فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

من مجموعة عثرات الطائر

(المؤسسة العربية، 1983)

 

 

شِــراع



كلُّ شراعٍ لمْ يعدْ إليكِ يا مخافرَ الحدودْ،
لا باحثاً، سدىً، عن المعنى
ولكنْ هرباً من المعاني السودْ
فهوَ شراعي
.

1979

 

 

 

 



حيّيتُ صباحاً بائعة الأنتيك



حيّيتُ صباحاً بائعةَ الأنتيك
والقطَّ النائمَ خلف زجاج البابِ المُغلقْ.
قدمايِ هما،
عينُ الخُطوات،
طلاقةُ من يتلمس جيباً مثقوباً،
وحنينٌ أخرقْ.
سميَّتُ حماقاتي الأولي، وصداقاتي الأولى،
وتمثّلتُ البيتْ:
آيةُ آمالي في ما أخفيتْ .

غنيّت على مدْرجِ سانت پول
وقلّدتُ العشاقَ ببلدان شتّى،
أبليتُ بلاءً حسناً في عُرف السواح،
ـ هل تشربُ مسْ جانيت الشاي معي في مقهى ياسين؟
لطّختُ قميصي بالأصباغِ وقلتُ لمنْ أعشقْ:
لنْ أشربَ كأسك ثانيةً ، ولجأتُ إلي المُلصق
مطعوناً مثلَ شهيد
في المدن الكبرى أشعرُ أني أكثرُ يتماً،
ويتيمٌ حين أسمّي كلَّ حماقاتي الأولى،
وصداقاتي الأولى.

في أيرلس كورت رأيتُ نَديماً أعرفُه
مطعوناً بالشُبـُهات.
ـ من يتبعُ ظلِّي حتّى هذا الحدْ؟
ـ من يُطعمُ لَحْمَ أخيهِ مخالِبَ موطِنِهِ المرتدْ؟
ـ من يُطلقُ كلَّ يتامى الطيرِ من القفصِ الأسْودْ؟
من خوفي لم أبرأْ بعد!
لكني حين رأيتْ
في أيرلس كورت نَديماً أعرفُه
ولّي مُرتاباً من وجهي وأنا ولّيتْ.
مَن يتبعُ مَنْ؟
مَن يخشى مَنْ؟

حيّيتُ مساءً بائعةَ الأنتيك،
والمطرَ الناعمَ فوقَ زجاجِ البابِ المُغلقْ.
قدماي هما،
عينُ الخُطوات،
مرارةُ من يتعلمُ حكمتَه السوداءْ
في هذا الكهفِ ويعتزلُ الأيام،
مقذوفاً بينَ ثنيّات البردِ الأزرقْ.

لا أسألُ إلا عن وطنٍ يسألُ عنّي،
وأغنّي حيثُ أشاءْ،
المسكُ بأردان الشرقيّ
وملءُ ضفائره الحناءْ
.


لندن 1979

 

 

 

 

وطن



أعودُ لهدأتهِ أولَّ الليلِ،
لا أحداً أتعرّفُ،
لا سكناً،
لا شوارعَ ممّا ألفتُ معَ الليلِ.
رائحةُ الثأرِ في كلِّ منْعطفٍ،
رائحةُ الأسفنيك،
وما شئتَ من فتنْةِ القولِ.
لا شيء
غيرُ المعاطِف تَفلتُ من عَتَباتِ القبورْ،
(المقاهي وعتمتها وبيوتِ الزنا والخمورْ)
كأنَّكَ تسمعُ في أولِ النّزْعِ وحدكَ
موتاً أليفاً، صدى عرباتٍ تعودُ،
أناشيدَ لم تكتملْ،
ثمَّ لا شيء،
لا شيء
.

