(نشر في 8/3/2007) أكثر من شاغل شدني الى الشاعر البولندي المعاصر زاغايفسكي (مواليد 1945)، منذ صدور مختاراته الشعرية مترجمة الى الانكليزية (Faber and Faber, 2005). فهو ينتمي الى جيلي الستيني، ويؤمن دون فتور بالنزعة الإنسانية في الفكر التقدمي، دون أنْ يغفل لحظة عن الوجه الكالح التي تلبّس هذا الفكر حين دخل التاريخ ممثلا بالنظام الشمولي. هجر وطنه، مع عمق انتسابه اليه والى موروثه وثقافته، ليقيم في فرنسا، ثم في الولايات المتحدة. ورغم امتداد سنوات المنفى لم يغادر الكتابة الشعرية بلغته البولندية. هجر وطنه بخيار فردي، على أن هذا الاختيار لا يخفي نزعة احتجاج حادة ضد ما يحدث فيه. شديد التعلق والتأثر بشاعر بولندي كبير سبقه، هو ميووش (توفي عام 2004 عن ثلاثة وتسعين عاماً)، فكلاهما ينتسبان الى توجه للشعر يختلف تماماً عن التوجهات الحداثية، أو ما بعد الحداثية الشائعة منذ منتصف القرن الماضي. هذه نقاط لقاء تشكل في نهاية شبكتها المعقدة مفتاحاً للحوار العميق الجلي بين الشاعر وقارئه الذي هو أنا. هذا المفتاح هو ما أرغب أن أنصرف اليه في مقالتي الموجزة هذه. نحن نقرأ شعرنا العربي بدافع المتعة، وبدافع التقليد الموروث أيضاً. هذا الأمر ينطبق على القارئ المثقف والقارئ العادي. ثم نحاول، نحن المثقفين، أن نمنح هذا العرف سمة التخصص، فنسعى الى أن نرفع بأنفسنا الى مستوى القراءة الاستثنائية. نتبادل انطباعاتنا حول ما نقرأ مع آخرين داخل حلقتنا الثقافية، ونشعر برضا حين ننسب هذه القصيدة، أو شاعرها الى تيار تقليدي، حداثي أو ما بعد حداثي. وحين نبرز نقاط قوتها، أو نقاط ضعفها في اللغة والصورة والمخيلة. وقد نشك بصورة خفية أننا في قراءتنا للقصيدة، وفي حوارنا حولها، إنما نمسك بخيوط تكاد تكون شائعة ومشتركة بين أكثر من قصيدة، وأكثر من شاعر. ولكننا سرعان ما نخفي شكنا ببراعة الخبير. وقد نشعر بصورة خفية أننا لم نقرب الشاعر ـ الانسان، لا في قراءة قصيدته، ولا في حوارنا حولها. الانسان الرائي، ذو المشاعر الاستثنائية، العارف أكثر مما نعرف في هذا النص، بدا لضميرنا الداخلي مهجوراً، لا حضور له. قد نتوهم أن حضور القصيدة (في قراءتنا لها وحوارنا عنها) أغنانا عن حضور الشاعر في الانسان أو الانسان في الشاعر. ولكن الحاضر، على الحقيقة، كانت القصيدة: لغة، صوراً، ومخيلة. وهي قد تكون أكثر انتساباً للعرف الشعري الحداثي في تربيتنا الثقافية نحن، منها لرؤى الشاعر، ومشاعره الاستثنائية، وبصيرته البعيدة. اللغة خادعة، بسبب نزعتها التجريدية وسعيها لاستقلالها عن المدلول. وبسبب شيوعها كأداة لملايين الأغراض العامة. الشاعر يحاول إعادتها الى حسّيتها، الى تطابقها مع مدلولها. وهذا الأمر لا يتم إلا عبر مصفاة خبرته الشعرية الداخلية الفريدة (رؤى، مشاعر وبصيرة). لا عبر اللعب الذهني بها، أو معها، كما تبرع البنيوية والتفكيكية الباريسيتان. عبارتي حول حضور الشاعر أو غيابه عبارة مجازية، لا علاقة لها بحياة الشاعر كسيرة وأحداث. فهذا أمر اختلف حوله النقاد كثيراً، وهو غير ذي صلة بحديثي هذا. حضور الشاعر كتجربة (رؤى، مشاعر، بصيرة وأفكار)، هو الذي يمنحنا، كلَّ قارئ على حدة، مفتاح الحوار العميق الجلي مع صوته الشعري في قصيدته.
إن أكبر أحلام الشاعر الحقيقي هو أن يعثر على قارئ يجد في قصيدته نافذة حوار مع عالمه الداخلي، فيزيائياً، روحياً وعقلياً. يتطابق هذا الشرط مع أي قارئ حقيقي أيضاً. الشاعر الحقيقي راءٍ ضال حتى يهتدي لقارئه الحقيقي. وكذلك القارئ الحقيقي. وإذا ما توفرت نسبة كبرى من القراء العاديين، فهي متطابقة مع نسبة كبرى من الشعراء غير الحقيقيين. ولكن هذه النسبة الكبرى من كلا الطرفين هي الظاهرة الطبيعية الأعم، لا في العربية، بل في اللغات العالمية المتقدمة جميعاً. وما من عيب في ذلك. فالقارئ العادي، الذي لا ينطوي على داخل قلق تواق، يكتفي في حقل القراءة بالمتعة والاستراحة في أرجوحة موروثه وتقاليده التي اعتادها. وهذا يتطابق مع الشاعر العادي. كل إنسان يملك الحق في أن يكتب الشعر الذي يتنفس عبره بارتياح. كما يملك الحق في نشره وإشباع رغبته في إبراز هويته. علة الثقافة والتربية المرتبكة المتهاوية تكمن في خلط الأوراق. في إرباك الحدود بين القارئ، والقارئ التواق للتخصص. بين هاوي كتابة الشعر وبين الشاعر الحقيقي. الثقافة والتربية الغربيتان أنهتا هذه العلة منذ عصور. ما من مقالات وكتب نقدية وجوائز كبرى تصدر بحق هاوي شعر، حتى لو ملأت كتبه الأسواق (بالرغم من استحالة ظاهرة شيوع شاعر بالقوة بسبب هيمنة ثقافة الإعلام!!). وما من شاعر يبلغُ مستوى استراحته على كرسيِّ عزلتِه الجليلة دونَ أن تحيطَه كهالةٍ الجوائز والدراساتُ والكتب النقدية حول كل تفصيلة من تفصيلات شعره.
كنت مولعاً، لسنوات مبكرة، بقراءة أدونيس. ثم اكتشفت مع مراحل النضج أن ولعي كان بأدونيس الشاعر الغنائي، الحداثي، الطليعي، التجريبي..(أمور بعضها عالق بأذيال الإدهاش الشكلي، اللغوي، ومغامرات المخيلة الذهنية، والاعتباطات الجريئة..). أمر مألوف في العلاقة المطلوبة بين القارئ والشاعر، في ثقافتنا. قراءة ترضي الرغبة في المتعة، والرغبة في الاستجابة للعادة الموروثة (وهل الحداثة وما بعدها إلا عادة موروثة لدى أجيالنا المتتالية؟!). ولكن هذه القراءة لم تكن استجابة الظامئ التواق في داخلي الى حوار مع نص ومع صوت شاعر ]يمنحني مصادر إضاءة للأركان الغامضة، الملتبسة في داخلي. ولكن انعدام هذا الحوار لا يمس شاعرية أدونيس، من قريب أو بعيد. فلأدونيس قراء كثر. وله وحده أن يرتضي الكثرة الكاثرة من قراء دون حوار، أو قارئ محاور في العزلة!! على أن انعدام الحوار إنما يكشف في العمق عن مقدار أهمية وخطورة توفره لتحقيق قراءة صحيحة. ويكشف في العمق عن مقدار التخريب الذي أسهمت فيه "ثقافة الاعلام" العربية المهيمنة (صحف، مجلات، إذاعة، تلفزيون، مهرجانات، جوائز، دور نشر رسمية وغير رسمية، أحزاب سياسية، نقاد،.. شعراء..) في مسعاها، منذ الخمسينيات، لإطفاء أية ملامح لشعلة الفرادة الشخصية (لدى القارئ ولدى الشاعر على السواء)، القادرة على توفير هذا الحوار الداخلي، الفردي والشخصي، بين قارئ في عزلته وشاعر في عزلته. ثقافة الإعلام أسست لمجرى ثقافي، تربوي، أخضع الجميع تحت خيمة "الأفكار العظمى"، التي تلغي، بالضرورة، الخبرة الفردية الداخلية، وتؤسس لخبرة جماعية عامة شبه مقدسة، تبدأ من طبيعة الاستجابة لفكرة "دور الفرد"، "رسالة المثقف" (قد تضيع فلسطين، ولكن الأهم أن تبقى فكرة فلسطين!!)، "الوطن"، و"الأمة"، ولا تنتهي بطبيعة الاستجابة لفكرة "الحداثة" وما بعدها. مروراً بكل ما يعتبر منظومة تخص الانسان والحياة. الخبرة الجماعية المفروضة هنا بديل عن الخبرة الفردية، و"الأفكار العظمى" هنا بديل تجريدي عن خبرة الحياة العملية. ولم تؤسس لكل هذا الدولةُ الرسمية بعملية خفية، كما يحلو للمثقفين الاجتهاد، بل أسهم المثقفون بالقسط الأوفر في هذا التأسيس الدءوب منذ الخمسينيات، عبر الأحزاب بالغة الهيمنة، التي أسسوها، أو انتسبوا اليها، وعبر ثقافتهم "الموجهة" باسم مسؤولية الكاتب والمثقف.
إن اكتشافي لطبيعة علاقتي بنص أدونيس مرتبط بنضج القراءة، واتضاح مسعاها وهدفها. ولذا تبينت أن لا قراءة شعرية ناضجة دون توفر هذا الحوار الداخلي العميق. القارئ المراهق الذي يتعلق بقصيدة، أو قصائد، لنزار قباني، إنما يندفع بفعل اكتشافه لهذا الحوار، الذي لبى لديه حاجة داخلية ضرورية لفهم طبيعة حبه المراهق. ولكنه كقارئ عادي وصاحب تجربة عارضة لا عمق فيها، سرعان ما يهمل هذا الحوار مع الأيام، ليستريح الى المتعة والاستكانة للعادة الموروثة مع قصائد الحب والمرأة. صدور قصائد زاغايفسكي المختارة منحني فرصة جديدة للتعرف على شاعر يغني طاولة حواري الدائم مع أكثر من شاعر. حوار داخلي بالتأكيد، ولكن مصادر الإضاءة فيه تتمثل بعشرات النصوص، وعشرات الأصوات الشعرية. تعينني جميعاً على الكشف عن أسرار النفس، الآخر، الحياة، وما وراءهم من مجاهل. ومن أجل تعميق هذا الحوار صرت أسعى الى ترجمته الى العربية، وأقرأ حواراته وما كتب حول شعره. هذه باكورة مسعاي في الترجمة:
عند منتصف الليل
طويلا تحدثنا في الليل. في المطبخ، كان المصباح الزيتي يتوهج بنعومة، والأشياءُ، نابضةً بفعل دعتها، أقبلتْ من قلبِ الظلمةِ لتعرضَ أسماءها: كرسيٌّ، منضدةٌ، إبريق.
نخرج، قلتُ، في منتصف هذا الليل، وفي الظلمة هناك رأينا سماء آب تتفجر بالنجوم. قماشةُ الليل الشاحبة، أبديةً وبلا حدود، تخفقُ فوقنا.
العالمُ احترق بصمت، طوته جميعاً نارٌ بيضاء ، قرىً، كنائس، أكوام قش معطرة بالبرسيم والنعناع. أشجارٌ احترقت، أوراق عشبٍ، ريحٌ، لهبٌ، ماء ونار.
لمَ الليلُ صامتٌ لهذا الحد وها عيونُ البراكين راصدة والماضي بقي حاضراً، مهدداً، متخفيا داخل ملاذه كأشجار العرعر أو القمر؟ شفتاك باردتان، والفجر سيصبحُ هو الآخر قماشةً على الجبين المحموم.
(نشر في جريدة الرياض 8/3/2007)
|
|