موتسارت وظلال الرباعيات الوارفة
(13/9/2002)
على مشارف المرحلة الكلاسيكية كان بابا «هايدن» (1732 ـ 1809) متربعا
في الذرى، طويل العمر، غزير الإنتاج،
طيب السريرة، ومبدعا لأكثر من فن جديد من فنون التأليف الموسيقي. ولهذه
الخصيصة الأخيرة
في القدرة على ابتكار فنون الموسيقى الجديدة كالسيمفونية والرباعية
والثلاثية الوترية، يُعزى لقب «بابا» الذي لحقه. كان الخلاق الحقيقي
لهذه الفنون في سنوات النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فن الرباعية
الوترية (أربع آلات وترية: 2 فايولين،2 فيولا، وتشلو) والسيمفونية الذي
أبدعه هايدن يكاد يعتمد في كليهما جوهراً بنائياً واحداً، وخصائص
واحدة، بالرغم من الآلات الأربع في الفن الأول، والأوركسترا الكبيرة في
الفن الثاني. فهناك، الى جانب شكل السوناتا المعتمد في عمارة العمل،
فسحةٌ رحبةٌ لابتكار الألحان، والانتقالات المفاجئة بين مفاتيح السلم.
ولأن بابا هايدن وضع، على امتداد أربعين سنة من سني عمره الابداعي
الطويل، قرابة 83 رباعية وترية فإن فرصَ أحدنا، نحن الذين ألِفنا
الطنين الواحد، في حصاد الألحان لا تُضاهى. لك أن تُضاعف هذا العدد
أربع مرات، لأن الرباعية عادة ما تكون في حركات أربع، لتحصل على 332
حركة موسيقية تتراوح الواحدة منها بين 3 الى 10 دقائق. وكل واحدة منها
أغنية أو مشروع أغنية، خالصة لمهمة رفعك، مهما كنت ثقيل الوطأة على
الأرض، الى أفق ينتسب الى سماء الآلهة.
الآلات الوترية الأربع متكافئة في حوارها مع بعض. الدراما فيها
وجدانية، ومدفوعة بهاجس الجمال بفعل وفاء هايدن لمدرسته الكلاسيكية. لم
تصل هذه الدراما على يديه ما وصلت اليه على يد بيتهوفن فيما بعد، حيث
الحوار هناك صار حوار فلاسفة أربعة. وهايدن انحرف قليلاً لصالح آلة
التشلو في المرحلة الأخيرة، ليعطي صوت الوجدان شيئاً من الشجا. ولروحه
الصافية الطريفة صار يمنح عدداً منهن ألقاباً دالة، وحتى غير دالة. مثل
رباعية "الموسى"، لا لشئ إلا لأنه حدث أن استعار موسى في ساعات انشغاله
بها!
وفي هذا الفن بالذات نلمس عمق تأثيره في معاصريه الأكثر شبابا: موتسارت
وبيتهوفن. على ان الأخير
أخذ فن الرباعية معه الى مرحلة من التاريخ الموسيقي جديدة تأسست على
يديه، هي المرحلة الرومانتيكية، ومنحها من العمق ما لم يعرفه تاريخ
الموسيقى حتى اليوم.
موتسارت لم يذهب بعيدا عن هايدن، وامتنانا له على عمق تأثيره وحسن
رعايته أهداه باقة من الرباعيات الوترية عددها ست رباعيات: «الى الأب
والدليل والصديق مع كل حب وإعجاب موتسارت». وبقيت هذه الرباعيات الى
اليوم تحمل اسم «رباعيات هايدن». وهي شاهد علاقة فنية وروحية لا مصلحة
فيها. ولعلها أجمل ما قدم موتسارت وأعمق في هذا الحقل من التأليف، خاصة
الرباعية الأخيرة
منها مصنف 465، الملقبة بـ «المتنافرة». ولقد جاءها اللقب من اعتماد
التنافر الغريب في مفتتح الحركة الأولى
البطيئة. وكأن الشاب المعجزة أراد ان يخرج من شرك مشاعره الملتبسة الى
ضرب من الأسى يتواصل عميقا على امتداد الحركة. إلا انه يستعيد الضوء في
الحركة الثانية التالية. وفي الثالثة «المتباطئة» تدخل الروح مصطرع
النور والظلمة عبر لحن هو تقابل بين دندنة رتيبة وهمهمة رقيقة تشبه
الهمس. يظل الاحتدام حتى الحركة الرابعة، حيث الغلبة للعتمة، إلا ان
روح موتسارت سرعان ما تنتفض وتقبل على الضوء من جديد.
الرباعية الوترية فن حميمي ولا يحتمل أبهاء واسعة.
وهذه الحميمية تأملية الطابع. والطريف ان التأمل يأخذ صبغة مرحلته،
فتأمل موتسارت الكلاسيكي غير تأمل بيتهوفن الرومانتيكي. وتأمل هذا
يختلف عن صبغة تأمل الحديث شوستاكوفتش. وإذا وقعت على تأملات الطليعيين
والما بعد حداثيين فستجد ما يدهش أو ما يعكر التأمل، أحيانا. الأمر
يعتمد على الذائقة ودربة الأذن.