1981/11/19


 



منفى



1

لماذا أولّدُ بينَ احتمالين هذا اليقينَ،
وأرقبُ من دونِ طائل؟
وإني بعيد،
وأشربُ باسمكَ حتّى الثُمالَة.
لماذا حللتُ بهذي المدينة
كأن الشوارعَ فيها سؤالٌ،
ورائحةُ الأفْق تُقْرنُ بالموتِ والاستحالَة.
لماذا أجوبُ الشوارعَ أسأل عنْ ظلِّ أفعى
من الشمسِ تَسْعى
بهذي المفاصلْ؟
أهذي المدينةُ منحدري
وقميصي الذي يتوزّعُهُ الموجُ في كلِّ ساحلْ؟



2

ولكنَّ غصنَ الخريفِ
يجرّدنُي كيفما شاءَ من عَرَقي وعراقيّتي.
كأني أعودُ به ـ مثْلما كانَ ـ عُريانَ
إلا من الفَقرِ والصَبْر وقتَ المحَنْ.
أغني له آخرَ الليلِ
بينَ الأزقةِ،
في كلِّ مقهى، وملهىً، وخمارةٍ… أو رصيفِ،
نصيبَ أخي في احْتمالِ الأذى والوشاية،
ومن يكتبون القصائدَ في ظلِّ راية
.

لندن 1981

 

 

 

يا أرضُ يا سيئةَ الطالع



1

من أي خَرْقٍ يخرجُ الدخانُ
رايةَ أمواتٍ علي الطريقِ
إليكِ يا عامورة ؟

أي شهيدٍ لمْ يعُدْ بعْدُ، ولمْ يُفْسحْ له مكانُ
سواكَ يا صديقي،
في هذه الحديقةِ المهجورَة؟
أعمى وما وحّدني فيكَ نشافُ ريقي
في ظمأ المنفى، فأيَّ ضيقِ
تمنحني
بلادُكَ المقهورَة
؟



2

يا أرضُ يا سيئةَ الطالع،
دخلتُ من جرحِكِ بابَ جنّةٍ
عاريةٍ إلا من الوعيدِ
عمياءَ كالنشيدِ.
مِن أيّ وجهةٍ أتينا، وتُرى لأينْ
نمضي، وأيّ سورة
نقرأ من آياتِكِ المحظورَة؟


3

يا أرضُ، يا أغنيةَ المحكومِ بالإعدام،
يا بِدعةَ الحكّامْ،
يا شَرفَ الشاعرِ إن ماتَ
ويا قرينةَ الخيانة
إن عاشَ، يا سيّدةَ الكلامْ
والصمتِ،
يا سيئةَ الطالع
.



4

لمْ أحتكمْ لأحدٍ، لكنّني وضعتُ في قافلةِ المخاوف
رحلي، وغادرتُكِ،
(ظلُّ شاعرٍ علي جدارٍ)
فالرواةُ عبروا، والعرباتُ، وبناةُ السفنِ، الملّونونَ،
الأنهرُ المنسيّةُ، التاريخُ في منحدراتِ اليمِّ،
قتلى الحرب… قمصانٌ، مشردون.
وأنتِ في الوحدةِ عزلاءَ، وفي رأسِكِ تاجُ البطلِ الزائف
.

 



5

لم أكتب الشعرَ علي قِبابك،
ولا علي بابِكِ أوهامي، فأيُّ باب
يأمَلُهُ القانعُ في سؤالهِ عن الجوابْ؟
هل يرتمي في حضنِ قوّادةِ للّيلِ، أو سلطةِ للّيلِ
أو كتابةٍ للّيلِ هذا الشبابْ؟
أطلقُ أحلامي كما أطلقتْ
بريّةُ الوحشةِ كلَّ الذئابْ
وراء هذا الرتلِ عندَ بابِكْ.
يا صهوةَ الغازي إذا ما غَزا
ويا صدي الغرابِ في خرابِكْ،
ولا أكفُّ عنك
.



6

تذبُلُ أوراقي ولا أنْشُدُ غيري
إنّني الدِّفلى ابنةُ الطّينِ،
وهذا قدرُ الدِّفلى
.

1982/11



 

 

محاولةُ بحث عن عبد الأمير الحُصَيري

1

الصدأ قديمٌ، قدمَ الليلِ، علي مطرقةِ البابْ،
والبابُ قديمٌ مقفلْ.
وأنا لمْ أحفظْ في الزوّادة غيرَ الذكرى:
شفةٍ لحُطَامِ الكأسِ،
ويومٍ من أيامِ الحربِ معَ الجندِ الأسرى،
وقصائدَ لمْ أكتبها بعدُ،
وتخطيطٍ أولْ
لصديقٍ مدخرٍ للأيام الأخر
ى

 

.
2

لمْ أعثر في الطرقاتِ علي آثاره.
لم أَسألْ عنه نديماً أعمى في زاويةِ الحانْ
يُصغي للملحِ الساِقطِ من أشعاره.
لكنّي حيثُ أحلُّ،
على أبواب منازلَ لم أدخلها،
عندَ زُقاقٍ لم آلفه،
لا أسمعُ ألا وقعَ خُطاه
وحفيفَ المعطف



3

الناسُ مرايا أنفسهم،
والخوفُ سَكَنْ
.



4

هل أكتبُ أنكَ لمْ تَمنحْ صوتَك
للملكِ العاري تحتِ الثوبِ الزائفْ
!

 


5

من يسألُ عن "مقهى ياسين" ،
وعن أضواءِ نيونِ المقهى في أحداق زبائنها؟
من ينصبُ شاهدةً في حانةِ گاردينيا؟
صعلوكاً فوقَ رصيفٍ يُنشِدُ أشعاراً
عن آخر أيامِ العشّاق؟
من يرفعُ
عن أقمارِ الليلِ لثامَ البدوي،
والختمَ الأحمرَ عن بابِ الفرحِ المنسي؟

لا تقسمْ،
لا تُقْسمْ باسمي،
لا تقسمْ باسمي إنك لنْ تأكلَ لحمي




6

في البابِ الشَرقي
منتظراً، تحتَ النُّصبِ ، حساءَ الليل
والشايَ وسريرَ الفندق.
لم أبعُدْ مَرْمي حجرٍ
عنْ رائحةِ القمح علي رأسِ الحُبْلى،
عن قدَر الثورةِ في القُضبان
وعنْ وجهِ الأمّ الثكْلى،
وصهيلِ الفرسِ
وقرصِ الشمسْ.
مُنتظراً تحتَ النُصب حفيفَ المعْطفِ… يومَ تعودْ
مخموراً، باسمكَ وحدك.
فالناسُ مرايا أنفسِهمْ،
والوطنُ وليمةُ من كتبوا
في العتْمَةِ كلَّ قصائدهمْ
إطراءً للأيامِ السّودْ
.

 



7

لم أعثْر على عبد الأميرِ الحُصيري.
لقد ألحقَ بخطواتِهِ شوارعَ أكثرَ ألفةً، أو دخلَ مدناً أخري.
والذين سألتُهم عنه، كانوا أكثر رغبةً في أن يلتحقوا
بشوارعَ، وأن ينتسِبوا إلي مدن.
فلمْ أجدْ ما يطيلُ البقاءَ في هذا الزُّقاقِ أو ذاك،
حيث تُوهِمُني النداءاتُ الكثيرة
بأنه، على عهدِهِ، لا ينتظرُ أحدا.
إلا أنني تبيّنتُ أخيراً
أن عبدَ الأمير الحُصيري عَبَرَ، كما يعبُرُ المارة،
هذا الوطنَ، أو هذه القارة،
أو هذا الكوكب.
وأنا ابن الخطايا الأرضية… اتخذتُ طريقَ المنْفى،
تاركاً عازفَ الكَمَانِ إلي جَانبي
.

لندن 1982

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail