مقدمة بشأن لوحات عباس الكاظم
واحد من أصدقائه الفنانين قال له: "أفلتَّ من سجن الاسلوب"، وهو يعني بالتأكيد الاسلوب الشخصي. وهذا الرأي صائب تماماً مع لوحات عباس الكاظم. ولكنه يحتاج الى شيء من التفصيل الإيضاحي، لأن نزعة الأسلوب الشخصي الشائعة بين فنانينا العرب عادة ما تأخذ منحى شكلانياً يتعارض بالضرورة مع ما هو شخصي. هذا إذا فهمنا من الشخصي ما يدل على مجموع الرؤى والتصورات والمواقف لا أمام الحياة أو الطبيعة وحدهما، بل أمام اللون والخط والكتل وكل عناصر الفن التشكيلي المعهودة. المنحى الشكلاني للأسلوب الشخصي هو وليد مقاصد ذهنية مسبقة لدى الفنان، تهدف الى تميّزه وتفرده. إنها ثمرة نية مبيتة تخرج من الذكاء عن إرادة. وبهذا المعنى يغدو الأسلوب الشخصي سجناً. تتعرف فيه، من بضعة ثوابت شكلانية تتكرر في كل اللوحات، على شخصية السجين، صاحبها. لوحة عباس الكاظم لا تخرج من الذهن، ولذلك فهي لن تكون رهينة سجن الأسلوب الشخصي. إنها تخرج من دوافع أخرى طالما اعتبرت التقنيات ثانوية، مقارنة بالرغبة في التعبير المباشر والملح عما يعتمل في الداخل. الداخل الإنساني طليق، أعمى، مفاجئ، مادة خام، له ما للحمم من طبيعة تفجّرية. يحلو له أن يختلق الأسلوب الذي يليق بكونه الملتبس. يريد أن يبدو الجانب اللامرئي في عوالم النفس الدفينة مرئياً، محسوساً، لا بل ملموساً لمس الأصابع. الذي يؤخذُ بالطبيعة الخارجية الظاهرة للعين يلاحق الضوء، وتقلباته، وانعكاساته على الأشياء. فنان العالم الداخلي لا يعنيه الضوء كثيراً. إن تأملات عباس في طبيعة النهار والليل، في لوحتيه الكبيرتي الحجم، إنما تنطوي على حاسة مراقبة شيوع العتمة، التي تقبل في مواجهة ضوء النهار. شيوع العتمة أكثر أسراً، لأنها تحيلُ الى عتمة الداخل الغريزي وإضاءاته. الضوء يقبل على الأشياء، ينعكس عليها ويدخل مراحل تحولاته المرئية. العتمة، على العكس، تقبل على الأشياء لتحتويها، تستجيب لدعوتها في الرحيل الى عالم الأعماق المجهول. ما من انعكاسات في لوحة عباس، إذ ما من ضوء. الزرقة، والحمرة، والخضرة، غامقة جميعاً، ومشوبة بشرايين الأسود والبني، في حين يشيع اللون البرتقالي المشبع بالإشارات، وكأنه بعدٌ ثالث في اللوحة، يشي بنهار غائبٍ، أو وشيكٍ على الغياب. الداخل الإنساني هو المصدر الدائم لتوليد الصورة في اللوحة، ولذلك تبدو الطلاقة في التشويه وتهشيم القوانين الواقعية للصورة البشرية، مثلاً، هائلة ومنفعلة. الداخل الإنساني لا يخضع لمعيار أبعاد الزمان، ولا أبعادِ المكان، بل لأبعاد الانفعال والمشاعر اللامحدودة. قد تلتحق اليد بالجسم بعضد يشبه الخيط، أو يتماها الوجه مع كتل ألوان متطفلة، ولكن الأمر لا يشغل عين المشاهد. ما يشغل هذه العين هي الصرخة الحبيسة في الهيئة، أو الصمت الحبيس. والداخل الإنساني ينبوع توليد "الثيمات" أيضاً، التي تشغل أحياناً أكثر من لوحة. إن الشخص المحارب القادم من التاريخ مثلاً (لوحة رقم3)، لا بد أن يكون ذا مسحة بدائية ترتبط بالأسطورة. تأمل الوجه والرأس وما يعتمر. حتى لو كان هذا التاريخ عربياً إسلامياً، تأمل اللباس والزخرف والأهلّة. لأن الاسطورة، إذا ما انتسب التاريخ للزمن وللخارج وللضوء، إنما تنتسب لما هو غير زمني ولعتمة الأعماق. هنا يتحرر الفنان من ربقة التوثيق، ليذهب الى ما ترتأيه الرؤى الداخلية الفالتة من أسار الزمن.
والأمر يصح في التعامل مع الصور الحلمية للغريزة. داخل إطار اللوحة
(رقم12) ثمة مخلوق ما. الفنان أراده أن
يكون في الظاهر كياناً ضفدعياً. العينان الجاحظتان، الساقان
المقرفصتان، الرأس الذي
يلتحم بالجسم دون أكتاف ظاهرة! ولكن تكشيرة الأسنان وعنوان الذكورة،
وبضعة لوحات
رسمها الفنان في ذات المنحى لتكوين أنثوي، تكشف عن كيان إنساني، لا
حيواني. ولكن الدوافع الغائرة الغامضة إنما خُصّت، في لوحات عباس، بالألم الإنساني. الألم الذي هو قرين التكوين الروحي والبايولوجي معاً، لا التكوين الاجتماعي. الدوافع تتمظهر في تماهي الانسان والحيوان. وتتمظهر في الانتساب الدائم لوحل الغرائز الحارة. في لوحة (رقم15، ورقم19) نقع على شبه كيان صارخ. الصرخة هنا لا تشبه صرخة المحتج بسبب قهر اجتماعي، ولا تشبه حتى "الصرخة" الميتافيزيقية للرسام مونك، بل هي هنا صرخة أسير الغرائز، الانسان داخل جسده الحيواني. ولذلك تبدو أشبه بصرخة ذعر. لوحة عباس لا تخلو من هيئة إنسانية، وهي لا تسعى الى تكوين هذه الهيئة بدأب الحذِر، بل تسعى بتعجلِ الغاضبِ الى تحليلها، وإعادتها الى مكوناتها الأولى: وإذا هي محض طينة! في لوحة(رقم25) كتل بشرية داخل مربع، لا تريد أن تفلت من الأسر، لأنها لو فعلت ذلك تحلّلتْ وتلاشت.
!
|
|