فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

مجلة "الطريق" في الانترنيت

الشاعر فوزي كريم.. "بالأبيض ينتصر على العزلة" 

حاوره: مقداد مسعود

 

(القسم الاول)

شاعر من عيار (فوزي كريم) لا يحتاج الى تعريف مني أو من سواي لأن عطره يتأرجح قبله، فهو الشاعر والناقد منذ (من الغربة حتى وعي الغربة) وهو الموسيقي في النظرية والتطبيق. هذه محاورة إفتراضية مستلة من إشعاره، وهي تشكل القسم الشعري، من المحاورة وهناك القسم النثري وهو القسم الثاني بخصوص هذا القسم لايسعني الا ان أشكر الصديق العذب الشاعر (سلام الناصر) شكراً جزيلاً. فقد أمدني شعرياً بما أحتاج. 

*كيف حالك أيها الشاعر العذب؟

 

ـ علانا المشيب

ولم تعد الريح ترعى ضفائرنا

وأفراسنا سمنت

ومراقد من مات صارت مزارا!

 

*ماذا تفعل الآن؟

 

ـ أكتشف بكل معادلة خطأً

او هفوةَ عقلٍ لا تُسمع

وبكل تنهّدةٍ شائبةَ كراهيةٍ

لا أعرف كيف أواريها

عن عين أخي الإنسان

 

*من أنت يا فوزي كريم؟

 

ـ تراكمت على ردائي محن الماضي

وما تهرّأ الرداءْ

لأن كل ما ارتكبته من الأخطاءْ

صار من الرقة خيطاً في نسيجه.

لذا فأني شاعرٌ أرِقٌ من مدينةٍ محاصرة

ولي فم بلون قطعة الجليد

يقطر حرفاً، ثم إذْ يجمد ذاك الحرف في الهواءْ

يقطر آخراً، فلا تلتحم الحروف!

 

*والشعر؟

 

ـ الشعر أباطيل

إن لم يسترْ عريانا

قضيتُ العمر به مُزدانا

والناسُ عرايا حولي.

 

*أين يسكن الشاعر فوزي كريم؟

 

ـ أسكن في الماضي، وأستلقي تماماً مثلما كان أبي

وبي احتراس الرجل الوافدِ.

بيتي من زجاج

كلما داهمني الإحساس بالنفي، وبعدي عن سرير النوم

أختضُّ ويبتل جبيني،

فأرى الحاضرَ لا منفذ والماضي ملاذاً

هل ترى ظفرت بالسر الذي يحجبه الشعر؟

أم الساعة حانت؟

 

*ماذا يفعل الشاعر فوزي كريم الآن؟

 

ـ أنا الذي أتحاشى الكلام صرت كثير الكلام

في كل ركن للبيت اترك عبئاً من زلةٍ في لساني

حتى تراكمت الأعباء.

كأنني لم أحاول عبور يومٍ ليومٍ مغاير، أو كأني

أقفلتُ إيقاع قلبي في وجه إيقاع هذا البندول!

وهذا الرداء

منذ مجييء للغرب لم أتجرأ

عليه، أو أتبرأ

منه. تركت غبار الأيام يسكن عطفيه

دون ان يتهاوى.

 

*أين نتموضع بالنسبة للشاعر فوزي كريم؟

 

ـ لأني سأعثر في خطواتي بكم

فأنتم شكاتي

وأعثر في طرقاتي عليكم

فأنتم طريقي إليكم

حشوتم كياني برائحة الخبز، والخبز أنتم

وبالماء، حتى إذا ما ترشح هذا الكيان من الماء جئتم

فرويتم النسغ.

 

*الى كاردينيا متى تعود؟

 

ـ سأعود غداً او بعد غد

وأعيد السمك من الحوض الراكد

لمياه التيارْ

وغنائي في منفاي الى الخمارة.

