26/4/2007 (الخميس)
تنوع المهام في استقبال المعرفة مربك أحيانَ كثيرة. الموسيقى واحدة من هذه المهام، إن لن تكن في طليعتها. صحيح أن صوت الموسيقى لا يكاد ينقطع في أرجاء البيت، وفي أرجاء كياني بالتأكيد، ولكني قد أكون في بحران تعامل آخر مع حقل معرفة أخرى. ولذا اعتدت أن تظل الموسيقى أفقاً، وخلفية. أمر لا أطمئن اليه كثيراً. فأنا دائم التوكيد على ضرورة التعامل الجدي مع الموسيقى كما نتعامل مع كتاب. شيء معيب أن أترك عقلا مذهلا، وقلباً مذهلاً مثل بيتهوفن، يتحدث لي وأنا منشغل في مهمة غير مهمة الإصغاء العميق له! في لحظة من الزمن، وكما تنتاب المرء مشاعر خطيئة، أشعر بحاجتي الى الانصراف الكلي للموسيقى. انصراف لا أعاود فيه أعمالا جاهزة أبداً للحياة على أرفف مكتبتي الموسيقية، بل أشرع مع ما ينتظرني من جديد من إصدارات، وهي لا تنقطع عني شأن الكتب. والإصدارات الجديدة لا تعني بالضرورة أعمالاً موسيقية جديدة. فقد يكون العمل الصادر حديثاً مجرد عزف جديد على يد موهبة جديدة، أو توزيع جديد بين يدي قائد أوركسترا مجتهد، أو أداء من حنجرة لا عهد لي بها من قبل...الخ. عادة ما تكون للأوبرا حصة الأسد. ولكني قبل الشروع في عالمها السحري سارعت الى عملين صدرا عن Naxos، الإصدار الأول يقدم عملي كونشيرتو فايولين (الأول والثاني) للموسيقي البولندي الأثير لدي Szymanowski (1882-1937)، أهم موسيقي بولندي بعد مرحلة شوبان. استعدت الأيام التي تابعت بها أعماله، أتسقط آثارها في الاسطوانة السوداء، الكاسيت، ثم في الاسطوانة الممغنطة. استعدت أوبراه الوحيدة المؤثرة King Roger، وسيمفونيته الثالثة، وبعض أعماله التي تعكس بحرانه الآسر في الفكر التصوفي الشرقي. سيمفونيته الثالثة من وحي قصائد جلال الدين الرومي. وفي أوبراه لم أغفل توق رومي لأستاذه الزائر الغامض "شمس"، الذي اشتهر في قصائده بـ "شمس شيراز". اللمسة ذاتها تشعرها مع الملك المأخوذ بالأسرار بعد زيارة الداعية الغامض. على أني مازلت أفتقد الى عمله الغنائي الذي وضعه لرباعيات الخيام. أفتقده، وعزائي أنه لم يقدم من حنجرة بع. إنما مررت عليه في قراءتي لكتاب Karol Szymanowski: His Life and Work, by A. Wightman، الذي صدر عن دار Ashgate عام 1999 ، والذي عرضته في جريدة الشرق الأوسط حينها. صوت شيمانوفسكي ذو لمسة شخصية من لمسات الرومانتيكية المتأخرة. ذو توق روحي مأخوذ بشرارة التصوف الشرقي، ولكن هذا التوق عمق لديه النزعة التعبيرية الشخصية. على أن رومانتيكيته لم تمنعه من حرارة الاندفاع باتجاه المغامرات التقنية الحديثة. ولذا لم يُحجب صوته عن التأثير في تيار الحداثات الموسيقية في مرحلته. هذا الخيط التعبيري واضح في الكونشيرتو الثاني لآلة الفايولين (1932). الكونشيرتو الأول والثاني يقطعان زمنهما في حركة واحدة، موزعة داخلياً الى حركات. لن يمنع التوتر في الفايولين أو الأوركسترا من لحظات انصراف غاية في الغنائية، واللحنية. وموسيقاه جميعا حميمية مع عالم الشعر والأدب. النص الشعري ينبض في الكونشيرتو الأول، لأن المؤلف جعل نص قصيدة "ليل أيار" للشاعر البولندي ميسنسكي قاعدة انطلق منها.
إصدار آخر أكثر إثارة عن Naxos، أصغيت له بمزيد من الرغبة في استيعاب تيار موسيقي طليعي شاع في أمريكا وأوربا في الستينيات، باسم Minimalism، وهو أسلوب في التأليف يعتمد تكراراً متواصلاً لفكرة أو لحن موسيقي قصير أو مقتطع في نسيج هارموني غاية في البساطة. أبرز موسيقييه Philip Glass (مواليد1937). الإصدار الجديد لعملين من أعماله الأوركسترالية: "الضوء"، و "سيمفونية الأبطال". غلاس، مثل السابق شيمانوفسكي، شديد التأثر بالفكر الروحاني الشرقي وبشعره وموسيقاه. وضع أوبرا عن إخناتون، الموحد المصري الأشهر، وأوبرا عن المهاتما غاندي. والحركة الثالثة في سيمفونية الأبطال باسم "عبد المجيد"، الذي لم أتعرف على مصدر الاسم، تستوحي الموسيقى العربية بصورة من الصور. لحن يتفتح تدريجيا تحت ظل إيقاعات متواترة لآلة التشيليستا التي تُطرق كآلة البيانو ولكن مفاتيحها من معدن، ولا تعتمد أوتاراً، الى جانب تواتر آلات إيقاعية. الرائع في غلاس التجريبي ، الطليعي أن نزعته الغنائية، التعبيرية لم تهجر المادة اللحنية. سيمفونية الضوء اختبار موسيقي لطاقة وحركة الضوء كما عرفتها الفيزياء. وضع غلاس 8 سيمفونيات الى جانب أعمال أوركسترالية، منها اثنتان تنتسب للموسيقية التجريدية الخالصة. في حين تنطوي البقية على مادة كورالية، بفعل الاستيحاء من النص الشعري (الشاعر الأمريكي غينسبيرغ في السمفونية السادسة. في موسيقى غلاس دوار يشبه الدوار في موسيقى الصوفية والدراويش. وفي موسيقى البولندي توق أعلى للتعبير. عاودتهما بالتناوب دون أن أشعر بالتفاوت أو القطيعة. للموسيقى لغة لا تتمتع برحابتها لغة أخرى للتعبير. ليس عصياً على أحد منكم أن يذهب الى موقع Naxsos.com، ليقلب هذه الأعمال، وآلاف من الأعمال الأخرى، ويصغي الى 25 بالمئة من كل حركة (المسموح به لغير المشتركين). أو يشترك بثمن بخس ليستمع الى كل ما تتوفر عليه المكتبة الموسيقية والكلامية من كنوز. من موسيقى الآلات الى حقل الأوبرا. وزمن الأوبرا أكثر اتساعاً. أكملت الإصغاء لأربعة أوبرات، من الجديد الذي بين يدي. أرجئ الحديث عنها الى حين.
|
|