فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

الشاعر العزيز فوزي كريم

لقد أسرع الزمن ولم نعد نقوى على اللحاق به، وكأننا بالأمس جلسنا معا في ستوديو التلفزيون نتحاور في موضوع فلم جيد. وها نحن اليوم نتحاور وكأننا نكمل ذاك اللقاء، بالرغم من ثقل السنين والغربة. لكني اليوم أود من خلال هذا الحوار أن أقدمك لأبناء شعبنا بالدرجة الأولى كما أنت، ولنحاول بلغة بسيطة بالرغم من عمق المعنى والمعرفة والخبرة أن نوصلها لهم.

لن أخوض معك في حوار معقد من خلال ما كتب عنك وعن كتبك ودواوين شعرك، لأنني أفترض أن عددا كبيرا من الجيل الجديد الذي وُلد ونشأ بعد مغادرتنا العراق لم يطلع على أعمالك أو حتى لم يعرفك. لن أتحدث عنك كما اعتاد إعلاميو الوقت الحاضر عن ضيوفهم في مقدمة أنتَ في غنى عنها. ولأدع القراء يتعرفون عليك من خلال كل كلمة تقولها. لأبدأ إذن بما اعتدت سؤاله:

 

·       في أي مدينة عراقية نشأت؟

 

* بغدادي النشأة. "الصاية" و"الچراوية" و "اليمني" عناصر ثابتة في زي أبي. ولكن محلتنا البغدادية كانت تستكين في طرف معزول نسبياً عن أحياء قلب بغداد التاريخية. "العباسية" جزء صغير من محلة "كرادة مريم"، قد لا تتجاوز بيوتها المئة إلا بقليل. لا تخلوا من طبيعة شبه ريفية: النخيل، وزراعة محلية للخضار، وصيد الأسماك. إلا أن معظم شبانها طلبة مدينيون وموظفو دولة. أبي كان يملك مركباً بخارياً مع حاملة نقل قبل ولادتي، ثم عاملاً في إدارة هذا المركب في سنوات بناء جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية لاحقاً) في طفولتي، ثم بائع فاكهة وخضار في محلة العباسية، في سنوات صباي ومراهقتي. قبل سنوات استعدت هيئته في لوحة بورتريت زيتية ملحقة بهذا الحوار.

     إذا توقفت في منتصف شارع أبي نؤاس (الرصافة) ستكون "العباسية" في الواجهة تماماً، على الضفة الأخرى (الكرخ). بيوت معظمها متواضعة ومن طابق واحد، يظللها النخيل، وتحجب شاطئها الزوارق. الزوارق كانت وسائل عمل للصيد، للأجرة، لعبور النهر، أو لمهمات الشبان التي لا تخلوا من المغامرات الشخصية. أجمل مهماتها هو العبور المبكر في الربيع الى الجزر الرملية التي تطلع كالجنيات في منتصف النهر القريب من الرصافة. هناك تُبنى الچوادر من الحصران، وتُزرع القثّاء واللوبيا. ضرب من احتفاء سحري بالطبيعة والحياة جملة. كل هذا انطفأ مع مجيء حكم البعث. تحولت حرية الاحتفاء بالطبيعة الى واجب الاحتفاء بالسلطة، بالحزب، وبالقائد. تحول الاحتفاء بالإنسان الملتبس الغامض الى الاحتفاء بالفكرة اليقينية.

    ولأن الكتاب، والتساؤلات، والحيرات المراهقة لم تكن مألوفة في محلتنا، وأنها حلّت في كياني أول الصبا بصورة غامضة، لا قدرة لي على استعادة لحظات نشأتها ونموها، فإن الظن يذهب بي الى أن هذا التحول من الانسان الى الفكرة (التي بدت في أبسط أشكالها: وطنية، قومية، أممية، أو دينية، طائفية...) هو الذي قادني اليها، أو هو الذي ربط كياني بها هذا الربط المصيري المحكم. أذكر أن الكتاب كان يحتل مكاناً في صباي لا يبدو ذا صلة ظاهرة بالتساؤلات والحيرات. لأنني كنت أحرص على اقتناء كتب التراث وحدها، أقرأ واحتفي بعثراتي على أسطرها، وبعدم إدراكي لمراميها. كنت أحتفي بالصوت الموسيقي، الذي يصدر عن شفتي من بوحها ووحيها. وكانت محاكاتي لهذا الصوت المبهم في درس الإنشاء مصدر تندر من قبل طلبة الصف، في المدرسة، ومصدر معاتبة حانية من قبل مدرس العربية. إنها لم تكن تمنحني معنى، وتثبت لدي موقفاً، يلتحمان في الظاهر على الأقل مع التساؤلات والحيرات. ولكن هذا الكتاب (هذا الشيء الذي يمنح رائحة وملمساً وشكلاُ أعمق تأثيراً من معناه) كان يبعث بي تنهدات كتلك التي تصدر بفعل التساؤل والحيرة. أو بفعل الحب.

    كنا، أنا وأخوتي، مثل كل أبناء المحلة نعيش عملياًً خارج جدران البيت، ولكن داخل جدران المحلة. خارج دائرة العائلة، ولكن داخل دائرة عائلة المحلة الكبيرة. وكل ما في المحلة من نخيل وأشجار توت وسدر، وأسماك كان مباحاً لنا، وبصورة مشتركة. سرقة النارنج عبر أسوار البيوتات الكبيرة، وسرقة الباذنجان من مزروعات علوان الهندية، كان مباحاً بصورة أكثر لذاذة، لأنه أكثر سرية وأخطر مغامرةً. لم أكن عفريت أبناء جيلي. كنت على العكس موضع ثقة، وعلى شيء من السكينة. الكتاب الذي صرت أُقرن به كان أشبة بحاجز بيني وبين الآخرين: قد يُطل أحدهم علي عبره متعاطفاً، أو مرتاباُ، أو ساخراُ. يعتمد الأمر على موقف هذا الأحد من أمر الانشغال بالقراءة والمعرفة لدى الصبيان. لأن شاغل المعرفة لدي لم يرد إليهم معززاً بختم المدرسة الرسمي. وإلا لكنت مقبولاً دون شرط من الجميع. ولكن شاغل المعرفة جاء من الكتب الغريبة، التي كنت أجمع لها الفلس فوق الفلس لشرائها، من سوق السراي البعيد!

*  هذا بالنسبة للكِتاب. وماذا عن عالم الرسم وكيف دخلته؟

 

 * مع دخول مملكة الكتاب السحرية كنت دخلت مملكة الرسم والنحت. الحجارة التي أنتخبها من سد ضفاف دجلة، وقد رُصفت صيانة لمنحدرات محلتنا من الفيضان، كانت أكثر من كافية لنحت وجوه وأشكال تمنحني مسرة استثنائية. أما الرسم فكنت أطرز به حواشي كتبي المدرسية بصورة ملفتة للنظر. ولم تكن الموسيقى غائبة عن مملكتي السحرية آنذاك. قراءات الشعشاعي وأبي العينين الشعيشع للقرآن لا تني تتداخل مع رابسودي "فرانس ليست" (ما كنت أعرف المؤلف آنذاك) الذي اعتدت سماعه مقدمة لتمثيلية الأسبوع في راديو بغداد. هذه الأعمدة الذهبية لمملكتي السحرية مازالت تحيطني حتى اليوم. الفضل في معمارها يعود الى "العباسية" و"لندن" وحدهما. وما أحاطني بينهما من سنوات بغداد والعراق والعالم العربي لم يكن غير وعيد وتهديد دائم بالتخريب والهدم.

*ولكن لابد من تأثير للعائلة عليك، أخص بالذكر أولا الأبوين، خاصة وأنهما لم يغيبا عن قصائدك؟

    في سنوات الابتدائية الأولى عادة ما أبدو في الصباح محشوراً بواجب لم أنجزه. تأخذ أمي من يدي القلم والدفتر. تحاول، بعد تأمل الحروف والكلمات والفقرات الواجب نقلها وتكرارها، إعادة رسم ما تراه، وتكراره. وأنا أجلس الى جانبها برضا القانع دون حرج. كانت لا تُحسن القراءة والكتابة. ولكنها تحسن الاستنساخ الحرفي، مدفوعة بضرورة أداء الواجب المدرسي بنفسها، حين تعجز في الليل عن استثارتي اليه، أو إجباري عليه. لم أر أمي منذ انتباهتي الأولى إلا بالچرغد والفوطة الأسودين. كنت السادس من أبنائها. الخامس الذي سبقني مات بحادث سيارة. ولعل أمي نذرت نفسها للون الأسود منذ ذلك اليوم، إذْ لم أرها خارج ردائها الأسود حتى وفاتها. كانت غاية في الرضا والقناعة ومرونة الطبع. هادئة تدب في البيت لغرض الرعاية وحدها. ظل ابتسامتها الدائمة يخفي أسى دفيناً، هو أسى المسؤولية التي تشعر أن كيانها يعجز عن الوفاء لها كفاية. أو أن قدراً لا يُطمأن اليه لا يترك للكيانات الجافلة غير الانقياد راضية قانعة.

    أبي، الذي لا يُحسن القراءة والكتابة هو الآخر، كان لا يقل حرصاً عن أمي على تواصل أبنائه الدراسي. ولكنه طالما عجز عن ذلك مع أبنائه الكبار. أراه بالچراوية والصاية واليمني الأحمر في صباح خروجه الى العمل، وعند عودته منه. وفي البيت يكتفي بالدشداشة والعرقچين. وبالرغم من أنه مات في أواخر الخمسينات من عمره، إلا أنه كان يبدو لي، بفعل اللباس وهالة الوقار، مسناً منذ طفولتي المبكرة. مهابته لم تكن نتاج قسوة في طبعه. لا أذكر أنه ضربني يوماً، أو ضرب أحداً من أخوتي وأخواتي، فهو يكتفي بالتوبيخ. بل هي نتاج مران مع الرجولة المبكرة، تُلقي على الكائن مسحة من الصمت والأسى الدفين. ولعل خير دليل على رغبته القصوى بالاتزان أن زواجه من امرأتين داخل جدران بيتنا الطيني الصغير لم يترك على الأبناء ظلاً، مهما خف ثقله، من تناحر وتنافس. أذكر أني، حتى بعد أن تجاوزت سن العاشرة، لم أجدني مضطراً للتساؤل عن أمي الحقيقية بين الزوجتين المؤطرتين بالسواد. فقد عشنا تحت رعاية الزوجة الأولى، التي لم تنجب لأبي إلا ولداً واحداً، الأمر الذي اضطره للزواج الإضافي الذي منحه ثمانية أبناء. أخي الذي يصغرني، بفعل تعلقه بها، غادر معها الى بيت إقامتها الجديد مع ابنها البكر يوم زواجه.

    هذه الاستعادة تعني أن علاقتي بهما لم تكن إلا علاقة بيدين حانيتين، وقلب مُشفق. كلاهما توفيا في وقت مبكر من عمرهما، وأنا في ذروة المراهقة وأول الشباب. المجموعة الشعرية الأولى "حيث تبدأ الأشياء" تكاد تشكل أصداء التكوين الأول. التي ترددت من حدث موت أمي. صورة أبي الغائب وجدتها عائدة بشيء من الإلحاح في قصائد السنوات المتأخرة، في المنفى.

 

* ماذا عن المدرسة والأقران أو الأصدقاء وهل بينهم من المعروفين في الوسط الثقافي: كتاب رسامون الخ..؟ وذكرياتك معهم.

 

* ربما كنت الوحيد (الى جانب أخي الفنان صادق طعمة)، من بين إخوتي، الذي واصل دراسته حتى الشهادة الجامعية. سنوات الجامعة (كلية الآداب، اللغة العربية) كانت أكثر سنوات الدراسة ضحالة في المعرفة. ولعلي اخترت اللغة العربية هرباً من الدراسة الجدية، لا رغبة بتعميق وعيي بها. فقد كنت قبل الالتحاق بها وثيق الصلة بتراث العربية، وبالشعر وأوزانه. وأنجزت أكثر من دراسة في حقل التراث، نشرت شيئا منها في كتابي النقدي الأول "من الغربة حتى وعي الغربة"(وزارة الثقافة، 1972).

    من بين صحبتي في "العباسية" الذين تركت فيهم أثراً دفعهم الى حقل الفن: أخي صادق طعمة، وصديق الصبا والشباب، رسام الكاريكاتير الراحل عباس فاضل. وممن يكبرونني في "العباسية" من المثقفين ذوي الصلة كان الأخوان هادي العلوي وحسن العلوي من أبرزهم. في مرحلة النضج كانت صحبتي لا تقل تأثيراً على أسماء بارزة: مثل عبد الستار ناصر، محمود جنداري، أحمد خلف، سعيد فرحان، خزعل الماجدي...وآخرين.

    ذكرياتي معهم تؤرخ لمرحلة الستينيات والسبعينيات في الأدب العراقي المعاصر. وهي كما ترين مرحلة لا سبيل الى استعادتها في حوار كهذا. على اني استعدت شيئا منها في كتابي "العودة الى گاردينيا" (دار المدى 2004).

 

* دراستك الجامعية. ماذا أضافت إليك كشاعر، وهل من الضروري أن يدرس الشاعر اللغة العربية وبحور الشعر بشكل علمي، في الوقت الذي أرى فيه أن الكثيرين لا يعرفون شيئاً عنها؟.

 

* لم تُضف الدراسة الجامعية الكثير. لقد كنت شاعراً، أنشر في المجلات والصحف المحلية، ثم العربية،  قبل دخولي الجامعة. أذكر أني في معظم امتحانات البلاغة الثقيلة الدم، كنت أؤلف الشواهد الشعرية المطلوبة في ورقة الامتحان لساعتها. كان الأمر أهون لدي من أن استذكر شواهد من الشعر العربي. أردت بهذا أن الموهبة الشعرية هي بالأساس موهبة في الإحساس باللغة وموسيقى اللغة. ما من موهبة شعرية تكتشف هذه الحساسية فيما بعد. إنما تعمقها وتجذّرها  وتطورها فقط. لعل هذه الحقيقة هي واحدة من أكبر مشاكلنا في تحديد الموهبة الشعرية، في حياتنا الأدبية المعاصرة. الكثير ممن يكتبون الشعر (أو يعنون بنقده!) هذه الأيام يتجنبون الخوض في هذا الموضوع، أو يتجاوزونه، وينكرونه عن عمد. لا لأنهم يفتقدون هذه الحساسية في أنفسهم فقط، بل يرغبون في خط مسار نظري للشعر جديد يغمط حق الموهبة الشعرية في احتلال موقعها الطبيعي. الموهبة الشعرية تشبه قدرة الحنجرة على الأداء اللحني المؤثر. كان الناقد الموسيقي النمساوي هانسلك، المنتصر لبرامز ضد فاغنر، على معرفة واستيعاب مذهلين للقوانين الموسيقية، ولكنه لا يحسن أداء لحن على لسانه. واليوم يجد كثير منا موقفه من فاغنر واهياً، وخاليا من الأصالة. المواهب الشعرية تتفاوت بالتأكيد، وهذا أمر جد طبيعي. ولكن شعراء اليوم ليسوا بالضرورة مواهب متفاوتة. بل هناك الشاعر بينهم، والدخيل على الشعر. وهي ظاهرة تكاد تكون جديدة تماماً.

 

·       سؤال بسيط وعادي. متى بدأت كتابة الشعر؟

 

* لا أذكر. المرحلة المبكرة تكاد تكون غائمة بفعل اختلاط المسعى الأدبي، الشعري، بالمسعى الفني: نحت، رسم، موسيقى. كنت شديد الولع بالتراث، كما قلت. ثم صرت أطلع على القصيدة الحديثة، التي تترك بياضاً آسراً في الصفحة لم تكن تحققه القصيدة العمودية. البياض يلغي الشكل الهندسي الذي يُقبل على العين بهيئة بلوكات حادة. القصيدة الحديثة بتفاوت أبياتها تمنح البياض فرصة لمزيد من التداخل، التساوق، والتعارض الشكلي. حين صرت أقلد القصيدة الحديثة كنت أباشر اللعب مع البياض. لم أكن أفهم الحرية الشعرية الجديدة إلا عبر الحرية البصرية. ثم أني صرت أتعامل مع الكلمة وصوتها، ولأول مرة، باعتبارها ذات قيمة في ذاتها. مستقلة مثل كوكب. كان هذا يتم بصورة جدْ بدائية بالتأكيد. حين جاء السياب، وكان أول الوافدين على صباي الشعري، حقق صلة الوصل السحرية بين الكلمة الشعرية وأختها، وبينها وبين خبرة كياني الداخلية. أكثر من مجموعة شعرية كتبت، بالشكل العمودي والشكل الجديد، قبل أن أجمع قصائد "حيث تبدأ الأشياء" وأنشرها عام 1968.

 

 

·       يقال أن الموهبة في الجينات، فأنت الشاعر والرسام، ولأخيك صادق طعمة موهبة فائقة في الرسم. لذا يتبادر إلى ذهني في الفور هذا السؤال: من سبقكم في العائلة بذلك، خاصة وأن أغلب أمهاتنا من الأميات اللاتي طمرت مواهبهن الظروف الاجتماعية القاسية مثلا، لكنهن سعين من أجل أبنائهن ليكملوا الدرب؟

 

   * لا شك أن هناك موهبة ما كامنة في الجينات. وأن فاعليتها منذ وقت جد مبكر تبدو مقطوعة عن تأثيرات المحيط تماماً. وبالرغم من أن الغرب المتحضر يحفل بمواهب تعجيزية، في حقل الموسيقى الكلاسيكية خاصة، وبالرغم من أن هذه المواهب عادة ما تطلع داخل عائلة ليست عارية تماماً من المناخ الموسيقي، إلا أن هذه الموهبة أو تلك تكاد تطلع وحدها، متميزة عن بقية الأبناء الذين ينتمون للتربة ذاتها، وللمناخ ذاته!

    ولدت ونشأت في بيت لم يألف الكتاب. ولم يألف مجلات الأطفال المزينة بالرسوم والألوان. هذا إذا ما استثنينا الكتاب المدرسي. نعم، أذكر في طفولتي أنني شاهدت أحد أخوتي الكبار وهو منشغل برسم بورتريت لعبد الناصر. ولكن حدث ذلك بعد أن كنت قد شغلت هوامش كتبي المدرسية وغير المدرسية بالرسوم. ثم كيف حلت الحجارة بين يدي جاهزة للنحت؟ ونحن نعرف أن النحت يلي الولع بالرسم بعد مسافة قصية. ثم كيف استحوذ الكتاب ومحاكاته على اهتمامي، وطوى الرسم والنحت بين دفتيه؟ ولم كتاب التراث، الذي يستعصي على فهمي، وحده؟ وما معنى اللذاذة في القراءة المصوّتة، التي تصحبني عادتها حتى اليوم؟ وما معنى الحساسية الملهمة بملمس الورق، ونسيجه، ورائحته؟ كانت كتب طه حسين وحدها التي تلت كتب التراث في القراءة المصوّتة. كتب طه حسين بطباعة دار المعارف، دار المعارف آنذاك، وحدها. حتى أنني، في إحدى سفراتي الى القاهرة، وقعت على كتاب "الفتنة الكبرى" في طبعته الأولى، فخاب ظني في ملمس الورق ورائحته. بقيت تلك النشوة الروحية عالقة دونه في ذاكرتي وحدها. لم يتغير الورق ملمساً ورائحة بالتأكيد. بل تغير الزمن الفاصل بيننا وحده.

    لو سألت أخي الفنان صادق طعمة السؤال ذاته، لوجد إجابته جاهزة، في أن موهبته وجدت مناخاً خصباً بالكتب والرسم والموسيقى، هيأه له أخوه الذي يكبره بسنوات.

 

·       لقد غادرت العراق إلى لبنان في بداية السبعينيات لماذا، حدثنا عن تلك التجربة وما الذي أضافته لك؟

 

* بيروت، كانت تبدو لنا النافذة الوحيدة المضاءة، ولكن عن بعد. هناك تصدر مجلة الآداب، مجلة شعر، ثم مجلة مواقف الأدونيسية، نافذتنا على أدبنا العراقي والعربي والعالمي. وهناك الملاذ العربي الوحيد للهارب من قمع النظام العربي، وقمع الرقابة الفكرية العربية. وهناك كل ملامح الثورة الفلسطينية في مرحلة فتوتها. وهناك انتشت أسماؤنا كشعراء وكتاب، وتوزعت إلي العالم العربي. ومن هناك كانت تصلنا رسائل إعجاب حارة من شعراء وكتاب، كانت أسماؤهم ترتبط برياح الجديد والطليعي المنعشة.

    كنت قد عُينت مدرساً بعد تخرجي من كلية الآداب. وبالرغم من أن مذاق التدريس كان حلو الطعم، بعد مرحلة تلمذة طويلة، إلا أن مرارة حادة بدت تتسرب فيه، وتفسده. مرارة اقتحامات سلطة البعث واتحاده الوطني. وبالرغم من أني لم أُحسب على طرف سياسي، واكتفيت بصفة الشاعر الذي لا انتماء له، إلا أن ثانوية المحمودية لم تخل أسبوعاً من رجل أمن يقتحم الإدارة، محققاً بشأني. كنت أيامها قد أصدرت ديواني الأول "حيث تبدأ الأشياء". وبهذا صرت موضع نظر من قبل مرحلة لم تترك حيزاً لكيان إنساني لا منتمٍ. بدا الأمر لي حينها مريعاً. وبدوت نبتة عارية من أية حماية في أرض بوار.

    كان هذا العامل الشخصي حاسما، بالإضافة إلي العامل الثقافي الموضوعي السابق، لأن يجعلني أكثر جرأة للمغادرة. ولم أترك خبر هجرتي عند أحد، حتى الأهل. لعل القلة التي سبقتني إلي بيروت من الستينيين كان عمران القيسي وشريف الربيعي. ثم بدأت موجة الهجرة الجماعية لعشرات ممن انتسبوا للثورة الفلسطينية.

    كانت هجرتي محض فردية. وما كانت لي صلة تُذكر بأي فاعلية سياسية فلسطينية. وربما لهذا السبب بقيت طوال مرحلة المنفى البيروتي دون عمل محدد، غير الإسهامات النقدية والشعرية في مجلات: الآداب، شعر، مواقف، شؤون فلسطينية، الهدف، ملحق النهار (باسم مستعار هو نبيل توفيق)....