من قداس الأحزان إلى الصوت المثقف
(17.
آب. 2001)
إن Requiem
فن في التأليف الموسيقي يتوسل مناسبة قداس الموتى ذي الطبيعة الدينية
في مبدئه من أجل التعبير العاطفي والفكري. واستقلال الفن الموسيقي عن
مناسبته هو مرحلة تحرر الفنان من دائرة ضيقة إلى رحاب أوسع. وفن القداس
الجنائزي يقدم نموذجاً أمثل لذلك. فنحن نبدأ دائماً من قداس موتسارت
الشهير غير المكتمل: عذوبة الماء واحتدامه في وجه عائق الموت. وكذلك
قداس بيرليوز الفرنسي وبرامز
الالماني، وقداس صنوه التشيكي دفورجاك، ثم قداس الفرنسي فوريه متناهي
العذوبة، الذي يشف كأغنية، أو كأوراق ربيع بليلة، ثم قداس الايطالي
فيردي المعبأ بكل النزعة البطولية في أوبراه.
ولكن ثمة قداس جنائزي سبق موتسارت بقليل ظل منسياً إلى حين، حتى أتيح
له أن يرى النور على يد قائد الأوركسترا لويس ديفون عام 1986. هذا
القداس يعود إلى موسيقي بلجيكي الأصل يدعى جون ـ فرانسوا غوسيك (1734 ـ
1829)، من جيل هايدن. نشر قبل هايدن أعماله السيمفونية، ووضع قداسه
الجنائزي (1760) بعد أن سافر إلى باريس واستقر بها (1750) وأسس معهدها
الموسيقي. وكان عميق التأثير على بيرليوز في ما بعد.
عمله هذا، الذي يمتد لساعة وربع الساعة، كان واضح الحضور في الحياة
الموسيقية إبان حياة المؤلف، ثم انزوى في ركن النسيان بعد وفاته. ولكن
قبل النسيان كان عميق التأثير على الصغير موتسارت في سنة زيارته لباريس
(1763 ـ 1764)، ويمكن تلمس ذلك في الآثار التي خلفها على قداس الأخير
الأكثر شهرة ولقد ذكره موتسارت في إحدى رسائله لأبيه: «غوسيك هو صديقي
المقرب».
دار النشر Erata
أصدرت هذا القداس في مسلسلتها
apex
رخيصة الثمن، مع عدد كبير من الأعمال الأخرى تحت قيادة لويس ديفوس،
الذي يروي كيف اكتشف العمل قبل أسابيع من تسجيله، في معرض بلجيكا حول
«بناة التاريخ الموسيقي»، حيث عثر على مخطوطة غوسيك للقداس في نسخة
معدلة بخط يده.
القداس الجنائزي هذا في خمسة فصول موزعة على خمسة وعشرين لحناً
منفصلاً، يسمى «رقماً» في المصطلح الموسيقي. وهذه نزعة في التأليف كانت
شائعة في المراحل جميعها، حتى تلاشت على يد فاغنر. والمرحلة الحديثة،
تهدف إلى توزيع العمل (أوبرا أو أي عمل يعتمد الغناء) على عدد الألحان
التي فيه. وقداس غوسيك بهذا المعنى يتوزع على خمسة وعشرين رقماً تؤديها
الآلات الأوركسترالية في المفتتح، ثم الكورس حيناً، والصوت المنفرد مع
الكورس حيناً آخر، أو المنفرد وحده مع الأوركسترا. والأصوات المشتركة
في هذا العمل هي: السوبرانو والتينور والباص: شيء يشبه موجات البحر
التي تتجه لا إلى شاطئ، بل إلى مجهول، إلى شيء سماوي يملأ الأوصال
بالنشوة والغياب، أو بالتوجس والذعر. تماماً كما هو الحال مع قداس
موتسارت الشهير. والروع هاجس يدخل في صلب مضامين القداس الجنائزي، لأن
فيه، إلى جانب الشجى العميق بفعل الفقدان، تذكيراً بيوم الدينونة، حيث
يبعث الموتى للحساب. في قداس غوسيك وفي الفصل الذي يعنى بهذا المشهد،
نقع على لحن مؤثر يصفه غوسيك نفسه بهذه الكلمات: «يأخذ الروع أحدنا
بفعل التأثير الذي تخلفه ثلاث آلات ترومبون موحدة مع ثلاث آلات
كلارينيت، أربع ترومبيت، أربعة أبواق، ثماني آلات باسون مخفية بعيداً
عن موقع العزف، في حين تواصل الأوركسترا تعبيرها عن الخوف بأصوات
الوتريات المكتومة.
ضمن سلسلة apex
وقعت على مجموعة أغان لموسيقي
ألماني
يساري النزعة من مجموعة بيرتولد بريشت يدعى هانز ايسلر (1898 ـ 1962)،
والذي جذبني إلى هذا الاصدار صوت الباريتون الألماني
الأشهر ديتريك فيشر ـ ديسكاو، فهو، طوال عقود النصف الثاني من القرن
العشرين، سيد المغنيين بدون منازع، وخاصة في أداء فن الأغنية الجدية
Lied
الألمانية الأصل. لقد قدم الجزء الأسمى والأعظم من هذا الفن لمحبي
الموسيقى، من الأغنيات الكاملة لشوبرت ـ شومان ـ وولف ـ شتراوس، حتى
المتأخرين من أمثال ايسلر. انه رمز حي لثقافة الصوت وثقافة الأداء،
وإليه يعود الفضل في إرساء القاعدة الصلبة لهذا الفن في القرن العشرين.
