"أنسنة الشعر" ومشروع الإحياء التأويلي (عندما يكون النقد بوحاً وتقمصاً) فلاح رحيم (العراق/عمان) يستحق صدور كتاب د. حسن ناظم "أنسنة الشعر: مدخل إلى حداثة أخرى؛ فوزي كريم نموذجاً" وقفة خاصة للاحتفاء والنظر النقدي المتمعن. وأول ما يضفي على الكتاب خصوصيته أنه يصدر عن ناقد وأكاديمي عرف بإسهاماته المتميزة في مجال النقد الأدبي والترجمة، كما أنه يتعلق بشاعر تبلور تجربته و تستجمع شتات المشهد الثقافي العراقي الحديث، لم يحض من قبل بكتاب نقدي يتوسع في دراسة شعره ورؤاه كهذا الذي بين أيدينا الآن. يذكرنا هذا الكتاب أن المهمة الملحة التي طال تأجيلها قد آن أوانها؛ وأعني بها مهمة مراجعة التجربة الشعرية العراقية ما بعد الرواد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فالصمت أضر بها وغيّب عنا ثراءها وطوى بوجومه القوة الناطقة الحية التي تنطوي عليها. ينطلق الكتاب من أحساس حاد ومشروع بأن شعر الحداثة العربي عموما، والعراقي على نحو خاص، يشهد أزمة متزايدة تستوجب إعادة نظر جذرية في أسسه وأنماطه. وهو إحساس يخالج الجميع سواء أكانوا من الحداثيين أم المتشككين في مشروع الحداثة. و يلاحظ القارئ أن نبرة الخطاب النقدي في الكتاب مشحونة بالسجال والمشاركة الوجدانية والبوح، وهو ما يعيدنا إلى الحاضنة الثقافية والتاريخية للدراسة، المتمثلة في دوامة العنف والتحولات المصيرية في العراق، والتي تجعل الكتاب أشبه بقرص من الخبز العراقي الساخن سحبته يد عراقية طيبة لتوها من التنور. يؤسس المؤلف في الفصلين الأولين لثنائية ضدية واعدة تنطوي على استبصار نقدي حاذق وددت لو أنه احتفظ بطرفيها واسترشد بهما حتى النهاية، بدلا من إسقاط أحدهما والانحياز الكامل للآخر. يتناول الفصل الأول كتاب فوزي كريم الذائع الصيت " ثياب الإمبراطور"، وهو كتاب يؤكد فردية الشاعر ويدعو إلى العودة إلى ينبوع "التجربة الروحية" الأول، متشككاً في الأنساق والأنماط الكبرى التي يمكن أن تقولبه وتقتل وهج تجربته. ثم ينطلق الناقد في الفصل الثاني إلى مناقشة كتاب د. عبد الله الغذامي " النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية" الذي يعتمد عدة ثقافية غربية يقارب بوساطتها الميراث الشعري العربي، مركزا على الأنساق التي حكمته وصاغت معانيه وأطره، وهو بالتالي يقف موقف العداء من مشروع النقد الأدبي داعياً إلى نقد ثقافي لا يحفل إلا بالأنساق الكبرى مهمشاً فردية التجربة الأدبية(1) ( ص 43). ينتهي د. حسن ناظم في ختام الفصل الثاني إلى انحياز كامل لمشروع فوزي كريم النقدي لسببين هما: أن فوزي أنجز نظره النقدي و"تجاوز النسقية، بلا عدة غربية، ولا نظرية حداثية، ولا ما بعد حداثية." (ص 43) وثانيا أن فوزي يقترح الحلول للعلل التي تتلخص " بالعودة إلى التجربة الروحية، إلى ذات الإنسان، تلك الذات التي إن جرى الاستناد إليها في الإبداع الأدبي فلن تكون ثمة أنساق مضمرة من وجهة نظر فوزي كريم، ولن تكون ثمة نقود تحوم حول الجماليات وتتغافل أو تسهو عن القبحيات." (ص ص 43 ـ 44) تنطلق الفصول الثلاثة المتبقية من الكتاب من حماس الناقد لمشروع فوزي النقدي، فينتقل الفصل الثالث " الذات ينبوعاً للتجربة الشعرية" إلى تفحص شعر فوزي كريم بعدسة منطلقات فوزي النقدية نفسها، زاهدا بأية عدة نظرية قبلية غربية أو شرقية، معتمدا الحدس النقدي الظاهراتي. وهو الحدس الذي يقوده إلى التقاط موضوعة الذاكرة بوصفها "مصدر التجربة الروحية العميقة والمرّة للشعر الحقيقي" (ص 45). يقدم الفصل الرابع " صورة الشاعر: وجه في مرآة محطمة" قراءة لمجمل نتاج الشاعر في الأجناس المختلفة لرسم صورة الذات التي يقدمها الشاعر لنفسه ، وهنا يطرح حسن " الشعور بالذنب" ويرى أنه " مكون إبداعي لازم" (ص. 68). أما الفصل الخامس فتتجلى فيه قدرة الناقد على التقاط القصائد التي يصف بها الشاعر موقفه من فنه الشعري مفتاحا لفهم مجمل نتاجه. وكنت أتمنى لو أنه بدأ به كتابه، لما يتضمن من مداخل تنفع الناقد في بلورة قراءته. الواقع أننا نحتاج لكي نفهم ما يحدث هنا ـ وليسمح لي بذلك العزيزان فوزي وحسن ـ أن نسترشد بالتراث النقدي النظري الغربي وغير الغربي. فالإستراتيجية النقدية التي يعتمدها الناقد في التقاط خاصية لافتة والتعامل معها كمفتاح للنصوص كلها؛ وأعني هنا أهمية الذاكرة، قريبة جدا مما دعا إليه ليو سبتزر في أسلوبيته، وقد سبق لحسن ناظم نفسه أن أفرد له بابا في كتاب هام آخر له هو "البنى الأسلوبية: دراسة في ‘أنشودة المطر‘ للسياب"(2). الطريف أن حسن كان قد علق على أسلوبية شارل بالي هناك بالقول " فبالي يؤمن بأسلوبية تبحث في القيم الوجدانية حسب، في حين تتجاوز الدراسة الراهنة [ أي دراسة حسن عن السياب] هذا التصور لتدفع به إلى البحث في القيم الجمالية لتحقق تواشجا بين الأسلوبية والنقد، ولتكسر القيد الذي فرضه مؤسس الأسلوبية الحديثة على الأسلوبية بإقصائه النص الأدبي منها."(3) تكشف لنا مقارنة المنهج البحثي في كتابي حسن عن السياب و فوزي كريم عن انعطافة كبيرة جديرة بالاهتمام. هنالك نقلة جذرية متطرفة في المنهجية ؛ فقد اعتمدت دراسته عن السياب (وكانت أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه كتبها الباحث عام 1995، ونشرها عام 2002) المنهج الأسلوبي المسترشد بإجرائيات علم اللغة الحديث منطلقا لوصف النص وصفا أمينا موضوعيا يكون فيما بعد القاعدة التي يبني عليها النقد الأدبي تأويلاته. من هنا اعتراضه حينذاك على بالي الذي لم يدعم حدسه وكهانته بعمل لغوي على مستوى النص. أما دراسة حسن عن فوزي فتخلو تماما من أي ذكر للأسلوبية أو استعانة بأدوات علم اللغة التي سبق للباحث أن استلهمها و اعتمدها في تقديم وصف لغوي بارع للنص السيابي يدل على معرفة دقيقة. ما يطالعنا في كتابه عن فوزي كريم اقتحام للعمل الأدبي (هنالك استبعاد كامل لمفهوم النص هنا) يعتمد الحدس والتفاعل الوجداني والتأمل التأويلي البحت. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية النقلة الفكرية الدرامية التي مر بها حسن خلال الأعوام العشرة التي تفصل بين الكتابين. إنها نقلة من شكلانية علم اللغة والمشروع الأسلوبي التواق لتبوء مكانة العلوم البحتة إلى تأويلية تعتمد الكهانة والحدس والتفاعل الوجداني دون وساطة منطلقا و أداة لكتابته النقدية. لن يصعب على القارئ العثور على وشائج وثيقة بين المشروع النسقي للغذامي الذي تنكر له حسن في الفصل الثاني من كتابه هذا، و كتابات حسن النقدية السابقة، و لا أستطيع أن أمنع نفسي من فهم هذا التحول على أنه توبة من نوع ما. يقول حسن في إحدى رسائله إلى فوزي كريم التي ذيل بها كتابه: " أم تراني تغّشتني أشعارك وسردك فصرت لا أفصل بين النص وواقع الحال، والسرد وحدثه، الشعر والعالم الواقعي." (ص 159) وأعتقد أن هذا الوصف دقيق لما يحدث على مستوى المنهج هنا. فحماس حسن لمشروع فوزي كريم النقدي والشعري قذف به بعيدا عن الجادة التي اختطها لنفسه منذ البداية، و هو ما سأتوسع فيه بعد قليل. ذكرت أن اعتماد حسن الذاكرة منطلقا توليديا لقراءته شعر فوزي تعد استبصارا حاذقا. وهو في التقاطه هذا المفتاح التأويلي يجاري الشاعر نفسه أيضا الذي يرى في الذاكرة " ينبوع ماء داكن". يخلص حسن إلى أن الذاكرة تفعل فعلها المرير كالوحش في تجربة الشاعر. الاستذكار يوقظ الوحش والرغائب النائمة والشاعر يسعى إلى فقدان الذاكرة دون جدوى (ص. 49). ثم يقول حسن أن الشاعر " يقلّب ذاكرته بإلحاح مرضي قهري" (ص. 53). ويضيف " أن الرغبة في التذكر والتذكير مبعثها الحنين بوجه من الوجوه" (ص. 61)، كما أن العودة إلى كاردينيا وسيلة ينجز بها الشعر "وظيفة أن يكون مقدمة تستشرف الأفق، وتقوله في غموضه وقلقه" (ص. 62). كان حسن قد اعترض على قراءتي لقصيدة فوزي كريم "قارات الأوبئة" لأنها تجعل من توق فوزي إلى استجماع شتات تجربته المضطربة في نسق دال ومتماسك دليلا لها. ما أود أن اؤكده هنا أن أولوية الذاكرة في تجربة فوزي تصب في نهاية المطاف في الإطار العام للقراءة التي قدمتها في مقالتي تلك. بحسب الفيلسوفة البريطانية ميري ورنوك في كتابها " الذاكرة في الفلسفة والأدب"(4) تحتل الذاكرة موقعا محوريا لدى كل البشر، وبالأخص لدى الأدباء، لأنها الملكة التي يستجمع بها الإنسان خيوط وجوده الممتدة في اتجاهات شتى ليتمكن من تكوين سرد دال يوفر له منظورا متجانسا. وهذا هو ما سعى إليه فوزي كريم في جل قصائده؛ وأعني هنا رغبته المفجوعة بتجاوز اضطراب وجوده وعشوائيته نحو معنى من نوع ما. لا ينتهي حدس حسن بأهمية الذاكرة في شعر فوزي إلى ما انتهيت إليه، فهو يرى وقد تبنى منطلقات الشاعر النقدية، أن أهمية الذاكرة تكمن في كونها مصدر استحضار ومعاودة تجريب وجداني ينطوي على حنين ووجد واغتراب. لا أعترض على شرعية هذه القراءة، خصوصا بعد أن أمتعنا حسن بتحليلات شيقة لشعر فوزي، لكني أرى أن الناقد يجد نفسه في كثير من الأحيان في موقع المشاكسة للشاعر، ينبهه في تجربته إلى ما لا يرى هو فيها. ولنتذكر هنا مقولة مؤسس نظرية التأويل الحديثة شلايرماخر من أن كهانة الناقد المشفوعة بأدواته الفيلولوجية والمقارنة تجعله في موقع يفهم منه الشاعر أكثر من فهم الأخير لنفسه. لقد استشهد حسن بقول لهيدجر يرى أن التذكر لا يعني فقط التفكير في شيء كان، بل في شيء آت (ص. 48)، وهو قول يربط التذكر بالمشروع الأنطلوجي والسعي إلى الإمساك بكينونة الدازاين من خلال شتات سقوطه. إن عداء فوزي للأنساق الكبرى ما هو إلا انعكاس للإخفاق الذي مني به بعد تجربة مريرة في التغرب والقمع في أن يجد القناعة الكبرى التي يركن إليها، ودليلي في هذا ما نجد من تحول في مواقف فوزي بعد نهاية الاستبداد في العراق، وهو ما سأتطرق إليه فيما يلي. أعود إلى منهج الدراسة التأويلي والافتراضات المسبقة التي اعتمدها كل من حسن و فوزي في اتفاقهما على التشكيك في أهمية النظرية للقراءة الأدبية والإبداع الفني. أرى أن لدينا هنا خلطا بين النظرية والأيديولوجيا بمعناها السياسي، يمكن فهمه في سياق التجربة السياسية العراقية الدموية وعقود الاستبداد المتنكر بلباس الفكر والتنظير والعقائد. يرى حسن أن اليقين الواحد يتحول "إلى أوحد أو أحد"، ومن هنا تخوفه من اليقينيين الذين يعتنقون تصورا واحدا عن الحياة، من الشعراء وسواهم (ص. 100). كما يبدو وكأن أي إعمال للمنطق والعقل في قراءة الشعر أو كتابته هو مصدر شك وريبة. يرى حسن أن فوزي " يفكر دائما بقلبه، والتفكير بالقلب دعوة طالما دعانا إليها في كتابه ‘ ثياب الإمبراطور‘" ( ص. 52) ثم يقول مع باسكال في خواطره " للقلب حجج لا يعرفها العقل تجعله يلح على الذكرى" (ص. 52). والواقع أن الدراسة تعتمد منهجا تأويليا يكتفي بالحدس الظاهراتي دون أن يدعمه باشتغال على مستوى الأسلوب أو اللغة. يقول حسن " ثمة صوت خفي في الشعر يشكل شعريته، صوت لا تسمعه الأذن، ولا يقوله اللسان، صوت يحسه من يبحث عنه، ويؤمن به، ويتسمع نغماته، صوت تباشره الروح قبل أي عضو، ويتشرب به الوجدان قبل أي فضاء" (ص. 89). لكني أجادل هنا أننا لن نتمكن دون النظرية من الارتقاء بتجربتنا المعيشة، التي وصفها التيار الظاهراتي منذ هيدغر بالفهم verstehen ،إلى مستوى الفن أو الفكر مهما حاولنا. فالفن والفكر محاولة للتواصل مع الآخرين؛ أي أنه بطبيعته نشاط يتجاوز به الفرد أنويته ليدخل في حوار بوساطة اللغة لن ينجو من خاصية التعميم. والواقع أن هذا هو ما فعله الشاعر فوزي كريم في كتابه " ثياب الإمبراطور"(5) حيث وضع فرضية (هي بالتأكيد ذات طابع نظري مجرد) انطلق منها لتصنيف الشعر العربي برمته والخروج بنتائج يغلب عليها التعميم. إنه بذلك يتنفس النظرية ويمارسها برغم اعتراضه عليها وشكه في كل ما يمت إليها بصلة. والأمر نفسه ينطبق على كتاب د. حسن ناظم الذي نحن بصدده، فهو ينطلق من فرضية أن الشعر تعبير تلقائي عن الروح تحتل فيه الذاكرة موقعا مركزيا (وهي مصادرة نظرية بدون شك)، ثم ينطلق من هذه الفرضية إلى التعميم بصدد قصائد فوزي كلها. يقول الناقد جوناثان كلر في تعريفه النظرية أنها الفرضيات والتوصلات التي يكون بمستطاع الآخرين داخل الفرع المعرفي المعني أو خارجه استخدامها للوصول إلى نتائج تطبيقية جديدة(6). والسؤال الآن ألا يمكن لنا توظيف فرضية فوزي كريم حول الشعر الشامي والعراقي في تقديم قراءات متعددة حول شعراء بعينهم، أو في قراءة شعر بلد عربي بعينه؟ والشيء نفسه يصح على فرضية د. حسن عن طبيعة الشعر ومركزية الذاكرة. لقد وُصفت النظرية بأنها ذات طابع تأملي لا يستكين لمصادرات الحس الفطري، وبأنها ذات طابع انعكاسي بمعنى أنها تفكير في أنماط التفكير. يركز حسن كثيرا على أن من الصعب تصنيف فوزي ضمن مدرسة أو تيار قائلا " لكن المؤكد أن فوزي كان مشدودا إلى شيء يكمن في أعماقه، وكم هو يسير الإحساس بهذا الكامن، لكن من العسير العثور على مرجعيات فكرية كبرى كانت تستحوذ على اهتمامه أو عالمه الشعري." (ص. 87). كنت قد ذكرت في دراسة سابقة أن فوزي لم ينتم إلى حزب سياسي، وأود أن أضيف هنا دون تقليل من أهمية تجربته، أنه ظل دائما ينتمي إلى فلسفة محددة. لا مبالغة في القول إن مسلمات الفلسفة الوجودية كما دخلت العراق خلال الستينيات وما بعدها، و تشبّع بها معظم المثقفين العراقيين، هي خير مدخل لفهم ما يقصد فوزي كريم في آرائه النقدية التي جاراه فيها حسن. فمن المعروف أن أركان الفلسفة الوجودية طوال ميراثها الطويل الممتد من كيركجارد إلى سارتر تتمثل في الإعلاء من مكانة الفرد بوصفه المتن في أي نظر فلسفي، والسعي إلى عاطفة جياشة بديلا عن العقل البارد (لنتذكر تجربة الارتعاد والخشية التي كتب عنها كيركجارد)، وفهم الحرية بوصفها مشروعا يتولاه كل فرد على حدة ليحقق من خلاله معناه، وإيمان بعشوائية الوجود و تصادفية التجربة التي تعلو على أي نظر فلسفي أو نظري اختزالي. والآن هل ابتعدنا في كل هذا عن المنطلقات النظرية لفوزي أو حسن؟ أقترح هنا عقد مقارنات يمكن لها أن تؤكد ما أذهب إليه. لنقارن بين " ثياب الإمبراطور" وكتاب فريدريك نيتشه " ولادة التراجيديا"، ومعلوم أن نيتشه هو أحد المصادر الهامة للفكر الوجودي. ألا يذكرنا الروح الشامي بمفهوم نيتشه للروح الأبولوني، بينما نجد في الروح العراقي تلك التلقائية والتدفق اللذين غنى لهما نيتشه و نعتهما بالروح الديونيسي؟ هل يبتعد هجوم نيتشه المرير على عقلانية سقراط وقناعته بأن سبب تدهور التراجيديا الأسخيلوسية هو روح العقل والتهكم التي أشاعها سقراط ، عن ما يلح عليه فوزي من تدهور لروح الشعر الحارة بسبب عقلانية الشاميين من الشعراء؟ أخيرا لا آخرا ألا نزداد فهما لولع فوزي بالموسيقى في ضوء ما كتب نيتشه عن الطابع الديونيسي للموسيقى؟ ليسمح لي القارئ بمقارنة أخرى دالة؛ هذه المرة بين فوزي والبير كامو. يعرف من قرأ كامو أن الأطروحة الرئيسة في أدبه هي القول إن إخضاع ثراء التجربة وتلقائيتها لوعي عقلي منطقي يذهب بهاءها ويشقي من يتصدى لها. نحن نعلم أن رواية " الغريب" تبدأ في القسم الأول بتلقائية مارسو المسترسلة دون وساوس منطقية، ثم يخضعها القسم الثاني أثناء محاكمته لتفحص قضائي منطقي تفقد من خلاله تلقائيتها وبراءتها. كما أن رواية " السقطة" تقدم لنا كلومنس الذي يمارس تحليلا منطقيا صارما لمجمل حياته في أحد بارات أمستردام ينتهي إلى إفساد نبله و نجاحه المهني وغرامياته، وإلى شقاء ويأس. الوعي المنطقي والتجريدي مرض في عرف الفلسفة الوجودية، وهو كذلك وأكثر عند فوزي ومن بعده حسن. الانهماك الوجداني بالتجربة دون إخضاعها لفرضيات عقلانية مسبقة هو الحل الوحيد أمام سيزيف في " أسطورة سيزيف"، وأي عقلنة منطقية في تأمل ما يحدث له ستكون مصدر شقاء، وهو ما يدعو إليه فوزي وحسن. كان كامو يفكر قبل وفاته كما ذكر أحد أصدقائه بالسفر إلى الهند لدراسة الفلسفة الهندية بديلا عن الميتافيزيقا الغربية الباردة، و لا غرابة أن يرد في آخر رسالة إلكترونية كتبها فوزي لحسن قوله إنه ينوي تحويل اهتمامه إلى الشعر الهندي القديم فيقول: " الشعر الهندي القديم يشكل مشروع كتاب تعزز فيه النصوص موقفا نقديا أرى فيه ضرورة الاستدارة إلى الشعر المشرقي ليحقق التوازن المفقود بفعل الاستغراق في ثقافة الأدب الغربي." (ص 164) لنتذكر أخيرا أن هذه الرغبة في استلهام الشرق قد راودت الكثير من الوجوديين، وفي مقدمتهم هيرمان هيسه الذي قص علينا في " سد هارتا" حياة بوذا بصيغه يفهمها الغرب، وانتهى بطل روايته "ذئب البراري" إلى فهم بوذي للنفس أنقذه من الانتحار. ويبقى السؤال أين تكمن اسهامة فوزي كريم إذا كان قد حذا حذو الوجودية الأوربية بكل هذه الأمانة؟ لقد ترسبت قناعة مفادها أن مفهوم الدائرة التأويلية لا يقتصر على الجهود الفردية لجمع الأجزاء في كل دال كما فهمهما شلايرماخر و دلتاي، وإنما هو يشمل المدارس الفلسفية المختلفة التي ترى أنها ذات طابع ابستيمولوجي أكثر منه تأويليا. بل أن العلوم الطبيعية التي وضع دلتاي بينها وبين العلوم الانسانية خطا فاصلا غير نافذ، صارت اليوم تعامل على أنها خطط تأويلية تستند إلى استعارات ورؤى مسبقة، وهو مبحث شائك لا يتسع المجال له هنا. من المهم تأكيد أن خوف فوزي وحسن من أحادية الأنساق النظرية الكبرى، وهو خوف مشروع تمتد جذوره في تربة التجربة الدموية العراقية كما ذكرت آنفا، لم يعد مبررا في ظل نظرة تعددية لا تجد في المناهج المختلفة الكبرى إلا خطط مقاربة تأويلية تساعدنا على بلورة الأسئلة، انطلاقا من فكرة الفيلسوف والمؤرخ كولنجوود الذي يرى أن الأجوبة متعذرة بدون أسئلة واضحة. لقد ساعدت الوجودية فوزي كريم على بلورة رؤياه وأسئلته التي قارب بها جمرة التجربة العراقية بكل وهجها الفاجع. وهنا لا أجد في المسلمات النظرية ثقلا يحد من بصيرة المبدع، بقدر ما هي وسيلة استنطاق للتجربة تشحنها بالمعنى وتستلهمه منها. وهو الرأي الذي يدفعني إلى الاختلاف مع ما تردد في الكتاب وما اعتاد فوزي كريم نفسه على تكراره من أن أي انحياز فلسفي أو نظري أو منطقي سيضر بالتجربة الفنية. الواقع أن أحد أسرار قوة الإنجاز الأدبي لفوزي استلهامه العراقي لمقدمات الفلسفة الوجودية نفسها ( وهو أمر حدث في مجال الرواية مع شيخ الروائيين العراقيين فؤاد التكرلي). كما أني أتحفظ على كل محاولة للتهوين من شأن شعراء كبار من أمثال البياتي وسعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش بسبب التزامهم بمقدمات نظرية أضرت كما يرى منتقدوهم بتجربتهم الشعرية. نحن نعلم أن هؤلاء وقلائل غيرهم ـ من بينهم فوزي كريم دون شك ـ هم خيرة ما أنتجت حركة الحداثة الشعرية، وإن التزامهم بقضاياهم كان اللهب الذي نضجت على ناره اللاسعة تجربتهم الشعرية وآتت أكلها. ولا يعني احتفاؤنا باستقلال فوزي كريم عن الأحزاب والعقائد السائدة أن المنتمين إليها عاجزون عن الإبداع الشعري بسببها، بل هو يعني أن فوزي صار اليوم بوابتنا لكشف التعسف الذي مارسته الأحزاب الثوروية في حياتنا ومستقبلنا، وأن شعره هو البؤرة التي تتجمع فيها خيوط الفوضى واللامعنى والألم التي تمخضت عنها عقود طويلة من الشعارات البراقة. لا تكمن أهمية فوزي كريم الشاعر في الأجوبة التي يقدمها إلينا، وإنما في قدرته المدهشة على طرح الأسئلة وبلورة حالة التوتر والاضطراب واللامعنى التي يعيشها العراق منذ عقود في كتابة شعرية راقية وشجية. لقد أتاح له عدم انصياعه الوجوداني [نسبة إلى الفلسفة الوجودية] مرصدا خارج اللعبة كنت قد وصفته في دراستي عن "قارات الأوبئة" بأنه مرصد اللامكان، وبالتالي بصائر عزت على الكثيرين.
وأعود
إلى الناقد حسن ناظم فأقول إن مسعى فوزي إلى نسق يبث المعنى في تجربته،
لا إلى تصعيد شجي لتباريحه بمعونة الذاكرة ، يتضح من تبادل المواقع(7)
الذي نراه اليوم بينه وبين شاعرنا الكبير سعدي يوسف. علينا أن نتذكر
دائما أن التجربة الأدبية، كما هي التجربة المعيشة إجمالا، لا تقف عند
صيغة ساكنة معطاة مرة وإلى الأبد، بل هي صيرورة دائمة تتخلق بأشكال غير
متوقعة. اليوم يتخذ سعدي يوسف وفوزي كريم مواقف متضادة ومتطرفة مما
يحدث في العراق، وقد فعل حسن خيرا عندما نعتها بالتطرف. فسعدي لا يبدو
قادرا على العثور على جهة تمثله في كل ما يحدث في العراق اليوم؛ إنه ضد
الاحتلال، وضد الأحزاب السياسية كلها بما فيها حزبه، وضد ملايين
العراقيين الذي خرجوا للاقتراع. إنه يقف اليوم في لامكان فوزي دون شك.
من جهة أخرى نجد فوزي متفائلا بمستقبل الديمقراطية في العراق، يعتنق
المشروع السياسي المتعثر، ولا يجد في كل الأنهار من دماء العراقيين
التي تسفك يوميا على عتبات موصدة إلا ثمنا للحرية المنتظرة. إنه يقف في
موقع التمترس الأيديولوجي الذي عرفناه عن سعدي. لقد دفعه توقه إلى أمل،
ونسق، ومشروع دال إلى أن يحمل راية ويعتنق أيديولوجيا بعد عمر طويل من
المشاكسة والتملص. ولنتذكر جميعا أن سولجنتسين لم يحتفل عندما عاد إلى
روسيا بعد سقوط النظام الشيوعي، وظل ناقدا متذمرا ليحافظ على ذلك الحس
النقدي المشاكس الذي شيد عليه أدبه، والذي لا غنى لأي مجتمع حي يطمح في
الارتقاء عن حَمَلته. أقول هذا وأضيف أننا لا نلوم الشاعر على تطرفه في
الأمل أو القنوط ، هؤلاء شعراؤنا الكبار ينفعلون حتى النخاع بدوامة
القتل المستمرة في بلدهم منذ أكثر من ربع قرن دون توقف، وبرغم اللغة
النابية التي تميز تعليقات سعدي يوسف عن الحرب، والتي لا تتناسب مع
ماعرفنا عنه من رصانة، فأنا لا أجد فيها إذ أتابعها بأسف إلا الدليل
القاطع على أن من كتبها شاعر حق مشبوب العاطفة، لا سياسي محترف يحمل
راية بالية. كما أني لا أجد في حماس فوزي للمشروع السياسي في العراق،
برغم ما فيه من اندفاع وتسرع، خيانة تستحق اللوم. إن التحدي الحقيقي
أمام الثقافة العراقية اليوم هو أن تعي درس التعددية فيتحاور فوزي
وسعدي تحت سماء عراقية تتسع للجميع. والتعددية هي الوسيلة الوحيدة التي
نخفف بها من ريبتنا في المناهج والقناعات الكبرى لأنها تفتح الأفق أمام
كل المحاولات دون أن تسمح، بفضل غطائها الدستوري، لأي واحدة
بالاستبداد. أما الركون إلى مستوى الفهم وما قبل النظر العقلي، فهو دون
ريب مكمن الخطر المنذر بظهور أحادية جديدة؛ ونحن نعلم أن هنالك من يرى
أن نازية هيدجر تعود إلى تشكيكه الوجداني في مشروع التنوير الأوربي
العقلاني. ولنتذكر أيضا المحاولات الكبيرة التي بذلها أعلام كبار في
الفلسفة الحديثة، وأخص منهم دلتاي وريكور، من أجل الخروج بتأويلية
تعتمد النظر الأبستيمولوجي و تثرى به. ليست المشكلة في المنطق نفسه،
وإنما في خطر أن ندخله ونغلق منافذ العودة منه إلى ينابيع التجربة
المعيشة، فننتهي إلى الأحادية والاستبداد بالرأي. يقول أدسو في رواية "
أسم الوردة" لأمبرتو أيكو " لقد كنت دائما أظن أن المنطق سلاح شامل،
والآن أتفطن إلى أن صلاحيته تتوقف على الطريقة التي يستعمل بها. ومن
جهة أخرى، وبمخالطة أستاذي تفطنت، وتفطنت أكثر في الأيام الموالية، إلى
أن المنطق يمكن أن يصلح في كثير من الحالات على شرط أن ندخل فيه وأن
نخرج منه بعد ذلك."(8) يقدم لنا كتاب " أنسنة الشعر" محاولة نبيلة في إحياء البحث التأويلي في الشعر في زمن قتلت فيه المناهج الشكلية المكتفية بمساعيها الوصفية الشعر وأفقدته رواءه. وربما كان من سوء حظ الشعر أن ينبري علمان كبيران في الفلسفة المعاصرة هما سارتر وباختين إلى التهوين من جدوى النظر التأويلي للشعر، والقول إن الفن الروائي هو الأقدر على الاستجابة لمثل هذه الدراسات. وحجتهما أن الشعر فن لفظي بالمقام الأول. ونحن نعرف أن الشاعر و. هـ. أودن كان يسأل الشباب الراغبين في امتهان كتابة الشعر عما يدفعهم إلى ذلك، فإذا قالوا أن دافعهم هو التعبير عن مشاعر، وأحاسيس، وأفكار اختصوا بها، كان رده أن يفكروا بمجال آخر عدا الشعر، وإن كان دافعهم هو ولع باللغة، وأسرارها، وأصواتها، وهوس بقراءة قواميسها و اللعب بتراكيبها وألفاظها قال لهم امضوا في سبيلكم فأنتم شعراء. لا يمكن أن ننسى أن الشعر إبداع على مستوى اللغة بالمقام الأول، وما المشروع التأويلي الذي يطرحه حسن ناظم إلا تنبيه إلى أن الخصوصية التأويلية للشعر تكمن في أن لغته مشحونة بالكشوفات والمعاني حتى ليكاد كل حرف وكل فراغ (أو صمت في حالة الإلقاء) أن ينقل معنى مبتكرا لا يقدر عليه نمط آخر من أنماط الخطاب. و لو سألنا ما الذي يجعلنا مسحورين بقصائد فوزي كريم لا نمل معاودة قراءتها و تأملها، بينما نكتفي بقراءة أو اثنتين لكثير من قصائد مفجري اللغة والعابثين بها ( واللعب يختلف جذريا عن العبث لأنه يبدأ من قواعد يستمد منها قدرته على التوصيل والمشاركة(10))، لكانت الإجابة بدون شك براعة فوزي في موسيقى الشعر، وتمكنه الفريد من فصاحة العربية وبلاغتها الذي استمده من تعمقه في تراثها الطويل. وهي أمور يقدم حسن ناظم تفصيلا رائعا لها. إن أي مشروع لأحياء تأويلية الشعر لا يأخذ بنظر الاعتبار ما تراكم من جهود لغوية، وأسلوبية، و ابستيمولوجية في مقاربة الأدب سيحرم نفسه من موارد كبيرة لا غنى عنها.و د. حسن ناظم بتاريخه الطويل في مقاربة الشعر ونظرية الأدب يتوفر اليوم على عدة ممتازة لتقديم المزيد من القراءات الحية لشعرنا العراقي المعاصر. المهم أن يجد الوسيلة لدمج ماضيه الأسلوبي الحاذق بشجونه التأويلية الحية. وهو لها!
1. حسن ناظم، أنسنة الشعر: مدخل إلى حداثة أخرى؛ فوزي كريم نموذجاً (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006). الإشارات اللاحقة لصفحات الكتاب سترد بين قوسين. 2. حسن ناظم، البنى الأسلوبية: دراسة في ‘أنشودة المطر‘ للسياب، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002) ، ص ص. 34 ـ 39. 3. المصدر السابق، ص. 34. 4. قمت بترجمة هذا الكتاب إلى العربية وسيصدر بداية العام القادم عن دار الكتاب الجديد في بيروت. 5. فوزي كريم، ثياب الإمبراطور: الشعر و مرايا الحداثة الخادعة ( دمشق: دار المدى، 2000). 6 Jonathan Culler, Literary Theory: A very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 1997), p.3. 7. يقول سعدي يوسف: " يا وطني / نتبادل فيك المواقع/ كن مرة حكما لا تكن حاكما". و أعتقد أننا اليوم جميعا بأمس الحاجة لاستلهام هذه الأبيات الرائعة. 8. أمبرتو أيكو، "أسم الوردة"، ت: أحمد الصمعي (تونس: دار الصمعي للنشر، 1991) ، ص. 282. 9. ج. هيو سلفرمان، نصيات: بين الهرمنيوطيقا و التفكيكية، ت: حسن ناظم وعلي حاكم صالح (بيروت المركز الثقافي العربي، 2002)، انظر تحديدا الفصل الثاني " السيمياء والهرمنيوطيقا" ص ص. 47 ـ 57. 10. انظر ما كتبه غادامير عن مفهوم اللعب في كتابه " الحقيقة والمنهج"، والذي أنجز علي حاكم و د. حسن ناظم ترجمته بإقدام المتنافي.
(جهة الشعر ) |