يا خمارْ

عرّيني من وطأة ذاكرتي

ما أطول درب العودة يا بغداد

ما أعمق رائحة الجلاد

بين غصونك

ما أطول سنوات المنفى من دونك

 

*هل ثمة يوتوبيا يوصلنا إليها الشعر؟

 

ـ أقول للذين عززوا الخطى لغدهم

كمن يعزز الخطى لبيته الأمين

الشعر لا يقترح المدينة المثلى.

 

*وأنت الى أين قادتك القصيدة؟

 

منذ صبا 1960

أصابني الصدع الذي حل بهذه الأرض

مذ حل بي الشعر الذي أيقظني من حلمي المكتظ

بالوهمِ، ثم قادني لموطن السريرة

وقال: إن من رحى السريرة العمياء

تنبعث الهزةُ: أحياءٌ الى موتى

وأمواتٌ الى أحياء.

 

*كيف يرى فوزي كريم الى الشاعر؟

 

ـ الشاعر في رأي ممروض

لا يحسن فصل الذاكرة عن الذكرى

رومانتيكي ليس له، من بين فصول الدورة

إلا فصل خريف واحد

يحيا ليموت، لأن الموتَ الذروةُ في إنجاز الرغبة

والشاعر في رأي كالطلل، له ما للطلل من الاعراض

تسكنه الريح ويصفر فيه الماضي

وإذا جن الليل تلاشى وتحدث.

لا صوت له، لكن ليسمعه الفيثاغوريون.

 

*ايها الشاعر العذب كيف ترى الى العراق؟

 

ـ وطني آسرّ بلغات عديدة:

لغتي، لغة الكرد، والتركمان، وآشور والأرمن،

العنفِ والحزنِ والموتِ، حتى ألفنا مفاتن هذه الاخيرة:

إعرابها ومخارج اصواتها والجذور.

وطني آسر، بلغاتٍ عديدة:

لغة الموتِ أكثرّهن مطاوعة للحياة

وأسرعهم الى الإستجابة

في كلّ عام لنا معجم

وبدأنا نباهي بها لغة الشعر

هيهات أن يبلغ الشعر قامتها

أو يضاهي استعارتها

أو يحاول إيقاعها

....زمن مثل عاصفة الرمل

أبصرته يتكاثف من خلف نافذة البيت

أحنى السياج وأعمدة الضوء

وانعدمت كل رؤية!

 

*كيف تتواصل مع هذي المدينة؟

 

ـ هذي المدينة أنسجها من خيوط العناكبْ

واتركها جانباً، ثم أنسج من خيط ذاكرتي وجه أمي

ووجه أبي، وأخي، والمصائبْ.

وبينهما أعقد الخيط بالخيط.

يوماً، سيكتمل النسج

اصبح أوهن ذاتاً من ان أنتسب

لحاضرها ولماضيّ

أعلو بعيداً

الى زمنٍ آخر مثل طائرةٍ من ورقْ

يعابثها، في المهب على السطح، طفل

وفي لحظةٍ من نزقْ

يقطع الخيط..

 

*من نحن بالنسبة للشاعر العذب فوزي كريم؟

 

ـ لأني سأعثر في خطواتي بكم

فأنتم شكاتي

وأعثر في طرقاتي عليكم

فأنتم طريقي إليكم!

حشوتم كياني برائحة الخبز، والخبز أنتم

وبالماء، حتى إذا ما ترشح هذا الكيان من الماء جئتم

فرويتم النسغ.

 

*سيرتك الذاتية، هل يمكن إختزالها شعرياً؟

 

ـ في العقد الاول من عمري ملكياً كنت

أبفعل براءتها تلك السنوات؟

أم أن الملك بلا هفوات؟

أم ان الطفل إذا ما انتسب يليق بوجه ملك؟

في العقد الثاني من عمري خيرّني الشعر

بين الكلمات وبين جدار الطين:

فأخترتُ الاولى، صار كتابي أكبر حجماً من تنين!

في العقد الثالث صوت الملك الضلّيل

لا موقف لي. وأحاور من موقفهم مشهود

كمحاورتي أعمدة التلغراف.

في كل مساء، ألقي خُردة ايامي

في حوض صديقي الراكد

وأجمعها ثانية كالشحاذ على مائدة الخمرةِ في گاردينيا.

في العقد الرابع من عمري لم يبق ستار

مسدولّ، بين سرير النوم وبين الافق الأرمد

في لندن. ثمَّ جدار

علقتُ عليه ملامح وجهي الفوتوغرافية

بالأبيض والاسود

وصغيري يعرف أني أعجز من دُمية

عن رد سؤاله!

في السنة الاولى من عقدي الخامس

لم اشعر أبداً ان الطرق المسدودة

هي اسوء ما في حلمي

والآن أحاول ثقباً بجدار الأسمنت

وثقاباً، كي لا أتعثر بالماضي الميت

ورداءً أبيض، كي أنتصر على العزلة.

 

2

الشاعر فوزي كريم "يفضح المرايا المحدبة والمقعرة" 

حاوره: مقداد مسعود (أسئلة، إجاباتها مستلة من كتب فوزي كريم النقدية)

 

* على صعيد السرديات كان الاديب العربي يعاني كثيراً في كتابة الحوار الروائي والقصصي بسبب التوزع بين العامية والفصحى فهل ينسحب الامر نفسه بالنسبة للشعر؟

ـ هناك هوة تفصل بين الفصحى والعامية، هوة تسكن كل شاعر بالضرورة، وكل مبدع في مجال الكلمة، شدت على خناق شاعر مثل "يوسف الخال" فأختلف عزاءً فردياً مؤقتاً في لغةٍ محكية.

* من يقف وراء الشاعر يوسف الخال؟

ـ محاولة يوسف الخال تنم عن حساسية اخلاقية وابداعية في آن، فالرجل مسكون بالثقافة الغربية، ولكي يوحد بين افقها الحداثي الجديد وبين قدرات عربيته التي ينتسب اليها كشاعر حاول امراً مستحيلاً، حتى ان مقاربته بين دعوته للغته المحكية، وهي لبنانية وبين دعوة "تي. أٍس. اليوت" للانتفاع من اللغة المحكية التي لم تبتعد كثيراً عن اللغة المكتوبة، تبدو غير سليمة.

* هل ثمة من غامر في الطيران في ضباب هذا الفضاء، بعد او أشاء محاولة الشاعر يوسف الخال؟

ـ  نعم.. هادي العلوي اجتهد، مأخوذاً بذات المأزق، بتعطيل فاعلية حركات الاعراب، لكنه استثنى الشعر، لأن الشعر لا يستقيم ايقاعياً دونها، ولكن هذا الاستثناء، ينطوي على معنى ابعد من مقاصد العلوي، ان مشروعه لا يختلف، من حيث الدوافع، عن مشروع الخال، فكلاهما يحاول بعث الحياة في العربية التي بدت الهوة بينها وبين لغة الناس والحياة تزداد اتساعاً وعمقاً. فما هو المعنى الأبعد الذي خفي عن مقاصد العلوي ان لم يكن تلك القناعة اللاواعية بأن الشعر العربي يملك شيئاً من قابلية العزلة عن الحياة وعن لغتها، يملك قابلية دفينة نمت لديه بفعل العرف والموروت الطويل؟ يملك شيئاً من الاستقلال حتى عن الخبرة الروحية للشاعر الذي يكتبه؟ والا لم يستثنى الشعر ولغته من هذه المهمة الباعثة على الحياة.