    كان أدونيس أول من عرف مني رغبتي في البقاء. وكان أول يد حانية للعون والدعم. وبقي طوال منفى السنتين والنصف كذلك. وكان كرم ومحبة أدباء بيروت لا تقل عن كرم ومحبة أدونيس. كانوا ظاهري الإعجاب بهذه الكيانات الإبداعية الضاجة، المتعارضة الطباع.

عرفونا بالاسم قبل مجيئنا، ثم أُحيط ظهورنا على ساحتهم بمشاعر خليطة من الإعجاب والدهشة والحذر.

    في بيروت كتبت قصائد ظهرت في مجموعة "أرفع يدي احتجاجاً". هذا الاحتجاج الذي ما كان له أن يتحقق لو كنت بقيت في بغداد. كان هذا الاحتجاج ينطلق من موقف أخلاقي ضد الشر، وجمالي ضد القبح، وميتا فيزيقي ضد القدر الأعمى. ولقد منحتني الحياة البيروتية الإحساس بمشروعية موقفي، بالرغم من أني كنت دائم الشك بقدرة، أو رغبة، مثقف المرحلة (المنتمي والملتزم) باستيعاب مشروعية هذا الموقف! ولقد أضفى هذا لوناً حاسماً على مشاعر اليتم والتشرد

·       هل تجد نفسك بأنك تنتمي إلى جيل الستينيات أم السبعينيات وهما حقبتان زمنيتان ازدهرت فيهما الثقافة في العراق؟. أرجو الحديث عنها وعن روادها في الأدب والفن.

 

 

* أنا ستيني بالتأكيد. على أنني من أصغر الستينيين عمراً. السبعينيون جاءوا في مرحلة مختلفة، جديدة، ومحددة. مرحلة حكم الحزب الواحد. ومرحلة المعارضة العقائدية الواحدة. أمر لم يكن لنا به عهد. نشأنا داخل مناخ تسويغ الحرية النسبية، المشوبة بالفوضى. هم نشأوا في مناخ تسويغ الرقابة، واعتقال العقل داخل العقيدة. تحدياتنا كانت لا تخلوا من عبث ضاحك. تحدياتهم لا عهد لها بالعبث، بل بالواجب الذي لا رغبة لهم فيه. الثقافة ازدهرت في مرحلتنا، ثم تواصل ازدهارها في سنوات مرحلتهم الأولى، إلي أن تمكن حزب السلطة الواحد من التحكم بمصير الأفكار والأفراد. حينها ذبلت المرحلة، وتحولت مع الأيام إلي رماد.

    في مرحلتنا ازدهرت أشكال التعبير الشعري، في شتى التوجهات، التي تعتمد الأصالة، أو النزعة الطليعية. وليس غريباً أن تجد كل الأشكال لدى شاعر واحد: قصيدة البحور الموروثة، قصيدة التفعيلة، القصيدة المدورة، القصيدة البصرية، قصيدة النثر...الخ. في مرحلتهم انسحبت القصيدة، بصورة ما، إلي شكل واحد، هو شكل قصيدة النثر مغلقة في الغالب. ولم يبدُ الأمر وليد إرادة طليقة، بل وليد نزعة هرب إلي شكل قادر أن يحيط الشاعر وإرادته، وحريته، وتطلعاته داخل عبوة مغلقة، ناسفة ولكن دون توقيت. المواقف النقدية النظرية تبعت الخطوات ذاتها.

    السبعينيون جيل أكثر تراجيدية من جيلنا بكثير.

    بشأن جيلي الستيني لا أملك في حوارنا هذا أن أضيف الكثير على ما قلت في كتابيَّ: "ثياب الإمبراطور" و "تهافت الستينيين"، وفي مقالات عديدة. ولأن كتاباتي فُهمت، من قبل البعض للأسف، على أنها خالصة السلبية، ولم تنفذ بهم إلي الجذور التي سعيت إلي إضاءتها، المتعلقة بطبيعة الموروث العربي، وطبيعة مرحلة التخلف المطبقة، لا بطبيعة المواهب الفردية وحدها، أقول: بسبب ذلك سأحاول هنا أن أوسع الإضاءة باتجاه ما أراه مزايا فريدة لجيلنا.

    لقد حدثت في هذه المرحلة اندفاعة باتجاه الارتياب بمشروعية التوجه الإديولوجي. ولكن المؤسف أن النتائج العملية لهذه التوجه لم تتحقق في أفراد جيلنا، بل في الجيل الذي تلانا. بالرغم من أن الجيل التالي لم يكن محظوظاً إذْ وقع في براثن مرحلة سلطة الحزب الواحد، مما جعلته، مضطراً، إلي التعامل مع إبداعه ومع الحياة بصورة مزدوجة.

    الجيل الستيني حقق صراعا مثمراً بين عناصره المتعارضة: باتجاه المواصلة التاريخية لتطور القصيدة، واتجاه التزام القفزات. وكل من الاتجاهين كثير التنوع، وعميقة. إن صوتاً فاعلاً في الشعر والنثر لفاضل العزاوي، باتجاه الإيمان بالفكرة وحرية طفر المراحل، كان واضح الحضور في استثارة التوجه النقيض. على أن شاعراً وقاصاً مثل سركون بولص لم يكن كذلك، ولا في الطرف النقيض، بل في الطرف الذي لا يمنح ثقلاً لقداسة الأفكار، ويمنح العالمي البعيد سيماء المحلي الكامن في الكيان الداخلي. في حين يبدو طرف ثالث مثل حسب الشيخ جعفر في منأى، وباتجاه الاحتراب الداخلي وحده. شعراء، قد يكون المنفى بهواً مُضاءً لأسماء عدد منهم: فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، سركون بولص، علي جعفر العلاق،عبد الكريم گاصد، فوزي كريم... على أن آخرين طمر أسماءهم البهو المعتم في سنوات الدكتاتورية داخل العراق.

    أرجو أن تعفيني من التوسع في استعادة المرحلة، التي تظم العديد من الأسماء اللامعة في حقول الشعر والقصة والنقد وبقية الفنون. وعن إيجاز تريني اقتصرت على الشعر، وعلى نماذج لا تخفى أهميتها.       

·       عندما كنت مراهقة لم تفارقني كتب شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب، وبكيته عندما غادر ومازال يحز في نفسي غيابه، هل تعتقد هناك شاعر عراقي يستطيع أن يؤثر شعره بهذا الجيل بنفس مستوى تأثير السياب الذي مازال حاضراً حتى يومنا هذا؟

 

 

* أنا الآخر كنت في مرحلة الصبا والمراهقة أقرأ السياب، وبكيته يوم مات. وبالرغم من أن أحزان السياب عراقية تماماً، وقد يصعب على العربي أن يستجيب لها بالطريقة ذاتها التي يستجيب لها العراقي، إلا أنها تتطلب عنصراً شخصياً آخر للاستجابة. حساسية خاصة قد تصح عليها تسمية الحساسية المنطوية. تلك الطبيعة التي تجعل الفرد يشعر أنه فرد حقاً، وأنه في عزلة ووحدة، بالرغم من الإحاطة الحميمة للعائلة، الأصدقاء، وللناس، وان الإيمان بالأفكار الكبرى قد لا يمت بصلة للأفكار ذاتها، وأن هذه الأفكار الكبرى ذاتها نسبية وخلودها وهم. حساسية كهذه لها أن تشعر أن استجابتها للمطر، على خلاف كثيرين، استجابة تنهدات أسيانة وحزينة. المذهل لدى السياب إحساسه العميق بالذنب، وأنه أوهن وأضعف من أن يؤدي الدور الذي ألزمه القدر به. من هنا ترين أن ما من شاعر عراقي أو عربي، من جيل السياب أو الأجيال التي تلته، يضاهيه في تأثيره. لأنك ألفتِ الشعراء العرب عموماً على هيئة المتنبي، أبطالاًً، أشداء، ونبوئيين! والإنسان يرهب هؤلاء بطبعه، ويأمن الشاعر الذي يضاهيه ضعفاً، وعجزاً. إن الدموع التي يستدرها السياب من عيون قارئه ليست دموع عطف على الشاعر، ولا على النفس. بل وليدة إحساس بالمشاركة أمام قدر شرير لا يُقاوم.

    لهذا السبب أفردت السياب في كتبي النقدية، مع قلة قليلة من الشعراء العرب قد يكون الشاعر الحديث صلاح عبد الصبور والشعراء القدامى المعري وأبي نؤاس من أبرزهم، في الضفة الصحية المتعافية الصغيرة من الشعر العربي، الذي تتزاحم على ضفته الواسعة الأخرى البطولاتُ والنبوءاتُ والتعاليات النفّاجة بملكية مفاتيح الأسرار.

    بالتأكيد لن يستطيع شاعر من ضفة السياب أن يبلغ التأثير ذاته على قراء الشعر. وهذه ميزة الريادة على كل حال، وميزة السياب الذي حقق توازناً بين متطلبات القارئ العام للشعر، الذي تتردد فيه أصداء الموروث الشعري العربي، وبين متطلبات القارئ الخاص للشعر الحقيقي، العارف بحجم التحديات. الشعراء القلة في ضفة السياب حققوا هذا التوازن ولكن ليس بدافع رضا القارئ. لقد حاولوا الذهاب أبعد مما ذهب السياب، بفعل دوافع إضافية، مثل اتساع أفق المرحلة، واتساع الثقافة الفردية. ولذلك لن يطمعوا بتأثير كتأثير السياب، ولنْ ينشغلوا بهم كهذا، على كل حال.

 

·       لقد كتب السياب قصائد سميت بالسياسية، أي تماشي الظروف السياسية في ذلك الوقت. هل تعتقد أنها كانت صادقة ومتينة؟

 

* كل القصائد التي تسمى سياسية للسياب إنما تتوزع على محورين. المحور الأول: كانت القصيدة فيه استجابة حقيقية من قبل الشاعر، لأن مادتها التاريخية كانت حية وملهمة في زمنها، مثل قصائده عن العراق، الجزائر وفلسطين. والقراءة الفاحصة لهذه القصائد، التي كتبت معظمها في الخمسينات، إنما تعكس تعارضات جوهرية بين متطلبات القصيدة السياسية المعهودة من شعر اليسار آنذاك، وبين متطلبات المعترك الداخلي للشاعر ذاته. كان مناخ السياب الغائم، الحزين، المتزاحم بمشاعر القصور والذنب هو الذي يمنح النص الشعري (السياسي!)عمقه ومدى تأثيره. حتى أن وضوح هذا الجانب كان مبعث عدم ارتياح لكثير من نقاده اليساريين آنذاك، ومصدر جاذبية لغير اليساريين. ولم يكن أحداً منهم على حق بالتأكيد. كان كل منهم يسعى لأن تكون القصيدة وعاءً لأفكار ينتصرون له. في حين كانت قصيدة السياب، شأن كل قصيدة حقيقية، وليدة معترك داخلي على شيء كثير من الغموض والالتباس. ولعل قصيدة "أنشودة المطر" الشهيرة أروع مثال على ذلك. إن من الحماقة محاولة تفسير كل هذا الأسى الذي يراه الشاعر في المياه والأقمار والنخيل، وكل هذه الدموع في الأمطار والندى، على أنها وليدة ظلم السلطة، وانعدام التوازن الطبقي والعدالة الاجتماعية!

    المحور الثاني في قصائده السياسية هو ما أملي عليه قسراً من قبل سلطة الشعر السياسي وسلطة الشارع السياسي, وهي سلطات أقسى وأعنف من أن يواجهها شاعر واهن القوة والإرادة كالسياب. ومعظم هذه القصائد، على قلتها، إنما أمليت عليه في أواخر عمره، وفي ذروة وحدته وضعفه. إنّ إملاء كهذا حدث في قصائد المحور الأول أيضاً، وبصورة نبهت عليها في كتابي "ثياب الإمبراطور". ولكنه ظهر في إشارة أو جزء من القصيدة الواحدة. ويمكن الإشارة إلى المقطع الختامي من قصيدة "أنشودة المطر" نموذجاً لذلك.   

السياب كان شأن كل المثقفين العراقيين، منذ الأربعينيات والخمسينيات، مثقفاً سياسياً، أو مثقفاً يسارياً. كان هذا الخيار الأكثر نقاهة وصحة، وتماشياً مع مقتضيات الموجة الثورية، التحررية في العالم، وفي العالم الثالث خاصة. هوية اليساري كانت لازمة لمفهوم المثقف. وهذه الظاهرة ظلت سارية المفعول إلى اليوم، بالرغم من موجة التساؤلات والحيرات والشكوك التي تسربت في قلب وعقل بعض الأفراد من الأجيال الجديدة، بفعل الانهيارات الدامية المفاجئة والمتتالية في العقد الأخير، أو العقدين الأخيرين. ولكن السياب كان، من جانب آخر، يملك كيان شاعر ذي تطلعات غير مأسورة بمتطلبات التاريخ، أو الأحداث التاريخية المتسارعة. الشاعر اليساري يربط قدر الإنسان ومصيره بحركة التاريخ هذه. قدر الإنسان لدى شاعر مثل السياب يرتبط بمدار أبعد من متغيرات التاريخ. إنه يعيش دراما مع قدر أعمى، تماماً كأقدار التراجيديا اليونانية. إن الإحساس العميق بالفقدان، والحرمان من الحب، أو الأمان، وافتقاد مفاتيح تساؤلاته بشأن الحب، والخوف، والله، والآخر، والعدالة، والموت، واستجابة الجمال، والحقيقة...الخ، لن تطمئن إلي إرادة التاريخ، وفاعلية المواقف النظرية فيه. قد يجد ملاذه الأخير في غنائه ذاته. وكان السياب، بعد يأسه من إمكانية الحب، ومن مقاومة الموت، ومن تحقق التناغم الإنساني مع الآخر، والجمال، والحرية الداخلية، بطلاً تراجيديا، في مرحلة عربية تخلو من البطولة، عدا البطولة العضلية، والبطولة الإعلامية (السياسيتين، أو العقائديتين!).

 

    

·       برأيك هل التحزب يحدد من حرية الكاتب أو الفنان؟

 

    إن أي إيمان يقيني بفكرة واحدة يحدد من حرية العقل. على أنه يلغي الروح تماماً. التحزب هو أعلى مراحل الإيمان بفكرة واحدة. ولكن لنا أن نفهم أن الكثير من الفنانين أو الشعراء المتحزبين، يستعينون في الخفاء بحالة انفصام تسهل عليهم محاولة ممارسة الدورين: دور المؤمن العقائدي، ودور الشاعر الفالت من محاولة اعتقال روحه. حتى لو عرف أن خلق توافق صحي بينهما أمر غير ممكن.

    الفنان أو الشاعر الحقيقي يسعى إلي تعميق إيمانه بالإنسان لا بالفكرة. كم تعالت الفكرة في التاريخ، بسبب الإيمان المطلق واليقيني بها، على الإنسان، وكمْ سُحق كالجرذ باسمها؟! 

*هل يوجد شعر سياسي؟ أم نسميه شعراً يخدم مرحلة سياسية معينة؟

 

* للأسف، لدينا الكثير من الشعر السياسي، بالمعنى العقائدي. حتى القصائد التي ترفع الوطن وحب الوطن إلى مستوى القداسة، تنتمي إلى هذا الشعر. الوطن هو الأم، الأب، الصديق، ملاعب الصبا، خمارة الشباب، وزوايا مغامراته المسرة. الشعر العقائدي جرد الوطن من كل هذه العناصر المتعلقة بالإنسان، ورفعه إلى مستوى الفكرة المجردة، وقدسه. بل هو جرّده ليقدسه.

    يمكن اعتبار كل هذا المسعى التأويلي عارضاً، لو لم تخلف ظاهرة تقديس الأفكار كل هذا النزيف الدامي، والقتل الجماعي، والخراب الضارب!  

 

 * عندما صدر كتابك ثياب الإمبراطور، كتب عنه الكثيرون ولكن هناك من كتب عنه دون أن يعرف محتواه ففسره على أنه يرمز إلى الرئيس السابق وما أشبه ذلك، فهل لك أن توضح لمثل هؤلاء أو لمن لم يقرأ الكتاب لماذا أعطيته هذا العنوان؟  

   

* "ثياب الإمبراطور الجديدة" حكاية للأطفال للكاتب الدنماركي الشهير أندرسون. وهي مألوفة في ثقافتنا العربية، وفي الثقافة العالمية بالتأكيد. الحكاية تتحدث عن محتالين يحيطون إمبراطوراً ساذجاً بمشروع ثياب له احتفالية، من رقتها ونعومة ملمسها أنها لا تُرى ولا تلمس. وفي ساعة استعراضه لثيابه أمام الجماهير، الضاجة بسحر ما ترى من الثياب الخفية (من رقتها)، يصرخ طفل بريء من بينهم:" ولكن الإمبراطور عار دون ثياب!". الأمر الذي يُفزع الجماهير ويعيدها إلى حقها في التساؤل والتحقق بشأن ما لا ترى. الحكاية تنطوي على مادة رمزية عالية الطاقة في التعبير عن تبادل حالة الإيهام، والتوهم الخادع. هذا ما وجدته يحدث بصورة غير قابلة لأن تخفى على القارئ، الذي يملك حق التساؤل، بأن ما يقرأ من شعر ونقد للشعر، وثقافة شائعة ونقد لهذه الثقافة من هستريا الخداع المتبادل بين كتاب الأدب والشعر والمعنيين بقراءته. لقد اتسعت كالسرطان ظاهرة الاحتفاء الخادع بالإبداع الجديد، الذي لا يطاله وعي العامة ولا الخاصة من قراء العربية. العامة عافت الخدعة لأصحابها وهجرت الكتاب ولم تعد تقرأ، والخاصة صارت تقرأ مضطرة، وتطرب كذباً، خشية أن تُتهم بالتخلف وتدني الوعي الحداثي، إن هي تساءلت، بأن معظم ما تقرأه لا يُمتع عقلاً ولا قلباً ولا مذاقاً! وهو محض إيهام، وليد تخلف وهزال في التربية والثقافة يضاهي التخلف السياسي والاجتماعي الضارب. إن تهريج مثقفي الأدب والفكر السياسي لا يقل خطورة تأثير على الحياة عن الخداع الضارب في سياسة السلطات العربية وأجهزة إعلامها. المريع أن معظم مثقفي الأدب والفكر السياسي يخادعون الآخر والنفس بأنهم معارضة نقدية لما يحدث، مبرأة من "إعلام السلطة" السياسي والثقافي والتربوي. على أنهم في الحقيقة بُناة "الإعلام السياسي والثقافي والتربوي" لهذه السلطة منذ الخمسينيات. بناة سلطة ما أسميه "ثقافة الإعلام" الجديدة التي بلغت أعلى مراحل وضوحها. هناك توافق، وراء السطح الخادع، بين معظم شعارات الطرفين. حتى بلغت النتيجة مستوى لم يعد يخفى على الجماهير المحتفية بالثياب الزائفة للإمبراطور، لا على الطفل البريء وحده. انظري إلى الصحافة العربية من المحيط إلى الخليج، والى الصحافة العربية التي تصدر في عموم الغرب والعالم، كيف تظهر (أو تُدعم) مالياً من قبل مؤسسة الدولة، وكيف تظهر وتُدعم من قبل تحرير الأدباء والمثقفين. انظري إلى أجهزة التلفزيون والراديو العربية من المحيط إلى الخليج وفي عموم الغرب والعالم، والى برامجها الثقافية الطليعية. انظري إلى المهرجانان والندوات والجوائز التي تقيمها السلطات على ساعد وعقل أدباء الطليعة المتمردة. انظري إلى دور النشر. انظري إلى أبسط فعالية أدبية وثقافية. ستجدين استحواذ الطليعة الثورية المتمردة على كل مفاصل هذه الأنشطة. وستجدين أن الذي يجرؤ أن يكون طفلا متسائلا في مهرجان التهريج الثقافي لن يُترك له أدنى مجال في كل هذه الأنشطة، وستعتم عليه الأضواء الإعلامية من كل جانب. فأنا أجرؤ، على سبيل المثال وحده، أن أعلن لك بأني، وقد بلغت الستين عاماً، وتجاوزت كتبي الشعرية والنقدية العشرين، لم أُدع إلى واحدة من هذه المهرجانات والندوات الضاجة في العالم العربي وخارجه على امتداد ربع قرن من الزمان. بل دُعيت بفعل اقتراح غافل ثم حُذف اسمي مرات عديدة. فقط لأني قلت ما يمس المحرّم على ما يبدو. وفقط لأن القيمين على هذه الأنشطة هم حداثيي الطليعة المتمردة الثورية ذاتها. مع أني احتفي بالخلاف، وليد حرية العقل، لا الخلاف الشخصي. 

 

* وأنا أقرأ شعرك، تعمدت أن لا أرى تاريخ كتابة القصيدة، وفوجئت بقصائد تتحدث عن الغربة كتبتها وأنت في العراق. أعلم أن هناك غربتين الأولى غربة الإنسان في روحه ووطنه، والثانية المتعارف عليها خارجه. ألا ترى ربما قد تكون الأولى أكثر قسوة من الثانية؟

 

* هناك، إن أردت صورة اغتراب الشاعر في العمق، ثلاثة درجات، تنمو الواحدة داخل الأخرى، متغذية منها، مسلحة بها. غربة الشاعر داخل لغته الأم: منذ لحظة معرفته بأنه ينفرد بتعامل خاص مع اللغة غير تعامل الاستخدام النفعي المألوف بين أبناء أمته. اللغة وسيلة لدى الناس، في العمل والعلم. هو لا يريدها وسيلة، بل قرابة أن تكون غاية لذاتها، تماماً كما يحاول الرسام مع اللون، والموسيقي مع الصوت. يشعر أن هذه اللغة مستخدمة حد الاستهلاك والألفة التامة. أنها هجرت بصورة تامة ومطلقة تطابقها مع أصلها العيني التي انطلقت منه. كلمة شجرة كانت في الأصل شجرة مجسدة لحواس الإنسان الخمس. البدائي كان حين يريد أن يعني شجرة يصوّت بما يشبه شجرة من أصوات، أو يكتب رموزاً تشبه شجرة، أو يغني أو يرقص شجرةً.  ثم بدأ يستخدم الاسم  كرمز صوتي لهذا الشيء الحي في الطبيعة، ثم مع السنوات انفصلت الكلمة واستقلت وتجردت عن الأصل الحسي. القاموس هو الشكل المتعالي الجليل لهذا الاستقلال للغة كرموز. الشاعر يحن للأصل البدائي، الطبيعي من استخدام الصوت المتطابق مع الطبيعة وأشيائها، وأحيائها. يشعر بغربة عميقة مع لغة الاستخدام النفعي. يريد كلمات تعني ذاتها، ولا تحيل بالإشارة الرمزية المجردة إلى ما هو غائب وراءها. أمر يبدو مستعصياً، دون دعم لقوى داخلية تستثير الدم في العروق. من هنا تبدو الموسيقى خطيرة الفاعلية في الاستثارة. الشاعر كان يغني، يرقص، يهلوس، يُجن، من أجل استثارة تقتلع الكلمات من صيغة استخدامها النفعي، الرمزي، المستهلك، لتعيدها متطابقة مع الشيء في الحياة والطبيعة. كل شؤون ما نسميه البلاغة ليس إلا محاولات تقنية تعين الشاعر في الإفلات من هذا الاغتراب العميق الجذور عن اللغة المستهلكة. لغة القاموس.

    الشاعر يتحاور ويتعامل بصورة جد صافية مع أطراف لا تبدو مرئية وحاضرة داخل التاريخ، والعرف، والقانون، وتعاملات السوق، واللغة. مع كل ما يبدو ظاهراً، ومتعارفاً عليه في مجتمعه ووطنه. هذه التحاور والتعامل الصافي يُظهره كمن يتعامل مع أشباح. أشبه بمخبول يعني بصيرته ما لا يعني بصر الناس. إنه يحدق بمفهوم الحرية في ألسنة الناس وعقولهم فيجدها خلطة مثيرة للشفقة. يحدق في "الحرية" فيجدها مثار بلبلة بمعان تتكاثر وتتعارض وتغيم. الحرية تتوافق مع الفوضى، وتتعارض مع القانون، ولكنها أيضاً جوهراً إنسانياً مضيئاً. أنا حر وصدام حسين حر بمقدار أكثر! ما هي الحرية؟ يتساءل ولا يجيب. والأمر ذاته مع "الحب"، ما هو؟ هل، حين ينتهي إلى كراهية في حالاته الكثيرة، ينطوي على كراهية في الجوهر؟ كم مقدار نفعيته، ومقدار نزاهته عن النفعية؟ وهل النفعية تفسده، وتميته النزاهة؟

    قد تبدو تساؤلات كهذه فلسفية الطابع. ولكنها، في حقيقتها الحارة داخل جسد وعقل الإنسان، شعرية. الشعر الإنساني في العالم لا يحيد عن هذا المسار الجدي. شعر الحب في أروع أشكاله ليس شعر تطريب وتزو يق، أو تعبير عن عواطف سطحية. شعر نزار قباني ليس شعر حب، بل شعر عن المرأة أو باسمها. ولعله، في هذا، شعر عالي التميز وفريد. كما أن شعر كثير من السياسيين العقائديين ليس شعراً عن الحرية. بل هو تغنٍ بالمفهوم المجرد. بالكلمة التي أحسنت صياغتها وتزويقها الكتب السياسية، العقائدية. والتي لا وجود لها على الأرض.

    تستشفين من كلامي هذا أني أُقصر عنصر الغربة على شعراء قلة محددين. وأني أعتبر عنصر الاغتراب هذا عنصراً حاسما لشاعرية الشاعر. وهذا ما أريده بالتأكيد.

    شاعر المنفى والغربة عن البيت والأهل والأصدقاء والوطن، هو شاعر يحمل وطأة الغربتين السابقتين ضمناً. شاعر يدخل بحران التساؤلات الكبرى. حياة المنفى الطويل أكثر تعقيداً وطيات مما تصوره قصيدة المنفى التطريبية، شأن أختها قصيدة الحب والقصيدة الملتزمة العربيتين. شاعر المنفى يعيش زمنه السابق، وقد لا يغادره. يعيش هو وذاكرته ضيفاً على زمن حاضر لا ينتسب إليه. قد يكون هذا الزمن المضيّف احتضانياً، كريما ونافعاً. ولكنه لن ينتصر على قوة الذاكرة الحية. زمن الذاكرة إذا بقي حي التأثير، ففاعليته معذّبة، لأنها فاعلية لا تُسمن إلا الذاكرة داخل الغياب. هذا التعارض التراجيدي كامن في فاعلية الزمن المضيّف الجديد أيضاً. فهو بمقدار منفعته واحتضانه يبدو معذّباً هو الآخر، لأنه يحاول أن يمنحك طمأنينة المعتقل داخل زمن لن يكفي الوقت للانتساب الكلي إليه. طرفا الأذى لا تتوقف فاعليتهما حتى النهاية.    

 

 

·       لاحظت أن ارتباطك بالموسيقى شديد جدا وحبك لموتسارت وغيره، حتى أنك خلدتهم في قصائدك، وما زلتَ تزور بيت موتسارت وتتكلم عنه. هل تعتقد أن على الفرد بشكل عام أن يتثقف موسيقيا، وهل يتم بشكل ذاتي كما في حالتك، أم على المؤسسات الثقافية أن تنمي وتطور هذا الإحساس لدى الفرد؟

 

* في عالمنا العربي لا يمكن أن نعول على المؤسسات الرسمية في التربية الموسيقية. ثم أن الأمر، على هدى سؤالك، يتصل بثقافة المثقف الموسيقية. أو بعلاقة الشاعر بالذات بالموسيقى.

    أعتقد أن الأمر على شيء من التشعب، لا التعقيد. في الغرب تبدو الموسيقى الجدية (أو الكلاسيكية) عنصراً جوهرياً من عناصر المعرفة، ولا يستقيم مفهوم المثقف الحقيقي دونها. لا يمكن العثور على روائي، ناقد، فيلسوف، وشاعر، مهما أجهدنا أنفسنا بالتنقيب، لم يسجل انطباعات عميقة، في رسالة، أو يومية، أو مقالة، أو حوار، أو دراسة، في الشأن الموسيقي. أمر يكاد يبدو مستحيلاً. وأنا أكثر تمتعاً وانتفاعاً بنتاج هؤلاء من دراسات نقاد الموسيقى. ولذا أستطيع بيسر أن أستنتج أن الموسيقى لدى الأديب والشاعر والفنان الغربي عنصرٌ أساس، لا خيار دونه.

    وبما أن الموسيقى الجدية إرث إنساني لكل شعوب الأرض، فغيابها من حقل الأديب، الشاعر، والفنان العربي، يشكل أكثر من قصور، يجعلنا نرتاب بتعريف المثقف دونها ارتياباً مقلقاً. نعم، نحن لا نملك إرثاً موسيقياً جدياً متواصلاً في حياتنا التربوية والمعرفية. ولكن التراث العربي يزدحم بالفكر الموسيقي النظري بصورة مذهلة. ثم إننا لم نملك إرثاً تربوياً ومعرفياً في الرواية والمسرح والرسم والسينما! ولكن المثقف العربي، الذي شرّع أبوابه لثقافة الغرب، عرف كيف ينتفع لخلق وتنمية هذه الحقول في ثقافته.

    إذن، لماذا وقف عاجزاً أمام حقل الموسيقى الجدية وحده؟

    في إيران، تركيا، الهند، الصين، اليابان ثمة موروث متواصل للموسيقى الجدية، على الصعيدين: النظري والعملي. في العربية لا نملك من هذا الموروث إلا صعيده النظري، ولقد طمره غبار الأيام المنهارة. المثقف العربي الحديث والجديد محمول بمهمتين سلبيتين: هارب، بفعل الانهيار، من نفسه. وغارق، بفعل الهرب من النفس، في صراع غير مجدٍ مع ثقافة الغرب المتقدمة والنائية (باسم صراع الحضارات!!). صراع الحضارات المفبرك هذا منحه فرصة تعزيز مشاعر النقص لديه، وإعطائها سمة العزة القومية. تقبّل السينما والمسرح والفن البصري لأنها تتناغم مع الجانب المفرط الحسيّة في مجسّاته. الموسيقى الطربية، الترفيهية، والموسيقى الشعبية فائقة في التناغم مع هذه الحسية. ولذلك حاول أن يختلق داخلها موسيقى يعتقد أنها رفيعة، تليق به ويليق بها. (فيروز، خليفة، تلحين قصائد حداثية، أو نضالية، أو أسطورية..). مع أن هذه الأنشطة تنتسب للموسيقى الشعبية، أو الموسيقى الجماهيرية. ولا يقلل من شأنها عدم انتسابها مطلقاً للموسيقى الجدية!

    الإسلام ذاته، بنسيجه العربي، لم يقصّر في تعزيز هذا الجانب الحسي، الى أن استوعب ثقافات الشعوب الشرقية، فاغتنى بالجانب الروحي. حينها دبّ هاجس التصوف في الثقافة، ومعه دبّ هاجس الموسيقى الجدية. ولكن في الحقل النظري وحده. بقيت هذه الموسيقى الجدية رهينة كتب التصوف، وكتب الفلسفة. وهما حقلان نائيان عن مثقف الأدب والشعر.

    بقيت الأذن وسيلة حسية تستثقل ما يسمو عن الحس. حتى في الشعر لم تستطع أن تستوعب إلا الانتقال من الوزن الى اللاوزن. ولم تدرك أن الوزن غير الموسيقى. وأن الوزن عنصر حسابي لضبط الايقاع في الموسيقى الشعرية. تماماً كالطبلة داخل تيار اللحن الموسيقي.

    في التراث العربي كان هناك رابط ثقافي واضح بين الشعر والموسيقى، وبين الشاعر والموسيقي. وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج شاهد رائع على ذلك. اليوم لدينا أكثر من شاهد على غياب هذه العلاقة!

    والآن، ما معنى أن نرتضي غياب هذه العلاقة، بأي حجة كانت (وما أكثر حجج العاجز!)، مع معرفتنا اليقينية بضرورتها؟ وما معنى أن لا يكتفي أحدنا بالرضا هذا، بل يسعى الى توكيد تطفل هذا الفن الغربي الثقيل علينا، وعلى ثقافتنا القومية الأصيلة، كما يفعل عدد من مثقفي حداثة هذه الأيام؟!! مع أنني حين أسمي "الموسيقى الجدية"، إنما يمتد سمعي الى هذه الموسيقى في أوربا وأمريكا وروسيا الغرب، والى إيران، وهند، وصين، ويابان الشرق، على حدٍّ سواء. غافلاً عن ثقافة العرب الموسيقية، لأنها ضاجة بموسيقى الترفيه وحدها، حتى لو صبّت قوالبها (باسم المثقفين) على قصائد نزار قباني، محمود درويش، أو كلكامش.

    أرجو أن لا تخلطي هذا الرأي حول الموسيقى الجدية بذائقتي الشخصية في الشأن الموسيقى العام. فأنا أحب سماع هذه الموسيقى الشعبية (فيروز، أم كلثوم...الخ)، وأميل أكثر الى الأكثر شعبية (يوسف عمر، زهور حسين، داخل حسن....الخ). فهي الموسيقى التي تعكس روح الشعب الذي أنتمي اليه، شأن كل موسيقى شعبية لدى شعوب الأرض.

    أرجو أن يكون موقفي السابق المفصل نسبياً واضحاً. لأنني سأستنتج، على ضوئه، أن المثقف، الشاعر والفنان خاصة، سيبدو لي دائم النقص دون السعي الى تربية أذنه الموسيقية. وليس غريباً أن تسمعين بأن أكثر الشعراء دربة عادة ما يجد قصيدته تبدأ من مجرد أصوات. من مجرد أصوات كلمات.     

*من هو المثقف برأيك؟ وهل الثقافة تنحصر في قراءة الكتب والتعلم والمعرفة، أم سلوك، وإلا تحول الفرد إلى مكتبة متجولة؟

 

* أحسب أنك تقصدين بعبارة المكتبة المتجولة حين يكون المثقف مجرد كيان لعرض ما يعرف، وما يفكر به، عرضاً عضلياً. حين يحول المعرفة الى سلم منافع جاه وسلطة، وتعزيز أنا مريضة بالنرجسية؟ أمر لا اختلاف عليه. ثم أنه أمر بالغ الشيوع في ثقافتنا. ولا أريد العودة الى موضوع "ثقافة الاعلام"، فقد تحدثت عنها كفاية، هنا وفي أمكنة أخرى. ثم أني أعد لها كتاباً في تعريف المصطلح واستيعاب الظاهرة.

    المثقف كيان أسهمت الطبيعة في انتخابه بالتأكيد. الثقافة التي اهتدى اليها مسعى لرفع الانسان الى النموذج الأسمى. طرق هذا المسعى لا متناهية التنوع. ثم أن هذا المسعى لا يتحدد بقواعد أخلاقية وأعراف مسبقة. إنه يتطلع الى الضوء أبداً، حتى لو كان تطلعه صارخاً، نداباً، تراجيدياً. المثقف هو الذي يحسن معرفة الكائن الانساني كشبكة تعارضات. وأنه كيان رائع بسببها. لأن هذه التعارضات وحدها هي سر ديناميكيته وتطوره. ما من كيان يسكنه الله وحده. وما من كيان يسكنه الشيطان وحده. اللون الأحمر لدى الرسام ليس لونا واحداً مطلق الدرجة. الانسان درة الأرض العزيزة. لأنه وحده القادر على السعي وسط المصطرع، ووحده الواعي لقيمة المسعى. وليس غريباً أن يعرف أن إحساسه بالعبث واللاجدوى والتمزق ليس إلا نتاج المسعى ذاته للسمو. من هنا يبدو ألم المبدع مشرقاً، أحزانه عزاءً، وليله ينطوي على إضاءات، عميقة ولكن مرئية للعين الثاقبة. ومن هنا أيضاً أن مفكري العقائد عادة ما يكفّرون المبدع في ألامه وأحزانه وليله الغامض. يريدون مسعى عضلياً، لا يقبل التعارضات. يرون الانسان عبداً عابراً للفكرة الخالدة. مجرد مطية معبأة بالأسود أو بالأبيض. بالله، أو بالشيطان. بالخير أو بالشر.

    المثقف الحقيقي الذي يعرف، بالبداهة، أن الإنسان مسعى الفكرة. وليس الفكرة مسعى الانسان. قد يتعثر الانسان في مسعاه بمئات الأفكار، وينفضها نفض الرداء، حين يجدها غير صالحة. وأن الفكرة وليدة مسعى الانسان ذاته، والمثقف هو من يحذر من أن تغلب هذه الفكرة على الانسان وتستعبده. لأن الانسان، في الغريزة، يسعى الى العبادة والخضوع. عبادة إله كلي القدرة غريزة فيه، يناضل المثقف في تصفيتها من شوائب غلبة الفكرة، وما يمكن أن تتلبس به من قداسة كلي القدرة، التي تبدو قداسة إنسانية بقدر ما تتسع وترحب، اتساع ورحابة كلي القدرة. ولكي أقرب الفكرة إليك بمثال لك أن تتأملي ما يحدث هذه السنوات باسم الله والإيمان. على أنه في حقيقته يحدث مدفوعاً بقداسة العقيدة والفكرة، لا كلية قدرة الله، التي تفترض الاتساع والرحابة. إن مطاحن سلفيي السنة مع سلفيي الشيعة هي باسم الله، ولكن ليس من أجله. لقد اختفى الإله كلي القدرة وراء حجاب العقيدة ـ الفكرة الكثيف. إن مسلحَ هؤلاء وأولئك، وخطيبَ هؤلاء وأولئك لم يعد مدفوعاً بعبادة الله،  وهو يطلق رصاصته على جبين عدوه الانسان المسلم، بل مدفوعٌ بعبادة الفكرة ـ العقيدة، التي ينتسب اليها. وهذا الشعور ملأ كيانه، مع الأيام، حتى في صلاته التي يؤديها، فهو يؤديها للعقيدة ـ الفكرة، لا لله، وإن اعتقد غير ذلك.

    هذا الأمر ينطبق على كل الانتماءات التي تتحلى بوشاح الوعي. كان لي صديق كثير الاعتداد بوعيه في انتسابه للفكر الماركسي، وللحزب الشيوعي. وأنا لا أشكك بحسن نيته وحرارة انتفاعه. ولكني أشكك بثقته بوعيه. كنت أقول له مداعباً: "أعرف أنك ولدت في الشواكة، عزيزي، قرب سينما الأرضرملي. ولكني أقترح عليك أن تفترض، بحسن نية وموضوعية، أنك ولدت على مبعدة أمتار، في محلة الجعيفر السنية (ذات السلطة السياسية) لا الشواكة الشيعية (فاقدة السلطة السياسية)، أكنت ستضمن وعيك الماركسي هذا، وسط عائلة، جيران، أقارب ومجتمع محيط من أبناء الطائفة السنية، التي اعتادت الوله بالقومية العربية (لا الأممية)، والإسلام العربي، لا الإسلام الأممي؟

    عودة الى موضوع الكتب والقراءة أضيف أن القراءة مقطوعة عن الحياة عادة ما تكون مضرة. ولكن يجب أن لا أغفل معنى علاقة المعرفة بالحياة كيف يمكن أن تكون، لأنها عادة ما تكون مصدر التباس وسوء فهم. إن سماعي واستيعابي لموسيقى باخ منحني معرفة لمعنى الإيمان الإلهي، بعيداً عن معنى العقيدة الإلهية. الإيمان سعة أفق تتماهى مع معنى "كلي القدرة". العقيدة ضيق أفق داخل اللوازم والشروط. موسيقى باخ عرفتني على معنى عاطفة بشرية بعيدة عن تلك التي لا تتولد من ردود أفعال غريزية. غريزة الانسان لها عواطف عزيزة عليه بالتأكيد، وهي مصدر كل دراسات علم النفس والفلسفة وعلم الجمال بشأن "العاطفة". ولكن ثمة عاطفة للإنسان يطلقها الفن من مكان خفي فيه. عاطفة لا تحدد، لفرط اتساعها ورحابتها، بغرض وهدف. ولذلك لا تنطلق عواطف باخ إلي من إيمانه بالعقيدة المسيحية، بل تنطلق من الشكران للقدرة الكلية على خلق القدرة الموسيقية، التي تسعى الى مضاهاتها في كليتها.

    انحناءة أبي العلاء المعري الحَدِبة على الانسان الأعزل أضفت على وعيي الشعري والإنساني أكثر من معنى. ولذلك لا أفصل عن شعري حاجتي الى التأمل، وحاجتي الى المساءلة. علاقة الشعر بالإنسان لم تسمح لي أن أتقبل شاعراً كالمتنبي دون تردد. وسمحت لي أن أبحر مزيداً من الإبحار في شعر أبي نؤاس، ونثر أبي حيان. فكلاهما لم يفرّط بالحسي والأرضي، وكلاهما جعلا من الحسي وسيطاً لما وراءه. وكلاهما كتبا بدمهما، لا استجابة لدعوى نيتشة، بل لدعوى العلاقة التي تفترض البديهة الصادقة بين المعرفة وبين الحياة.   

 

*حديثك عن المثقف بهذا الشكل العميق من خلال سؤال يبدو بسيطا، ذكرني بلهفة سيدة عراقية في مهرجان للمرأة كنت إحدى المساهمات فيه وطرحتُ الفكرة نفسها، فكان رد فعلها الآتي: نعم المثقفين قراءة كتب فقط، تعالوا شوفوهم شلون يتعاملون بالبيت مع زوجاتهم!

وأنت هل تحمل في داخلك بذرة البدوي في تعاملك مع المرأة؟ أعني بذلك الأم، الأخت، الزوجة، الصديقة والحبيبة.

* سأجيبك بـ "لا" النافية بتردد عالٍ. فأنا رجل أزعم أن المعرفة والشعر واستشراف الآفاق..الخ قد منحتني دراية بالحضور الحي للآخر. المرأة آخر من نوع خاص. خاص في حاجته، وخاص في عطائه. لا أعتقد أن أخطائي مع المرأة وليدة بقايا البدوي في داخلي بالضرورة. بل بقايا الكيان غير الناضج كفاية، أو نتاج طبيعي جداً في تعامل كيانين فرديين مختلفين. أمر العلاقة مع المرأة، شأن العلاقة مع الآخر، أي آخر، على درجة عالية من التعقيد. الشيء الذي يعكر معظم علاقات الرجل بالمرأة هو قصور كليهما في توفير حدّ أدنى من عناصر الصداقة. قد تتوفر عناصر هذه الصداقة في العلاقة العامة بين طرفين، ولذلك يمكن أن تدوم بلا شوائب. ولكنها تتلاشى ما أن يدب الحب بينهما، أو الزواج. الصداقة عاطفة عاقلة. الحب عاطفة عمياء. الصداقة عطاء كريم. الحب رغبة بالتملك. القدرة على توفير صداقة متينة في مجرى الحب عصية على كثيرين. سأقرأ عليك مقطعاً مبتسراً من قصيدة كتبتها عام 2005، بعنوان "إله العزلة":

 

منْ يزنُ الشعرَ الذي أكتبه فيكمْ؟

يفصلُ ذرّةَ الرمالِ فيه عن خلاصةِ الذهبْ؟

ومنْ يعرّي خوفَه علانية

من أن يُعابَ لو كتبْ

خلاصةَ اليقينِ في بيتينْ:

ما إن يُطلُّ الحبُّ فوق اثنينْ

حتّى تُطلَّ معه الكراهية!

    إشارة ارتياب واضحة. الصداقة أرحب، وعلى الحب أن يدخل رحابها ويستكين داخلها، لكي يضمن صحته ودوامه. ولكن ما أن ينفرد بنفسه خيلاء، سيندفع آسراً، وفي داخله بذرة اندفاعة أخرى كامنة ومتربصة. عادة ما تظهر فيما بعد بهيئة كراهية سوداء.

   شعر الحب العربي، في الموروث وفي الحداثة، شعر تطريب، مثل رديفه الموسيقى العربية. ولم يتعامل مع موضوعته إلا بعد إفراغها من شبكة عناصرها المعقدة الغامضة.

  في سني النضج والكبر يتسع أفق المرء لعناصر الصداقة داخل الحب. يطمئن المرء الحبَّ على دوامه بعناصر الصداقة. يعالج نزعة التملك والاستحواذ بالمشاركة الكريمة. يمنح توق العاطفة المحلقة جناحين لتتوازن في الطيران.

 

·       وعلى ذكر المرأة. هل تستطيع أن تشير إلى شاعرات يومنا هذا وتضعهن في عداد شاعرتين كبيرتين كنازك الملائكة رائدة الشعر الحر ولميعة عباس عمارة؟

 

*     نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة عاشا في مرحلة الريادة الشعرية، التي كانت تحت إضاءة التوجه الاعلامي ـ الثقافي. توجه شعبي، أو رسمي، توجه سياسي، ثقافي أو حزبي. المراحل التالية نمت وتطورت على منحدر انهياري متسارع. لم يعد الشعراء حاجة ماسة للناس، المهمومة بمشاغل مصيرها، ولا للدولة، أو للصراعات السياسية، أو للأحزاب. وإذا كانت هناك حاجة فمن أجل استعمال رخيص، ومؤقت. ولذلك لا يمكن أن تتوقعي شهرة والتماعة نجومية من شاعرة من الأجيال التالية. الأمر ينطبق على الشعراء الذكور أيضاً. ثم أن مرحلة الانحدار المتسارع، لها ضحاياها. ولعل أول هؤلاء الضحايا هو المرأة. المرأة الشاعرة في مرحلة الاستعمال المؤقت لا تملك أن تحقق ربع موهبتها. ولكن المنفى العراقي في الغرب بالتحديد، منح فرصة رائعة لهذه الموهبة الشعرية أن تهتدي الى جذورها وتعاود النمو الصحي.

    الأمر الذي يبعث على الارتياب أن معظم المواهب الشعرية الأنثوية لجأت الى نمط قصيدة النثر وحده. لا يشعر أحدنا، حين يتابع، أن ثمة رحابة في الخيار، وحرية في التنوع. 

 

 

 

 

 

·       للإنترنت فضل كبير في انتشار الكم الهائل من الشعر ومن بينه شعر النساء، ونجد هنا وهناك ما يسمونه بالشعر الجريء، وأحدهم أطلق عليه الأروتيك (الإثارة)، فتجد صورا جريئة خالية من الحس العميق، حتى تكاد تكون مضحكة، فما رأيك بهذه الظاهرة؟ ثم ألا تعتقد يجب علينا وضع غربال يبقى فيه الجيد؟ ولكن المسألة تبقى نسبية أليس كذلك؟

 

* إذا كان شيوع الإنتريت قد جعل مهمة كتاب الشعر سهلة ويسيرة في الشيوع والانتشار، إلا أن مهمة القارئ في المتابعة والاختيار أصبحت أوسع وأصعب في آن. وهذه المهمة الأخيرة هي التي تشغلني بالتأكيد. على أني لا أخشى على القارئ الجدي من ذلك. فهو يملك خبرة في الاختيار خاطفة وسريعة. لم أعد أحتاج قراءة قصيدة برمتها لأعرف مقدار عمقها أو صلاحيتها لي. ولم أعد أقرأ كل قصائد الشاعر لأعرف مقدار أهميته بالنسبة لي. هذا يصح على النثر، على هيئة أسطر مبتورة تحاول الانتساب للشعر، أو فقرات تنتسب للقصة والرواية، أو للدراسة والنقد. شيوع الانترنيت منح ظاهرة الكم الهائل. وهو أمر لا يد لأحد عليه. في الكم الهائل غذاء لكل ذي حاجة. هناك من يحتاج الى "غذاء تذوي به الأجسام" والعقول، وهم كثر. وغذاء يغذي العقل والروح، وهو محدود بالضرورة. وهذا ديدن الحياة منذ وجدت الثقافة. الجديد هو ظاهرة الوفرة. ووفرتنا بحكم الواقع المتردي فاسدة. لا أجرؤ أن أنصح القارئ الجدي بالحذر في إقباله على هذه الوفرة. لأن جديته كفيلة بمعرفة ذلك.

    الأفلام الرخيصة، الأغاني الرخيصة، الموسيقى الرخيصة، الأناشيد الرخيصة، الصحافة الرخيصة ، الإعلام الرخيص، والكتابات الرخيصة سبقت ظاهرة الانترنيت بزمن طويل.

 

  

·       كيف تقيم شعر سعدي يوسف اليوم مقارنة بالماضي؟

 

* علاقتي بالشاعر سعدي يوسف تعود الى أواخر الستينيات. وما زالت اليوم على عهدها، بالرغم من عدم التزاور رغم وجودنا في مدينة واحدة، وهي لندن. ظاهرة تفرضها طبيعة المدينة الأوربية الكبيرة. والعراقيون جملة يعانون من ذلك.

    في مجرى دم هذه العلاقة هناك مواطن خلاف تعود هي الأخرى الى أواخر الستينيات، ونمت ونضجت مع سنوات النمو والنضج. ولكن هذا الخلاف، وخاصة في ما آلت اليه أوضاع البلد الذي ننتمي اليه سوية، لم يفرض غشاوة على حقيقة أننا شعراء داخل مأزق، وفي أتون محنة.

    ثم أن شاعرية سعدي الكبيرة تسربت الى أنساغ شعري منذ صباي الأول، متلاحقة مع تيارات تأثير السياب قبله. الفارق، إذا ما تحدثنا عن الخلاف والتوافق، يكمن فقط في معرفتي الصافية بمواطن شعر سعدي القادرة على الحوار الداخلي معي. ومعرفة المواطن الأخرى التي لا تقدر على ذلك. قراءتي لسعدي لا تضاهي مثابرتها الفاحصة إلا قراءتي للسياب. فأنا أعرف مقدار الاحتدام الداخلي، الدراما الداخلية التي ينصرف اليها سعدي، وأعرف القصائد التي تخرج متعافية من هذه الدراما الداخلية. وأعرف أيضاً، أو هكذا أزعم، القصائد التي تخرج من صراعه مع ما يبدو لي خارجه. ما يبدو لي منتسباً الى مصطرع أحداث التاريخ سريعة التلون والتغير والزوال. الأولى تحاورني وأحاورها بهمة داخلية غاية في الرضا والتوافق والانتشاء. والثانية تتحدث لي غير مبالية لإصغائي أو لعدمه.

    سعدي يوسف شاعر معترك تاريخي، وهذا أبرز الظاهر والمعروف منه، منذ الخمسينيات. في المراحل العراقية الدامية الأخيرة أصبح صدى هذا المعترك في شعره أعنف تحدياً ومباشرة. كثير من قرائه العراقيين، بسبب اختلاف الموقف، انفضوا عنه خائبي الظن. أكثر هؤلاء نشأوا في علاقة مع الشعر محكومة بعلاقة الشعر مع توافق المواقف. كثير من قرائه العرب، بسبب توافق المواقف، اندفعوا تجاهه متحمسين. وكلا الطرفين لم ينصرف للشعر. على أن الشاعر سعدي قد أسهم بالتأكيد في عدم انصرافهم هذا.

    شاعرية سعدي، والتباس الشعر بالموقف الفكري، تحتاج الى كثير من التأمل والتأني. منذ زمن وأنا أطمع بكتابة دراسة فيه وعنه، غير منفصلة عن علاقتي الشخصية به. إنه شاعر يطرب لوجوده في ميناء ضاج بالخمارات، وصيادين بمعاطف وقبعات خشنة، أتلف أسنانهم التبغ والخمرة والعمل الشاق. الميناء والصيادون والخمارات لم يعد لهم وجود، أو لم يكن لهم وجود، إلا داخل توقه على حافة النهايات. من يقف معه على الحافة قد يحدق في الهوة. ولكن سعدي يحدق فيما تخفي الضفاف الأخرى، أو فيما يريدها أن تخفي.

    شاعر غني المادة الشعرية، وعلى قارئ الشعر أن لا يكتفي باستعراض القصائد، بل ينقب وينبش.

 

·       تحدثت عن الأنا المرضية لدى الشعراء. نعم أنها طاغية عندهم أكثر مما لدى الفنانين والكتاب بشكل عام. لكن قل لي بربك لماذا يعتبر الشعراء أنفسهم أنصاف آلهة بمجرد أن يصدروا مجموعة شعرية أو حتى بدون ذلك، أضف ربما لم يقرأ لهم أحد. وتراهم ينتظرون من الآخر أن ينظر إليهم وكأنهم دائماً في الأعالي؟

 

* في سؤالك إطلاقٌ لا أميل اليه. فالشعراء بالإطلاق لا يملكون أنا مرضية بالضرورة. ثم أن وجود أنا لدى شاعر لا يعني أنها مرضية بالضرورة. الشاعر، أي شاعر، ينطوي على مجسات حسية وشعورية وخيالية قد لا يتوفر عليها الانسان العادي. وبفعل هذه المجسات تبدو استثنائية الشاعر مغرية وفاتنة بالنسبة للقارئ. وبفعل هذه يقرأ الناس الشعر. على أن تضخم هذه الأنا عادة ما تكون علّة سايكولوجية، أكثر منها علة شعرية، أو ثقافية. الشاعر النرجسي هو إنسان نرجسي أولاً. ولأن موهبته ليست عميقة عمق موهبة شاعر حقيقي فهي تسمح للنرجسية أن تتعايش معها. الموهبة الكبيرة لا تسمح بوجود نرجسية مرضية الى جوارها. وفي وسطك الثثقافي إذا ما رأيت أنا متضخمة فلك أن تعرفي إنها تخفي هزال موهبة. النرجسيون عادة ما يتطرفون في تبيان ما يوحي بالتفوق. حداثة وما بعد حداثة هذه الأيام في الشعر والثقافة الأدبية واحدة من علائم التفوق. فيما قبل كانت المزاعم الثورية، التمردية، التجاوزية...الخ

الموهبة الشعرية الكبيرة تحذر من القياس "الكمي". معيارها "نوعي"، وتضخم الأنا يحتاج قياساً كمياً. ولذلك تبدو ميالة الى التواضع والعزلة. كثيرا ما يحدث خلط بين الأنا المتضخمة والنرجسية، وبين الأنا النقدية. مع أن  ينبوع كل منهما متعارض مع الآخر. ينبوع الأنا النقدية لا يحتاج الى مراضاة ومحاباة. في حين أحوج ما تحتاجه الأنا المتضخمة والنرجسية الى توفير محتفين ومحابين. الوعي النقدي العالي للموهبة الشعرية يطمح الى مزيد من العمق، ولا يرضيه اللعب الملوّن على السطح. ولذلك يبدو للحاسة الساكنة إشكالياً، وعصي الإرضاء. مع أنه ليس كذلك.  

*هل تجد بين الشباب من يبشر بولادة شاعر كبير؟

 

* يعتمد الأمر على معنى "الشاعر الكبير". هناك شاعر كبير بالشهرة، بفعل الظهور الدائم في وسائل الاعلام كالتلفزيون والصحافة والمهرجان. هناك شاعر كبير بفعل سعة عدد قرائه. هناك شاعر كبير لم تقل له أي من وسائل الاعلام المعهودة: إنك الشاعر الكبير!

    أنا غير مطمئن لهذه الصفة، لأني أعتقد أنها من ابتداع ما أسميه بـ "ثقافة الاعلام" العربية، منذ الخمسينيات. أي منذ ثورة عبد الناصر في مصر، واستلام السلطة في كل البلدان العربية زمام حركة الثقافة، نشاطاً، وتوجهاً. حين رأى الشاعر محمد مهدي الجواهري هذه الصفة تشيع بين شعراء الجيل الرائد والأجيال التي تلته، أنكرها على نفسه، وقبل بدلها صفة "شاعر العرب الأكبر". لم يشغل الجواهري كبرياءه بهذا الأمر لو لم يشعر أن هذه الصفة أو تلك هما وليدة نشاط إعلامي موجّه.

    لا أحسب أن شاعراً مثل أدونيس أو محمود درويش يجدان قيمة فعلية لصفة "الكبير" التي تُلحق بهما. وهما في الأعماق يفضلان كلمة "شاعر"، مجردة، لأنها تعيد الى موهبتهما الحقيقية صفة "شاعر" التي لوّثت داخل شبكة الاعلام المغرضة.

    أقرأ، قدر المستطاع، ما يصل الي، أو ما أقع عليه، من أصوات شعرية من مختلف الأجيال. هناك عدد يتحاور معي بعمق عبر نصه الشعري. يمنحني فرصة للتعرف على هوية إنسانية نادرة. هناك صوت شعري لا يملك مادة لحوار مشترك معي، لأن شعره ثمرة العرف الشعري الحداثي، التجديدي...الخ، لا ثمرة تجربته الداخلية النادرة. ثقافة الاعلام أملت علينا أعرافاً مرضية للأسف أفسدت حتى طبيعة التقييم البسيطة للشعر، وللأصوات الشعرية. قد أجد في نفسي ميلا عميقا لهذا الشاعر أو ذاك بفعل توفر مادة الحوار بين نصه وبيني. ولكن هذا لا يعني مطلقاً أن الشاعر الذي لا أستجيب لنصه بالاندفاعة ذاتها أقل شأناً داخل حركة الشعر. الشاعر الجيد عادة ما يقع على قارئ جيد يحاوره عبر نصه. وعادة ما يكون قراؤه من هذا الصنف محدودين، بسبب النوعية. وهم مهما بلغت قلة عددهم، مثار اعتزازه. "ثقافة الاعلام" أفسدت هذا المعيار، وفرضت بدله المعيار الكمي. لأنها عرفت كيف تنفرد، لا بتوجيه الشعر ذاته، بل بتوجيه قارئه بصورة أساسية. وفرت بهو المهرجان الكبير، ثم وفرت لهذا البهو جمهوره الكبير، ثم وفرت لهما بالتالي شاعرهما الكبير. ثم عمّقت الهوّة بين هذه المعايير "النفعية" الفاعلة وبين المعايير النقدية عن طريق عزل الأخيرة في أفقها النظري. فأصبح النقاد يطربون للتهويم في أفق النظرية المتسامي، لكنهم يستشهدون بنصوص من بهو المهرجان الفاسد. ولا يشعرون بعمق المفارقة.

     

·       هل تعتقد بأن الناقد العراقي لعب دورا في تقديم الشاعر، وما معنى قولك: إن الناقد العراقي معتقل داخل نفسه وداخل النص؟

* قراءة الناقد الغربي ملهمة، لأن التنوع والعمق في النظر الى النص الشعري وليدا خبرتهما وقناعتهما الداخلية. نعم، هناك فساد ما في الاعلام الثقافي الخارجي الغربي، بفعل هيمنة الصحافة وتنافس السوق. ولكن اعتماد الشاعر والناقد خبرتهما وقناعتهما الداخلية يملك الصحة الكافية لتوفير قدر من المناعة. هذه المناعة تكاد تكون متلاشية في ثقافتنا. الأمر يتعلق في الجوهر بتلاشي قيمة الفرد كفرد، والانسان كإنسان. الناقد الغربي دائم التوجه للنص الجيد والكتاب الجيد. أما النص الرديء والكتاب الرديء فلا نقاد له، بل له قراؤه بالتأكيد. وتوفر قراء النص الرديء لا علاقة له بمشاغل النقاد. والسبب يكمن في قدرة الأكثرية على القراءة وحاجتها لصرف الوقت والمتعة. فالقراءة لديها ليست بالضرورة مصدر كشف ومعرفة. كتب النقد الشعري العربية تنحو منحلا آخر. فهي تتعامل مع النص الذي تمليه عليها نشاطات "ثقافة الاعلام"، لا النص الذي تمليه خبرة وقناعة الناقد الداخلية.    

*يهمني موضوع الترجمة خاصة وأنني ترجمت الشعر المجري إلى العربية، ماذا تعني بأنه يجب أن يعنى بطاقة المفردة في الشعر، وهل تعتقد أن على المترجم أن يكون شاعرا كي يعطي حق القصيدة؟

 

* لا أعتقد. ما يحتاجه المترجم، بالإضافة الى جودة علاقته باللغتين، هو عمق علاقته الصافية مع النص الذي يقبل على ترجمته. عمق حاجته له. هذه الحالة قد تتوفر لدى المترجم الشاعر أو المترجم الذي يحب الشعر ولا يكتبه. لقد سعيت الى ترجمة شعراء مثل ميووش، زاگايفسكي، كواسيمودو، لأني وجدت في شعرهم من يحاورني شخصياً، وبعمق. حين أصدرت مختارات كواسيمودو، قال لي صديق شاعر: إنه قرأه كما لو كان قد قرأ مجموعة شعرية لي. في الأمر مبالغة، ولكن تعني أن بين قصائد شاعري الذي اخترت ترجمته وبين قصائدي أكثر من عنصر متبادل.

    حين أترجم شاعراً أحتاجه فأنا أترجم شاعراً أعرفه حق المعرفة، وأسعى دون كلل لقراءة كل ما كتب حوله. إنني لا أسعى لكل ذلك لأني أرغب بترجمة هذا الشاعر أو ذاك. بل أترجمه وأسعى الى مزيد من الإحاطة به لأني أحتاجه.

 

·       هل في نيتك كتابة سيرة ذاتية كاملة ؟

* أنا شاعر، ولكن كثير التوزّع. كتابات في الشعر، في الفن، في الموسيقى، في الفكر، وفي تأمل الخبرة الشخصية. السيرة الذاتية تنتسب لهذه الأخيرة. سبق أن كتبت "مدينة النحاس"، نثر يطوف حراً بين الفانتازيا القصصية وبين السيرة الذاتية. ثم سبق أن كتبت "العودة الى گاردينيا"، نثر يستعيد الدراما العراقية عبر سيرتي الذاتية. حتى قصيدة "قارات الأوبئة" لم تنأ بنفسها عن طبيعة السيرة الذاتية الشعرية. كتاب "صحبة الآلهة"، الذي أعده للنشر، هو سيرة ذاتية في حقل الخبرة الموسيقية. في الشعر والنثر عادة ما أجدني أعوم في تيار الحياة الشخصية، منذ طفولتها حتى سنوات المنفى الطويل.

    أرغب أن أواصل "العودة الى گاردينيا" بجزء آخر عن سنوات المنفى اللندني التي استغرقت نصف حياتي الثاني.

 

.

 * حدثنا عن أولادك، وهل ورثوا مواهبك؟

 

* لي ولدان: سامر (21) وباسل (17). شغوفان كأبناء جيلهما بالموسيقى الجماهيرية الشائعة. لم ألمس عندهما اهتماماً ثقافياً محدداً، باستثناء مواهب في نظم شعر الأغنية، والرسم. أتأمل، على الدوام طبيعة حبي لهما، التي تبدو لي دائمة الغموض. كان هذا التأمل مصدر قصائد لي عديدة. هل هو حب تملك، حرص على الانتساب؟ أو هو، كما يُقال، حب حرص على البقاء والتواصل؟ لم أصل الى قرار. ولكن ديمومة التأمل ذاتها غاوية لشاعر مثلي، يهوى التأمل في طبيعة المشاعر البشرية، التي تبدو لي دائمة الالتباس، دائمة الغموض، دائمة التشويق.

 

   * كنتَ متفائلا عندما ذهب الشعب العراقي لينتخب، هل مازلت تحمل نفس التفاؤل؟ وما رأيك بما آل إليه العراق، ومن المسؤول عن ذلك؟

 

* كم يبدو التساؤل يسيراً في الظاهر. كنت مثل كثيرين متطلعاً بفعل التغيير المذهل الذي حدث. متفائلاً بفعل انهيار قاعدة السلطان العربي التاريخية الخالدة. ولكن الأحداث كشفت لي ولكثيرين وجهاً آخر، ربما لم نكن نجرؤ على التحديق به. لم نكن نجهله تماماً. هذا ادعاء مبالغ به. كنت من القلائل الذين يلحون، بصورة بدت متطرفة لكثيرين، على دور مثقفينا وثقافتنا الاعلامية في تعزيز قداسة الأفكار وإعلاء شأنها فوق الانسان. السلطة كانت تناضل من أجل ذلك، الأحزاب كانت تناضل من أجل ذلك، المثقفون كانوا يناضلون من أجل ذلك. عدد من قطاعات الشعب المحروم من الدور، وجد له دوراً في تعزيز ما أرادته السلطة والأحزاب والمثقفون. جميع هؤلاء أحبوا وطالبو بحب العراق كعلم ورمز وفكرة، وأخفوا حقيقته كواقع أرضي. دُفع الناس، باسم قداسة الفكرة، الى الانصراف الى هموم لا صلة حقيقية لهم بها، معلقة في بالونات الأفكار المجردة: الاستعمار الصهيونية، الامبريالية، الغرب، الأصابع الأجنبية، الأفكار المستوردة، الحذر من الأجنبي الدخيل، القومية العربية، الإسلام الحق في غياهب التاريخ البعيد. الخونة، الأعداء، ....الخ

في ساعة الانفراج طلع إلينا المتطلعون للسلطة، لا للحرية، ولا للديمقراطية. تحولت هذه من أهداف الى وسائل سياسية رخيصة. وبدل الحزب الدكتاتوري الحاكم أصبحت لدينا أحزاب دكتاتورية حاكمة. وبدل تسلط القائد على رقاب الناس وأقدارها طلع علينا مسلحون من كل حزب، لا حدود لتسلطهم على رقاب الناس. واتسع الجرح، وتكاثف النزيف. حالة العالم العربي المحيط، والعالم الإسلامي المحيط تتداعى على المنحدر ذاته. وانحدارها يحكم القبضة الفولاذية على سلامة انحدار العراق حتى نهايته. مشهد مفزع للغاية. التعلق بالأمل قد لا يتلاشى من قلب وعقل الكائن الواعي، إلا أنه تعلق مرهق، نازف، وحزين. 

 

 

نعم.. إنه كذلك..

لن تصنع مهرجانات الشعر، لا النعوت ولا الألقاب الكبيرة شعراء يتحاورون من خلال شعرهم مع ذواتنا.

 

اعتقال الطائي          

كانون الأول ـ ديسمبر ـ 2006

 

   

          

 

  

   

    

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail