العدد 16 خريف 2009

 

من "انثلوجيا الأسماء والأمكنة"

ياسين طه حافظ 

 

 

(3)

 

1957 سنة غائمة لا خطر ولا وضوح. والهدوء لا يضمر معنى. تلك السنة اكمل تلميذ نحيل متوقد العصب دراسته الثالنوية. كان مختلط الاحلام كاي فقير طموح. لكن صاحبنا لامال يسنده، ولاجاه، ولاوسامة تمنحه قبولا ويمنح بها رضا.

وصل المحطة التي كان يقرأ على مساطبها او يلهو بمنظر المسافرين في العربات مَنْ وجوههم في النوافذ، او القلة الذين ينزلون والقلة الذين يصعدون. هذه المرة وصل المحطة هو ليصعد مسافرا في القطار.

كانت في تلك السنوات سكة حديد تربط كركوك ببغداد، من كركوك يذهب فرع لاربيل، ومن منتصف الطريق يذهب فرع لخانقين. وحين يمر ببعقوبة، ذات المحطة الجميلة المعروفة، نكون بواسطته اتصلنا بالعالم من حولنا وذكرّنا قدومه بمدن اخرى.

بعد بعقوبة يمر القطار بالحصوة او كاستلبوست Castlepost ثم خان بني سعد مرورا بمعامل الطابوق خارج بغداد فمحطة باب الشيخ وبعدها باب المعظم.

ذلك الولد الناحل، شاحب الوجه قليلا، جلس الان في عربة القطار، ملموما. وحين اطمأن الى انها رحلة حقيقية وانه الان في القطار وان القطار يجري في البراري مطلقا صيحاته الى المجهول، نهض الى الممر ينظر من النافذة الصغيرة، ليرى القطار وهو فيه يجتاز مزارع الرقي كما يجتاز يبابا واراضي بورا.

هي متعة اذا. وتذكرة قطار الدرجة الثالثة بستين فلسا، ومع تخفيض الطلبة تكون الرحلة الى بغداد عاصمة هارون الرشيد بثلاثين فلسا!

كانت العربة شبه فارغة ويستطيع ان يمدد ساقيه على المصطبة امامه. لكنه واقفا او جالسا او متمددا، يمسك  بيقظة شديدة "فايلا" فيه "اوراقه المطلوبة" ليتقدم الى  "دار المعلمين العالية". كان قلقا، مرة يقف، مرة يجلس، مرة يمتد متظاهرا بالهدوء، ومرة يخرج ورقه ويكتب ما يراه شعرا. احيانا يجلس بانتظام متخذا هيئة طالب في دار المعلمين العالية. او يتمشى بين العربات، مثل طلاب وطالبات "العالية" يتنزهون على السدة الترابية او بين كالبتوس الوزيرية...

قبل انتقاله الى بعقوبة وهو في بداية الصف الخامس الابتدائي، كان يسكن في بغداد وفي "كرادة الكسرة" خلف كلية التربية الرياضية اليوم، وهي منطقة ليس فيها ثري واحد.. فحين كان الصبية يلعبون في شوارع الوزيرية القريبة يسرقون من حدائق قصورها التفاح الاخضر والمشمش الاخضر "الجقال" كانوا يرون طلاب العالية وطالباتها هناك، بحجة النزهة الهادئة او حجة المعهد الثقافي البريطاني، الذي كان هناك، او بحجة الحب وهي كبرى واصدق الحجج..

كانت فتيات العالية قليلات وجميلات واكثر غنى من طالبات اليوم. فما كانت غير العوائل الغنية ذوات اليسار، او النبيلة، ترسل بناتها للجامعات والى بغداد. كن ياتين من مدن العراق الشمالية فيشع الجمال الكردي والتركماني والموصلي او من مدن الوسط والجنوب، فتاتي بنات الناصرية المرهفات او بنات الكوت الهادئات والرهيبات في آن، او البصريات الساخنات لغة ونظرات او بنات العمارة "المملوحات" ذوات المذاق النسوي الذي يشعل في جسد الناظر الظمأ. ان الانسان ليعجب كيف ينبثق من قرى العمارة واهوارها مثل هذا الجمال الفريد ...

القطار صاخبا يجري والولد جالس في احدى عرباته يستعيد فلما جميلا احتفظت به الذاكرة، يوقظه القطار بوقفة وارتجاج او بصيحة وحشية يطلقها في البرية، او يوقظه من حلمه صعود راكبين في "كاستلبوست" او خان بني سعد والمعامل.. بعدها تلوح معالم بغداد فيظل منتبهاً كمن يريد ان يمسك شيئا، حتى يدخل القطار محطة باب الشيخ ثم باب المعظم

هنا نزل الفتى حاملا فايله، حاملا قصة عمرٍ جديدة وخارطة لزمن قادم سوف يسلكه هذا الفتى حتى يكبر ويشيخ.

وهكذا سار بخطى ثابتة تاركا باب المعظم و "الطرزينة" الى العالية. دخل جريئا مع قليل من خوف مما تسببه الدوائر والمراجعات. لكنه كان مفعما بقوة، بفرح داخلي، بتحد لم يكن متوقعا من فتى ناحل يبدو ضعيفا.

دخل غرفة التسجيل وقدم اوراقه.

- "حسنا" اوراق كاملة. وانت على الاكثر مقبول في معدلك. اما القسم الداخلي، فهذا ما ستعرفه في الاسبوع القادم"!

- "لكني لا يمكنني ان ادرس في الجامعة دون القبول في القسم الداخلي. اهلي في بعقوبة والعيش في بغداد، امر صعب."

- "اعلم"

- "كيف اتاكد؟"

- "الاسبوع القادم!"

وعدت الى بعقوبة في الباص الخشبي الذي ينقل ركابا او ينقل رقيا وعنبا في الصيف، ولفتا وبرتقالا ورمانا في الشتاء دفعت "الدرهم" للسائق، وبعد ربع ساعة او اكثر من حركة الباص، غرقت في نوم لم استيقظ منه الا على جسر بعقوبة العسكري القديم ولم يكن آنذاك جسر سواه .. فكرت يوما وانا امر عليه: ماذا يقول النهر بهذا المتمدد فوقه ليل نهار لتدوسه الناس ويمضون كلا الى دنياه؟ ولماذا لايُسمون الجسر "قوس العبور؟" بداية الشعر على اية حال ...

في اليوم التالي كنت اختال في المدينة الصغيرة مثل امير، زهوان غير قلق، ومطمئن تماما الى انني الان طالب  في العالية، دونما أي تفكير بانني ساكون شاعرا معروفا او كاتبا لامعا فيها. كل المعنى انني طالب في دار المعلمين العالية، هذه الدار الشهيرة والمحترمة في التاريخ الثقافي العراقي، والتي كنت احسد طلابها وطالباتها وارى فيهم الرفاهة ونعومة العيش وجمال الحياة التي كنت بعيدا عنها..

في الاسبوع الثاني قرأت اسمي مقبولا في القسم الداخلي وقد استقر قبولي في قسم اللغات الاجنبية بعد وساطات وجهود ومقابلات.. فقد كنت خريج الفرع العلمي ومعدلاتي في البايولوجي والرياضيات هي العليا وانا اريد الادب العربي! لااريد العودة الان لشرح مرحلة العبور، عبور القنطرة الصعبة، المهم ان اسجل شكري للدكتور يوسف عز الدين – وقد كان استاذا في كلية الاداب وقد كنت التقيه في مكتبة بعقوبة العامة، الذي اوصى بدوره الدكتور محمود غناوي الزهيري رئيس قسم التاريخ في العالية وتوسطهما لحل الاشكال، ثم الدكتور الشاعر صالح جواد الطعمة الذي وجد حلا وسطا، ومازلت اذكر كلماته: "الادب العربي موجود في المكتبات، تعلم لغة اجنبية للتطلع على آداب العالم! وقسم اللغات يقبل من الفرعين العلمي والادبي، ولا مشكلة الان .." وفرحتُ برأيه كمن رأى ضوءاً في آخر النفق

بدوت وانا القروي قيافة و "تسريحة" وشحوبا وشراهة نظرات، غريبا في عالم اسس لطبقة اخرى. لكن العزاء اننا كنا جملة قرويين جاءوا من مدن وقرى بعيدة وانتشروا في الفردوس.

كنت في الشعبة باء من الصف الاول – لغات، وكنت الوحيد ذا الميول الادبية. كنا سبعة طلاب واحدى عشرة طالبة جميلتهن "س"، رقيقة، مشرقة، شفافة بطفولة ودلال ولها خلق جميل مما للبيوتات النبيلة. ضحكتها تنشر فرحا وضوءا وشعرها الاشقر يتمايل قدر ضحكتها ويشع اذا استقر.

لم اعتد على هذا الجمال الارستقراطي، فقد اعتدت على جمال القرى والوجنات الملفوحة والمرأة العزوم..

حتى السنة الرابعة كنا نلتقي بالجمال النادر، ذلك "اللؤلؤ المكنون"، كما يقول الكتاب، جمال البيوتات الوجيهة، جمال الغنى والظلال.. مضت السنون لا اظن احد من جيلنا لايحتفظ بذاكرته ببعض من صور الحور وصور اللائي غبن في الزمان. على اية حال ذهبت الثروة لذوي الخبرة والتجارة والالقاب، وما كان لنا غير النظر والحسرة على ما رأينا، ضاع ذلك الجمال الى الابد ..

المهم اني كنت مهتما بوجه قروي وظفيرة مسدلة وصوت حمامة. فتاة مثل قصيدة لم تنل مكانا جيدا في النشر. كانت هذه محافظة خجولا احس اضطرابها في الكلام ببحة صوتها المثير. تزوجت من عسكري، علمت من بعد انه استشهد. التقيت بها صدفة بعد عشر سنين، واختفت هي الاخرى. الان انا واليباب..

لم تنتهي السنة الاولى الا وقد اتضح الشعر، قبل كتابة الشعر كان المزاج والانبهار واكتشاف المضمر. كان التوقف امام النص، والاقتراب من الروح التي وراءه. كانت ايضا بدايات القصيدة الحديثة.

علاقاتي الحقيقية كانت مع طلبة قسم الاداب/ اللغة العربية. مطالعاتي في قسم الكتب الانجليزية من مكتبة العالية، ونصوص القصائد الانجليزية التي ندرسها كانت تربكني اولا وبعد الارتباك تعدل المسير ورأيتني امام نمط من الشعر آخر. هنا نظام متقن، هنا بداية ونهاية وموضوع. لا اسراف في اللغة لا استطرادات، لا صفحات طوال. قصائد لا تتجاوز الصفحة او الصفحتين لها نظام للقوافي ونظام لتوزيع السطور وموضوع لاتتعداه فتضيع او تتشتت. لكني كنت مأخوذا بما اسمعه من اصدقائي في قسم الاداب مما يرد في البلاغة او موسيقى الشعر. بعيدا عن هذا كان طلبة "الاداب" محظوظين بجمال "نوال" و روح سميرة وكان عبد اللطيف اطيمش يكتب اشعارا بلا جدوى ونور الدين فارس يكتب مسرحيات ثورية بلا جدوى وصاحب ابو جناح الكتوم يقضم اصابعه وينتف حاجبيه بلا جدوى وانور عبد العزيز يكتب صورا قلمية للريح واللا شيء ...

في سنوات التلمذة اتضحت شخصيات وبقيت تصحبني كل السنين التي تلت مثل شخصية سلمان العزاوي، الرصين والمحترم ومهدي الحافظ رئيس اتحاد الطلبة المهذب الذي يبتسم وهو في اوج الحماسة وكان هناك صلاح النيازي المتفنن في الالقاء، وحميد الهيتي الرجل الممتلئ طيبة وفرحا بالخير حيث يكون وكانت هناك "اميرة" البايولوجي وتحفة الزمان وفاتن ذات الجمال الارستقراطي الصعب ونوزاد التي كنت مسحورا بقوامها الجميل المتقن ووجهها الحافل بالايحاء، وشعرها الاسود المنسدل والتي وصلني خبرها الفاجع وانا بالتوقيف بانتظار "العرفي"، وهنالك الموصلية الشقراء ذات الظفيرة الذهبية التي احترمت اهتمامي بها، وهي قومية اسلامية، فلم تشهد ضدي حين جيء بها شاهدة – في العرفي، ما اعظم الحب وما اجمله!

غابت وجوه وتوالت احداث وارتحلت الايام بما فيها، وظل في الذاكرة وجهها الموصلي المشع مع قليل من الرفض، وحركتها الصبيانية والتفاتتها بعد ان تبتعد...

كان قسمنا الداخلي واحدا من قصور الوزيرية مما كان الصبي يتمنى القرب من اسيجتها واشجار تفاحها .. عجيب هو الزمن ولاتصدق احداث الحياة! وكان لطلبة الاقسام الداخلية مطعم  في مبنى الكلية مجاور لمكتبة الكلية، وكنا نتناول وجباتنا الثلاث مجانا فيه. واضافة الى غسل الملابس، كان لنا حلاق من شاء يحلق عنده مجانا. نعمة هي للطلبة الفقراء ..

كان يشاركني الغرفة "نعمة" معلم مجاز دراسيا رجل طيب القلب يعرف النظم في كل البحور. لقد درسها في دار المعلمين الابتدائية ايام زمان، لقد كان يعرف النظم على كل البحور وكان يجهل الشعر على كل البحور! وانا اعرف الشعر واجهل الوزن والبحور .. كان بسيطا ولكنه خبر كل التواءات الحياة ويعرف مثالبها، ضاحكا منها غير مبال. كان حكيما من نوع ما. فَقَدَ حكمتَهُ حين بدأت انشر قصائدي، وترفض قصائده هو الذي يعلمني الاوزان! فكان يسأل ضاحكا عن السر فيما يجري، ثم يقول: هي الدنيا هكذا عوجاء مذ خلقها الله! "اسألك، قل انت: من الذي علمك المجتث؟

-  انت ولكن المجتث ليس شعراً هو اسم بحر من بحور الاوزان"

-  " هذا كلام يفيدك" ويسحب الغطاء على وجهه وينام!على اية حال كان مريحا يحلق من دون صابون وينام بعمق متى شاء ويضحك ملء فمه ولا يطيل الاهتمام بشيء. كانت ايام القسم الداخلي من اجمل وافضل ايامي، سكن جيد في مكان جديد من بغداد مع صحب جيدين ذوي شخصيات متميزة، وغذاء جيد ورضا..

اليوم هو الخميس وقد هيّأتُ حقيبتي لاتوجه الى بعقوبة، مزهوا وكأني احمل شارة تعلن اني طالب جامعي في بغداد وفي دار المعلمين ـ العالية!

توجهت الى الباص الخشبي "ابو الدرهم"، الذي قد يكتمل ركابه بعد ساعة او ساعتين، وكان موقف هذه الباصات الخشبية آنذاك مقابل او قريبا من مطابع دار الحرية الثانية، قريبا من الاقسام الداخلية بين باب المعظم ومدخل شارع الكفاح. المنطقة الان سوق خضار، والولد صار شيخا، وماعادت العالية بذلك الزهو. والحب اختفى من الشوارع الظليلة ولا غير الذكريات والاسى على ما ضاع في الكون من ذلك الجمال ..

على اية حال، ما هي الا ساعة ونصف او ساعتان ليستقبلني سرب الاوز الابيض في الساقية امام البيت، حيث كان في نهاية شارع التكية الان، وحين كانت نهايته بساتين من جهة ومزرعة الى جوار البيت تمتد الى مبنى المحافظة اليوم من الجهة الاخرى . اول من يستقبلني "ام فليح" المندلاوية الطيبة وابو فليح الجار الطيب وسأسلم على ام ابراهيم، التي كتبت من بعد قصيدة، عنها بعنوان ام ابراهيم والحاج صادق، الذي كتبت عنه من بعد قصيدة "الحاج صادق يصلي"، "وبستان صادق" وتوفيت "بدور" الشابة النبيلة، ابنة جارنا النبيل الكريم، التي رمت لي ليمونة من البستان يوما، اول انسانة  تهبني فرحا. ليمونة بدور ماتزال تشع في الذاكرة، وليمونة بدور ظهرت من بعد في العديد من قصائدي ..

حتى الان لم نتحدث عن "حسْنة" ابنة البستان، امرأة جميلة ملفوحة ممتلئة تتدفق عافية وصوتها جنسي مثل صهيل. قالت لامي مرة وهي في الباب وفي الهواء الطلق: "بردانة" وهي تضحك، فقلت لها وانا فتى، امام امي: "الانسان وحيدا لايشعر بالدفء اقتربي الى النار قليلا.." فصرخت: "انزول" ماذا تقصد؟ "يالحسنة العافية و الفرح والتوهج  العظيم، ويالسمرتها الشهية الناطقة! لقد تجاوزت السادسة والعشرين ولم تتزوج على غير عادة بنات القرى والبساتين، شجر ينتظر الازدهار ..

حين عدت ثانية في العطلة الصيفية، كان الربيع اختفى وبدأت الارض تيبس وصارت مشكلة الاشجار العطش، وحسنة لم تعد تُرى، فقد ارتحل بها من سينجبها توائم .. لقد اعطاني غياب حسنة الطافحة رحيقا وعافية ورغبة، درسا في الشعر. فالمكان جميل لا بكل شيء فيه، شيء واحد فيه يجعله جميلاً: بيت، شجرة، انسان انتظار فرصة او امل. حين صرت شاعرا صرت اختار من الامكنة نقطة الضوء، او مكمن السحر فيها. فانا اكتب عن ناس او بيوت او دروب او وجوه تدّخر اسرارا وتضفي جمالا على ما حولها. هذه هي التي تمنح المكان بركته الابدية ...


 

انثلوجيا الاسماء والامكنة

(4)

ياسين طه حافظ

 

في بدأ العطلة الصيفية، جلست في المقهى القريب من بيتنا، وعلى تخت من تخوت السعف، اتذكر عالما خلفت ورائي واتذكر مساء آخر يوم في القسم الداخلي غادرت الوزيرية فيه. كان يوما ذهبيا من ايام الصيف الاولى وما كان مساء مثل مساءات الشتاء معتما فقد ظل يحتفظ ببعض الضوء وظل واضحا ممكنة فيه قراءة الاشياء. هذا في بعقوبة، وتذكرت مساء آخر:

بينما القطار يلتف ويستدير مغادراً بغداد، كان الغروب المحتفل باضوائه يجمع القرمز والذهب ليضيع من بعد ببطء من بين يدي، فتعتم وتكتئب وراءه بنايات بغداد، كالبتوسها والنخيل. فكرت، واحسست حينها بعصرة الم، ان الجمال الخاص لذلك النهار سينتهي ولن يعود واذا جاء نهار ثان فليس هو الذي مضى. كل جمال يغيب، يغيب الى الابد. هو وجع وهي لمسة شعر احسست بها في القلب. ان زهرة النهار الزرقاء تساقطت اوراقها وضاعت هي والنهار. وانا اذ اذكرها الان، اتذكرها واتمتم باسى:

لقد اطبق التراب عيني "هيلن" .. وهكذا مال الشاعر الفتي الى الرومانسية التي سكبت سحرها في دمه ولا يدري ...

واذ اتوقف اليوم امام تلك الامكنة واذكر تلك الاسماء فلكي احصي خساراتي ولكي ارثي الجمال الذي اختفى وفي ذلك لا اراني اكثر حكمة مما كنت تلك الايام. قوة غير مرئية تشغل الانسان، تلهيه او تغريه ليفلت من كل نباهته، ومن كل حرصه، الزمنُ بجماله وافراحه. فلا يرى نفسه الا وهو اكثر حزنا واكثر تجاعيد ..

انني اليوم، وهذا هو الاشكال الصعب، اقل انسجاما مع ما حولي ومع زمني مما كنت وانا طالب متوقد طموح في دار المعلمين العالية. كنت في سلام مع نفسي ومع ما حولي ومتفائل فرح بما سيجيء. هذه النعمة، وان كدرتها السياسة وعقابيلها لن تتكرر. كما اني لم اكن قد شعرت بعد بالمأساة – وفي احسن الاحوال، بكوميديا العمر وخراب الجسد، لتظل الروح وحدها تشع بقوة وسط هيكل متعب، نصف تالف. لقد كنت ارى واصل الى ما رأيت بكل طاقتي، بل بطاقة تتزايد، والان ارى ولا اصل واعيش بطاقة نافدة ووقود يكاد ينتهي. فهل لهذا نذكر تلك الايام ونستمد منها فرحا وشعرا؟

على اية حال، مثلما تلوح بساتين "شفتة" العامرة في مدخل بعقوبة، وبعد عبور الجسر، لتبشر القادمين بعالم البساتين الواسع في ديالى الخصب والشجر، كذلك تلوح لي اشجار الكالبتوس في حدائق "العالية" تظلل الطريق وتفرش مخملا فوق مصاطبها بين بهو الدراسة والمطعم والمكتبة لتظل الى اليسار السدة التي يطمأن جوارها النادي، وانا ذلك العابر الذي سيصطاد نجوما ويحمل في إهابه الشمس والحب و"الشجيرات الحميمات"، ليضيع من بعد  في عالم آخر وليكتهل وتصبح هذه كلها ذكريات..

يوما، وبعد الساعة الرابعة، كانت لي جلسة مع احد الاساتذة الانجليز، على مسطبة في حديقة الكلية، وبعد حوارية الاربعاء، وهي ساعات تبدأ في الرابعة، يدور فيها الحديث والنقاش وتطرح الافكار، بالانجليزية، قصد التمرين على الكلام والمران على التعبير، مثلما كانت للكشف عن الافكار والكفاءات. قبل دخول القاعة توقف وشاركني  المصطبة ليجري بيننا حديث ودي، سالني فيه عمن احببت من الشعراء الانجليز ممن قرأت لهم؟ قلت له: "دي لامير". قال : "لماذا؟ ايمكنك ان تحدد سببا؟" بعد صمت، قلت: "قصائده موجزة بالرغم من انه يتحدث عن مشاهد وراءها معانٍ ولقطاته الانسانية مؤثرة". فكر قليلا، واجابني: "بدأت تفهم الشعر هذا ما يقوله عدد من النقاد عنه. ومن الاخر؟" قلت: "ماثيو ارنولد" قال: "لماذا؟" اجبت: "في قصائده فخامة برجوازية!" وهنا انفجر ضاحكا وقال: "نعم، هو ارستقراطي في الشعر. لكن البرجوازية الانكليزية هنا لا البرجوازية التي يلعنها اليساريون هذه الايام وهي صاحبة الفضل في تعليمهم!"

ودعني الاستاذ "بلاومان" وقال لي: "ستكون اديبا اذا سارت الامور على ما يرام." وصرت اديبا رغم ان الامور لم تسر على ما يرام!

وفي اليوم التالي لهذه التنبؤات او المماحكاة الصعبة، لا ادري أي سحر قادني لاجلس على الرحلة التي تلي تلك الشقراء الرقيقة الضحوك ذات العينين المشعتين والوجه الذي امتزج فيه لونا الورد والذهب كنت اتابع انسياب شعرها وحركات وجهها فاصطاد لقطة من هذا الجانب من وجهها ولقطه من الجانب الثاني، وبهجتي واحتفالي حين اجيب بنباهة فتمنحني التفاتة اعجاب ومرحا طفوليا يملأ كل الهواء حولي بنوع من الكهرباء جميل. وهكذا ادمنت ذلك المكان، ولم اشأ، لم اجرؤ على البوح بلهفتي، لاني ما استطعت حتى ذلك الوقت ان اقر بانه كان حبا. لقد كان اعجابا، تلهفا، متابعة لسر وراء ما ارى ..

في نهاية الفصل الدراسي، وانا جالس في مكاني المعتاد، وقلبي مجنون الخفقات دون سبب واضح، ادهشتني نظرات متفهمة منها، وابتسامة ارتياح ورضا ممزوجة بشكران عذب لمشاعري: "اراك في السنة القادمة. مع السلامة. اتمنى لك عطلة حلوة في البساتين ..."

لكن البساتين اختفت بغيابها، وبقيت من ذلك الزمن كله اشراقة الوجه النوراني والابتسامة التي تكشف السحب وترسم الوردة. انتهت السنة الثانية. اغلق القسم الداخلي. لكننا الثلاثة: عبد اللطيف اطيمش من الناصرية، ونور الدين فارس من شهربان ديالى وانا الساكن في بعقوبة تحمل والدتي وشم الجنوب، وصاحب جعفر ابو جناح من ميمونة العمارة .. كلنا لانريد العودة الى مدننا كل اشهر العطلة. نزورها اياما ونعود. الحياة في بغداد، والثقافة في بغداد والفتيات الجميلات في بغداد والقصور والمقاهي ودور السينما واتحاد الادباء، وعطور اللواتي ارتحلن ما تزال عالقة في هواء بغداد.

القسم الداخلي واحد من قصور الوزيرية، قريب من المعهد البريطاني والسفارة التركية بناء قديم وطراز انجليزي قديم. ربما كان صاحبه وزيرا او وجيها بغداديا او واحدا من ورثة الاتراك المهم ان القصر جميل، والمفروض ان يغلق في العطلة الصيفية ويرتحل الطلبة. لكننا نريد ان نبقى. فكنا نخرج صباحا وندخله بعد المساء لننام على اسرتنا، نحن الاربعة، مثل عصابة مهربين. الحارس يوما، يصعب عليه ردنا والدنيا مقبلة على ليل، ونحن غرباء في بغداد واياما لانجده اصلا، ويوما نقنعه بالكلام الجميل، حتى تعذر علينا الامر في شهر العطلة الاخير، لكنه على اية حال، انتهى الا اخر اسبوعين فيه. وبدأت لجان الجرد والتهيئة  للموسم القادم ومراجعات الطلبة الجدد، فارتحلنا، ارتحل آخر الغجر ...

كانت صعلكة مهذبة. نتفرق في الصباح ونادرا ما نلتقي في النهار، كلا وطريقه. هذا في المقهى البرازيلي وهذا يخرج من فلم ليدخل الى فلم. وإن كان مفلسا يواصل جلوسه ليرى الفلم مرة اخرى. واخر يجلس في مقهى يرصد امرأة تمضي تخترق الرشيد مثل ضوء يسري على مهل ويظل هناك حتى تعود، وآخر يمشي وراء جمال مر تابعا او فقيرا يعب شذى او بهجة محروماً منها او هو يعيش دقائق حلم لايعرف في أي نقطة من الشارع تنتهي.

ولا ننسى أن تلك الايام شهدت اختلاط الوجودية بالشيوعية والعبث بالاهداف. فمن خجل من التنصل من النضال وجدَ في الوجودية عذرا وتبقى الصعلكة ام المكاسب.

حملت حقيبتي هذا الخميس وتوجهت الى الباص الخشبي الرابض في باب المعظم ليقطع بي الطريق الذي حفظت معالمه ومذاقاته، حتى اذا قاربنا خان بني سعد لاحت خضرة مزارع الرقي حيث تنام الكرات الخضر والاسطوانية المبيضّة على التراب بين خان بني سعد وكاستلويوست من جهة وهبهب والحديد من جهة اخرى، ولم يكن الطريق الجديد موجودا آنذاك. كان الطريق هو ما يسمى اليوم بالقديم والذي يمر ببغداد الجديدة والمشتل ومعامل الطابوق وخان بني سعد حتى بعقوبة المدينة الهدف وطريق القطار يقاربه او يوازيه وما كان الباص يقطع هذه الستين كيلو مترا او اقل الا ويتوقف في خان بني سعد، خان النص، ليشرب الراكبون الشاي ويستريحوا قبل مواصلة الطريق.

هذا في الباص، اما في القطار فبالرغم من بطئه و الغبار، نحسُ بمتعة وطرائف. بعض الركاب، وبخاصة الجنود، يقفزون حال وقوف القطار في الحصوة هو كاستلبوست، ليتجهوا الى مزارع الرقي القريبة من السكة وياتوا كلا برقية ليصلوا القطار وقد تحرك. البعض يلتقط الرقية منهم ليتمكن الاخر من الصعود ودخول القطار الذي بدأ يسرع خلافا لتقديرات المغامرين.. كل يطلب في الطريق صيدا وطبعا كل ومجده. بعض الامجاد، كما علمتني الحياة من بعد، بمستوى الرقي ولكنه، على اية حال، مجد يفرح اهله. فقد كنت الحظ أي احتفالية وابتهاج كبيرين للرجل الذي جاء برقية والتحق بالقطار. للناس مسراتهم الصغيرة التي تكفيهم ..

قليلا ويتسلق القطار الجسر ويتغير صوت عجلاته، يتغير ايقاع القصيدة التي تقطع البرية وعند النهر يفصل الجسر بينه وبين الماء، فيتسارع دوي متقطع يشترك في صنعه النهر والجسر والقطار

ويصل محطة بعقوبة، واحدة من اجمل المحطات، بطابوقها الاصفر وطرازها المعماري البسيط بغنى، والهادئ بمعنى. وهذه ارصفتها الواسعة ومصاطبها الممتدة والمتناثرة بعيدا الواحدة عن الاخرى كأنها هيئت لاهل الحب والعشاق. كل مصطبة تصلح خلوة وملتقى. خلفها، شجرات "الكانتين" مقهى المحطة المشادة بالطابوق نفسه، وبذلك اللون ولمسة ذلك المعماري الفنان نفسها تقابلهما مدرستي العزيزة، حلوة العمر والتاريخ، ثانوية بعقوبة مشادة بذلك النوع من الطابوق وبذلك اللون المصفر فهي والمحطة والكانتين ثلاثية معمارية، الله والزمان وحدهما يعرفان ما بينها من صلات، وماذا دار في خلد المهندس الانجليزي الذي صمم ثلاثة مبانٍ مختلفات الاغراض مؤتلفات في الموقع والريازة واللون. ذلك المهندس، كما يبدو لي اايوم، كان غاية في الرهافة، كان شاعراً، معمارياً شاعراً، رسم قصيدة بثلاثة مقاطع تُكلِّم زمنها وتحيي الازمنة القادمة. لماذا لماذا صبغوا جدران الثانوية؟ الا احد في المدينة يصرخ "لا"! يوجه القبح والنشاز؟ الا احد تجرأ وانحنى على الجمال يحميه؟ آه لو استطيع لمسحت الجدران طابوقة طابوقة واعدتها ذهبية كما كانت تتفاوت درجات الذهبي طول ساعات النهار وتبدو شبه مبتسمة مشرقة في الغروب!

بعد يوم في البيت، خرجت في اليوم الثاني الى البلدة الصغيرة التي احببت وجلست في مقهى قرب السوق انتظر صديقا واستعرض العابرين الى السوق والعائدين. هو مقهى "حسين صفاوي" على ما اذكر، والمعروف عنها ان بعض البعثيين يرتادونها. هذا ما علمته بعد سنين. ويقال ان صاحب المقهى كان منهم، او يتعاون معهم، وان كنت اعتقد انه رجل مؤتمن للجميع، واحد ممن يتميزون بطيبتهم في المدن الصغيرة والقرى.

في هذا المقهى، رجل شيخ دفع ثمن الشاي عني لانه يعرف ابي ضمنته بعد سنوات في قصيدتي "بعقوبة ..."

عدت بعد الظهيرة الى البيت. رحت امشي ببطء بين ازقة المدينة الضيقة، اتنفس اشذاء البيوت القديمة، وكأني ابحث عن حلم فر مني وضاع بين البيوت..

وهناك، في زقاق، او نصف زقاق قريب من "ذَيلَ" السوق، رأيت "رحيمة" الذي يسمي نفسه "عبد المدّثر" ويدعي ان له اصدقاء ومعارف من الجن وانه ياخذ جنيا صغيرا الى بيته مساء كل يوم جمعة يأكل معه رماناً، وان هذا الجني يحب التمر الخضراوي ....

وجدت عبد المدثر يجلس على "قرّابة" من الالمنيوم فارغة همس لي احدهم بانها قرابة عرق وانه مهرّب يصله العرق من هبهب المشهورة آنذاك بصناعة "العرق المحلي" المصنوع، من نوع "ابو الكليجة" و "ابو الواوي" ، دليلا على شدة التركيز وتاثيره السيء بحيث يؤدي بشاربه الى السجن، وتشرب منه الثعالب في البساتين عند تصنيعه فتسكر ويصطادونها. كانت هبهب ببساتينها وعزلتها مشهورة بتصنيع او تخمير ذلك النوع من العرق، حتى لتشتم رائحته تفوح من البساتين على مبعدة منها. وكان "عبد المدثر ذو اللحية نصف بيضاء ووجه مستدير، يكفي ان تضع على راسه عمامة ليوهمك بانه رجل دين .. عبد المدثر هذا كان "خزانة المدينة" ممتلئاً باخبارها وبالشعر الشعبي وقصص المُطَلَّقات ..

- " مرحباً رحيمة"

- " هلة .. ولك انت وين هالمدة؟ انتظر . ابق هنا. سأعود .

 وعلمت انه هجس صوت سيارة ظنها سيارة شرطة الكمارك .. هكذا فسرت الامر استنادا لما يشاع عنه. لكنه عاد بعد قليل وحمل قرابته الفارغة، ليعود بواحدة ملأى. قال: "نروح لاهلنا، هذا يوم وانتهى بخير ..

اما انا فاستدرت الى "ام النوى" وهي محلة في طرف البلدة الشرقي، التقيت هناك بالشخصية الثانية "سبيع" ذا اللحية الكثيفة السوداء والدشداشة بالكاد تصل الركبتين قصير مربوع، مخيف شبه مجنون، تعرفه "ام النوى" حتى صار علامتها البارزة. ولم يكن مؤذيا، ولم يكن مجنونا تماما، ولم يكن شحاذا. لم يبق الا ان نظنه "رجل امن" بسذاجة تلك الايام وباسرارها، ولا اقطع حتى اليوم بحكم عليه، الا انه شخص غريب، كأنه خرج من ظلمات التاريخ لياكل خبزا مع هؤلاء الناس ويلوذ بحجرة شبيهة بكهف

قلت استدير الى بيتنا في "العنافصة"، "التكية" تهذيبا، لاحيي محمداً "ابو الحليب" وكان جالسا قرب بقرته في الطريق عند باب بيته. محمد هذا كان يقرأ الكتب ويختار او تجتذبه العناوين ويختلط عنده العلم والطرائف. كان كأي بائع حليب لا تفارقه السذاجة، ويصدق كل ما يقال له وما يسمع فيردده على الاخرين..

حييته:

- "اشلونك محمد؟ "

- "بخير، صاير افندي؟"

- " الحليب شلونه؟"

- "بخير، صاير افندي؟"

- "وين "الشكَرْه؟"

- "راحت لك فدوة!" استاذ ياسين، يرحم اهلك، هاي شنو جمهورية افلاطون؟

- "شكرةً اخرى راحتلك فدوة!" ..

وضحكنا .. وودعته، فعقب : "ولك انت مشيطن!" ..

وارتضيت بشتيمته او مديحه لانتهي عند ام احمد "محنية تخاطب طفلا امه محنية على قلق وترقب. اعلم ان ام احمد تمارس الطب كعادتها، وستقرأ عليه "الحمد" بصوت لايسمع كي لا تكتشف، ثم تبصق يمينا اربعا وشمالا اربعا، وكذا الحال لتشمل الجهات الاربع، فتخلوا الارض عند ذلك من الشرور من كل الجهات. احتاج لام احمد هذه الايام لتبصق على الجهات الاربع!

كانت ليلة حافلة باقاصيص واحداث النهار وانا بين والدي واخواتي واخي فوزي نتناول عشاءنا وقد لمحت "كونية" التمر"الجشب" مركونة في زاوية الحجرة، فتذكرت كيف كنت استيقظ ليلا لاتناول حفنة ازدردها واعود انام هانئا، مثل من حضر مأدبة سرية والناس نيام. لست الوحيد ولسنا الوحيدين الذين يفعلون مثل هذا، ذلك شأن القرى مادام العشاء مبكرا و ... فقيرا!

ضحى اليوم التالي، لمحت في الطريق صديقي "مظهر"، زميل الدراسة الثانوية الغامض بسخرية، واللوذعي ببساطة .. كان "مظهر" هذا يلم بعدة حرف من دون اتقان او اجادة. فهو يعرف شيئا من النجارة وبعض الحياكة وبعض الالعاب، وفي دروسه كان دون المتوسط، ولكنه لذيذ قريب الى القلب لا الى حد المودة العميقة .. حركات ملامحه ونظافته تقربانه وملعنته ومشاكساته تبعدانه وله حركات تمثيلية مفضوحة، بخاصة حين يتظاهر بالفهم من غير ان يفهم شيئا. لا ادري اين صارت به الدنيا. المهم اني رأيتنه تلك الساعة وما ان رأيته ورآني الا وضحك وضحكتُ وكلانا يعرف عمّ يضحك واذ تاخرت في الحديث معه والابتهاج بلقائه، مر موكب زفاف اضنه يتكرر في بعقوبة : ثلاث عربات "ربل" رسمت في الطريق اطرف مواكب زفاف وابعثها على الابتهاج – او الضحك: قال مظهر : لو كنت عريسا لكنت انا الحوذي واحتفظ بالسوط بعد الوصول ... قلت لمظهر : لماذ كشّرت من بعيد؟ اجابني: انت الذي جئت بالوصفة الطبية! واستعدت تفاصيل القصة: كنا ندرس معا في بيتنا، قلت: يقال ان الزبيب يقوي الذاكرة فاشترينا كيلو زبيب، اثناء التحضير لامتحان الفيزياء صباح اليوم التالي اكلنا الزبيب ونحن نذاكر فصول الكتاب وتمارينه، وكانت النتيجة في اليوم التالي ان رسبنا نحن الاثنين في الفيزياء، واثبت الزبيب مفعوله "الاكيد" ..

قيل ان تنتهي العطلة، وفي الاسبوع الاول من تشرين الاول، اخذتنا جولتنا، ذلك النهار الى مرقد ابي ادريس في مدخل بهرز. وانا القادم من بغداد والذي عاش العشر السنوات الاخيرة بين قرى وبساتين ديالى المستقرة من زمن طويل على الانهار او جوار الجداول، لي صلة قديمة بطريق بهرز. فقد كان هدف جولاتنا على الدراجات الهوائية ونحن في الابتدائية صبيان، واستمر لهونا في هذ الطريق في المتوسطة فهو طريق آمن ومبلط وبين زروع وشجر. ما كان كما نراه اليوم مكتضا ومضطربا. كان بعد قنطرة بعقوبة الاولى، يبدأ طريق بهرز البداية نفسها، لكن كان شريطا اسود يرسم حدا من يساره لمزارع شاسعة، هي الان بيوت ودكاكين.. هذه كانت مدى من العشب الاخضر اليانع والادغال وانواع من الطير والقبرات، ومن جهته الثانية تمتد البساتين. والطريق بينهما يتلوى مثل افعى الى مقاهي بهرز على "الشاخة"، على خربسان، الذي صار هنا اكثر هدوءا .. والى جانبي الشاخة بيوت بهرز الطينية وبساتينها. "طريق بهرز" صار بعد عشر سنين موضوعا لقصيدة بهذا العنوان..

كان صباحا غائما وكأن امرا سريا قد صدر لكل الكون هناك بالصمت. وقريب من المرقد كان دخان يتصاعد حين اقتربت بدت امرأة ملتفة الى النصف بعباءتها تكسر السعف على ركبتيها وتوقد تنورها: وجه مدور مشبع بحمرة وعينان تلتمعان وجمال قروي اصيل ..حييتها واجتزت الطريق الذي ابيض من وطأ الاقدام لاستدير الى المرقد من الجهة الثانية.

دخلت الى المرقد. كان صمت وما يشبه ضبابا خفيفا ونوعا من اللغة المذابة في الهواء تحسها وتفهمها بلا نطق ولا اشارة كان ثلاثة رجال دين، شيوخ، كلا يحدق في نقطة تعنيه او يفكر في امر يهمه من امور الكون الغامضة او انهم لم يكونوا يفكرون في شيء! وجوه ساكنة عليها شحوب من الفة الظل وعيون صافية وانفاس متباطئة ولا حراك، حتى شعرت أن كل واحد من الثلاثة ينتظر دقائق تمر لينتهي ويغيب. رفعت نظري اليهم مستكشفا: امثل أولاء يستقدمون الخوارق والمعجزات؟

لم اجروء على تحيتهم ولم اجروء على الجلوس حتى كأن بعض تلك الحال سرى الي، فتباعدتُ وعجلت بالخروج من الباب المقوس لاواجه القبور ..

واصلت الخطو على العشب والاحجار وانا احاول الوصول الى قبر منسي دارس، ذلك هو قبر اختي التي توفيت بالانفلونزا وهي في الخامس الابتدائي اتذكر الان معطفها البنفسجي المنقط وظفيرتها وعلائم الحزن المبكر يغشى وجهها ويمنحها ذلك الشحوب العاجي .. هل كانت تعرف انها ستموت؟

لم اجد القبر. شاءه والدي ان يكون دارسا.. حزني، وتكسر الافكار وازدياد الغيم في غير موسمه، وربما هو خوف من نوع غامض تنامى في داخلي. كل هذه الامور غير الواضحة عجلّت خطواتي المضطربة لاغادر كمن يريد النجاة، حتى رأيتني على الطريق العام.

سرتُ بمحاذاة خربسان الذي كان طافحا لولا علو ضفتيه حتى عبرت القنطرة التي تقابل او تقارب التكية وهي الثانية بعد قنطرة مدخل البلدة، لادخل طريقا يعرفني واعرفه وبصمت دخلت الى بيتي، مثل من مر بتجربة في عالم لا مرئي. دخلت وما يزال على وجهي ذلك الغموض

كانت ليلة ضبابها ظل يلوح على الجدران. هكذا رأيت وهكذا بقيت احس بذلك المرور الحذر بشيوخ المرقد الثلاثة الصامتين ومشهد القبور الدوارس او المبعثرة حجراتها، وتلك الارض المهجورة ذوات الشواهد والتواريخ، وتلك الحدبات الترابية التي لاتحمل اسما ولا تاريخا، فلا تعرف الراقد وراءها رجلا كان او امرأة، فلاحا او عامل مقهى، نبيها متوقدا كان ام سفيها ابله، متميزا ام بلا هوية او معنى؟ المهم ان القبور متباعدة او متقاربة، ممسوحة او قائمة، كلها صامتة قطعت بعالمنا الصلات. بقيت في ذهني تلك النخلة الفارعة الواقفة هناك، قبتها ملك الجميع. العصافير لاهية فوق سقفها المهتز كان لافرق بين مكان ومكان وكان لم يحدث في العالم شيء.

هذا الجو ظل معي، انتقل الى بيتنا والى غرفتي الصغيرة الواطئة التي تقابل باب السياج، وبقيت متمددا ساكنا ولا نوم، لكني فتحت عيني لأرى قطعة من ضوء الشمس قد علقت في الكوة الصغيرة تريد الدخول فعرفت اني غفوت قبل الفجر او بعده بقليل، تناولت افطاري، خبزة وكوب حليب ساخن، ولم احدث ابي وامي عن رحلة ذلك النهار فقد كنت ما ازال احس بخوف من مجهول، وبضرورة الكتمان..

وقفت في باب الدار، انتظر صوت، او مشية او وجه "بدور" ...

 

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

*

 

فوزي كريم :  المصالحة الخاسرة مع الحياة

ياسين النصير:  تراجيديا الشعر

عباس الغالبي : الصورة في شعر ياسين طه حافظ

 د.بشرى البستاني: شعرية السرد بالكاميرا 

 

*

 

ياسين طه حافظ : هل أنتَ ياسين بن طه؟

ياسين طه حافظ : ثلاثة شعراء

ياسين طه حافظ : سيدة النار والليل

ياسين طه حافظ : من "انثلوجيا الأسماء والأمكنة"

 

*

 

محمود النمر : حوار مع  الشاعر ياسين طه حافظ

عبر الانترنيت مع ياسين طه حافظ

 

*

اغلفة كتب الشاعر

 

 

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009