* غير هذه الثنائية، هل هناك ثنائية اخرى تحاصر الشاعر العربي؟

ـ  في موضوعة الشعر هوة اعمق من الهوة التي تفصل اللغة الفصحى عن اللغة العامية، هوة تتبطن الموروث الشعري العربي، منذ مراحله الجاهلية الاولى حتى اليوم، هوة بين الشعر "كصناعة ادبية" وبين خبرة الشاعر الروحية، هوة تتكشف عن ضرب من استقلال النص الشعري، بحكم ارتباطه بصناعة "الاغراض" الشعرية، هذه "الاغراض" التي تنتسب الى عرف جماعي عام لا يدخل الشاعر فيه الا طرفاً منفذاً بفعل قدرته اللغوية والخيالية.

* من عطل فاعلية الخبرة الروحية في الشاعر العربي؟

ـ  المدح والهجاء، وهما اقوى محورين تجاذباً الشعر العربي، عطلا "فردية" الخبرة الروحية لدى الشاعر، وهي ينبوع من ينابيع العمل الابداعي. افرغاها من هذه الفاعلية وعبئها بفاعلية "الاعلام" و "العرف". فأصبح الشاعر لسان حال العرف العام، قبيلة كان مصدر هذا العرف او ديناً او مذهباً او سلطة او مؤسسة، واستجابت العربية، ذات المسحة المقدسة لهذا المنحى، فأصبحت قواها اللفظية طبعاً فيها، واصبح سحر البيان يحلق بالنص بعيداً لا عن الحياة المعاشة الملموسة وحدها، بل عن شاعرها ايضاً... هذه الاغراض، خلقت سياقاً عاماً، اول خصائصه الاستقلال اللفظي عن خبرة الشاعر الفردية والروحية، فالقصيدة فيه ضرب من المهارة اللغوية والخيالية عمادها الذكاء. وامتد هذا السياق بأقنعة تأخذ اصباغ كل مرحلة، تحتال عليها وتنسبها لطبعها الدفين حتى يومنا هذا الذي اتخذ فيه السياق الشعري العام، قناع الحداثة الغربية بألوانها الكثيرة الآسرة، ولكن بتركيبتها الأكثر تعقيداً هذه المرة.

* كيف ينظر الشاعر فوزي كريم الى التجديد في الشعر العربي؟

- التجديد لدي هو وعي للدلالة لا للشكل، لأن الشكل انما هو تشكل المعاني الغامضة التي تتطلع الى النور. ان انفعال الجسد لا يعرف أي شكل ستأخذ حركته لحظة الرقص وما ان يتجسد الانفعال في الحركة، حتى تصبح هذه، بفعل التكرار، تقليداً، ومن هنا تأتي طلاقة وحرية الشكل، مشربة بضوابطه وقيوده تماماً كما تخيل الشاعر الصيني "ليو تشي" الشاعر وهو "يقنص السماء والارض في قفص الشكل". ان الخبرة الروحية لدى شاعر الالفاظ هي التي تولد شكلها، وهذا الشكل يأسر، بدوره، الخبرة ويحيطها باضلاعه كما يحيط القفص بالطائر... الشكل حرٌّ بفعل حرية الخبرة الروحية، في القلق والتشكك، وفي تمنعها عن اية قناعة مذهبية مطلقة، ودعاوى فكرية تأخذ شكل العقيدة المغلقة. هذا التيار يمتد من (طرفة) و (امرئ القيس) واشباههما مروراً بـ (عمر بن ابي ربيعة) و (بشار) و (ابي تؤاس) و (ابن الرومي) و (ابي العلاء)، حتى اصوات فردية في شعرنا الحديث، يمثل السياب، اوضح نماذجها.

* الآن وبعد كل هذه السنوات اللقيطة والشرعية، كيف ينظر الشاعر والناقد فوزي كريم الى جيل الستينيات الشعرية؟

- منذ الستينيات: تيار يشكل ادونيس محوراً رئيسياً فيه، والآخر ينفرد به السياب، الوجه الظاهر للعرف الشعري يقول: ان الحداثة التي ألفها الناس لدى السياب ومجموع شعراء جيله ليست من الحداثة الشعرية الغربية في شيء. فلقد ظل هؤلاء بالرغم من الانتقالة من وحدة البيت الى وحدة التفعيلة، اسرى الرؤيا الشعرية التقليدية. ولم تكشف قصيدتهم عن اصداء وبروق القصيدة الجديدة، وليدة العصر الجديد، ولذلك تعالى صوت من مركزية هذا الوعي بالجديد، التي تجسدت بصوت أودنيس والقاعدة التي خلفها وراءه، واعني بها قاعدة مجلة (شعر) وما شاكلها، تعالى هذا الصوت ليعلن رغبته بالتجاوز وقدرته عليه، من اجل ان يحقق مستوى يستحق ان يسمى قياساً بالقصيدة الغربية، حديثاً، ومعانقاً لعصره، أدونيس يضع اللمسات النظرية لهذا الصوت الجديد، دون توقف، ولم تكن محاولته النظرية منفردة في ساحة صامتة.. يوسف الخال يذكر دائماً بمحاولة "أليوت" وجبرا ابراهيم جبرا لا يقيم وزنا لمصطلح "الشعر الحر"، لأن الشعر الحر الذي يتوجب ان تسعى اليه القصيدة لا يعتمد اوزاناً بعينها بل فيه ظلال وزن يقارب وزن النثر.

ان هذه اليقظة للتجديد بدأت عملياً في الستينيات، متواقفة مع حركة جيل جديد شديد الاندفاعة والحماس بأتجاه حداثته وطليعيته وبقدر ما عزز هذا الجيل من خطوات ادونيس واشباهه تعزز هو بدوره بصوت أدونيس، حتى صارت موجة التجاوز تتسابق فيما بينها، في عرض مهاراتها من اجل توفير اكبر عدد من الادلة على مقدار استيعابها للحداثة الغربية وللنزعة الطليعية، ولم يتوقف الأمر على الشعر وحده، فصارت اللوحة والقصيدة والعرض المسرحي، والسينما التجريبية، تحاول ان تعكس اصداء وبروق (عصرنا الحديث) في بيروت او في طنجة او في البحرين لا فرق.

* ضمن هذا السياق، اين يتموضع السياب؟

- معظم المساهمين في عملية الابداع، منذ جيل أدونيس، لم يعد يلتفت، حين يتوجه الى ثقافة الغرب المعاصرة، الى نصوص الحداثة المعهودة كمصدر للمعرفة، بل هو يفتش، بدأب عن النصوص الطليعية التي تنتسب بالضرورة الى (ما بعد حداثته).. انه يشعر بمضيعة الوقت مع كل نصوص القرون الغربية السالفة، ويريد ان يحقق توازنه مع حاضره ومع مستقبله ايضاً، ولكن الطليعي لا يحب ان يذكره احد بالبؤس. ان يعود ويتساءل عن حاضره، ما هو؟ وعن مستقبله ايضاً وما علاقة هذا الحاضر وهذا المستقبل بحاضر الطليعي الغربي ومستقبله.

وما شأن (خراب البصرة) بـ (ما بعد الحداثة الباريسية والامريكية؟)، ان هذا التيار التجديدي الذي يمثل الحداثة الشعرية الغربية، اذن، هو محاولة استيعاب للتجديد ما بعد الحداثي. ولم يكن السياب لينشغل بكل ذلك. لقد صرف انتباهته الشعرية للموروث العربي وانتفع من خبرات القصيدة الحديثة الاوربية، قدر المستطاع، ولكنه، عبر هذين اندفع بصورة استثنائية الى الاستغراق في تجربته الروحية والفردية.

هذا الشيء الاستثنائي الذي حققه السياب، ما كان يتحقق في رأيي، لولا غفلته عن مفاتن الهاجس الطليعي للحداثة الغربية، فقد انصرف لتحقيق توازنه مع حاضره المتخلف هو، ومع مستقبله الذي لا يبعث على الطمأنينة ولم يلتفت، عن جهل او تغافل الى (حاضر) الزمن الغربي و (مستقبل) الزمن الغربي.

* هل من سبيل الى معادلة متكافئة بين الذات والوجود بالنسبة للشاعر العربي المعاصر؟

- الشاعر العربي لا يستطيع تحقيق توازن بين ذاته وتجربة وجوده، وبين حاضر العصر الحديث او ما بعد الحداثي. بل هذا الشاعر لا يحتاج اصلاً، الى تحقيق هذا التوازن، لانه ينتسب بحكم البديهية الى حاضر آخر ولا عيب في ان يكون هذا الحاضر منفياً، او بعيداً عن حاضر حداثة الغرب وما بعد حداثته. العيب في ان يفتعل الشاعر انتسابه الى حاضر غير حاضره او ان يفتعل وجوداً روحياً وعقلياً لا قاعدة تاريخية له.

* كيف ينظر الشاعر فوزي كريم الى الحداثة؟ وهل اغوته مفاتنها؟ تغافل عنها؟ تقاطع معها؟

- اعترف.. لم افكر يوماً بالحداثة معياراً لصلاحية القصيدة وجودتها ولا حتى بالجدة. كنت افكر بالحداثة على انها صفة انتساب لعصر، وليست كمعيار قيمة، معيار القيمة لدي هو تفرد الشاعر في انصرافه لتجربته الداخلية وصدق وعمق هذه التجربة هما اللذان يولدان الشكل الصادق والعميق.

المشاعر هي التي تتشكل شعرياً وهي بجمالها، تولد الشكل الجميل، وبجديتها تولد الشكل الجديد. وبحداثتها تولد الشكل الحديث، و بلا حداثتها تولد الشكل اللاحديث، ولا افضلية لا نتساب على انتساب، هناك شعر عظيم وشعر وسط وشعر رديء، وهناك ما هو دخيل على الشعر ايضاً.

* ثمة اشكالية كابدها الشعر العربي تحديداً اعني اشكالية التجربة والنص لدى الشاعر العربي، ما هي اسبابها وكيف يتم معالجتها برأيك كشاعر وكناقد منذ كتابك الاول (من الغربة حتى وعي الغربة)؟

- ان فردية التجربة الداخلية هي التي تحقق ردم الهوة بين تجربة الشاعر وبين نصه الشعري المأمول، ولان الشعر العربي عرف هذه الهوة، بل كانت عبر تاريخه كله، احدى اهم خصائصه واعمدة بنيانه، فأن الشعر جملة، الذي يسعى لتعميق الهوة، هو شعر يردد في اعماقه الخفية طبيعة الشعر التقليدي المهووس بالقوى الشكلية واللفظية وبالصنعة.

ولا يخفى على احد ما في النزعة الطليعية من ميل لفظي وشكلي وهو بالبديهة، انعكاس لتلك الرغبة او الطموح المفتعل الى تحقيق توازن مع حاضر حضارة لا تنتسب اليه، ومع مستقبل لا يمت اليه بصلة، ان ايهام النفس بالانتساب الى مأزق عصر الالكترون والكومبيوتر والانترنيت شعريا ليبدو ايهاماً على درجة عالية من الموضية، خاصة وان الشعر يصدر عن أبعد جوانب الروح انتساباً الى جذورها.

* اين تتموضع المعضلة الشعرية؟

- ان ميل الموروث الشعري العربي الى فصل تجربة الشاعر عن نصه بسبب اللفظية والاغراض، يتساوق مع ذات الميل في التيار الطليعي ولا تخدعك المسميات والمظاهر فهي شكلية في جوهرها، المهم ان تعري النص من مهرجان الشكل، فهو مهرجان عضلي، لتكتشف ان النص بني في كليته، على معمار وصياغة ذهنيين، عمادها الالفاظ ولذلك لن تجد في قصائد هذه النهضة الطليعية الا مباراة عضلية في توكيد حداثتها بالشكل، فكل شاعر يراهن على جديده في سطح النص، حتى لو كان هذا السطح يزدحم بتعدد الاصوات والاشارات الثقافية والكولاجات التي توحي بتجربة روحية على شيء من التعقيد والعمق، لان كل ما هو على السطح الشكلي يبقى شكلياً، ولا يغذى الا نفسه.

* الآن تحديدا او من منظور "الحاضر مفتاح الماضي" على حد قول المفكر الشيوعي اللبناني (مهدي عامل) ما هي فضائل الشاعر السياب؟

- التيار الذي ينتسب اليه "السياب" وله في الموروث جذور تتصل بتجربة بشار وابي نؤاس وابن الرومي وابي العلاء، هو الذي عمق نوعياً، مسار الشعر بأتجاه النص المثقل بالدلالة الروحية والفكرية، وهذا الجانب، وحده، الذي يستحق ان يسمى جديداً او حديثاً. اذا فهمنا الجدة والحداثة موصولة بأفقها العربي، والشرقي والعالمي.

* غير السياب، من هم اولئك الذين لم يشعروا بالدونية في تعاملهم مع جديد المنجز الحداثي؟ ولماذا؟

- شعراء مثل السياب، هم محمود البريكان وصلاح عبد الصبور وسعدي يوسف، لم يكونوا اقل اطلاعاً على حداثة الغرب وما بعد حداثته، ولا اقل استيعاباً من زملائهم، فهم يحسنون لغة او اكثر من لغة من لغاته، كما انهم لم يكونوا اقل عرضة للاغواء، ولكن العلة النافعة فيهم ان هذه الحداثة وما بعدها والجديد ما يليه، ما كانت تعنيهم الى الحد الذي يشغلهم عن محنة ارواحهم المتسائلة وعن حيراتهم المربكة، لذا ترى شعرهم اقرب الى الصوت المثقل بالاسى والالتباس والشك والانكسار.

* هل ثمة سمة تجمع التيار الطليعي؟

- انها نزعة البطولة والانتصار واليقين والتجاوز والنبوية الرفض، الحب، الغربة، المستقبلية، الثورة وكذلك سطوة رجل الرسالة اليقينة والبيانية وسطوة الرؤيا النبوية المتعالية وسطوة الاندفاعة الآسرة بأتجاه المستقبل وسطوة الطيش بمعانقة روح العصر الغربي، وسطوة الأنا الموضوعية المتضخمة واخيراً وليس آخراً سطوة اللعب مع المفاهيم المجردة والكلمات التي تجسدها.

* هذه كلها سمات اتصال بين التيار الطليعي، لكنني اود ان تخبرني عن المهيمنة السائدة، مع الامثلة الشعرية اذا امكن؟

- ان الانتباهة الى جوهر الاشكال الذي يوحد هذا التيار، وهو جوهر يكمن في فصل النص عن التجربة.

لا يترك فاصلاً بين تجربة شاعر كبير مثل "ادونيس" وآخر كبير مثل نزار قباني". فالاول عمق الهوة بين نصه وبين تجربته الروحية المقموعة بسبب تهيامه بالشكل الجديد، الغامض الواضح، او المتشظي الذي يعكس وعياً بحداثة لا تنتسب إليه اصلا، ولم يضعها موضع تساؤل على اقل تقدير، الان كل هذه الهموم لا تتعامل الا مع السطح. ولكن أدونيس المنقسم على نفسه بين جناحي (الخبرة الروحية) و (خبرة التقنية) لم يستطع الا ان ينتصر للثاني بفعل شاغل الحداثة التي كان مسحوراً بها والحداثة هذه ليست (حداثة) الادب العربي ان اردنا الدقة في المصطلح والتاريخ، بل هي "ما بعد حداثته". ان جذل أدونيس والنسبة الكبرى من شعراء المرحلة بهذه الحداثة التي تحمل عملياً خصائص (ما بعد الحداثة) أجهز مع الايام على تلك الجذوة في النص الشعري، وانتصر بأجنحة الخيال لقوة الذهن وللقوى العضلية في الصورة والموسيقى والبنية اللغوية ولكن هذا الجذل المكابر، بأسم حداثته، على الحوار والاصغاء، ميال الى الالغاء والاتهام بالتخلف والادراك القاصر لمتطلبات العصر الحديث اما الثاني (نزار قباني) فقد عمق الهوة بين نصه وبين تجربته الروحية، المقموعة بسبب تهيامه بـ "الغرض" و "المفاهيم" الخارجة عنها، المعدة في هواجس الناس وعقولها سلفا مثل اغراض الحب والسياسة ولذلك تبدو قصائد الشاعرين، على مدى الاختلاف بينهما، لا تمتان بصلة الى زمنهما الشخصي، فكلاهما يكتبان عن "الجنون او التمرد" وعن "الحب" في سنوات عمرهما وهما يقاربان السبعين تماماً كما كانا يكتبان عنه وهما في الثلاثين. ولم لا؟ اذا كانت التجربة الداخلية ملغاة والقصيدة لا تمت بصلة الا الى الشكل.

* في هذا الصدد، كيف تقيم آصرة بين السياب والبريكان؟

- عالم البريكان ليس عالم السياب، فالاخير مولع ببنائه والسعي إلية، انه يعرفه مجرداً ويحاول شعرياً ان يضع لمساته الحسية وتكوينه الفني، مستعيناً بذاكرته الارضية، من طفولته وصباه في الريف حتى هجرته الى المدينة.. اما محمود البريكان فهو ينكر على نفسه أي دافع غريزي او نصف غريزي، فتجربته الروحية على قدر عال من التوازن مع وعيه ولذلك يبدو عالمه الآخر الذي يطل خاطفاً مثل اطلالات عالم السياب الخاطفة، عالم غير يقيني، موضع اختبار يتصيد الشاعر خلاله الاشارات والصور الرمزية الدالة، في حين تبدو الاشارات والصور لدى السياب اجزاء تسعى الى التكامل وكأنه وضع تكوينها وان بصورة تجردية مسبقاً.

* بأختصار سيكون هذا السؤال مسك الختام كما يقولون، ما الذي يمنح الشعر فرادته بالنسبة لشاعر متمرس مثل الشاعر فوزي كريم؟

- ان فرادة الخبرة الداخلية تتضح بالضرورة عبر النصوص ولذلك يسهل على المخيلة ترسم ملامحها، وعلى الرسام وضع خطوط تعبيرية لصورتها المرئية، في حين تعجز المخيلة والرسام عن صنع الشئ ذاته مع نصوص المهارة اللفظية وفطنة الخيال المدهش. لانهما يعكسان ذهناً رفيعاً لا روحاً عميقة والشعر والفن عموماً يخرج من الثاني لا من الاول والقيمة الجمالية تتحقق في فرادة الخبرة الداخلية، لا في الشكل الذي تفرزه. بمعنى اخر ان التجربة الداخلية الشغوفة في الذهاب بعيداً من اجل الكشف عن جوانب اضافية لـ "حقيقة" الكائن الانساني حسنة كانت هذه الحقيقة او بشعة هي ذاتها المولد للقيم الجمالية، وهذه الحقيقة، هي ما يطلق عليها "تدوروف" اسم "الجمال". ان "الحقيقة" الداخلية التي يحاول الشعر ان يكشف عنها ليتمثلها تنطق عن الجمال فيه والتمثل هو الذي يدل على عظمته، وان استسلامه لأية متطلبات خارجية لا تؤدي الا الى افساده وان ما يبدو جميلاً هي الحقائق الجديدة والمفاجئة في الخبرة الداخلية الفريدة، لا في الصورة الجديدة المفاجئة، ان الجمال لا ينفرد في الصورة او البنية او اللغة الشعرية او الشكل بل هو الذي ينفرد في حالة الكشف عن معنى عبر مشاعر شديدة الفرادة والشخصية

 

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail