فوزي كريم
بعد غياب غاليري الكوفة عن عراقيي لندن لم يعد من ملاذ ثقافي. على أن هناك واحداً، أطمع أن أجده بديلاً هو غاليري ARK في منطقة إيلينغ، التي أقيم فيها ويقيم فيها عراقيون كثر. ARK ستوديو تابع للبلدية، يشرف عليه الفنان يوسف الناصر منذ سنوات. نشاط المكان يتسع للثقافة عامة، دون تحديد في النوع أو الانتساب. إلا أن يوسف شاء أن يحقق حصة للثقافة العراقية في لقاء الخميس الأسبوعي، صدى للقاءات الأربعاء في الكوفة المغيّبة. في خميس فائت كانت ربيع العبايجي، القادمة من بغداد، تحمل معها بحرص النشوان عدداً من لوحات فنانين زملاء لها في العاصمة المنتهكة. ما من أحد منهم كان مُنتهكاً داخل لوحته. أروع ما في العرض أن اللوحة، كلّ لوحة، كانت في شاغل عما يحدث في التاريخ الأحمق وصانعيه. في شاغل عن مشعلي الحرائق، والمنشدين في مهرجان الجثث. في شاغل عنهم، محتفين بقوة الحياة في الطبيعة وابنها الانسان. ربيع العبايجي لم تكن أقل احتفاءً من اللوحات: أنظروا الى هذه السمكة أليست مثيرة للبكاء؟ منحوتة المعزى هذه. تأخذ عقل الواحد، أليس كذلك؟ كان في محبتها للفنانين ولوحاتهم كرم روحيّ يستعصي على كثير من القلوب، للأسف. كنت أرقب اللوحة المعروضة على الشاشة، وأنتظر كلماتها التي تشبه التنهدات. كنت أشعر أن في صرختها الفرحة حفنةً من دموع لا تُقاوم. في محبتها لأصدقائها ولوحاتهم قبضةً تعتصر القلب. أيّ ارتياحٍ وفرج في رؤية لوحة خالصة لجمال الحياة في الطبيعة والإنسان، تُرسم وسط دخان الكراهية، وليد صراع العقائد العمياء. أي احتجاج كامن في كل لوحة، يقول بلسان صريح أن الفنَّ ليس مرآةً بلهاء للتاريخ، ولا الفنانَ عبدَه الذليل! رأينا أولاً منحوتات ولوحات الفنان علي حسن الربيعي. توقفنا كثيرا عند منحوتة المعزى البرونزية. بالضرع الغني، والامتلاءة الخيّرة. هل تُشبه معزى بيكاسو الشهيرة، التي شكلها من بقايا خزف مزهرية، سلال ومعدن. ثم أنجزها بكتلة برونز فيما بعد؟ هذه أثقلها بيكاسو بغنى الحمل والحليب، وشدها الى الأرض. في حين أضفى علي الربيعي على معزاه سعة فضاءات، الأمر الذي جعلها مترفّعة، وجاهزة للتحليق. حيوية الحركة هذه نجدها في منحوتاته الأخرى عن الثور والرجال. مع الفنانين جعفر محمد وهادي ماهود ندخل محتفين بالطبيعة، ولكن منظوراً اليها من عين عصفور، إن صح التعبير الانكليزي. المشهد من فوق يُجرّد الى كتل ألوان، تأخذ مساحتها المرتاحة على قماشة اللوحة. في واحدة من لوحات جعفر محمد تبينت ملامح رجل عار، يحمل أزهاراً. رمادي بزرقة، يعلوه رأس فحمي السواد، مع إشراقة بياض تضرب جانبه الأيمن، جانب الأزهار. كل هذا لا يكاد يبين لولا تطفّل خطوطٍ واهية تحدد اليد والأصابع وعيدان الأزهار. اللوحة معزوفة غاية في الحسية عن الرغبة. في لوحات هادي ماهود تبدو الطبيعة (أهوار، ريف)، منظوراً اليها من فوق أو من جانب غير محدد، أكثر كثافة حضور. تنفرد فيها السمكة (ورأسها بصورة أساسية) في أكثر من لوحة. ثابتة دائماً، بهيئة أفقية، عمودية، أو مُشظات. قد تحتل السمكة مكانها ككتلة، وقد تكون مجرد تكوين خطّي داخل كتلة لون. مجال الرؤية لا حدود له، ما دامت علاقة الفنان بالسمكة ابنة الماء والطين والأسطورة غريزية، ومُغيّبة في اللاوعي. يتوسطهما أحمد نصيف في لوحات تكتفي بالطبيعة كمصدر لكتل لونية، ولكن داخل سطوة الخطوط. مربعات، مستطيلات للون، دوائر عجلات أو كرات، أجزاء من هيئات بشرية مليئة بالحيوية، أو مشبوحة على صليب. مأسورة للون الحاد، واللون الباهت على حدّ سواء. على أن فرشاته تأخذ دفقاً شعرياً في لوحات البورتريت، مأخوذة بانطباع اللون وضربة الفرشاة ، أو تعبيريتهما الحادة. مع لوحات ستار درويش نبدأ بهيئة طفلة تشبه دمية، وفي يدها قطتها. هي معلقة العينين، والقطة محدقة في عدسة الفنان. في اللوحات الأخرى تبدو الطفلة أكبر سناً، بنهدين وأصابع مازالت تطمع بلعب البنات. وهكذا، لا تنقطع الفتاة الحلوة(وقطتها أحياناً) عن الحضور في هيئة خطّية داخل معترك الألوان، وكأنها كيان حلمي طارئ (بول كلَي). ولكن هذا الكيان الحلمي يأخذ مدى تعبيرياً عن القوى الغريزية الخفية في الكائن. حتى لتبدو الصغيرة فيه دعوة، مُحاطة بالإشارات والرموز، للذهاب المريب الى طفولة الانسان البدائي السحرية، نصف المضاءة. يحتل الفنان أسعد الصغير آخر العرض. وبدل الطبيعة نرى اللوحة مشدودة للأفق هذه المرة. دليل الفنان الى الأفق هو شرفات البيوت العالية، نهايات أعمدة الكهرباء، أعمدة الصواري. حتى المياه الزرق تأخذ في اتساعها معنى الأفق. صُفّة البيوت الواطئة عادة ما تكون بين أفقين (مشهد يذكر بلوحات خالد الجادر). أفق أحمر بعمود. قمة عمود تخترق الأفق. سماء وأرض وثمة عمود يصلُ بينهما. ساعة رائعة مع ستة مصابيح داخل دخان الحرائق الأسود.
(نشرت في جريدة المدى في 24/6/2007)
|
|