(نشرت في جريدة المدى في 9/6/2007) |
|