فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

القصيدة في احتفائها

سعدي يوسف

 

    يدخلُ الناسُ بيتَ الشاعر ليروا القديس، فإذا بهم أمام الساحر. ليس من مقابلة هنا، فالاثنان يتكاملان على نحو أو آخر، وقد يثيران لدينا الدهشةَ ذاتها التي نستشعرها حين نرى لفلفاً طائراً نحو عشه المرتجى وهو يحملُ في منقاره صحيفةً أو علَماً أو غصناً عجيباً.

    يكفيك أن ترتدي بدلةً ذات ثلاث قطع، وتطيل من لحيتك، وتحمل عصا (كما فعل فوزي كريم في بغداد) حتى تدخلَ معادلة القديس والساحر، كأبهى ما تكون، وحتى يبدو الفصل بينهما أمراً مستحيلاً.

 

    منذ السطور الأولى، يأتي:

 

ملكٌ خطوتُه الأولى صلاة

(فتح البابَ وحياني)

وأعطاني الكتابا.

           من "حيث تبدأ الأشياء"

 

    ومنذ السطور الأولى، تأتي مطالبة الساحر:


مَهِّد العالم لي خبزاً
وسَوِّيهِ من الخمر جِراراً
لُفَّهُ من يَبَسِ التبغِ
...
              "حيث تبدأ الأشياء"


إذاً، نحن لم ننتظر طويلاً لنمسك بهذه الوحدة الثنائية، بهذين المتَّحدينِ في واحدٍ، ولسوف يظل الأمر هكذا، في المسيرة الشعرية الطويلة لفوزي كريمٍ. سوف يمسي القديس أكثر تأمُّلاً (أكثر يأساً؟)، وسوف تزداد مهارة الساحر (مرارتُه؟) في الصنعة الخطرة...
الحبلُ الذي اختار أن يتوازن عليه، حبلٌ دقيقٌ رقيقٌ، يشترط في ما يشترط، المعرفةَ والموسيقي والدُّربةَ المستمرة، كا يحتفي بالمُشاهدِ (المستمع المستمتع هنا) حضوراً أساساً لاكتمال المشهد.
    لقد بدأت اللعبة، جدَّ مبكرة.
    لكنّ فوزي كريم، لم يكن ليتوقّع، في سنِّه المبكرة آنذاك، أن هذه اللعبة سوف تستغرق حياته كاملة.
    بعد التمارين الشعرية في حيث تبدأ الأشياء ، وبالرغم من محاولةِ الميتافيزيقيا قبل الأوان في قصائد عن الموت، يصدر ديوان "ارفع يدي احتجاجاً" أواسط السبعينيات، ليؤكد خطوةَ شاعرٍ واثقةً، شاعرٍ كان جوّاباً في بيروت، وعاد إلى بغداد، وساحاتها المزدحمة المحتدمة، عاد تسبقه أسطورةٌ أو ما يشبه الأسطورة: هيامٌ لا حدَّ له بالحرية، وأغنيةُ حانةٍ.
    أعرفُ، من تجربتي، أن الجوّاب العائد كان يريد حقّاً أن يتحقّق على أرض وطنه، كان يريد لهذه الأرض الأولى أن تتمتّع، ولو قليلاً، بما تيَّمَهُ من أرض لبنان: تسامح الشارعِ، وفضفضة أُولي الأمر. لكنّ الحساسية لا تزال مرهفةً من هناك، فتكتشفُ العينُ، حتى بلا استكشافٍ مُضْنٍ، أنّ بغداد قاسيةٌ حدَّ إلغاءِ الإنسان
:


في الطريق إلى الفراش المفلس
لحظَ المهاجرُ قطّتينِ
هرّاً وقطّةً، إلى الفراش المفلس
يداعبان ظلَّهما الملغى
ويتنفسان بكآبة
. . . . . .
كم هو شقيٌّ هذا العالم
كم هو شقيّ...

    في تلك الأيام، والليالي بخاصّة، كان فوزي كريم شاعر المدينة بامتياز، يطوِّرُ نَصَّهُ، ويرتِّلُه، ويؤثر في الشبيبة، بهذا التطلُّع النزيه نحو الحرية، والجمال، والمعنى الكامن.
    لكنّ منطق السيرورة، كان في الاتجاه المعاكس تماماً.
    كانت القسوة تُطْبقُ على محاولة البهجة.
    وقبل ارتحاله النهائي عن وطنه، بوقت طويلٍ، حتى قبل صدور مجموعته التالية "جنونٌ من حجرط، يكتب فوزي كريم أغنية الرحيل التى حفظها أصدقاؤه وغنّوها معه:

أعطى الرياحَ خُطاه فاتحةً
للنفي،
ثم أشار،
وارتحلا...

    في "جنون من حجر" 1977، يدقِّقُ الشاعرُ في تفاصيل مرآتِه أوّلاً، وفي هذا اللامعقول الذي يتسوَّرُه، لامعقول بغداد السائرة إلى الهاوية متعجّلةَ الخُطى.
    الغريبُ في هذه المجموعة الممتازة، رباطةُ الجأش، والتحديقُ الثابتُ في قرارة الفاجعة، الماثلة مثل قَدَرٍ يتأتَّى جمالُ الإحاطةِ به، من فَرْطِ هوله. "جنون من حجر"، حين صدرتْ، أشارت بشجاعة خارقة، بسيطة، إلى ما يمكن أن يفعله الشعر، وإلى ما يمكن لشاعر أن يتخذه من موقف عبر النص. أهمية قصائد المجموعة، تتجلَّى، في الصياغة الشعرية الواثقة وهي تتناول من زاويتها، الهولَ المحيط، وفي التأني المرموق آنَ تنفيذ البانوراما الداخلية للهلاك. "جنونٌ من حجر" ليست تمتمةَ الهيّاب المرتاب. إنها التعبيرُ الخالصُ لامرئٍ هشٍّ، ضعيفٍ، محايدٍ، امرئٍ لم يَدَّعِ في العلم فلسفةً، ولا في السياسة ممارسةً... لكنّ تعبيره تجاوز شجاعةَ الشجعان:

يا ضريح الفرات الجميل
وطني غادرٌ
فمتى ازددتُ حُبّاً يكنْ أجملا .
والذي ظلَّ بين جراحي وبين النخيل
وجههُ مهملا،
صار مشنقتي
يا ضريح الفرات الجميل...

    التماهي بين فوزي كريم وحسين مردان، عبر المراثي، هو الآخر علامةٌ أيضاً. لكأنّ الشاعر الشاب التيّاه بأطروحة التمرد في زمنِ الامتثال، رأى في حسين مردان الكهل، مثاله، إلا أنه المثالُ المنتَهكُ، المثالُ الذي لم يعد قادراً على الوفاء بما يستلزمه، ربما بسبٍ من وَهَنٍ، أو بسببٍ من طبْعٍ، أو بسببٍ من تجبُّرٍ أفقدَ المثالَ إمكانَ الفعل.
    ماذا بمقدور البدلة ذات القطع الثلاث، واللحية، والعصا، أن تفعل؟

ماذا تقول إذا غادرَ البردُ؟
وحدكَ؟

في الساعة الواحدة

ليلاً

 وبين الركن والمائدة

يتركه: البار الذي يغلَق والكرسيّ والزجاجة الباردة.

وفي الرصيف يحتمي بزهرة المجهولْ،

منطوياً،

يداه في معطفه المبلول

ثم يولِّي...

ملغياً كل المواعيد ولا يقول!

 .
    يحلو للشاعر، أحياناً، شأن الشعراء سواه، الحديثُ عن إشكالاتٍ في الشعر، قائمةٍ منذ ولادة الشعر؛ ولربما توصَّلَ فوزي كريم إلى قناعةٍ أو اقتناع بهذه النتيجة أو تلك (لا أعني السجال وما يشبهه الذي يخوضه بالمصادفة)، ولأتمثَّلْ هنا وضعَه الأسطورة والتاريخ موضع المتضادَّين، مقترباً من رأي أوكتافيو باز، وإن كان باز أقلَّ حدَّةً في التناول. إن فوزي كريم لا يرى وراء التاريخ سوي الايديولوجيا، بينما الأسطورةُ جوهرٌ، (إن الأسطورة جوهر الشعر)*.

    لكنك، في استقصائك شعر فوزي كريم، متقصِّياً الأسطورةَ، فلن تعثر إلا على آثارٍ خفيّةٍ لها، تقترب من الموروث أكثر من الأسطورة. خذ على سبيل المثال قصيدة "لا، لن أعود إلى الطفولة" ( ص320 من قصائد مختارة (إنها تقترح مقترباتٍ شعبيةً ذات أصولٍ أسطوريّة، ولا تَعْمد إلى جعل الأسطورة مادَّة عملٍ، وكذلك قصيدة "جزر نائية" (ص306 من القصائد المختارة ذاتها):

في جزرٍ نائيةٍ
أراقبُ النجمة إذ تخفق فوق ظهر سلحفاةْ
والحوتَ إذ يلصفُ كالفضة.
أخطُّ من ذاكرتي في الرمل ما يمسحه الموج، وفي أناةْ
أكتبُه ثانيةً.
أجزُّ، كالماعز، صوف جسدي
أنسجُ منه ثوب كتماني، فلا أدفأ.

    عند فوزي كريم رغبةٌ ملحّةٌ في التمايز الفكريّ، ظلَّ أميناً لتبعاتها، في أطروحات يردِّدها، ثنائية الطابع في الغالب، ومتمتعة بحماسةٍ بالغة.  لكنّ العجيب في الأمر، أن قصائده تنأى بوضوح عن معظم أطروحاته الفكرية.
    وفي رأيي، أن المادة الحيوية التي يشتغل عليها فوزي كريم في قصائده هي أكثر ملموسيّةً وحدَّةً وخشونةً من الخضوع لهذه الأطروحة أو تلك. إن شعره احتفاءٌ بالحياة، عبر استقبالٍ حُرٍّ لها.
    وهذه الواقعية التي تضجُّ تحت السطح هي اعتبار الأمانة.
    هنا تدخل "قارات الأوبئة ـ سيرة ذاتية" المكتوبة في العام 1991، دخولَها المهيبَ، لتؤشِّر إلى أمرين، غير الواقعية الضّاجّة التي كنتُ ذكرتُها، وهما:
    صراحةٌ غير معهودة، وتَخَلٍّ عن الحذر من الخطاب المباشر:

من أنت؟ يقول الحجّابُ. أقولُ أنا
من يكتب شعراً ميتافيزيقيّاً...

    نحن، إذاً، في لندن، العاصمة الإمبراطورية، حيث بإمكان الشاعر أن يشرب من فوّهة القنينة ، لكنه الآن، في هذه اللحظة بالذات، يشرب نخب مروحة النخل على النهر في العراق البعيد، ونخبَ:

بلادٍ سيئة الطالع
بيتٍ في الكرخ توارى عن نظر الأيام،
صديقٍ ذُوِّبَ في حوض الأسيد،
وآخر يرعى كالفزّاعة حقل الألغام...

    أعتقد أن " قارات الأوبئة" من أفضل النصوص، إن لم تكن الأفضل إطلاقاً، دليلاً إلى العمل في القصيدة، إلى الشغل الشعري، عند فوزي كريم. وعلى الذين يأخذون على الشاعر، ما يحسبونه تحفُّظاً أو محافظةً، وهو مأخذٌ غير واردٍ أساساً، أقول على هؤلاء أن يقرأوا هذه القصيدة، حسبُ، كي يتلمَّسوا، ولو تَلَمُّسَ الأعمى، أي حريّةٍ يتمتع بها هذا الشاعر، في محاولة النص، وأي لعبةٍ مغريةٍ أتقنَ أدواتها الصعبة.
    لكن هذا الشاعر الذي لم يؤخذ بالصوفيّ، صديقه، في مقهى إبراهيم ، ولم يؤخذ بشعار الثوريّ، صديقه، من أجل المبدأ، هذا الشاعر الذي طمع بكأسٍ في گاردينيا ، كتب أبهى النصوص صراحةً في إدانة البرابرة، أعني "قارات الأوبئة"، غير مكترثٍ بالمعادلات والتهيُّبات. "قارات الأوبئة" هي صرخة الإنسان المطلق ضد الشر المطلق، وستبقى نصّاً يحتاج إلي المزيد من القراءة والاستقراء والتقرِّي، يحتاج إلى المزيد من الاعتبار، نصّاً فيه من محاولة الفن قدر ما فيه من الشجاعة:

يشدّ الطفلُ حذاءَ الجنديّ المشنوق
يشدّ الطفلُ
فتطول الرقبةُ والحبلُ
ويطول الليل.

    أين يمضي فوزي كريم بنفسه؟
    أين يمضي بنا؟

    إنه، وقبل عامين، فقط، في 1998 بالضبط، كتب "يا بديلي"
:


أيها الشاحبُ النحيلُ،

يا بديلي،

يكفيك هذا القليلُ
من بقايا
دربٍ نحاوله وثباً

وأفقٍ نرتاب فيما يقولُ
سعة الليل في ثيابي، وبيتي

نفقٌ عاثر الخطي معقولُ
كلما داهمَ النزيفُ دمائي

واحتواني جُنحُ الضحايا الثقيلُ
تتراءى: كأن نهرين حلاّ في حناياي واصطفاني النخيلُ
أيها الشاحبُ الجميلُ
أيها الشاحبُ الجميلُ...

    ليست استراحةً، هذه التي يدعونا إليها.
إنها التحريضة المستسرّةُ. اللسعةُ التي تحْرمك هناءةَ المخدَّةِ الطريّة، ونعمةَ النسيان.
وحينما تتغلغلُ في دمك الذي كاد يتخثّر، قطرةُ السُّم هذه، تحسّ كما لم تحسَّ حتى قبل عقودٍ، بأن دمك صار خفيفاً كقوس قُزح، وبأنك الفتي الذي لا يزال بمقدوره أن يرتقي الجبل وثباً، حتى القمّة العالية، حيث الهباءُ المقدَّس...

    أعمالُ فوزي كريم الشعريّة، ليست كالأعمال الأخرى، وهذا أمرٌ بَدَهيٌّ.
    لكني أعود لأؤكدَ أنها ليست كالأعمال الأخرى، منطلقاً من حقيقة بسيطة، هي أن شاعراً قليل الادِّعاء، أطلقَ صيحته، كأعمق ما تكون الصيحة، وكأعلى ما تكون الصيحةُ، في آن
...

 

*  أنظر مقدمة "قصائد مختارة"، القاهرة 1995، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

سعدي يوسف
لندن
2000/10/3

(مقدمة للأعمال الشعرية)

 

 
 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail