فوزي كريم 

Fawzi Karim

د.حسن ناظم

 

حوار في أنسنة الشعر

 

(الحوار نشر ملحقاً في كتاب الدكتور حسن ناظم "أنسنة الشعر مدخل الى حداثة أخرى: فوزي كريم نموذجاً". صدر عن دار المركز الثقافي العربي، 2006)

 

 

في الأردن، في العام 2002 وكنت قادماً من ليبيا، استعرت من مكتبة صديقي علي عبد الأمير كتاب ثياب الإمبراطور لفوزي كريم. قرأتُه وشعرت باختلافه على مستوى الرسالة التي يودّ أن ينقلها. هو كتاب شاعر وناقد وجد ضرورة لا تضاهى في أن يقول شيئاً يتململ في وجدان نقاد كُثر. في الوقت نفسه، قرأت كتاب النقد الثقافي لعبد الله الغذامي، فشعرت بإشكال يتململ من النتائج المتشابهة تقريباً للكتابين المكتوبين بمنهجين مختلفين تمام الاختلاف. منذ تلك اللحظة، بدأت عنايتي بفوزي كريم، منذ تلك اللحظة، أعدت قراءة بعض أعماله التي قرأتها منذ سنين، وقرأت ما صدر من جديد له على مستوى الشعر والنقد الأدبي والموسيقي والكتابة السيرية، وتأملت بعض لوحاته التشكيلية. ومذاك، شرعت بالكتابة، دراسةً دراسةً، عن فوزي كريم الشاعر والناقد حتى استقامت الكتابة كتاباً. خلال ذلك، دارت بيننا أحاديث مباشرة في عمّان في إحدى زيارات فوزي، ثمّ استأنفنا الحوار المباشر بحوار عبر الانترنت وبرسائل متبادلة وجدت من المفيد إلحاقها هنا لأنها لا تنفكّ تدور في مدار موضوعة "أنسنة الشعر".

 

حسن: هل تسرد بإيجاز ظروف تكوين شخصية فوزي كريم شاعراً وناقداً ورساماً؟

فوزي: ولدت في بغداد في يوم من أيام 1945. لم يكن الكتاب مألوفاً داخل العائلة ألفة الماء ورائحة السمك الطري فيه. كنا إلى جوار دجلة في جانب الكرخ. طفولتي وصباي مع الماء وظلال أشجار التوت. كانت الطبيعة هي ملاذنا حتى 1958. بعدها حلّت المواقفُ والأفكار محلَّ الطبيعة. صار الشبانُ لا يصفون الحياة، بل يخططون لها. وبالرغم من أن علاقتي بالكتاب والكتابة بدأت في هذه المرحلة بالذات إلا أن شيئاً لا تفسير له حال بيني وبين هذا التوجه، الذي غادر الطبيعة إلى المواقف الفكرية القاطعة. صحيح إني، أنا الآخر، غادرت الطبيعة، بفعل سحر الكتاب والكتابة. إلا أن مغادرتي صارت لصالح طبيعة أخرى أعرف الآن مقدار أهميتها وخطورتها، هي الطبيعة الداخلية للإنسان. صرت مولعاً بالكيان الحي الذي يصحبني، يتقاطع معي، يتآلف، وينقطع إلى النفس. لمْ يحدث أن تعارض الكتاب والكتابة مع تأملي في الطبيعة الإنسانية. أذكر أن أصدقائي جميعاً كانوا مولعين باعتمادي بئراً لأسرارهم وخبراتهم العاطفية. وكنت مولعاً بتعميق البئر. علاقة كهذه تعمق بالتأكيد القدرة على تأمل الحالة الإنسانية، والاجتهاد في تحليلها. وليس أيسر من أن تنتقل إلى قدرة في تحليل النص الكتابي. ولذا صرت معتمدَ أصدقائي ممن يكتبون القصة والشعر في معاينة ما يكتبون، والحوار المثمر حوله. من هذا البئر نشأ الناقد. ونشأ الشاعر أيضاً. وليس أدل على ذلك من كثرة النصوص الشعرية التي كتبتها حول أشخاص بعينهم (حسين مردان، الحصيري، نجيب المانع، منهل نعمة، محمود جنداري، هادي العلوي، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر...الخ). طبعاً أن تتحول هذه البورتريتات الروحية إلى مراث فأمر يكشف عن مقدار ما في المرحلة من أسى وعتمة!

قبل الكتاب والكتابة، أو محاذياً لها، كان ولعي بالنحت. كنت أنقل صخرة ملائمة من السُّد على منحدر دجلة في العباسية. كان صخراً على شيء من الهشاشة، يستجيب لرغبة الصغير بالمطرقة والدرنفيس في تحقيق ملامح بشرية، حتى لو اقتصرت على ملامح الوجه. الأمر، كما ترى، لا يبتعد كثيراً عن العناية بالكيان الإنساني والانجذاب إليه. وحتى اليوم ما زلت أشعر أن هذا الكيان الانساني لم يُستنفدْ في الفن التشكيلي، وفيما أرسم شخصياً. طبعاً، أنصرف للرسم أو النحت الآن حين أشعر أن القراءة والكتابة، وحتى الموسيقى، قد بلغت بي من التوتر حداً لا أحتمله. عملية الرسم والنحت، على خلاف القراءة، الكتابة، والإصغاء الموسيقي، تسرّب التوترات من بين الأصابع. أتحدث عن خبرة. وهذا يعني أني لا أرسم بقدر ما أقرأ وأكتب وأسمع للموسيقى.

على خلاف ما يتوقع أي قارئ لي أشعر أني منشد شعر، وأن الشاعر في داخلي معلق بأذيال الموسيقي، بالرغم من أني لا أؤلف الموسيقى ولا أعزف آلة. أكثر مصادر تغذيتي الشعرية جاءت من الموسيقى ومن قراءاتي حولها. طبعاً، يعود أكثر الفضل في هذا إلى الانجليزية، وإلى إقامتي اللندنية. حتى مشاعر الامتنان لهما إنما تولدّت لدي بفضلهما، فثقافتي العربية للأسف لا تغذّي مشاعر الامتنان والعرفان بالجميل.     

حسن: فوزي كريم على مشارف الستين، وللستين ثقلها لدى شاعر وناقد ورسام ومولع بالموسيقى مثلك، وقد وضعت آخر قناعاتك النظرية في الشعر في كتابك المهم ثياب الإمبراطور، فهل ما زلت متمسكاً بمقتربك ذاك، فهمك الذي أخضع الشعر إلى الروح وخبرتها أولاً وقبل كل شيء بمقابل شعر يخضع إلى الأعراف اللغوية أو الانزياح عنها قبل كلّ شيء؟

 

فوزي: في قصيدة كتبتها في 26/2/2004، تحت عنوان "وقد بلغت بي الثلاثون ستين عاما"، أجيب عن سؤال شعري متخيل له أن يُقرن بسؤالك النثري. على أن منطق الشعر يختلف من حيث الجوهر عن منطق النثر النقدي. أحسب أن من النافع أن أورد القصيدة بيننا كاملة:

وقد بلغتْ بي الثلاثون ستين عاما!

 

وأحسب أني،

بعمر الثلاثين، أقطعُ شوطاً الى ما أريدُ.

ولا يفهم الناسُ أمري، فيحتبسون.

وأنسج حباً

كعاصفة الثلج لامرأةٍ تنسج الشعرَ كالقشعريرة.

 

أقول لأمي التي ولدتني بفعلِ التلاقحِ:

إني وريثُ أبٍ منك لم يفترشْكِ!

فتعجبُ مما جنت يدُها. غير أني

أراها على غير ما يرتضي إخوتي:

                           سلماً لبلوغِ الغيابْ.

لأني أعلّلُ شعري بما ليس فيه،

وقارئَ شعري بما يرتئيه،

إذا هو أمسك عن شاغل، واكتفى.

 

ولكنني والثلاثينَ قوسٌ ونشّابُه لم يصبْ هدفا.

دخلتُ احترابَ تواريخِهم: هتفوا باسمهم،

وارتضوا لعدوهم سمةَ الخاسرين!

كأني حسمتُ احترابي مع النفس!

                             هذا أواني، 

وقد بلغتْ بي الثلاثون ستينَ عاما!

كما يتقاطرُ رملُ الثواني!

سأعشق امرأةً أتوهمها تنسجُ الشعرَ كالقشعريرة،

وأرتادها كجزيرة،

وأفنى هُياما.

 

يطوف بي الشعرُ خارج مرماكمُ، يا سُعاةُ.

أنا، واحترابي مع النفسِ. لا ما تعافُ الحياةُ.

 

في الثلاثين يدخل الشاعر مرحلة النضج، تدب به عمودياً حتى نهاية حياته. ومرحلة النضج تسعى تلقائياً، وبإرادة شعرية أوسع من فرادة الشاعر، داخل مدار شعراء الإنسانية المألوفين في تاريخنا الانساني. مرة وقعت على صورة متخيلة للكون، عميقة العتمة وموحشة، تتوزع عليها التكوينات الضوئية الهلامية للمجرات. مجرتنا في ركن معتم منسي، وسهم يشير الى منطقة غير مرئية داخل المجرة يقول: في مكان ما هنا تدور كرتنا الأرضية المأهولة الوحيدة بالإنسان الحيّ. أية وحشة!! الشاعر ميووش يقول إن الشعر مدينة موحشة. الشاعر وكرته الأرضية يلتقيان هنا. ومن هنا تتفجر مسؤوليته الكبرى. الشاعر الذي لا يحدق بعتمة الكون لا يملك أن يحدق صادقاً مخلصاً بمصير أخيه الانسان في المعترك الاجتماعي الساعي الى العدالة.

ما تسميه مقتربي النقدي بدأ معي في مرحلة مبكرة دون شك. من قصائد "حيث تبدأ الأشياء" التي حاولت، كما سعت القصيدة الأخيرة، اعتماد "الاحتراب مع النفس"، لا الاحتراب مع ما تعاف الحياة من ترهاتها الزمنية الزائلة. وهذا هو جوهر اعتماد التجربة الروحية التي تتعامل في صراعها مع الداخل، لا مع الخارج. كما أن قصيدة "حيث تبدأ الأشياء" حاولت، كما سعت القصيدة الأخيرة، الى مسعى شعري خارج مرمى "سعاة الشعر"، ولا هدف له غير خطوات الطريق ذاتها. "الثلاثون" مرحلة من العمر رمزية لدي، أنا الشاعر العراقي. لدى الشاعر الغربي قد تكون العشرين. وأنا وإياها ـ القوس والنشاب ـ ألفنا في مرمانا أن لا نصيب هدفاً بعينه. وقصيدة "حيث تبدأ الأشياء" أيضاً حاولت، كما سعت القصيدة الأخيرة، الى أن "تعلل نفسها بما ليس فيها"، و"تعلل قارئها بما يرتئيه هو"، إذا ما تعرى من كل شاغل مُملى عليه من مشاغل الحياة المحيطة الزائلة.

    إذا كان هذا ما حدث منذ مرحلة "حيث تبدأ الأشياء" حتى القصيدة الأخيرة، فلا شك أنه حادث ولكن بمسار عمودي حتى النهاية. وأرجو أن لا يأخذك الظن، أو يأخذ القارئ، بأني أتحدث هنا عن "أفكار" منفصلة عني، أو تصورات مجردة، أو مواقف. فهذه مما يؤمن به الفرد اليوم، ويستبدله بأخرى غداً. الأفكار أعراض زمنية قابلة للتغير، ومن هنا عمق ديناميكيتها. الشعر جوهر إنساني لا يتغير فيه إلا الظاهر في التقنية والشكل.

 

حسن: ما الذي يُلجئك كثيراً إلى اختبار الشعر في كنهه ووسائله في قصائدك، لاسيما حين نعرف أنك لا تفتأ تعالجه في كتبك النقدية ودراساتك؟ ما الذي يمكن التوصّل إليه عن الشعر عبر الشعر؟ ثمّ أليس في الأمر مضاعفة للصعوبة بدل تذليلها؟

 

فوزي: حديث رجل الطبيعة عن الشجرة يختلف عن حديث الشاعر. القصيدة كالشجرة، ويمكن لزاويتي النظر داخل الشاعر (زاوية القارئ الناقد وزاوية الشاعر) أن تكونا بذات الفاعلية. وشاعر مثلي يحلو له أن ينتفع من هذه الفاعلية ويستثمرها. الناقد في داخلي لا يجد غرابة في الكيان اللغوي والوجداني والعقلي الذي يسمى الشعر، أو القصيدة. في حين لا يكف الشاعر في داخلي عن التساؤل والتشكك والحيرة أمام هذا الذي يسمى شعراً، أو قصيدة. أحيان كثيرة أجد زاوية النظر الشعرية في الشعر والقصيدة غاية في الصواب، رغم أنها غائمة بفعل عمقها. ويحلو لي هذا.

الناقد بي لا يخلو من أنفاس الشاعر في النظر الفاحص للشعر ومهمته. ولكن الشاعر بي أكثر خلوة بالنفس، وبالتالي أكثر صفاءً. الناقد يجتهد في تعداد ما يلزم النص اللغوي كي يكون شعرا. يجتهد حتى في تعداد الاحتمالات. ولكن الشاعر يحس أن ثمة عنصراً غائماً من العناصر التي لا تشير إليها السبابة. عنصر لا يلتقطه الإدراك. وهو عنصر كفيل بإثارة كل مشاعر الشك واللايقين حتى في حقيقة الشعر: هل القصيدة جوهر لغوي، أم هي عويل كلمات توقاً للالتحام من جديد بالأشياء التي لم تكن الكلمات إلا رموزاً لها؟ وإذا لم تكن القصيدة الشريرة بالضرورة قصيدة رديئة، فلم يحتاج الانسان الشعر؟ وماذا يقصد ميووش بقوله إن الشعر مدينة موحشة؟ ولم قلت في قصيدة "يوميات الهرب من الأيام" هذا المقطع الغنائي المحير بالنسبة لي:

            الشعر أباطيلْ

            إن لمْ يسترْ عريانا

            قضيتُ العمرَ به مُزدانا

            والناسُ عرايا حولي

البيتان الأولان يوحيان بالانطواء على موقف أخلاقي. الآخران يوحيان بالاعتراف بالخطيئة. المقطع ينطوي على مفارقة، ولكن هذه المفارقة مقصودة بوعي كما هو ظاهر. وكأنني بلذاذة العارف أردت أن أبدو أمام النفس مورَّطاً. هل الشاعر ينتمي الى حيرة في موقع البين بين: بين موقف الشعر الأخلاقي، وبين خروج الشاعر عن هذا الموقف؟ وهل هذا ممكن أصلاً؟ أم أن الأمر يكمن في لعبة الشعر، أو لعبة عالم الوعي الشعري الداخلي الذي لا يخضع إلا لمنطقه وحده؟

    تأمل الشعر والمهمة الشعرية في قصائدي تتيح لي فرصة الخوض النشوان في كل هذا. أضف الى ذلك أن قراءتي لشعراء عرب آخرين من أجيال مختلفة تدفعني مزيدا من الدفع الى تأمل الشعر، ماهيته ومهمته. هل بالإمكان أن تخرج من الرداءة (ولم أقل الشر!) قصيدة (ولم أقل قصيدة جيدة!)؟ وحدُّ الرداءة لا لبس فيه، في حين حدُّ الشر قد يكون ملتبسا.

 

حسن: رؤيتك للشعر جعلت بعضهم يصنفك من "محافظي التجديد". فما التجديد لديك وما المحافظة؟ لا سيما إذا عرفنا أن تحطيم الأعراف اللغوية وتحقيق أكبر الانزياحات عنها هي المعيار المقام في وضعك في ذلك التصنيف.

 

فوزي: المفاهيم التي أشرت اليها، والمعيار القائم عليها هي جميعاً وليدة مرحلة "ثقافة إعلام" بالغة الرداءة والاعتباط. سماني أحدهم محافظاً بقصد الاساءة بعد كتابتي ثياب الامبراطور، المقالات والكتاب. أنا بدوري أكدت الصفة التي لم أر فيها تهمة. رأيت فيها فقط إساءة استعمال للمصطلح، شأن كل الإساءات التي لحقت مصطلحات النقد. لقد قيل عن تي. أس. إليوت في  نقدنا الأدبي العربي بأنه محافظ، بمعرض الاتهام. وهو في النقد الانكليزي محافظ بالمعنى الذي لم يتعارض فيه هذا المفهوم مع صفة الريادة الحداثية للشعر الانكليزي بامتياز. إن عدد المصطلحات النقدية الذي تراكم في صحافتنا الثقافية وفي كتبنا لا يشجع أي قارئ نافذ البصيرة على أن يأخذ أي واحد منه مأخذاً جدياً. أنا شخصياً لم أفهم من مصطلح محافظ التجديد إلا ظلال اللاجدية والفراغ العقلي والروحي. لأن المصطلح يمكن أن ينسحب على شاعر مثل السياب والبريكان ونازك وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور، وعشرات آخرين. أي على شعرنا المعاصر جملة، باستثناء الأصوات التي ترعرعت داخل أحضان صحافة التسلية غير الجدية. الأصوات التي تزعم أنها حطمت الأعراف اللغوية بجرأة هي بالتأكيد جرأة الجاهل بلغته. وإلا فأية أعراف تحطم في لغة لا تملك قاموساً عصرياً حتى اليوم!

يقول الشاعر البريكان في إحدى حواراته إن استعمال كلمة دون معرفة معناها بأمانة خيانة. أعتقد أن من يُتهمون اليوم بـ(محافظة التجديد!!) هم أولئك الذين يرون هذا الرأي. في حين يضج السوق بطليعيي خيانة النفس واللغة والمعنى. إنهم أبطال "ثقافة الإعلام" وصحفها ومؤسساتها ومهرجاناتها السائدة منذ عقود.        

 

حسن: من على مشارف هذه الستين، كيف تنظر الآن إلى جيلك الستيني بما يحتويه من شعراء وكتاب وفنانين بالعراق وخارجه؟ كيف تقيّم هذا الجيل أيضاً؟ وهل هو حقاً "الروح الحية" و "الموجة الصاخبة"؟ أعني بالتساؤل الأخير: ما رأيك في رؤية فاضل العزاوي وسامي مهدي له؟

 

فوزي: هذا جيل شارف على تجاوز الكهولة ودخول الشيخوخة. أنا أنتسب له، ولذا لا أشعر أني مؤهل بالحكم عليه بموضوعية وعدالة. على أني قلت رأيي فيه من زاوية نظر لا تنتسب الى تقييم الأجيال. زاوية نظر تُعنى بمهمة الشعر والأدب عامة، وبموقف الشاعر والأديب. زاوية نظر توجهت الى الجيل الستيني، وإلى الأجيال الأخرى، وإلى الشعر والأدب العربيين جملة.

كان جيلاً صاخباً وحياً دون شك. خصيصتان لا ريب فيهما. ولم يكن فاضل العزاوي وسامي مهدي في كتابيهما في حالة وهم أو مبالغة. صحيح أن الأمر كان يحتاج الى كتاب ثالث فيه وجهة نظر نقدية مغايرة عنهما لا لتقلب حماسهما إلى حماس مضاد، بل لتنظر بموضوعية أكثر، إلى مصداقية هذا الصخب وهذه الحيوية في جوهرهما. والى طبيعة الأصوات الشعرية والقصصية والنقدية والفنية التي قدمتها. لمَ كانت هذه الأصوات أكثر عرضة للانكفاء، أو للاستجابة الذليلة لأعتى مدّ أيديولوجي قاهر في المنطقة، ومتعين في ديكتاتوريات كدكتاتورية البعث وصدام حسين؟ إن الاتهامات التي كالها فاضل العزاوي على خونة الشعر من أبناء جيله، والتي كالها بالمقابل سامي مهدي لتلفت النظر. اتساع رقعة الخيانة والتخوين لم تكن اعتباطية، وهي دليل على وضع غير صحي بالمرة. وغرق الكتابين في الإدانات السياسية (من وجهة نظر أيديولوجية) لافتة للنظر لقلة من الستينيين. ولكنها ستلفت نظر كثيرين من أجيال قادمة. فاضل العزاوي يحاول انتزاع نفسه دائماً من الانتساب الايديولوجي، ولكنه على امتداد كتاباته داخل شرك الانتساب الايديولوجي هذا. لقد تربى داخل صحافة وأحزاب وأوساط النزاع الايديولوجي منذ يناعة موهبته المبكرة. قدرته على الاتهام بالخيانة في حقل الشعر تنم على هذه التربية الدفينة. حتى أنه أعطى الحداثة ومفاهيمها لمسة الايديولوجيا المقدسة، وجعل الانتساب اليها مفتاح أمان ضد تهمة الخيانة التي شهرها في وجه كثيرين.

إن معظم الظواهر غير الصحية التي نلمسها في الأجيال التالية إنما تعود في جذورها الى هذه الموجة الصاخبة الحية. كما أن عدداً من الظواهر الإيجابية، التي تتعين بأسماء بعينها، تلاشت أو كادت. العلاقة مع التراث العربي تلاشت، أو صارت في أحسن حالاتها مفتعلة وعضلية. والعلاقة مع الجديد الغربي تحولت الى سلاح لا يقل شائبة عن السلاح الإيماني الايديولوجي.

 

حسن: هل في نيتك كتابة هذا الكتاب الثالث ذي النقدية المغايرة؟ ألا ترى أنك تصلح أكثر من أي واحد آخر من أبناء جيلك لكتابة هذا الكتاب؟ فلست متأدلجاً لا بعثياً ولا شيوعياً؟

 

فوزي: بالتأكيد لدي نية وضع كتاب كهذا. ولقد سألني سؤالك أكثر من صديق. المشكلة أن معظم أفكاري بهذا الشأن توزعت في أكثر من كتاب وأكثر من مقال، حتى لأشعر بوطأة مهمة أن أحيط بها من جديد في كتاب أكثر نظاماً. هل أصلح لمهمة كهذه؟ أعتقد أن كل كاتب فاعل من الجيل الستيني، وكل قارئ فاعل من هذا الجيل أيضا يصلح لهذه المهمة. ولكن أن أكون الأكثر صلاحا لأني لم أكن متأدلجاً، على حد تعبيرك، فأمر أشعر أني أملك من الشجاعة ما يكفي لموافقتك عليه. إن الإفلات من الإيمان العقائدي، في حقل السياسة والفكر والأدب أيضاً، كانت حالة استثنائية في ستينيات العراق. ولقد كانت مطعناً ومثار اتهام من قبل الأكثرية الأكثر فاعلية. ولقد شاء فاضل العزاوي باعتزاز أن يوثق هذا الموقف الستيني في كتابه الروح الحية، دون أن يشير الي باسمي الصريح قائلاً: "من الأمور الطريفة في الثقافة العربية الآن ضمن طرائف كثيرة أخرى هو أن بعض الشعراء والكتاب العراقيين بالذات راح يتباهى على أقرانه بأنه لم يتدخل في السياسة في أي وقت وأنه ظل بعيداً عن كل المعارك التي شهدها بلده، مكتفياً ربما بمناجاة النجوم والقمر، باعتبار انه لا ينبغي للشاعر أو الكاتب أن يقول أي شيء، يهم الناس..."(ص348) هذا توثيق صادق وواضح لموقف شاعر لم يتدخل بسياسة المعترك العقائدي، وظل بعيداً عن كل المعارك التي شهدها بلده. طبعاً سيتحرج فاضل كثيراً لو سألته أن يستعرض هذه المعارك التي شهدها بلده والتي لم يقف فاضل منها بعيداً بالتأكيد؟ حرب اليسار واليمين، اليسار واليسار. اليمين واليمين، حرب اليسار والسلطة، حرب اليمين والسلطة، حرب الطبقات، حرب الشمال بين السلطات والأكراد، حرب الأكراد فيما بينهم، حرب تحرير فلسطين، حرب الامبريالية؟ نعم، لقد كنت وما زالت مكتفياً بمناجاة النجوم والقمر، لأني أعتقد أن هذا مما يهم الناس حقاً. وأن علينا نحن الشعراء والكتاب، أمام پانوراما المعارك الدامية العمياء والحمقاء، أن نذكر الناس في مناجاتنا للنجوم والقمر بأن الدنيا مازالت بخير. وأن صوت داخل حسن وزهور حسين أوفى لجراحنا من أناشيد كتاب وشعراء المعارك الوطنية!    

حسن: هل يمكن أن يتحول الفضاء المفتوح الذي يسبح فيه الشاعر بعيداً عن فضاءات الأيديولوجيا والأحزاب والأفكار والمذاهب إلى فضاء مؤدلج هو الآخر على يد الشاعر نفسه؟ هل يحدث ذلك بفعل الجدل والمناهضة، بفعل الابتعاد نفسه عن الفكرة الأخرى؟ بفعل نقدها وتعريتها؟ بفعل الدعوة إلى سحقها؟ هل تغلق هذه الضديات ذلك الفضاء المفتوح ليكون، في التحليل الأخير، فضاء فكرة؟

فوزي: هذا الاجتهاد يمكن أن تولده اللغة الأدبية الذهنية. الدعوة الى إطلاق أسار العقل والروح من المعتقد والفكرة المغلقة الواحدة لا يفهم محاججة كهذه. تحول الفضاء المفتوح الى فضاء مؤدلج لا يتم إلا بفعل الايمان بالإيديولوجيا والأفكار والمذاهب...الخ ولا مجال لتخيل فضاء مفتوح لكل الأفكار عبداً أسيراً لانفتاحه على كل الأفكار! هذا يحدث في حلقات الدروشة وحدها.

حسن: كيف تنظر إلى ما يكتبه سعدي يوسف من قصائد ومقالات سياسية عن أوضاع العراق في حقبة الاحتلال الأميركي الذي قضى على نظام صدام حسين المجرم وما تراه أنت في هذا الاحتلال من "نجدة" و "معجزة أرضية" حسب تعبيرك في إحدى مقالاتك السياسية؟ ما تسويغك لهذين التطرفين؟

 

فوزي: ما يكتبه الشاعر سعدي يوسف هذه الأيام آني، ولصيق متغيرات متسارعة. ولا أريد أن أسجل رأياً آنياً، في مسار حوارنا الذي أردناه خارج المتغيرات المتسارعة. أنت ترى تطرفاً في رأي سعدي يوسف، وترى تطرفاً في رأيي. ومعك أريد أن أفصل في هذا الشأن قليلاً. هناك مفكرون حذرون من هذا التدخل الأمريكي. مع الإطاحة بدكتاتورية صدام حسين البالغة القمعية، ولكنهم لم يتوصلوا إلى بدائل عن التدخل الخارجي. هناك مفكرون وقفوا مع الإطاحة بصدام، ولكن أن لا تكون عن طريق الحرب. وهم أيضاً لم يستقروا على بديل. البدائل طبعاً كانت متوفرة لديهم ولكن على هيئة تهويمات لغوية برع بها اليسار الايديولوجي لسنوات طوال. هناك مفكرون أكثر جرأة، وقفوا علانية مع صدام حسين كبديل أهون شراً من التدخل الخارجي. ونحن نكاد نعرف أن معظم هذه المواقف تصدر أولاً عن عداء عقائدي عميق الجذور للغرب ولأمريكا خاصة، بحكم ولاء عقائدي وعميق الجذور لجمهورية اليوتوبيا العادلة المقبلة من الشرق. العداء والولاء هذان لايخلوان من صبغة دينية.

صدرت في موقفي، من مسألة مصيري الشخصي ومصير بلدي الذي أنتسب إليه، من موقع آخر أزعم أنه خال من نزعة العداء والولاء. من موقع الضحية الذي بقي ثلاثة عقود معتمة ودامية يطلب النجدة، وما من ملتفت ومنجد. ثم جاء المسعى من أغنى وأقوى دولة في العالم. تملك إرثاً في البحث عن مصالح، وهو أمر مشروع ولصيق بكل دولة ثرية وقوية. ولكنها تملك أيضا كل أسرار التحديث وكل مفاتيح العصر الجديد، الذي حرم منه العراق والعالم العربي لا حتى اليوم، بل حتى عقود طويلة قادمة. رأيت أن فرصتي، أنا الذي لا عداء لي مع الغرب ولا ولاء لي  ليوتوبيا الاشتراكية المقبلة من الشرق، وشيكة لا للقضاء على صدام وحده، بل لدخول العصر الحديث من أوسع أبوابه. بالتأكيد هناك من يقول لي ساخراً بأني واهم. ولكني تعلمت أن الواهم هو المؤمن وحده. وأنا لست مؤمناً. أعتمد ما أراه واقعاً أرضياً. ما أسميته معجزة أرضية يكمن، لا في إسقاط صدام حسين، بل في تحطيم القاعدة الإسمنتية التي ابتنى عليها صدام دكتاتوريته. هذه القاعدة الإسمنتية أُسست وتصلّبت منذ الخمسينيات. منذ حركة عبد الناصر الانقلابية بالتحديد، وشيوع الأفكار القومية، الانقلابية، والثورية. قاعدة اعتلت عليها باسم الوطنية والقومية والثورة عروش العوائل الحاكمة حكماً مطلقاً، بصورة لا مثيل لها في تاريخ العالم الحديث.     

حسن: مع أننا نعرف أن أول انقلاب عسكري في نطاق العالم العربي حدث بالعراق مع انقلاب بكر صدقي 1936، وحتى الانقلاب الذي تلاه سنة 1948 لم يكن ناصرياً بل حدث باليمن بتدبير ضابط عراقي كما يشاع. عموماً أود هنا فقط أن أقول إن التربة محروثة ومهيأة بالعراق ربما منذ آلاف السنين لاستنبات الطغاة. وحين يطبق عجز رهيب عن التغيير أو مجرد إمكانيته، فما الأساس الذي يسوّغ اجتلاب التغيير من الخارج؟ أهو العجز نفسه؟ أم تراه يُختصر بالقول "الأمور بخواتيمها"، أعني الغاية النهائية والمآل، وهذا يفضي بي إلى تأمل فكرة نشر الديمقراطية بالقوة في بلدان استعصى فيها التغيير وإمكانيته، هل أنت من دعاة هذه الفكرة؟

فوزي: التاريخ مليء بالطغاة على كل بقاع الأرض التي وطأها الانسان. العصر الحديث وحده الذي فتح أفق لم يألفه الانسان من قبل. كل هذه المعاني التي نلوكها نحن العرب: الحرية، الحرية الفردية، العدالة الاجتماعية، حرمة القانون، السيادة الوطنية، حرية الرأي، الديمقراطية... هي مفاهيم جديدة جاءت بها الحضارة الغربية وأشاعتها حقا مشروعاً بين الأمم. الانقلاب العسكري الذي حدث في عراق الثلاثينيات كان ردة فعل ضد شروع الدولة الدستورية ببناء نفسها، وشروعها ببناء وعي دستوري. لم تكن الجماهير ولا الأحزاب معها. مفهوم الثورة العسكرية الانقلابية في مشروع عبد الناصر جاء مدعوماً بحماس الناس والأحزاب. أي أن الحملة المضادة لدولة الدستور والبرلمان أصبحت ايديولوجيا شعبوية وثقافية في آن. وراء الانقلابين العسكريين دافع متشابه، ولكن شتان ما بين قاعدتيهما.

إذا كانت أرضنا العراقية محروثة ومهيأة لاستنبات الطغاة، على حد قولك، فلأنها تنتمي بعناد، ولعوامل عديدة، الى العصور الظلامية، وتأبى الدخول في العصر الحديث، بحجج السيادة الوطنية، العزة القومية، الحلم الاشتراكي، وصيانة الجذر الإسلامي. وهي جميعاً تنطوي على علة العداء للغرب المتقدم. هذه العلة التي أورثت العماء لكياننا الروحي والمادي بمجمله، تحت قيادة المثقفين والثقافة.

إنني لا أتردد في الاعتراف بعجزي إذا كنت عاجزاً. القدرة على الاعتراف أول ثمار المعرفة. الثقافة العربية منذ نصف قرن، بأصوات مثقفيها، تندب عجزها من جانب، ومن جانب، تكابر وتصرح متحدية ـ دون أن تعرف أن الأمر الثاني يتم بفعل ارتكاس سايكولوجي ومحاولة لتغطية النزف بتكشيرة الحانق. ثقافة مرضية شيزوفرينية ذات وجهين. ولقد انعكست هذه الشيزوفرينية، وهذا أخطر ما في الموضوع، على لغتها الثقافية والإبداعية. أكثر المثقفين معاداة للغرب وانتصاراً للسيادة الوطنية والعزة القومية والحلم الاشتراكي هم أكثرهم ادعاءاً متطرفاً للحداثة وما بعدها.

نعم، لقد كنت عاجزا عن إزالة ديكتاتورية صدام حسين العائلية. وكل الشعب العربي عاجز عن إزالة السلطات الشمولية للعوائل الحاكمة. لا أشك في ذلك. لقد رحب الفيلسوف الألماني هيگل بدخول نابليون الى بلده ألمانيا غازيا بمعنى ما، ولكنه كان يراه مقوضاً الجسد الألماني المترهل الرجعي الى نهايته، وفاتحاً الأفق لحركة التاريخ.

أنا اشعر بحاجة قصوى الى حركة التاريخ. الى العصر الحديث يدخل برياحه الحية الى كهوف كياننا المضاءة بشموعنا ودموعنا.

أما الديمقراطية، وهي وليدة الحضارة الحديثة فقط، فليست طبيعة بل تطبع. إنها ليست إرثا، بل هي نظام في الحياة يتعلمه الانسان. ما من مجتمع ديمقراطي بالفطرة. إن فكرة نشر الديمقراطية بالقوة تشبه نشر القانون، والنظام الدستوري، وحرية المعتقد، والحرية الفردية، بالقوة. الناس يجب أن تتعلم ذلك في المدرسة والعائلة والسوق. إنني لا أعرف ما الغرابة في ذلك. الروع الشائع ليس إلا وليد مرض معاداة "الأفكار المستوردة" في ثقافتنا الشيزوفرينية.

حسن: جملتك الأخيرة تذكّرني بمعاداتك "الأفكار المستوردة" على مستوى الحداثة الشعرية. ذلك واضح في خبرتك الشعرية والنقدية في آن، وكتابك "ثياب الإمبراطور" يُظهرها سافرة. فهل المستورِد (بالكسر) حرّ في انتقاء المستورَد (بالفتح)؟ وما الفرق بين استيراد حداثة شعرية أو حداثة سياسية مثلاً، كلتاهما رياح تهبّ فتعصف دون إمكانية ردعها، أليس كذلك؟

فوزي: لا أكتب قصائدي، ولا اجتهد في مواقفي النقدية إلا تحت ظل ورعاية الحداثة، التي انتفعنا فيها من الغرب. فكيف تتوهمني معاديا للحداثة الشعرية؟ ولعلك لمست خشونة السخرية التي أعنيها في مصطلح "الأفكار المستوردة". الحداثة الشعرية والنقدية، مثلها مثل التطور العلمي، وحرية الانسان وحقوقه، وحرمة القانون، والديمقراطية، متعلقة باللبنات الأولى التي بنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة. لا بالثمار المتأخرة التي يقطفها أبناء ومثقفو العصر الغربي الحديث. نحن نسعى الى تلك اللبنات. الى الجذر الأولي الذي اكتشفه الغربي بجهد سنوات مشقة هائلة الفاعلية. انا لا أدعو الى تطبيق آخر ثمار الديمقراطية الأمريكية، أو تبني آخر ما حققته حرية الفرد هناك. إنني محترس في كل ما تحدثت عنه ودعوت اليه من أن لا تتضح إشارتي الى أن كل تيارات ما بعد الحداثة الغربية جاءت على هوى الإحساس بانتهاء مرحلة هيمنة العقل لدى شريحة من المثقفين، خاصة في فرنسا وأمريكا. ولقد تبناها الستينيون ومن جاء بعدهم مجاناً. لا لسبب إلا لأننا نعيش حاضراً يعاني فيه من غيابات عديدة في مقدمتها غياب العقل. ولقد شعرنا بالتوافق المؤنس بين واقع غياب العقل وبين هذه التيارات التي بدت مشروعة.  وبدل أن تكون فاعليتنا نتاج وعينا لغياب العقل، صارت نتاج غيابه، في الوقت الذي نحتاج فيه، نحن الأمم المتخلفة، الى ما هو عقلي. الى النهضة العقلية الغربية التي أشرقت عليهم منذ قرون. لقد عثر المثقف والمبدع العربي على وهمين طرب لهما أي طرب: أولهما وهم طلاق العقل فغفر لغياب عقله. وثانيهما هذا الذي جعل الكلمة لا نهائية الدلالة فأعطاه أكثر من مبرر لبعث ميله الغريزي، بفعل الموروث، الى الإعتباط والشكلانية واللفظية.

الأمر، إذن، لا علاقة له باستيراد، وبهبوب رياح، ومن ثم بوهم معاداتي الحداثة. وأنا حديث في الشعر والنثر والإقامة! إنني أقرأ دريدا وروسو، وأدعو لقراءتهما. ولكنني أعجب من مثقف في العراق أو السعودية يتحمس للتماثل مع دريدا (حتى ليؤسس جمعية دريدية في البحرين مثلا!!)، لا للتأثر بروسو. أو يطمئن الى ضرورة الانتصار للمهمشين (فوكو)، لا الانتصار لفصل الدين عن الدولة، الذي بدا له بالتأكيد مفهوماً غير مثير للحماس بسبب قدمه!

حسن: في قصيدتك "العقد الخامس" في السنوات اللقيطة (ص103) تلخيص توجهات حياتك الماضية وخبرتها عقداً عقداً، وها هو عقدك السادس يفتتح عصراً عراقياً جديداً، أثمة إحساس بفوات الأوان، أو حتى فوات المكان، ولماذا لم تكن ثمة عودة للأمكنة التي لازمت حياتك وشعرك كلَّ حين وكلَّ مستقرّ، أعني مَن يقرأ شعرك الذي يعجّ بحانة كاردينيا على شارع أبي نواس، والعباسية على ضفاف دجلة وغيرهما يتوقع أن تكون العودة فعلية بعد أن كانت رمزية في الكتابة، والحال أنك الآن غير عائد، مصرّ على الهجرة أو التيه بينما إيثاكا تلوّح لك؟

فوزي: لست عائداً الى الأمكنة التي لازمت حياتي وشعري لعلة بسيطة معقودة بالظرف غير الطبيعي لهذه الأمكنة والأزمنة. لم تكن حاجتي للعودة في قصائدي ذات طبيعة شعرية، أو رمزية على حد تعبيرك. على العكس كانت ومازالت حاجة حقيقية، جسدية وروحية. على أن فكرة العودة بعد غياب أكثر من ربع قرن ليست بسيطة في ذاتها. كتبت على ضوء شموعها عدداً من القصائد المتأخرة لم تستطع أن تسلمني الى يقين. إنها عودة الى زمن ومكان لم يعودا كما عهدتهما. الى زمن استبدل في غيابي بزمن آخر. ومكان استبدل هو الآخر أيضاً. تصلني بين حين وحين رسائل محبة من مثقفين شبان لا أعرف إذا ما كانت استجابتي الحارة لها بفعل عواطفهم الطرية كأفراد، أم بفعل ما تعكسه هذه العواطف من خلفية زمان ومكان عراقيين أنتسب لهما! وهل سينتابني نفس الشعور إذا ما وردت من مواهب شابة من زمان ومكان مختلفين في الأرض؟ لا أعتقد ذلك. ولكن الأمر كما يبدو لا يوصلني الى يقين أيضاً.

حسن: تبدو في نظرتك إلى الواقع هنا، في الأقل واقع الأمكنة الحميمة، منطلقاً من رؤية رومانسية بحتة، فإلحاق المكان بذاتك صيّره الواقعَ الوحيدَ المتطلَّب، ومعه يكون زمنك الزمن الوحيد المتطلب. هذا الوضع، كما أعتقد، يضع سؤالاً كبيراً عن معنى "العيش في الذكرى" فعلاً وشعراً لديك؛ أعني التأويل الأقرب لديك للإلحاح المضني على أمكنة محددة تتناثر في كل مكان من أشعارك؟

فوزي: لا أعتقد أن أمري مع المكان له علاقة قريبة أو بعيدة مع "العيش في الذكرى". الأمر يبدو لي أكثر تعقيداً من المصطلح الأدبي. مرة حدثني صديق فنان عن شعوره الواضح بالقطيعة عن ماضيه. تأكد من ذلك على أثر لقاء تم في دمشق بأخيه الذي يصغره سنا، بعد غياب أكثر من ربع قرن. قال أن الأماكن التي يتذكرها تبدو مستعادة من مكان قديم منقطع عنه. كذلك الأحداث. ثم هاهو أخوه يطل عليه من ذلك المكان والزمان المنقطعين عنه بصورة لا تكاد تختلف عن الأماكن والأحداث المستعادة. إنه يكاد يعيش حاضرا دون ماض، لأن سيرورة ذلك الماضي باتجاه الحاضر كانت محرمة ومعزولة عنه بصورة كلية، فهو بماض لا حضور له في حياته.

هذه الحالة بدت لي وليدة طبيعية لقطيعة المنفى العراقي الطويل، الحاضر والماضي حين ينفي بعضهما بعضاً، ولقد وجدتها بهذا الوضوح لدى كثيرين . كونديرا في روايته الأخيرة Ignorance يعالج هذا الموضوع، ويكشف عن ذات النتيجة، لأنه ينتسب لطبيعة هذا المنفى ذاته.

بالنسبة لي بدا الأمر مختلفاً. لم أكشف عن ذلك في داخلي فقط، وعبر حركة حياتي، منذ المنفى الأول الذي كان طوعياً في بيروت (1969-1972)، بل تأملته في مجمل قصائدي. فأنا لم أقرأ قصيدة لي، إلا فيما ندر، تستعيد المكان والزمان الماضيين كذكرى. كشيء منقطع إلى نفسه عني في الماضي. أشعر دائما أن المكان الذي كنت فيه، والزمان، هما حلقة مازالت تتحرك لتصبح حاضراً. أشعر أنني لو قابلت أخي الذي يصغرني، ولقد حدث ذلك، سوف أخاطبه باللقب الذي كنت أخاطبه به قبل القطيعة الطويلة. وكأنها قطيعة لم تحدث إلا في الزمان التاريخي الذي لم أكن أنتسب اليه كلية. (كنت أيضاً أنتسب لزمن آخر في داخلي نواته اللحظة الشعرية). لأن هذه القطيعة كما أحسها غير خرساء. كانت كثيرة الكلام، كثرة الفعل، متواصلة الحضور. التقيت أصدقاء كثر عاشوا في العراق طيلة فترة منفاي ، فعجبت من عمق وكثرة تغيرهم تجاهي. في حين لم أكن أشعر في داخلي أية علامة تغير. وكلانا أخفى ذلك بالتأكيد. الإشارة في هذا المقطع الشعري ليست اعتباطية على كل حال:

            كأني حسمت احترابي مع النفس! هذا أواني

            وقد بلغتْ بي الثلاثون ستين عاما،

            كما يتقاطر رملُ الثواني....     

حسن: ما أساس مجلة "اللحظة الشعرية"، ولماذا تأسست؟ هل ترى أنها حققت شيئاً في سياق الأفكار التي تدعو لها شعراً ونقداً (أرجو أن توثّق الكلام بتواريخ تأسيس المجلة وتعثرها)

فوزي: أصدرت "اللحظة الشعرية" (صدر العدد الأول عام 1992) بدافع الأفكار النقدية، التي ولدت سلسلة "ثياب الإمبراطور". كنت أعرف أن موقفي النقدي سيأخذ مجراه الفردي داخل، أو في وجه، ما سميته "التيار السائد" شعراً ونقداً. ما من شيء ممكن أن يوقف رأياً يخرج إلى الناس في جريدة أو في كتاب. ولكن إصدار مجلة تطمع بتوجه كهذا لن يكون هيناً بالتأكيد. كنت أعرف ذلك. لأن تواصلها سيكون محكوماً بعصبة كتاب على ذات الدرجة التي أنا عليها من مشاعر التأزم، وسط ظاهرة ضاربة اللفظية والافتعال وهجران الحياة والإنسان. المجلة للأسف لم تنشر ما كانت تطمع به من قصائد ومواقف نقدية إلا النزر اليسير المحكوم بالصدفة. المد اللفظي الشكلاني المفتعل كان ضارباً. والشعراء الجيدون لا يحدقون إلا في مرايا أنفسهم، ويعتقدون أن رياح الحداثة يمكن أن تتوفر في أصواتهم الفردية، دون أن تخلف إشكالاً داخل مباهج تفردهم.

أعتقد أن سلسلة وكتاب ثياب الامبراطور هما اللذان تركا أثراً فاعلاً، والمجلة لم تكن أكثر من وعاء. عراق الغد سيكون قاعدة ملائمة جداً لإعادة إصدار المجلة من جديد وبثقل أكبر. أعتقد أن أصواتاً شابة عديدة تتطلع إلى أفق آخر أكثر نقاهة من هذا الأفق الخانق الذي ولدنا، ونشأنا فيه. أفق اعتقال العقل، وتلويث المشاعر، ومسخ اللغة، وإلغاء الإنسان.   

حسن: في العام 1991 كتبت قصيدتك الطويلة "قارات الأوبئة". وُصف نصها بأنه سيرة، وتاريخ، وشعر. والذي يقرأ كتابيْك مدينة النحاس (1995) والعودة إلى كاردينيا (2004) يقرأ أيضاً سيرة ذاتية نثرية، لكنك في كلتا المحاولتين، في السيرة الذاتية الشعرية والسيرة الذاتية النثرية، لم تكن ترمي إلى سرد حياتك، ذلك واضح بالمضاهاة بين حوادث الحياة والأفكار الأخرى. إذن، ما المرمى الخاص بالنسبة لك في قارات الأوبئة وفي كتابيْ السيرة الذاتية من كونها سِيَراً ونصوصَ أدبٍ؟

فوزي: تحتل "الذاكرة" حيزاً في كياني كإنسان وشاعر. "المخيلة" الأكثر مهارة هي التي تعينني في انتصاري للذاكرة لا للتاريخ. لأن الذاكرة حينها ستكون معبأة بفضائل المخيلة، بالأسطورة. لذلك تبدو القصيدة، التي تستعين بالذاكرة، والنص النثري الذي يستعين بالذاكرة، توءمان من رحم واحد. المخيلة تنتشل الذاكرة من الزمان التاريخي، لا لتدخلها في الوهم والاختلاق ـ هذا لا يحدث مع الشعر! ـ بل في بحران ما هو غير مؤقت، في الشعر، الذي تصبح فيه گاردينيا أبي نؤاس ـ الشارع گاردينيا أبي نواس ـ الشاعر، الذي لا زمان لهما.

كل أحداث وأبطال وأماكن وأزمنة نصوص مدينة النحاس واقعية، وتاريخية. ولكن ذلك يتم من طرف واحد للخيط. الطرف الآخر سائب في المخيلة. في الأسطورة، في اللازمان. الأمر معي يحدث في كل القصائد، التي تبدو واضحة الحجة، وفي كل نصوص النثر، وهذا موضع انتباهتك. لا أعتقد أن هناك من يحتاج إلى شيء من تفاصيل حياتي الشخصية. هناك من يحتاج إلى كيفية رؤيتي لها. صحيح أن بيتنا كان على ضفاف دجلة في العباسية. هذا ما يقول التاريخ. ولكن ليس بعيداً عن الصحة أيضاً أن بيتنا كان على ضفاف الأسماك، ومن ثم عالم الرغائب التي تشفّ عن الغرين البابلي. طيلة طفولتي وصباي كانت محلتنا تحت رعاية الجنية الخيرة "نور الهدى". وكنت أعرفها عن قرب. لأني كنت شاعراً بالتأكيد!

حسن: السياب لديك شاعر الخبرة الروحية بامتياز. كيف تفسر انتماءه الماركسي حيناً والقومي حيناً آخر؟ وكيف ترى إلى تنازع ممثلي الاثنين في ضمّه إليهما؟

فوزي: أما أنه كان ماركسياً حيناً وقومياً عربياً حينا آخر، فبسبب ضعفه وبسبب الضغوط القاسية واللاإنسانية من محيطه الثقافي. كان يجب عليه أن يتقبل من المحيط الأقوى الهوية المفترضة. وهل يمكن أن يواصل شاعر وأديب منذ الخمسينات كونه شاعراً وأديباً دون هوية؟ ماركسية السياب أعطته موقعاً ممتازاً، ثم حقق امتيازاً أكثر حين صار قوميا عربياً، وأخطر حين توهمه البعض في رحاب القومية السورية. ولذلك أعتقد أن فهم شاعرية السياب لم يحن زمانه بعد تماماً. حين تلغى الهوية ويتلاشى شاعر القضية سيضع الفضاء المفتوح كل شاعر في مكانه الذي يستحقه.

حسن: ما دعوتَه أنت بـ"درس السياب" في كتابك ثياب الإمبراطور، أعني أن تعكس الكلمةُ في الشعر الفعلَ وليس الفكرة فقط كما هو الحال في مقارنتك موضوعة الموت بين السياب وأدونيس؟ ألا ترى في هذه الفكرة دعوة إلى نمط من الشعر دون غيره، أم هي تمثيل للشعر الحقيقي دون الزائف؟

فوزي: بالتأكيد يهمني في كل ما أقول السعي إلى الشعر الحقيقي. أنا لا أتحدث ممثلاً لتيار في الشعر، أو أسعى الى مفاهيم بعينها. المحور الحقيقي في همي الشعري والنقدي يتعين في انتزاع موهبة الشاعر العربي من أسر السحر اللفظي، ومن أسر "الأغراض" الجاهزة المعلقة فوق رأسه على مدى ألف وخمسمئة سنة، ومن أسر الشعر "الملتزم" بالفكرة لا بالإنسان. اهتمامي بالمعري وأبي نؤاس والسياب والبريكان وصلاح عبد الصبور متولد من وعي أن قصائد هؤلاء، بالرغم من إغواءات السحر اللفظي و"الأغراض" والالتزام بالفكرة، لم تخرج إلا من إملاء داخلي. القصيدة من أبي تمام الى أدونيس تستلهم خصائص النمط الأمثل للتحديث، والتجاوز، والإدهاش. لأفكار الانطلاق من الأنا الى الكوني، وأسر الكوني في الأنا. تفجير قوى الجمال البكورية فيما هو مفاجيء وغير مألوف...الخ. تأمل معي كل هذه الدعاوى المثيرة فستجد أنها جميعاً مفاهيم مستقلة، مُفكَّر بها، ووليدة الذهن الانساني، ولا علاقة لها بالهوية الداخلية والاستثنائية للموهبة الشعرية. الهوية التي تفاجئ الشاعر ذاته لحظة الكتابة. الهوية المجهولة للخبرة عالية الالتباس.

إن كل ثقافتي لا تزيد عن كونها سماداً للتربة التي تنضج فيها تجربتي الداخلية كشاعر. فإذا كان التاريخ يُعنى بالزمان الظاهر فإن الشاعر يُعنى بالزمان الداخلي. وكذلك الشأن مع كل معايير الجمال، والأغراض، والأفكار. إنها خارجية بصورة من الصور. الموت كاسم خارجي ولدته الأفكار والتأملات. الشاعر مثل أبي تمام وأدونيس يقبلان عليه كمفردة مثيرة وجاهزة للتنويع عليها. والإقبال على مفردة الموت يخفي، بفعل هذه اللفظية، دافعاً سايكولوجيا يتنافى مع الشعر، لأنه يعزز التزوير. هذا الدافع السايكولوجي يكمن في الرغبة اللاواعية لاستخدام مفردة "الموت" كرقية لاتقاء شر الموت. اللعب على الاسم لاتقاء شر المسمى. السياب لم يفكر بالموت بل اسشعره، وعاشه. وهو لم يكتب عنه، بل كتب فيه، ومن خلاله. والنقاد لا يحسنون إدراك ذلك فيكتبون عن موت السياب في شعره. بل هم يفضلون دائما الكتابة حول "الموت عند السياب". لأنهم اعتادوا، بفعل العرف الشكلي والحذر من الانفراد بالهوية الداخلية، على التعامل مع مفاهيم وأفكار مستقلة وقائمة خارج الشاعر.

يمكن تلمس هذا أكثر إذا ما قارنا تعامل شاعر مثل أدونيس مع الذاكرة، وتعامل شاعر مثل السياب. الأول يستعيد ذكرى شخوص تاريخية "كقناع" فني، كما تحلو للنقاد التسمية. أو يستعيد المدن العربية الكبرى (بيروت، القاهرة، صنعاء...) فيؤرخ لها "داخلياً"، كما يحلو للشاعر والنقاد التسمية. ولكن هذه الاستعادة في حقيقتها لا تعدو استعادة ذاكرة عقلية عمادها المنطق، حتى في العلاقة بين الأضداد والمتناقضات. والذاكرة، وخاصة الشعرية، يتلاشى فيها العقل والمنطق. قاهرة أدونيس هي القاهرة المدينة ولكن أعاد بناءها بكلمات واستعارات وعناصر مخيلة قدمت كل ما من شأنه أن يقنع القارئ بأن أدونيس ليس إلا مؤرخ من طراز فني. جيكور أو بويب السياب تحولا في لحظات استعادتهما من قبل الشاعر الى مدينة ونهر لا ينتسبان للزمان التاريخي الظاهر، بل لزمان السياب الداخلي. الزمان الخالد. تماما كما تخلق الأساطير في مخيلة الشعوب.        

حسن: هل تعدّ كتابتك كتابةً ملتزمةً بمعنى من معاني الالتزام؟

فوزي: بالتأكيد. الأمر يعتمد على فهمك لكلمة الالتزام. إذا جردنا الكلمة من كل ما علق بها من شوائب المواقف الأيديولوجية، وحتى من التيارات الشعرية والنقدية المدرسية، التي شاعت في الغرب ثم الشرق، فإن مفهوم التزام العمل الابداعي بالإنسان ومصيره يبدو بديهة. ويبدو، على العكس، التزام العمل الابداعي وصاحبه بهذه الفكرة وهذا التوجه (حول) الانسان أبعد ما يكون عن الالتزام. في تاريخ الثقافة والابداع هناك على ما يبدو التزامان: الأول بالإنسان بما هو إنسان، والثاني بما سيحقق سعادته، أي بالفكرة المختارة.

كتابتي حذرة من الأفكار. الفكرة التي لا تثمر في التجربة إلا ثمرة فاسدة لا أتردد من إعادتها باحتراس الى رفوف الكتب حبث كانت. ما من فكرة مقدسة. كتابتي تمتص مادتها من الانسان بما هو إنسان، أما الأفكار التي تحقق سعادته الآتية فلا تستثيرني إلا مادة الحذر منها.

 

حسن: على الرغم من كلّ نقودك الموجّهة إلى تجربة أدونيس الشعرية، ألا ترى فيه درساً من نوع ما؟

فوزي: أدونيس، كما كان أبو تمام بالأمس، من أهم شعراء العربية المجددين اليوم. وهو، كالمتنبي بالأمس، من أكثر من ملأ الدنيا وشغل الناس. والذين يفهمون مما كتبت تنقيصاً من شأن أدونيس لم يقرؤوا كتاب ثياب الامبراطور بعناية. إن لي موقفاً من شعر أدونيس لا ينفصل عن موقفي من الشعر العربي ونقده. فموقفي من أبي تمام ومن المتنبي لا يقلل من شأنهما كشعراء كبار. موقفي يحاول أن يكشف النقاب عن حقيقة أن أكثر هذا الشعر العربي يخدم "أغراضاً" تقع مستقلة ورفيعة خارج تجربة الشاعر الداخلية. وفرادة القصيدة تتولد من فرادة هذه التجربة الداخلية، لا من المهارة في معالجة توجهها المعنوي وعناصرها الفنية. إن مهارة أدونيس في كل اجتهاداته الحداثية وما بعدها لا تجعله، من وجهة نظري، أهم شاعرية من السياب، الذي لم يكترث أو يجتهد مثل أدونيس بأمر الحداثة والتجديد. لأني أرى أن الانسحاب لفرادة التجربة الشعرية الداخلية كفيل بفتح كل سبل التحديث والتجديد، التي يُترك أمرُ اكتشافها وتحديدها للنقاد. وعلى هذا الضوء أرى أن الإنارات في قصيدة السياب باتجاه القصيدة الناجحة لا تنفد. تماماً كما انتفعنا، وننتفع اليوم، من قصائد شعراء مثل عمر ابن أبي ربيعة، أبي نؤاس، المعري، ابن الرومي... أكثر من قصائد الفرزدق، أبي تمام، والمتنبي. الأخيرون كانوا نافعين، وما زالوا، في نفخ الأنا المتضخمة والعنجهية البدوية والقومية. أو في نفخ القدرة الحاذقة على صناعة الكلام والخيال.  

حسن: عُرفت بإنشادك الشعر، بغنائك إياه في الأمسيات التي تحييها. ماذا يعني أنك منشد ومغنّ لأشعارك في نظرك؟ ولا أدري إنْ كان هذا مدخلاً مناسباً لمعرفة علاقتك بالموسيقى إجمالاً: موسيقى الشعر وغير الشعر؟

فوزي: أشعر أني أنتسب إلى مرحلة كان الشاعر فيها يحمل قيثاراً. منذ العهد السومري، الأورفيوسي اليوناني، والعربي الجاهلي. لو خُيّرتُ أن أكون بقدرة قادر لاخترت أن أكون مؤلفاً موسيقياً. ولكن على طراز المؤلف الكلاسيكي، في الهند، الصين، أو الغرب الحديث منذ عصر النهضة. في الموسيقى الجدية ما من أداة مادية بين المبدع وبين التعبير والخلق. في الشعر هناك اللغة، وهي وسيط الناس جميعاً، في كل حقولهم المعاشية والمعرفية. في الرسم أيضاً ما من سبيل لتجاوز مشاعية اللون في الاستخدام. وهما يسعيان للهرب أبداً من محاكاة الطبيعة خارجهما. الموسيقى وحدها التي تنفرد بانعدام هذا الوسيط، لأن الأصوات التي تعتمدها مجردة. والآه التي تخرج من صدر الانسان هي لوعته ذاتها. في حين يعرف الشاعر أن اللغة، وسيطه الوحيد، هي لجامه أيضاً.

سبق أن قلت بأني أنتفع من الموسيقى والقراءة عنها في تجربتي الشعرية أكثر من انتفاعي من قراءة الشعر ونقده. وليس عبثاً شروعي في كتابة كتابي الفضائل الموسيقية، الذي تحدثت فيه عن علاقة الموسيقى بالشعر في الجزء الذي صدر، وعن الموسيقى والفن التشكيلي، والموسيقى والفلسفة، والموسيقى والتصوف، في الأجزاء التي ستصدر تباعاً. لأن الموسيقى بهذا المعنى كانت إطلالتي غير المباشرة على الشعر، الفن التشكيلي، الفلسفة والتصوف. وأهم ما تعينني الموسيقى على استيعابه هو هذه "اللامباشرة".  وموسيقى الشعر، على ضوء ذلك، ذات ألوان وطبقات. قد تبدأ من معالجة التفعيلات والبحور التي تتكون منها، ومن اعتماد البحور غير الصافية مثلاً، ثم تنتهي بالتشويه والقطع وإرباك السياق اللحني، تماماً كما يحدث في الموسيقى. ولكن التأثيرات غير التقنية هي الأكثر ثقلاً بالتأكيد. الموسيقى الجدية لا تعبر عن العواطف كردود أفعال. أعتقد أن الشعر كذلك، أو يجب أن يكون كذلك. والموسيقى لا تعالج أفكاراً ومفاهيم، كما أنها لا تنشغل بالدعاوى لأية فكرة أو مفهوم خارج الخبرة أو "الضرورة الداخلية". والموسيقى تُعنى بالإحاطة الجليلة للوجود الإنساني الحي. الإنسان في الموسيقى أكثر جلالاً منه في الشعر. والموسيقى لا تصدر، بتعبير ڤاگنر، "إلا من القلب صُعُداً إلى العقل". لا من العقل انحداراً إلى القلب. والشعر لدي يحاول كل ذلك، وأن نجح فبضل الموسيقى.

حسن: كيف تنظر إلى كارثة انحسار قراءة الشعر؟ أهي جزء من انحسار المقروء أمام المرئي، أم هي علّة تكمن في الشعر أولاً وفي الوضع العالمي لتراجع القراءة ثانياً؟ وهل الأمل بإنعاش هذه العلاقة واقع على عاتق الشعر والشعراء أم على عاتق التلقي والمتلقين؟

فوزي: الشعر الجدي، مثل الموسيقى الجدية، هو برج تأمل. ولا يقصد برجاً كهذا إلا قلة من الناس. هناك موسيقى أخف وزناً وتخص النسبة الكبرى من الناس، بل كل الناس، والجديين ضمناً. للشعر حصة كهذه، ذلك الذي يُطرب ولا يذهب بعيداً في مغامرة التأمل والكشف عن الزوايا الخفية نصف المضاءة من النفس. مع الشعر الجدي لم يتم انحسار القراءة للحد الذي يلفت الانتباه. لأن قراءه محدودون منذ وجد. انحسار القراءة ملحوظ مع الشعر المطرب عامةً، بسبب الفيض في وسائل المتعة والتسلية، المرئية خاصة، التي صارت تنافسه. شاعر مثل نزار قباني مازال مقروءاً بكثرة. حتى أنه عُزز من قبل موسيقى الترفيه التي اقتربت من قصائده أكثر. في الغرب كانت مجموعة لشاعر مثل تي أس أليوت لا تصدر بأكثر من خمسمائة نسخة. اليوم دور النشر لا تطبع أقل من ألفين أو ثلاث. في أمريكا هناك قرابة ألف مجلة للشعر. الأمر يختلف في العالم العربي ولكن من ناحية معنوية لا كمية. دور النشر جميعاً تطبع الشعر. تفضل الكتاب السياسي أو الديني بالتأكيد، ولكنها كانت تفضلهما منذ سنوات بعيدة. ما اختلف إذن هو الشعر والشعراء. التطرف السياسي باتجاه الموقف العقائدي الأعمى انسحب إلى حقل الثقافة الأدبية، والشعر خاصة. صار الشاعر داعية. أمسية لنزار قباني، مظفر النواب، محمود درويش صارت تشكل مظاهرة سياسية بآلاف الناس. ساعة انحسار الحماس العقائدي، وانحسار هالة الداعية قد تفرغ قاعاتهم يوماً من الناس. ثم جاء وجه آخر من وجوه التطرف الإيماني، ولكنه هذه المرة إيمان بدين الحداثة وما بعدها. الشاعر فيه صار ظاهرة شيزوفرينية. فهو حريص على التوجه إلى النشر ووسائل الاعلام: كتب، صحف، مجلات، تلفزيون، مهرجان، وفي نفس اللحظة يكتب القصيدة التي تزعم تعالياً على الناس ووسائل الإعلام التي توصل إليهم.  يمكن تخيل كل هذا ببساطة، الأمر الذي يجبرك على الاعتقاد بأنا ما زلنا أمام ظاهرتي الشعر اللتين تحدثت عنهما سابقاً: الشعر الجدي الذي تمليه حاجة روحية عميقة لدى الشاعر وقارئه على حد سواء. وعلاقتهما لم تتغير على مر العصور. والشعر التطريبي الذي تتلاعب به الأهواء والظروف.

حسن: هل يمكن تسمية شعراء غربيين كانوا نصب عينييك وأنت تكتب الشعر؟ أعني مَنْ من الشعراء يحضر إرثه كلما تراءت القصيدة ملوّحة في التأمل، في المسافة العصية بين القلم والورقة؟

فوزي: منذ أكثر من خمس عشرة سنة وأنا أكتب مراجعات لما يصدر من دور النشر للشعر الانجليزي. ولدي الآن مادة كتاب لا تحتاج إلا لمراجعة تحريرية. هذا يعني أن قراءتي المتواضعة فيه لا بد من أن تكون قد تركت أثراً يستحق أن يُذكر.

يمكن أن أوزع هذا الأثر بين ثلاثة أنواع من الشعراء، الأول: الشعراء الذين اكتشفت أن قصائدهم تتحاور معي، وأن حاجتي للحوار معهم لا تنقطع ولا تنتهي. هؤلاء الذين لو ترجمت لهم لشعرتُ، أو شعرت أنت، أن قصيدتهم في العربية تتماهى مع قصيدتي. هؤلاء معلمو الحكمة، التي أسعى إليها ولا أطولها. معرفتي بهم تتم كاكتشاف لمحاور حميم معي في عزلة الصمت. وهذا الضرب من الاكتشاف لا ينفد، وسيبقى ما بقيت حياً. وهم ليسوا بالضرورة أهم الشعراء الذين أعرف، بل الأجدى. من هؤلاء، وعلى رأسهم الپولندي چيسلاڤ مِيْووش، الذي توفي مؤخراً عن عمر تجاوز التسعين. ترجمت الكثير من قصائده، التي أنوي إصدارها في كتاب. هناك شعراء أحس أنهم معي في هذا الحقل مثل الويلزي آر.أس. توماس، راعي الأبرشية في الريف الويلزي الوعر، الذي يبدو إيمانه الديني لي أكثر خشونةً من حشرجة المتشكك. والآخر الايطالي كواسيمودو (صدرت ترجمتي له في كتاب). النوع الثاني: وفيه أساتذة الشعر الأعلام ممن أحسن الحوار معهم، وأشترك مع كثيرين في الإعجاب بهم والامتنان لهم: توماس هاردي، أليوت، أودن...الخ. النوع الثالث: الشعراء الذين أقرأ لهم ولا أعود كثيراً. وهم كثر.

حسن: "أكتب لأدوّن ما قاله الله ولم يكتبه"، هذه إجابة أدونيس عن سؤال: "لماذا تكتب؟" التي انتقدتَها في كتابك ثيابك الإمبراطور (ص261). والآن، لماذا تكتب أنت إذن؟

فوزي: أكتب لأني لا أستطيع إلا أن أكتب. ثم أني أشعر أن لا خيار لي. ولقد سبق أن قلت لو خيرت من قبل القدر لاخترت أن أكون موسيقياً. ولكنني الآن شاعر، وعلى درجة عالية من الغبطة بذلك. ولأني غارق في الموسيقي غرقي في الشعر، وأنعم بغرق في الفن قد لا يرقى الى مستوى هذين، أشعر أن صفة الشاعر تأخذ سعةً أكثر إحاطة. تتعرى من قشور الأنا النفّاجة، والوجاهة الاجتماعية، والتراتبية. أما تعريها من السياق الثقافي السائد فرغبة محتجة لا أعرف مقدار تحققها. تعلمت من باخ الاحتضان الذي يسع الكون، وأن مشاعر الإيمان غير المشاعر الدينية. وتعلمت من بيتهوڤن الثقة بالمزايا الإلهية في الانسان، والتحديق بالصغار الذي يهدده. ومن أبي نؤاس الابتسامة الساخرة، ومن أبي العلاء الانحناءة العطوفة، لا الانحناءة الكسيرة. أما أساتذة المهارات والابتكار الفني فلهم في انشغال النقاد الكفاية.

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail