من البرج العاجي أحد المقربين ممن أطمئن للحوار معه قال لي بطريقة بدت لي حاسمة تماماً: لمَ لا نفكر حقاً بدور المثقف في هذا المنحدر العراقي الدامي؟ دعك من أطروحات برامج الثقافة في التلفزيون والصحافة التي تبدو لي جاهزة، رغم التنوع الظاهر في الاجتهادات. ما هو دوره حقاً؟ قلت له بارتباك: ولكن من هو المثقف أولاً؟ عادة ما نعني به مثقف الأدب وحقوله الخيالية. ولكن كثيرا ما نُدرج معه المفكر السياسي، ومفكر العلوم الاجتماعية، التاريخية، النفسية، الفلسفية...الخ. وفي هذا الإدراج سرُّ ارتباك موضوعك جملةً. تحديدُ مفهوم المثقف أمرٌ مستعص، ولكن فرزَ هذه الحقول أمرٌ ممكن. وأحسب أن هذا الفرزَ ييسر مهمةَ تحديد دور كل نوع من هؤلاء المثقفين على حدة. فلم لا نشرع بهذه المهمة في البدء. أنت تعرف أن الشاعرَ مثقفٌ من طراز خاص، بسبب التباسٍ لا حلّ له في معنى فاعليته، قياساً الى الفاعلية الواضحة التي يتمتع بها عالمُ الاجتماع وعالم السياسة. والمعرفةُ بالطبيعة الملتبسة في فاعلية هذا الطراز الخاص تجعلنا نعرف بالتالي حدودَها، وسبلَ الانتفاع منها. إن مطالبةَ مجموعة من الشعراء وعلماء الاجتماع بعملٍ هادفٍ مشتركٍ ستبدو مطالبةً عابثة، لا تطمع بأكثر من مشهد مؤثر لا قيمة فعلية له. دعوة كهذه، ألا تبدو لك ذات جذور ترتبط بفاعلية "المظاهرة الجماهيرية" التي ابتكرتها الأحزابُ السياسية؟ فاعليةٌ تهدف الى إثبات حضور. والى تحجيم هوية الفرد الى مجرد رقم مكرر لا تتحقق قيمتُه إلا تحت اللافتة أو الشعار الذي يمثله؟ المحزنُ أن هذه الصيغةَ في فهم العمل المشترك داخلَ عالمِ الثقافة البالغ الحساسية، هي التي جعلت الشاعر، منذ مراحل شيوع المعنى الشائه لكلمة "المسؤولية"، يتلبسُ دوراً قسريّاً غيرَ دوره، ويعالجُ القسرَ بتعزياتٍ وهميةٍ باسم المُثل. وهي تعزية لا تنتمي لصلبِ مهمته، التي تنتهي بعملية كتابة قصيدة على ورقة. مهمتُه التي تسعى بمشقة بالغة الى هذه النهاية تبدو له محرجة. بل مخزية أحياناً، خاصة إذا ما كان يعيش في مرحلة سيادة "الايديولوجية العربية" التي نعيشها منذ نصف قرن. وستقول: ولكنه، الى جانب قصيدته، بشرٌ يُحسن ما يحسنه عالم الاجتماع في القيام بمهمات مشتركة! سأجيبك بأن الأمر صحيح، إذا ما كنت تسأله الدور الذي عليه كبشر، لا كشاعر. الأمر هنا يختلف تماماً. في حملةِ محو الأمية يظل معلمُ الابتدائية أكثرَ مهارةً من الشاعر وعالمِ الاجتماع في تلقين من لا يقرأ كيف يكتب ويقرأ. في مرحلة حركات الإرهاب والميليشيات المسلحة يتساوى الشاعر والانسان البسيط بردود الأفعال المذعورة، والبحث عن ضمانة وأمان. وكما لا يكفُّ الانسانُ البسيط عن الحياة وراء الجدران، لا يكفّ الشاعرُ عن إملاء قصيدته على ورقة. كتابةُ هذه القصيدة هي أقصى مساعي الشاعر. الا يبدو لك بائساً؟ ولكن هذه هي الحقيقة. اقرأ التاريخ لاستقراء الشواهد: شعراء تحت رعاية بلاط، شعراء بمظاهر بلهاء في خمارات، شعراء في المعتزلات الموحشة باسم التأمل، شعراء داخل اللياقة الاجتماعية، شعراء مسلّون أمام الجمهور الملول، شعراء شعث في مظاهرة سياسية، شعراء في لباس رسمي لائق على مكاتب وظائفهم،... ولكنهم جميعاً، وعلى اختلاف هذه المظاهر، يشتركون في خطيئة واحدة: هي هذه الورقة البائسة في الجيب. وكلُّ مهمة أخرى تُناط بهم، غير مهمة الحياة، ستبدو غير عادلة. نعم، على الشاعر أن يعمل بفاعلية ذراعيهِ أو عقلِه لكسب الرزق. ولكنه لا يملكُ أن يكسِبَ رزقَه بتلك الورقة البائسة. هذه بديهة نعرفها جميعاً. ولكنْ حدث أن اختُطفت هذه البديهةُ وأُخفيت. لأن تلك الورقة يمكن أن يُنتفَعُ منها في سبل غير سبلها، التي تهدف اليها بحكم طبيعتها وغريزتها. تماما كما انتفع الانسانُ، من أجل إرضاء نزعةِ الشرِّ فيه، من قناةِ الزرعِ، في بيت المتنبي الرائع:
كلما أنبتَ الزمانُ قناةً ركّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا
فرُكّبت للقصيدة مهامٌّ دخيلةٌ ليست من مهامها ولا من طبيعتها. أصحاب الغايات النفعية الجديدة غاية في الذكاء والمهارة. انتفعوا من اللغة (الوسيلةُ المشتركةُ بين الشعر وغيرِه من مهمات الكلام) ففصَلوا المضمونَ عن الشكل الذي تَلبّسها. جعلوا للقصيدة، في مشروع الانتفاع، مضموناً يمكن أن ينطوي على رسالة، وشكلاً في اللغة يبدي مهارة الفنان. أوهموا الشاعر بالقيمة المستقلة للشكل ولغتِه، وشغلوه بها. وصاروا مع مراحل التاريخ يعبئون المضمون بما يرونه صالحاً لرسالتهم (ومصدراً لدخل الشاعر أيضاً): قبيلة، سلطاناً، حزباً جماهيرياً، عقيدة، أعرافَ مرحلة، مفاهيمَ، وكل ما يهدف الى غاية نفعية مباشرة. التاريخ كان كفيلاً بتطويع الشعراء، أو القسط الأعم منهم، وتلقينهم بأن هذه المهمات هي مصدر إنسانيتهم وغناهم وصلاحيتهم للبقاء. وهناك من ذهب أبعد مع الشكل، لا كقيمة مستقلة فقط، بل كقيمة وحيدة ومطلقة. الشاعرُ الحقيقي (لا تسألني الآن عن معنى الحقيقة!) هو الذي يعرفُ، داخلَ خيوط العنكبوت، أن مضمونَه لا يخرجُ إلا من شكلِه. وأن شكلَه لا يولدُ إلا من مضمونِه. وإنهما وليدا معتركٍ داخلي، هو بدوره وليدٌ مشذَّبٌ، عَبر مِصفاةٍ معقدةٍ، لمعترك مع الخارج. هل ترى أيّ سبيل ممكن للانتفاع من هذه الورقة البائسة، وليدة هذه اللخبطة المحرجة للإنسان الملتبس على نفسه؟! هناك نفع عظيم صدّقني. ولكن على شرط أن تقتلعَ تلك الآفة، آفةِ "مسؤوليةِ المثقف" الممْهورةِ بذكاء على طرف تلك الورقة البائسة. لا أريد أن أُعطي للشعر مهمةً خطيرة، كتلك التي أعطاها الشاعر والناقد الانكليزي ماثيو آرنولد، إذ جعله بديلاً للدين، بعد زوال تأثير المسيحية. ما من فن يرتقي الى مصاف التأثير الديني. ولكن بعد اقتلاع آفة "مسؤولية المثقف" تلك سيتحرر الشاعرُ من أسْرِ المضمون والشكل. أسرِ مهماته المملاة عليه، ليتطلع من جديد الى أفق حساسيتِه وعاطفته ورؤيته، التي تتسم بالفرادة والندرة. هذا الأفقُ جديدٌ أبداً على حركة الانسان حيث يكون: يأخذ بيده الى السلم. الى ارتقاء المرتفع. الى الإطلالة التي تريه ذاته، والآخر، والحياة، والكون عن مبعدة، من أجل اتضاح الرؤية. أنت تحتاج مسافةً ما مع اللوحة الفنية لكي تتعرف على مصادر سحرها وتناغم مكوناتها، أليس كذلك؟ ولكن صحبة القصيدة على السلم، على المرتفع، إنما تنفرد برعاية فائقة التأثير على الكيان، تتمثل بالموسيقى. هناك نفع عظيم. أنا على يقين من ذلك. استعِدْ أبا العلاء، شيكسبير، دانتي، رومي، طاغور....وعشرات، مئات. ولك أن تتخيل أرضَنا الأم، هذه الدوارة أبداً، وهي خالية من تلك الورقة البائسة في جيوبهم. أيةُ ريح سموم، ضارية!!
(نُشرت في جريدة المدى في 30/6/2007) |
|