فوزي كريم 

Fawzi Karim

من البرج العاجي

الجديةُ والإحاطةُ وما دونهما!

فوزي كــريم

 

    كيف أكتشف أن هذا النصَّ، اللوحةَ، العملَ الموسيقي يُحسنُ الحوار معي، أو أحسن الحوار معه دون عناء، لحظة الاستغراق الصامت؟ قد أجدني أتخطى لوحات في معرض، ولكني أتوقفُ عند واحدة. أتخطى رسامين، ولكني أتوقّفُ عند فنان بعينه. يحدث هذا مع النص الشعري، أو الشاعر. مع النص النثري أو الناثر. ولقد حقّقتُ الدربةَ بصورة أتقنَ مع الموسيقى. رباعيةٌ متأخرة لبيتهوفن تتمتع بالجدية والإحاطة. كذلك لوحة لمونك، أو نص شعري لميووش أو أليوت. على أن الثلاثة لا يخلون من دعابة باسمة أو ضاحكة. كان تشايكوفسكي يرهب بيتهوفن، حدّ فقدان التعاطف والحب. كان يأتمن موتسارت، حد الحبّ دون موانع. الناقد الانكليزي كاردوس قال: لو كنتَ في حفل ودخل بيتهوفن لرفعت قبعتك وانحنيت رهبةً. ولكنك لو رأيت شوبرت يدخل، لاندفعت عن غير إرادة نحوه وعانقته كصديق. ولكني أجد في كلٍّ من بيتهوفن، موتسارت، وشوبرت، بالرغم من كل اختلافاتهم عن بعض، تلك الجدية وتلك الإحاطة. إنهما عنصران يمنحان المبدعَ وإبداعه قابلية الحوار مع المتلقي، الذي يتمتع بهما هو أيضاً.

    أكثر مبدعي الكلمة واللون واللحن، خارج هذين العنصرين، مبدعو تسلية. أو في أحوال أحسن، مؤرخو مشاعر ومواقف عابرة عبور التاريخ.

    قد يبدو الواحد من هؤلاء أقربَ إلى عواطف وأفكار المتلقي في مرحلة تاريخية بعينها، أقرب إليه من المبدع الغارق في الجدية والإحاطة. قد يبدو الواحد من هؤلاء أقربَ إلى قلوب وعقول الجمهور من هذا المبدع الأخير، الذي يبدو مهجوراً إلا من قلة. ولكن المراحل التاريخية اللعوب لن تضمن لأي مبدع من السابقين أن يظلّ كذلك. على أن الأهم في هذه المعادلة هو أن القرب من القلب والعقل قد يكون خادعاً في أحيان كثيرة، إذا لم يحقق الحوار الذي أشرت إليه. لأن هذا الحوار قادر على تغيير مسار القلب والعقل معاً، لا التوافق مع بالضرورة. الحوار الذي يشغل المتلقي، ويُدخله خفيفاً في بحران الجديّة (عابسة، حزينة، أو ضاحكة مرحة!)، وبحران الإحاطة.

    والآن، ما الإحاطةُ؟ إنها احتضان المعرفة، التي تتسع بمقدار احتضانها. المعرفة حين تكتشفُ منحاها الخفي لتتحول إلى حكمة. أي حين تتفتح عن وعي يجعل الحياة أسمى من خامة الطبيعة العمياء، وخامة الأهواء العمياء. وعي يُحيط بكل التناقضات داخل الوحدة، وكل الاختلافات والتعارضات داخل الهارموني. أمر لا يتم إلا للمسحور بمعرفة الشيء حتى نهايته. ولذا يبدو كلُّ حديث عن البنية، لدى الشاعر الجدي الإحاطي، وعن الشكل، واللغة، والحداثة، والجديد، والإدهاش، وسحر الكلمة، والجرأة الطليعية...أو الحديث عن قداسة المواقف... الخ ترّهاتِ تسلية ومداهنةً رخيصة مع التاريخ المتعثّر المتسارع. لأن انتباهته الجدية المحيطة جعلت الأشياء تبدو له غاية في الشفافية، لا تملك أن تُخفي الذي وراءها. يرصد ويسجل ما يرى خلف الظاهر مما كان يسميه الفلاسفةُ الجوهري أو الحقيقي. دون أن يقنع بالتسمية، لأن الذي خلف الظاهر يبدو له مُحجّماً بفعل التسمية هذه. في حين يبدو له ملموساً، حسياً، عينياً، وغاية في البساطة والمباشرة. ولذلك لا يتحدث شاعر مثل ميووش، أليوت، عبد الصبور، السياب، البريكان من داخل سحر اللغة، وعبر تفجراتها الصاخبة. إن عملية كهذه تبدو لهم مهارات بهلوان بدافع التسلية. أو بدافع تحقيق تصالح نفعي مع المرحلة. قصائد الشاعر الجدي الإحاطي قد تبدو غامضة، وعلى شيء من التعقيد، ولكن لا في الفكرة أو اللغة، أو الصورة، أو الشكل. قد تبدو غير يسيرة لمن لا يحسن الحوار معها. على أنها للمحاور نافذة إطلالة مدهشة، غاية في الوضوح، على ما كان يحسه ولا يُحسن تسميته. نافذة لاتساع الأفق الشخصي على الكلي غير المحدود. إنه هنا يأخذ الشيء الشخصي المحدود، والشيء الكلي غير المحدود بالجدية ذاتها، ولا يتطلّع إليهما كمعلومة، أو مجرد معرفة.

    مرة قال لي صديق أنه قرأ رواية "عالم صوفي"، واستمتع بالطريقة التي عالج بها المؤلف تاريخ الفلسفة الغربية بطريقة حكائية مشوقة. سألته عن معنى استمتاعه فتوسع في عرض المعرفة التي اكتسبها حول المسار الرئيس لتطور الفكر الفلسفي الغربي، والدراية بعملية بناء الحكاية بناءً تشويقياً يشبه عنصر التشويق في "أليس في بلاد العجائب"!

    صديقي القارئ لم يتحاور مع الأطروحات الكبرى داخل نمو هذا الفكر الفلسفي الغربي كما تحاورت صوفي. ولم يتحرك باتجاه الحيرات، والتساؤلات، التي قلبت حياة الصغيرة صوفي، وقلبت حياةَ عشرات، مئات الكيانات قبلها وبعدها. صديقي القارئ بقي حريصاً على الاحتفاظ بالمعلومة كمعلومة، خارج مدار حياته الشخصية. ولذا بدا لي أنه لمْ يقرأ الكتاب. أو لعله، بهذا المعنى، لمْ يقرأ كتاباً في حياته.

    هناك شعراء كثيرون يحبون الشعر حدّ الهوَس، وحد التضحية بكل شيء من أجله. الشعر لا كمصل مغذٍ لغنى حياة استثنائي لا يتطلّب هوساً ولا تضحية، بل باعتباره إكليل غار على الجبين. باعتباره هوية. سلطة.

    مات أبو العلاء وهو غارق في زحمة الحيرات والتساؤلات: " وإني من فكرتي والقضاءِ ما بين بحرين لا يسجُران". ما من إكليل على الجبين. ما من هوية. ما من سلطة.   

 

يوميات

 

عن الإيمان بقوّةِ الحياة!

 

الجديةُ والإحاطةُ وما دونهما!

الاستدارة المذعورة، ولكن للمستقبل!

حفنة مسرات أوبرالية

قبلة فرانتشيسكا الدامية

تلك الورقة البائسة!

حكاية الفارس الأخضر

ستة مصابيح داخل دخان الحرائق

استحالةُ أن تحصل على كتابك المفضّل دون دليل؟

استعادة المنسيات

غجر بالاماس

 اعتماد الخبرة الداخلية في فن المقالة

رسالة الى "الشيوعي الأخير"

معنى الحوار بين القارئ والنص

في العتمة المضاءة من الداخل

بشارة الخوري

مسرّات الشرق القديم

 بي قارئ متحفز

شعراءالنهضة الاسبانية

شيمانوفسكي وغلاس

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail