من البرج العاجي الاستدارة المذعورة، ولكن للمستقبل! فوزي كـــريم
في ساعة المسرات لك أن تحدق في غدير الكائن الداخلي لتلمح ظلال الأوجاع. هذا كان شأني في منتصف السبعينيات في بغداد. الساعةُ العابرة، داخلَ القراءة، داخلَ الكتابة، داخلَ الصداقة، ساعةُ مسرّةٍ مادامت عابرة. إلا أن حقلَ الساعات والأيام والسنوات هو حقلُ أوجاع ثابت، وكثير التضاريس. حين رجعت من بيروت عام 1972، مع من رجع، آملاً أن سنقطف الثمار المبكرة لما حدث، لم أكن كثير الاطمئنان. صار الكأسُ أكثرَ من سلوان، والصديقُ أكثرَ من عزاء، في وجه التحالف المتفائل بتقارب المُعتقد. في حين أرى السحنات، على العكس، جافلةً، والقلوبَ جافية. كنت أحدق في النجوم، على عادة الشاعر غير الملتزم، وأكتب،
.... ربما يسقطُ نجمٌ آخرٌ، أو تسقطُ الأنجمُ. قدْ يتّخذُ الليلُ رداءً آخراً أكثر عتمة. غير أني، ثابتٌ يا أصدقائي دونكمْ، أبحثُ عن آثار نجمة.
ضربٌ من الإرادة الشعرية التي تمنح الخلاص. ولكن هيهات. صار الكأسُ ممروراً، والكتابُ بئراً مهجورةً، والصديقُ مرآة لمرأى وسواسي. والشوارعُ تتحفز بصورة غير مرئية لأمر ما يدبُّ كعقرب، وببطء (هلّ هو صعود الدكتاتور، نتيجة قدرية لصعود الحزب على سلّم عقيدته؟). تتحفز باسم الوطن، وباسم العقيدة، وباسم الناس، باتجاه الهاوية. دجلةُ لم يعد يعكس إلا التنهدات المكبوتة. وفي ساعة لا دليل إليها. كنت في كل ساعة أعد خطّة للإفلات من وطن لم أعد أنتسبُ إليه. من وطن لم يبتنيه أبي وجدي. بل ابتناه، بل ابتنته العقائد والأفكار ومنشدوها اليقينيون. في كل ساعةٍ كنت أصطنعُ طرقاً سريّةً للهرب. نقطع الشوطَ جميعاً تحت مكبرات الصوت المنشدة، والشمس اللاهبة، واللافتات المنذرة المتوعدة. ووحدي أقطع الشوط أيضاً، إلى مزيد من العزلة الداخلية. العزلة الداخلية، وليدة الهرب، عزلةٌ خانقة. هناك عزلة داخلية وليدة الاختيار الحر، أعرفها وأُتقن حرفتها برشاقة لاعب سرك. ولذا كانت عزلتي خانقة آنذاك. الكأسُ والقراءة والكتابةُ والصديق كانوا تروساً، سرعان ما تفككت عراها وصدئ معدنُها. والمحيط كان مكبراتُ صوت ولافتات. وبحكم الصدفة الخالصة أفلتُّ إلى المنفى. طائرة حلّقت بي وعبرت الحدود وحطّت بي في باريس. كنت متشبثاً بأمل التجاوز. ما من رغبةٍ، أو قدرةٍ، للاستدارة إلى الخلف. الماضي كأسٌ مهشّمٌ، كتابٌ مُحرّمٌ، وصديق ميت أو مشروعٌ لموت مؤجّل. حين استقرّ بي المقام بلندن وجدتني أكثرَ رغبةً، وقدرةً على الاستدارة إلى الخلف. بل وجدت رغبتي في ذلك، وقدرتي على ذلك ملحةً، لا تخلوا من ملامح القدر المكتوب. ثم صار هذا القدرُ المكتوبُ مصدر إلهامي الشعري. أيّ أسى ووطأة؟! كتبت قصيدة "شراع" القصيرة لأعلن فيها أن شراعي هاربٌ "لا باحثاً سدىً عن المعنى"! وكتبتُ قصائد لم تعد تخرج إلا من ينبوع الماضي الآسن. صرتُ أكتب القصائد من هذا الينبوع وحده، حتى جفّ الريق وبُحّ الصوت، وتيبّست عروقُ الرقبة. كانت الاستدارة إلى الخلف مذعورة، ثم جافلة. ثم أمست حانية شفوق. على أني اليوم، وقد قرأت واحدة من قصائدي في تلك المرحلة منشورة في واحدة من المجلات الفنية، أعجبُ وكأن هذه القصيدة لم تُكتب آنذاك من ينبوع الماضي، وليدة استدارة الرغبة المذعورة، بل من ينبوع آخر في المستقبل. هل هذا وليد عنصر النبوءة الشعرية التي يتحدث عنها نقادُ الشعر وقرّاؤه؟ هل القصيدة تحدثت حينذاك عن مستقل الوطن الذي أنتسب إليه. رؤيا أقبلت على قلب وعقل وجسد الشاعر من مرآة للمستقل خفية؟ القصيدة بعنوان "وطن"، كُتبت في لندن عام 1981. تطمع بالعودة، شأن كثير من قصائدي آنذاك، لا على جواد حلم أشهب، بل بحذر المذعور، الجافلِ أو الحاني الشفوق. بالعودة إلى وطن "لم يعد غير أسمال" كما أشرت في قصيدة أخرى من تلك القصائد القديمة. والآن أطمع بمشاركة القارئ في الإطلالة المتأملة على رؤيا شعرية لعودة مذعورة تليق بأيام الرعب هذه، لا بأيام الرعب تلك:
أعودُ لهدأتِهِ أوّلَ الليل، لا أحداً أتعرّفُ، لا سكناً، لا شوارعَ مما ألفتُ مع الليلِ. رائحةُ الثأرِ في كلّ منعطَفٍ، رائحةُ الأسفنيك، وما شئتَ من فتنةِ القول. لا شيء غير المعاطفِ تفلتُ من عتباتِ القبور، (المقاهي، وعتمتُها، وبيوتُ الزنا والخمورْ) كأنكَ تسمعُ في أوّلِ النَزْعِ وحدَكَ موتاً أليفاً، صدى عرباتٍ تعودُ، أناشيدَ لمْ تكتملْ. ثمَّ لا شيء، لا شيء.
(نشرت في جريدة المدى 29/7/2007) |
|