كل أغاني هذا الإصدار، وتبلغ 32 أغنية، لحنها ايسلر في
منفاه الأميركي، بعد أن أجبر على ترك بلده المانيا، هو وبريشت، من قبل
السلطة النازية في منتصف الثلاثينات. هذه الأغاني تجمع العناصر
السياسية والجمالية ومادة السيرة الذاتية في وحدة عضوية، تحاول جاهدة
حفر مجرى جديد لهذا الفن الكلاسيكي.
كان ايسلر ابناً للفيلسوف الفيناوي رودولف ايسلر. بدأ التأليف الموسيقي
وهو في العاشرة. درس في المعهد الموسيقي، وخضع لمؤثرات شوينبيرغ وفيبرن
الطليعية في برلين، التي انتقل اليها عام 1925، وتطورت لديه قناعات
ماركسية متينة، وانتمى على الأثر إلى الحزب الشيوعي عام 1926، واصبحت
موسيقاه ذات النبرة الحماسية على لسان الشبيبة اليسارية. لاحقته
النازية حين تسلمت السلطة عام 1933. عاش بين براغ، لندن وباريس، إلى أن
غادر مع بريشت إلى أميركا، وهناك بدأ ينتخب قصائد منه، ويحورها على هوى
ألحانه، من دون اعتراض من بريشت.
إلى جانب بربشت، هناك قصائد لهولدرلن وهاينه وشكسبير، وهي جميعها تصب
في مضامين انسانية، وطبيعة الألحان لا تخلو من حدة ودعابة وسخرية
والتواء لحني تعكس ما خلفه ذكاء بريشت في تلك السنوات على الذائقة وعلى
الوعي من نبرة انسانية جارحة، ولا تخلو من خطوط حشنة وسوداء:
في الأيام السود أيظل غناء أيضاً؟
نعم، سيظل غناء أيضاً حول الأيام السود
Gossec: Requicm (apex)
Eisler:
Lieder (apex)
موتسارت والدراما الجديدة بين البيانو والأوركسترا
(30
مارس 2001)
إن متذوقاً مبتدئاً للموسيقى، ليحار في البحث عن مدخل ملائم لموسيقي
كبير مثل موتسارت، بسبب غزارة الإنتاج وشدة تنوعه. هل يبدأ مع
السيمفونية أم مع الرباعية الوترية، أم سوناتة البيانو، أم مع
الكونشيرتو، أم الأغنية، أم الأوبرا... إلخ. وأيّهم أيسر على الذائقة
وأرحب في فهم هذا العالم الذي يبدو بلا حدود؟
كثيراً ما أجدني أقترح كونشيرتو البيانو كمدخل، فموتسارت وضع سبعة
وعشرين عملاً منه، وأكثر الكونشيرتات وضعها استجابة لدافع داخلي. وهذا
الفن ينفرد فيه البيانو، وتنفرد فيه الأوركسترا، ويلتقيان أيضاً لقاء
توافق أو صراع محتدم يذكر بالدراما التي في الأوبرا. فهو فن، إذن، يجمع
أكثر من فن. ولمسة موتسارت فيها لمسة مغيرة ومجددة، حتى لتعتبر أعماله
بداية مرحلة كاملة الجدة، وقفزة حقيقية على أثر كونشيرتو مرحلة الباروك
المتمثل في أعمال باخ وفيفالدي.
لفن الكونشيرتو، بصورة عامة، أعطى موتسارت، اثنين وأربعين عملاً: 27
للبيانو، 5 للفايولين، 4 للبوق، 2 للفلوت، وواحدا لكل من الكلارينيت
والأوبو والباسون. أعطى بهذه الوفرة احتفاء بهذا الفن الذي حقق صيغة
ناضجة: في امتداده، وفي تشربه لفكرة «شكل السوناتا». بحيث أصبح المستمع
يتمثل صراعاً حقيقياً في الحركة الأولى: حيث تبدأ الأوركسترا وحدها في
تقديم اللحن الأول ثم اللحن الثاني، وما إن يلتحما ويبدأ الصراع بينهما
حتى يدخل البيانو المنفرد، وهذه المرحلة تسمى داخل شكل السوناتا بمرحلة
«التطور» أو النمو. ثم يشعر المستمع بأن الثقل الحقيقي في كل الحركة
الأولى إنما يتجه نحو التصفية النهائية للصراع، وهي المرحلة الثالثة،
حيث يصفو العازف المنفرد لنفسه مرتجلاً حراً من أي مزاحمة أوركسترالية،
ويسمى هذا القسم «كادينتسا»، وكثيراً ما يستلهم مادته، التي تبدو حرة،
من اللحنين الأول والثاني.
في الأوبرا كان الجديد لدى موتسارت أنه جعل الأغنية تمسك بالفعل
الدرامي. ولا تستقل وحدها كحلية، كما كانت مألوفة في الأوبرا آنذاك.
فهي تدفع بالحدث وتضيء الشخصيات. حاول في أعمال الكونشيرتو ذات الشيء.
فالعازف المنفرد والأوركسترا في تداخل وتقاطع دائم من أجل مزيد من
الإحساس بالدراما، وهذا الإحساس هو الذي أعطى كونشيرتاته هذه الشهرة
وهذه الديمومة.
معظم كونشيرتات البيانو الناضجة وضعها موتسارت بعد انتقاله إلى فيينا
من مدينة سالبزبورغ (1780)، وضعها، كما قلنا، استجابة لدافع داخلي.
ورسائله الكثيرة إلى والده، تكشف دائما عن هذا الحرص على خصوصيتها:
«إني اتضرع إليك بأن تصونها كما تصون كنزاً، وأن تعرضها على أحد
لعزفها.. لأنني ألّفتها بصورة خاصة لنفسي، وليس لأحد حق عزفها باستثناء
أختي العزيزة». ان حرصاً كهذا ينم عن إحساس باستثنائية وجدة أعمال
مدهشة كهذه.
الكونشيرتات الخمسة الأولى ليست أصيلة، فقد أخذ موتسارت مادتها في
سوناتات بيانو لآخرين. ولكن في الكونشيرتو التاسع بدأت مرحلة النضج
الحقيقية، التي وجدت قاعدتها في فيينا في ما بعد، خاصة في الكونشيرتات
الخمسة عشر. ولكن بين هذه الثروة الآسرة للمستمع أن ينفرد بثلاثة هي
درة التاج (رقم 23، 24، 25). في الأول يتميز اللحن الظاهر في الحركتين
المشمستين الأولى والثالثة، أما الثانية بينهما فعلى شيء كثير من
العتمة والاستثارة الباطنية المقلقة، وهي الحركة البطيئة. وفي
الكونشيرتو 24 تجد مساراً يكاد يكون عصابياً، شديد التوتر ويستدعي قدرة
على السيطرة عالية من قبل العازف. ولقد كان لهذا الكونشيرتو تأثير خاص
على بيتهوفن في ما بعد.
أما رقم 25، فهو كونشيرتو خادع في الظاهر، لأنه يعرض لك وجهاً يسيراً
وبسيطاً، لكن التقنية المتطلبة فيه عصية على العازف، إذا لم يكن
موتسارتياً ماهراً.
إن هذه الثلاثة المختارة، ليست إلا فاتحة شهية. فكونشيرتات موتسارت
دائمة الشعبية لشدة تنوعها وغناها جميعاً. ولم تنطفئ جاذبيتها لكل عازف
على البيانو، ولكل قائد أوركسترا. والذين عزفوا الأعمال كاملة كثار،
لعل أشهرهم: بريندل وبرايا وبيرينبويم وكمبف واوشيدا واشكنازي وآندا.
الأخير جيزا آندا هنغاري، وعزفه كلاسيكي يعود إلى الستينات. ولقد ظلّ
لدى عدد من النقاد مصدر حنين لعزف موتسارتي متكامل، خاصة أن آندا قدم
الكونشيرتات مع فرقة «كاميراتا أكاديميكا» الألمانية، وتحت قيادته..
وهي أهم مَن عزف موتسارت حتى اليوم. إن العازف والفرقة لم يتركا ظلاً
لثقل، داخل العمارة الكلاسيكية، ولم يخفا تحت تأثير رومانتيكي، بفعل
عواطف موتسارت الثرة، بل هناك توازن خالص.
إن هذا العزف النموذجي للكونشيرتات، وقع بين يدي أخيراً، فقد أعادت
إصداره دار النشر Deutsche
Grammophon،
في ثماني اسطوانات CD،
وبسعر رخيص، قياساً لسعر الاصدارات الجديدة، بعد ان كان على الاسطوانة
السوداء في الستينات. في هذا الاصدار الجديد، سيتوفر المستمع على
مجموعة 27 كونشيرتو باستثناء السابع المؤلف لثلاث آلات بيانو
وأوركسترا، وكذلك العاشر المؤلف لآلتي بيانو، وما زال التسجيل رائعاً
مع شيء لا يكاد يبين من هسيس الزمن والتقادم.
Mozart: The Piano
Concertos.
Anda (DG)
أوبرا أنتيغونا: رائعة الإيطالي المنسي
(16.
مارس. 2001)
حكاية أوديب معروفة للجميع. فولداه تصارعا على
السلطة وقتلا معا. وتولى العرش خالهما. وحرم على جثة احدهما ان تدفن.
ولكن احدى اختيه «انتيغونا» قررت تجاوز قرار الملك، مع اختها «ايسمين».
من منطلق المأساة هذه تبدأ أوبرا «انتيغونا»، التي خرجت علينا من بين
ركام النسيان.
النص الشعري اعده ماركو كولتيلليني (1719 ـ 1777) عن نص سوفوكليس
المعروف، ثم اشتغل على تأليف الأوبرا منه توماسو ترايتا (1727 ـ 1779).
وهو موسيقي عاش في قلب مرحلة الإصلاح
الذي قاد فن الأوبرا من مجرى الترفيه والتزيين الى
الجد الدرامي الهادف. وفي قلب عصر التنوير الذي انتصر للعقل. ولقد
انعكس كل ذلك في هذه الاوبرا المدهشة المفاجئة.
حين عُرضت
أول
مرة في مسرح بيترسبيرغ الملكي (1772) كان موتسارت، وهو في السادسة
عشرة، يعرض
أوبراه
الثالثة في ميلان. ومع ان
أوبرا
موتسارت بقيت اليوم في ذاكرة محبي هذا الفن، الا ان
أوبرا
ترايتا الأنضج طواها النسيان تماما. وهي الأنضج
فعلا لا بسبب عمق موسيقاها، بل لعمق وعيها للفعل الدرامي
أيضا.
ولا غرابة فالمؤلف عاش، كما
أشرت،
في مرحلة الثورة الأوبرالية
التي قادها الألماني
«غلوك» باتجاه الدراما الموسيقية. فمتابعة النمو النفسي للشخوص ومحاولة
التعبير عنه دون مباشرة
أو
ميوعة هما
أهم
عناصر هذه الثورة، الى جانب
إعطاء
ثقل للنص الشعري الدرامي.
في هذه الأوبرا
تجد هذا التوازن في التعامل مع المشاعر. فلا استثارة للدموع او
للابتسام، ولا كثافة تعبير في شخوص شديدة الانفعال. بل هناك فرص للتأمل
والمراقبة لما يحدث، عقل منشغل ولكن دون افتقاد للعمق.
الملك كريون، رغم قراره المتعسف من اجل
إعلاء
شأن وهيبة السلطة، يصغي اخيرا لصوت العقل، وكأن في ذلك محاولة توازن
بين السلطة المطلقة وانتباهة العصر التنويري لحقوق الانسان. فهو يندم
على
إجراءاته
ضد انتيغونا في ان تُقبر حية في كهف، لأنها
تجرأت على دفن جثة اخيها بصورة لائقة. وضد ابنه ايمون، خطيب انتيغونا،
الذي تمرد على تعسفه وحاول الانتحار للالتحاق بروح من يحب. وحتى على
ايسمين الوديعة،
أخت
انتيغونا، التي لم يكن لها غير دور النداب المستعد للتضحية بصمت.
الدراما تنعكس في الشكل الموسيقي بصورة واضحة. فالاغنيات (الآريات)
والحوار المنغم (الريستتيف) تعبر عن حالة نفسية وعن مواقف. وكذلك فعل
الكورس. ولعل اكثر ما يلفت النظر في الاغنية انها كثيرا ما تأتي في شكل
«ثنائية» و«ثلاثية» وهي استعانة يُكثر منها ترايتا لتعزيز الهاجس
الدرامي.
ان من اروع المشاهد الشعرية ـ الموسيقية ما نجده في مفتتح الفصل
الثاني، حيث انتيغونا في ليل احتفالي تجمع رماد جثة اخيها. هنا نسمع
ايقاعا جنائزيا يشكل قاعدة هادئة لجو من الحزن الكثيف يولده لحن من
آلات الفايولين تقاطع بين فترة واخرى بنغمات رقيقة من آلات الاوبو، الى
ان يحل الكورس المثير:
«الا اصغ لنواحنا، لآهاتنا ولجئيرنا ايها الشبح المحموم حول هذه
المحرقة المتفجعة وبعدها انحدر سعيدا الى احضان الهدأة الابدية».
ان شخصية انتيغونا مركزية في هذه الاوبرا، لا اعتمادا على عدد اغنياتها
او مرات حضورها في المشاهد، بل على مساهمتها الكثيفة والجوهرية في كل
ما يحدث، فحيث تبدو تحيطها هالة روحية تسعى لتحرير داخلها المحترق، منذ
اول مطلعها في المشهد الثاني من الفصل الاول.
«توقفوا،
أيها الأجلاف
القساة واتركوا لي فرصة واحدة، على الأقل،
لأغسل
الجسد الميت بدموعي» حتى المشهد الأخير."
قبل النهاية تلتقي بحبيبها ايمون داخل الكهف (كم يذكر بلقاء راداميس
وعايدة في قبر موتهما!) وهناك نلتقي بثنائية رائعة تغنى بينهما. ثنائية
تحتفي بلقاء المحبين تحت ظل الموت الوشيك. ولان العرف الاحتفائي لعصر
التنوير يميل الى النهايات السعيدة الآملة، فقد غير الشاعر والموسيقي
من نص سوفوكليس، ومنحا لانتيغونا وحبيبها فرصة الحياة من جديد، بعد ان
اعلن كريون الغفران وهدم جدار الكهف المغلق شاعرا بالندم على حماقة
طغيانه.
اصدرت دار DECCA
هذه التحفة المنسية للموسيقي الايطالي توماسو ترايتا، الذي لا نعرف عنه
الكثير، الا انه عاش في منطقة نابولي وتجول في اوروبا وله بضعة اوبرات
لم يلتفت اليها احد لاخراجها الى النور. وهذه الاولى كفيلة باستثارة
رغبة التعرف على مزيد منه.
يرجع الفضل، طبعا، في بعث ترايتا، الى قائد الاوركسترا الفرنسي كريستوف
روسيت وفرقة «تالينس ليريك»، واختياره الموفق للسوبرانو ماريا بايو
(انتيغونا) والتينور كارلو اليمانو (كريون) والميتسو لورا بولفيريللي
(ايمون)..
Traetta: Antigona
(DECCA)
الفلوت السحري من تعبيرية إيمانويل باخ
إلى الرومانسية الفرنسية
(20/10/2000)
ليس
أكثر
من آلة «الفلوت»
أو الناي قدماً، فهي ترجع إلى
أكثر
من عشرين
ألف سنة إلى الوراء. إلى الصين ربما،
وربما إلى كل بقعة من الارض وُجد فيها الانسان الأول. فهي لا تحتاج إلى
أكثر
من تكوين مجوف: محارة، قصبة
أو
عظم، لكن «فلوت» الاوركسترا اليوم على درجة عالية من التشتيت والتعقيد
معاً، على الرغم من ان صوته يتولد من ذات التقنية القديمة الأولى:
هواء من الفم يندفع باتجاه حافة فينقسم إلى داخل التجويف وخارجه لكن
هذا الانقسام يولد صوتا مميزا إلى حد بعيد يرتبط لدينا، نحن
أبناء
الشرق، بالأفق الرعوي الواسع. وظل كذلك لدى الغرب،
لكن فقط حين يرتبط هذا الصوت بالموسيقى التي تعتمد منهاجاً
أو
حكاية، مثل مشاهد الأوبرا،
أو
«ظهيرة الفوند» لـ «ديبوسيه» مثلا. في الموسيقى المجردة يستقل «الفلوت»
بمادة صوتية تحفر مجرى خاصاً فيه شيء من الدكنة، ولا يعنيها الالتحاق
بأفق تتلاشى فيه.
«الناي» الذي لدينا يشبه ما يسمى في اوركسترا الغرب «الريكوردر»، وهي
آلة انفصلت كثيرا عن «الفلوت»، الذي لم يعد خشبياً، على الرغم من انه
عضو في عائلة «الخشبيات الهوائية»، التي تضم «الاوبو» و«الكلارينيت»
و«الباسون». في القرن الثامن عشر انتهت آلة «الفلوت» إلى صياغة جعلتها
مؤهلة لدخول عالم الاوركسترا. ولذلك يعتبر النصف الأول من هذا القرن عصر «الفلوت» الذهبي.
وأول
خصائص هذه الصياغة
إنها
بدأت تعزف من جانب، لا من النهاية على طريقة «الريكوردر» كما ان سعة
وقوة الصوت
أصبحتا
أكثر طاقة، وعزز هذه الطاقة والغنى
اقبال المؤلفين الموسيقيين لوضع الأعمال
لها. وتظل مساهمة «يوهان سباستيان باخ» في «سوناتات الفلوت» وفي
«ميوسيكال اوفرنغ» و«كونشيرتو براندينبيرغ» الخامس
أسمى
المساهمات والقاعدة التي ينطلق منها فن التأليف لهذه الآلة.
لكن لـ «باخ» الكبير ابنا
أوسط
هو كارل فيليب ايمانويل باخ (1714 ـ 1788). ورث موهبة
أبيه
شأن
إخوته
وبرع في آلة الفلوت. درس الموسيقى والقانون وعمل في خدمة فريدريك
الثاني طوال ثمانية وعشرين عاما. وكانت
أعماله
الموسيقية في الفن السيمفوني ريادة حقيقية نضج تحت ظلها كل من هايدن
وموتسارت وبيتهوفن في ما بعد. وعلى الرغم من ان معظم
أعماله
ما زالت منسية في مخطوطاتها إلا ان ما عزف منها وسجل يكشف عن موهبة
فنان حقيقي، فسيمفونياته الأربع (ما زلت اسمعها في الاسطوانة
السوداء مع العمل الكورالي «ماغنينيكات») وكذلك
أعمال
كونشيرتو التشلو وسوناتا الاوبو انما تعكس روحا موزعة بين الاستسلام
للسياق الكلاسيكي الذي يفرضه العمل في بلاط فريدريك الموسيقي حيث لا
اثر للنبض الشخصي وبين الانتفاض على هذا السياق باحتدام تعبيري ينبئ
بكل ما تخبئ النفس وما ستتمتع به الرومانتيكية في ما بعد.
هذا الموسيقي المنسي لا عن حق
أصدرت
له دار Black Box ثلاثة كونشيرتات لآلة الفلوت، التي
يعزفها الانجليزي مارتن فينستين مع الفرقة التي
أسسها
وسميت باسمه. وهي مع دراستها لمرحلة «الباروك» تفضل عزف موسيقاها على
الآلات الموسيقية الحديثة. ان براعة وحذق مارتن
أوصلا
ذات الطبيعة الشخصية المحتدمة التي تحدثت عنها في موسيقى ايمانويل باخ،
فهناك دائما «اندفاعات مهتاجة متعارضات صادمة في الحركات السريعة، خاصة
الحركات الأخيرة
تذكر بالاهتياج والتصادم في سيمفونياته، تلك التي استهوت بيتهوفن في ما
بعد. الحركة البطيئة في الكونشيرتو الثاني في هذا التسجيل غاية في
العمق وكأنها تنقل دقائق زمن لا نهائي لروح ملتاعة.
في النصف الأول
من القرن التاسع عشر وبالضبط عام 1832
أكمل
عازف الفلوت الألماني «بويم» الشكل النهائي لآلة
الفلوت حين ادخل عليها نظام المفاتيح المعدنية ذات الأذرع
التي تحرك بالأصابع حيث
أصبح
العزف عليها
أكثر سهولة. ولقد اخذ عنه الفرنسي لويس
دوروس هذا الاهتمام حيث
أصبحت هذه الآلة المتقدمة
أكثر
شيوعا في فرنسا، خاصة بفضل تلميذه عازف الفلوت الشهير كلود ـ بول
تافانيل (1844 ـ 1908) الذي طمع كثيرا من الموسيقيين الفرنسيين الكبار
لتأليف
أعمال
لآلة الفلوت. من بين هؤلاء كان غونو (صاحب اوبرا «فاوست») وماسينيه
(صاحب اوبرا «تاييس») وبيزيه (صاحب اوبرا «كارمن»).
دار Black Box
أصدرت
تسجيلا آخر لموسيقى هذه الآلة تحت عنوان فانتاسيز «موسيقى الفلوت
الفرنسية الرومانتيكية»، وتضم مختارات من تأليفات هؤلاء. وعازف الفلوت
هذه المرة الايرلندي ادوارد بيكيت، الذي تشبع بطابع الفلوت الفرنسي لأنه
درس هذه الآلة في فرنسا سنوات عديدة ولم يستقر في لندن الا
أخيراً
التسجيل يضم 14 عملا قصيرا لموسيقيين ينتسبون عمليا للنصف الأول
من القرن العشرين ولكن حرارة الرومانتيكية ما زالت تضطرب في أعماقهم
وأكثرهم لا يتمتعون بالشهرة التي يتمتع بها «رافيل» و«فوريه» وسان سون،
ومنهم من عقدت شهرته على عمله المختار لهذه الآلة، مثل «هنري بوسير»،
الذي وضع مؤلفه «الأندلس»
(1933) المفعم بالرائحة الاسبانية استجابة لموجة التأثر بالموسيقى
الاسبانية الجنوبية التي اجتاحت فرنسا آنذاك والجميع وضعوا اعمالهم من
وحي عازف ماهر هو «تافانيل» ولذلك تفترض عازفا ماهراً كل حين تعزف فيه
و«ادوارد بيكيت» ذو طواعية للمشاعر الرومانسية وذو مهارة في الاداء
والتقنية.
أوبرا موتسارت «اختطاف من السراي»
موسيقى الاحتفاء بالقلب السمح
(17/8/2000)
في كل المرحلة الباروكية
والكلاسيكية كانت الأوبرا فناً بصياغة ايطالية وبلغة
ايطالية في عموم أوروبا وكان هذا دون شك، ضربا من الوفاء أصبح تقليداً
ملزماً، في انجلترا حين ضاق الناس بايطالية الأوبرا جاء «هاندل» بفن
«الاوراتوريو» الدرامي بطابعه المحلي ولكن الحكاية اختلفت مع مجيء
«موتسارت».
كان أكثر أوبراته ايطالية الطابع بالتأكيد ولكن طبعه الفني الذي لا
يستكين الى التقليد شاء أن يحقق منجزاً أكثر حقيقية: ان يكتب أوبرا
باللغة الألمانية،
وان يضفي عليها مسحة الحياة الواقعية. ان تكون، بصورة ما، مسرحية مطعمة
بالموسيقى والأغنيات. صيغة كانت تسمى آنذاك
Singspiel.
ولكن خفة الوزن لهذا الفن تحولت بين يدي «موتسارت» الى مفتتح لفن جديد
وجدّي طوره في ما بعد «بيتهوفن»، «فيبر» و«ڤاگنر»
فهو، بفعل عنصر الدراما ومساهمة النص الشعري، يترك فسحة للكلام المحكي
دون موسيقى. تحقق هذا الهدف عند «موتسارت» حين انتقل أخيراً الى
«فيينا» العاصمة (1781) وكان رواد المسرح الموسيقي آنذاك يحبون هذا
الضرب الخفيف الضاحك من فن الـ «زنغشبيل»، وكثيري الولع بحكايات الشرق
الإسلامي،
خاصة التركي منها.
من هذه الحكايات اختار «موتسارت» حكاية «بيلمونتي وكونستانزا»، التي
اشتهرت باسم «الاختطاف من السراي»، وأنجزها
كأوبرا عام 1782. لقد حققت عند عرضها نجاحاً رائعاً وثقه «موتسارت» في
إحدى
رسائله لأبيه.
الحكاية تتحدث عن «بيلمونتي» (صوت تينور) الذي يصل قصر الباشا «سليم»
باحثا عن حبيبته «كوستانزا» (سوبرانو) التي أُسرت مع وصيفتها
الانجليزية «بلوندي» (سوبرانو) وبمساعدة خادمه بيدريللو» على الرغم من
شكوك «عثمان» (باص) مرافق الباشا الذي يحب بدوره «بلوندي»، يستطيع ان
يحقق لقاء مع الباشا سليم. ولكن الباشا هو الآخر يقع بحب «كونستانزا»
دون استجابة منها ولقد عبرت عن مشاعرها في واحدة من أروع الحان
«موتسارت»:
«انني أعرف كل انواع العقاب / التي سيتعرض لها جسدي.
ولكنني سأحتمل»
هذه الأغنية تتواصل قرابة الدقائق العشر مع مقدمة موسيقية تستغرق
دقيقتين ومع مساهمة الاوركسترا (أوركسترا غرفة في هذا التسجيل)
وانفرادات آلات الفلوت والاوبو والفايولين والتشلو تبدو الاغنية أشبه
بكونشيرتو بين صوت السوبرانو ومجموع الاوركسترا ونبرتها المتحدية
تتعارض مع أغنية أخرى رائعة لـ «كونستانزا»، سبقتها بقليل حين كانت
تستعيد حبها الأول بصوت تنهدي رائع الحزن:
منذ فُصلت عنوة عن عناق ذراعيك.
أصبح حزني العميق مراً...»
يحاول «بيلمونتي»، من أجل الهرب مع حبيبته وصديقيه، ان يسكر «عثمان»
لينام إلا ان الخطة تفشل ويقبض عليهم جميعاً مع ان الباشا «سليم» يكتشف
ان «بيلمونتي» هو ابن عدوه الاسباني واسع الثراء والسلطان الا ان قلبه
الواسع الكريم يعفو عنه ويتنازل عن حبه الذي كان من طرف واحد. ويسمح
للجميع بالسفر، حيث تختتم الاوبرا بواحدة من أجمل أناشيد الموسيقى
الجماعية.
ان الباشا «سليم» خاسر الحب، وكذلك مرافقه الأمين
«عثمان» الا
إنهما لا يحسنان الانتقام وهما في موقع
القوة، لان الحب وسعة الأفق
هما من أروع ما يميز موسيقى «موتسارت» في كل أوبراه. وفي هذه الأوبرا
بالذات.
ان صفة «تركي»
أصبحت منذ تلك الأيام
ذات صلة بالتركيبة الموسيقية، فهي إذا ما أضيفت الى الموسيقى
الأوركسترالية فستعني اضافة آلة طبل ضخم، وصنج ومثلث وبضع آلات ضرب
ضاجة لتمنح أفقاً مهرجانياً هذا ما حدث لأوبرا «اختطاف من السراي».
وهذا ما نوه عنه قائد الاوركسترا الاسترالي الأصل، «تشارلس» ماكيراس»،
في توزيعه الجديد لها، الذي صدر عن دار
TELARC.
فهو يقول في كتيب هذا الاصدار انه اشترى آلات القرع من مدينة
«اسطنبول». وهم ضمن الجولة التي كرست لاخراج هذه الاوبرا كفيلم
سينمائي. ولقد خرج الفيلم تحت عنوان «موتسارت في تركيا» بالتعاون بين
مؤسسة «انتيلوب» و«بي. بي سي» و«مؤسسة اسطنبول للثقافة والفنون».
هذا الاصدار مقارنة مع
إصدارات سابقة، لعل اشهرها تسجيل قائد
الاوركسترا الانجليزي الشهير «توماس بيتشم»، عام 1957، يبدو رائعاً
فالاوركسترا هنا صغيرة تتلاءم وصغر الأوبرا التي تجري احداثها في مكان
واحد وبين خمسة أبطال (السادس هو الباشا الذي لا دور له في الغناء)
وتقنيات الصوت في أرفع مستوياتها من حيث الوضوح والمغنون في نقاوة
أصوات الشباب. على الرغم من ان صوت الانجليزي «بول جروفز»، الذي يقوم
بدور «بيلمونتي» يقصر أحياناً في ظل أداء اغنياته.
«كونستانزا» (تقوم بالدور «يلدا كادالي») رائعة في كل اغنياتها، خاصة
في انجاز أداء «الكولوراتورا» أو الارتجاف الصوتي في طبقته العليا.
وكذلك «بيتر روز» الذي يقوم بدور «عثمان» المليء برغبات الانتقام
والاحقاد بسبب حبه الفاشل ولكنها رغبات هوائية تخفي قلباً طفولياً
ساذجاً.
العارف بأوبرا «موتسارت» يأسف فحين يستمع الى هذه التحفة الفنية، أن
يرى دور الباشا «سليم» وقد ترك للكلام وحده دون اغنيات. لان هذا القلب
الكريم والعقل الحكيم لا بد سيتحفان الموسيقى بألحان تذكرنا بالاغنيات
الرائعة التي وضعها «موتسارت» لشخصية شبيهة في أوبرا «الناي السحري»
وهي شخصية «ساراسترو».
|