معاصر
الفضائل الدنماركية:
استيحاء نيتشة
بعد جيل نيلسون ظهر في الدنمارك موسيقي آخر لا يقل سمعة عنه هو فاون
هولمبو
Vagan Holombo
(1909 ـ 1996). ولحسن حظي أني أتعرف عليه لأول مرة مع عمل استثنائي،
تحت عنوان «قداس جنائزي لنيتشه». ولحظة التعرف هذه تتم على مستوى طالما
تطلعت اليه، حيث تتعانق فيه الموسيقى والشعر والفلسفة بصورة تثير مباهج
عدة.
موسيقى هولمبو مفعمة بالمشاعر ولكن وفق ضوابط، ومهذبة رقيقة ولكن تتحرك
باتجاه دراما سايكولوجية. وموسيقى ثقافة واسعة وعميقة. العمل وضعه
المؤلف عام 1964 لصوت الباريتون والتينور والكورس مع الاوركسترا،
معتمدا مجموعة سونيتات وضعها صديقه الشاعر الدنماركي بيورنفج.
القصيدة تستوحي حياة وافكار نيتشه (1844 ـ 1900)، عبر تأويلات رمزية
لما عرف من توقعاته واستلهاماته وكشوفاته ومعتركه الداخلي، ثم انهياره
التراجيدي المبكر. العمل الموسيقي يتابع شبكة التداخل هذه في أجزاء
خمسة لا تخلو من أسلوب طليعي تجريبي، مجاراة لموسيقى الأجيال الجديدة.
الرائع هو في متابعة النص الشعري العميق عبر بدائله اللحنية في موسيقى
الاوركسترا وأصوات المغني المنفرد. ففي مفتتح الجزء الاول نطل على مشهد
لحني وشعري لصحراء:" يخطو فيها المسيح داخل البرية، شابا متطلعاً
لمواجهة الرب. وعلى ضوء القمر يرتقي أعلى الجبل، وقد استشعر الوحدة
والهجران". بهذا يدخل الكورس بلحن يعيده صوت الباريتون ولكن بايقاع
أسرع وبلهجة تأملية:
"أكُتِب على الأشياء أن تتضاعف في الهدأة المحترقة؟
أيتها الواحات، المدن الرائعة، والعوالم المجيدة،
المتبددة في السراب على امتداد الرمال.
هاهو ظله يغادره، ويصبحا اثنين".
يتردد بعده صوت المسيح (أو نيتشة، أو أي مبدع!):" اذا ما ستتعبدني.
فهذا كل ما ستملك»، ممثلا بندائه كل التطلع الفاوستي الخالد باتجاه
المعرفة.
في الحركة الثانية تحت عنوان "بازل"، التي قضى فيها نيتشة سنوات عشرة
محاضراً، ندخل موسيقى كورالية هامسة، متكلمة، صارخة. الكورس هنا يمثل
"السوق الضاج بالبائعين وذرى التلال الطوال والليل الغيهب والصبح
المتعب" الذي عرفناه لدى السياب في قصيدته "العودة لجيكور". ولكنه أيضا
مسرح الفشل الانساني والشك الفلسفي الذي عبّأ كتابات نيتشة جملةً. في
هذه السنوات كان شديد الاعجاب بفاغنر وموسيقاه، ولذلك نسمع أصداء
موسيقية من أوبرا "تريستان وأيزولدة" تتردد هنا.
في الحركة الثالثة يغني صوت الباريتون بعنف رؤيا نيتشة:" رأى في ريح
الفجر النرد الذهبي...". رؤيا الفرس رمز الحيوية الطبيعية، التي كانت
آخر عهد نيتشة مع سوية عقله عام 1889. في الرابعة تُعلن دعوى نيتشة
بموت الله، ثم تلي النتيجة واضحة بأن موت المعتقد الديني لن يُحِل
الانسان من تبعة مسؤوليته الأخلاقية. الحركات التالية تدخل متوترة في
حقل الجنون النيتشوي المضطرب، على شئ من لحظات صفاء غريبة الطابع تنفرد
بها آلات مثل الفلوت، السَّليستة، وآلة النقر الفيبرافون. تحل النهاية
قبل الخاتمة في فايمر على صرخة نيتشة:" ياأُخت، خذي الريح بعيداً
عني!"، ثم في الحركة الأخيرة يسود السلام والسكينة، حيث لا مكان لنيتشة
ولا لصوته، بل أصوات أثيرية: آلة القيثارة، السَّليستة، والفيبرافون،
على خلفية من الأوركسترا الخافتة. هنا يدخل المؤلف السكينة في ملكوت
الله، ويُدخل معه نيتشة الرافض للسكينة والملكوت! فما عسى رأي نيتشة أن
يكون بشأن مصيره الذي خطه له هولمبو في قدّاسه الجنائزي؟
أسرار التجريب في الموسيقى الحديثة
(7/3/2002)
الموسيقى الحديثة اكثر اتساعا واستيعابا لمحاولات التجريب من الفنون
الاخرى. صحيح ان محاولات كثيرة لم تجد استجابة مرضية، كالاستجابة التي
تحققها موسيقى موتسارت مثلا، الا ان نسبة ليست قليلة من هذا التجريب
حفرت مجراها بنجاح في الذائقة الكلاسيكية، خاصة الموسيقى التي تنتسب
لحركة «المينيماليزم» الاميركية الاصل.
احد اسرار اتساع هذه الحركة يكمن في اعتمادها البساطة لانها تقتصر في
معمارها على «الحد الادنى» من الجمل الموسيقية، وعلى تكرار هذه الجمل
بصورة لامتناهية. وهذا التكرار في ذاته عنصر حاسم ومؤثر في كل موسيقى،
فكيف اذا ما اصبح معتمدا عن دراية وقصد؟
بدأت الحركة في اميركا على يد كل من ستيف رانج (مواليد 1936)، وفيليب
غلاس (مواليد 1937)، وجون آدم (مواليد 1947). الثاني اوضح الثلاثة في
التزامه عنصر التكرار ذا التأثير الذي يقرب من تأثير التنويم
المغناطيسي، او تأثير الغناء او الرقص الصوفيين. الا ان الثالث، وهو
اصغرهم سنا، اقربهم الى النزعات الحسية والعزيزية التي تبعد عن تأملات
العقل ومشاغل الفكر.
جون آدمز يمثل ردة فعل في وجه النزعة الفكرية والذهنية التي اتصفت بها
مدرسة «سريالزم» لما بعد حداثية. انه اتجه في موسيقاه الى الوجدان
والمشاعر مباشرة الى حرارة الغرائز الانسانية الحيوية، وفي موضوعات
اوبراه الى احداث التاريخ المعاصر المثيرة مثل «نيكسون في الصين» على
اثر زيارة الرئيس الاميركي عام 1972.
لقد احتفى النقاد بآخر انتاج موسيقي له صدر هذه الايام عن دار
Nonesuch
تحت عنوان «النينو» وهو عمل طويل من فن الاوراتوريو، حيث يتم من عناصر
مغنين منفردين، ومن كورس، واوركسترا. ولان الموسيقي الطليعي يعيش في
سان فرانسيسكو فهو على مشارف عالم اميركا اللاتينية الغني بالشعر
والاسطورة والحياة البكر. ومن هذا العالم انتخب معظم نصوص عمله الشعرية
مستعينا بالمخرج الشهير بيتر سيلر.، قصيدة كاستيلانوس المكسيكية حول
الولادة، او «عيد البشارة» اعطاها الموسيقي ادمز لصوت الميتسو ـ
سوبرانو (لورين هانت ليبرسون)، الذي بدأ مع تتابع الصور الغنية
بالدلالة، تصحبها الاوركسترا رقيقة اول الامر ثم تنتهي بصوت متقد
للوتريات:
«لأنك منذ البدء لي بحكم القدر قبل عصور القمح والقبرات وقبل الاسماك
ايضاً حين لم يكن الفراغ اكثر من آفاق لزرقة غير متناهية، والكون غير
ارادة لم تعلن بعد...».
جون آدمز في عمله الجديد ينصرف الى تأمل موضوع الولادة، الذي تتكثف فيه
معجزة الخلق. ولذا استعان بنصوص الكتاب المقدس حول ولادة السيد المسيح
وجعل منها محورا تتحلق حوله القصائد المنتخبة. كما اقتصر في منتخباته
على شاعرات اناث، لان الانثى هي سيدة هذه الولادة التي تقرن عادة
بالمرارة وآلام لحظات الطلق، حيث الشك واللايقين يصاحب شهور الحمل،
وحيث المشاعر الخليطة من السعادة القصوى ومن الفراغ، التي تعقب الولادة
مباشرة. العمل يجيش بكل هذا، عبر نصوص مبكرة تعود الى المتصوفة
الالمانية هيلديغارت، وصولا الى الشاعرة التشيلية الحائزة جائزة نوبل
(1945) غابربيلا ميسترال (1899 ـ 1957):
«فتاة صغيرة جاءت تعدو ممسكة كوكبا بيديها ذهبت محلقة، حاملة كل زرع
وكل حيوان ينثني بمرورها باللهب..».
العمل يمتد قرابة ساعتين، وفي فصلين تشكل الاصوات البشرية (سوبرانو،
ميتسو ـ سوبرانو، باص، وكورس) عماده، في حنين تواصل الاوركسترا، دفينة
معظم الاحيان بتدفق التكرار الذي يبعث النشوات، ودراما المشاعر بتغيره
المفاجئ دائما. قادت الاوركسترا الالمانية كينت ناغانو بعصا الساحر.
John Adams: El Nino (Nonesuch)
من ثمار الحداثة الانجليزية وما بعدها
(25/1/2002)
إن تذوق عمل موسيقي حديث جداً يتطلب أذناً ذات دربة في كل مراحل
الموسيقى الكلاسيكية السابقة. ولكن هذه القاعدة قد تؤدي أحياناً الى
نتيجة متعارضة، تكون فيها الأذن ذات الدربة متمنعة في مواجهة ما هو
غريب عليها، رافضة لمذاقه جملة. ولكن الأذن، حتى في الحالة الثانية، لا
تحتاج إلى شيء اكثر من الوقت لكي تلين وتستجيب. وهذا ما حدث لي في
السنوات الأخيرة، حتى صرت على شيء من الظمأ للمتابعة، ولتأمل ما أقع
عليه من إصدارات الموسيقيين المعاصرين. صرت أحس أن هناك مواطن في النفس
الانسانية بعيدة الغور لا تبلغها الا محاولات الموسيقي المحدث، الذي
صار محيطاً بالكثير من وسائل المعرفة الحديثة بالنفس الانسانية.
صحيح أن معظم المحاولات الجديدة تبدو تقنية في ظاهرها، ولكن التقنيات
ليست الا وسائل استثارة. وما على الأذن إلا الانقياد. فالذي يبدو
ضجيجاً أو صرخة أو صوتاً هامساً إنما تحمله المفاجأة لا المنطق
الميلودي الذي الفناه في العمل الموسيقي الرومانتيكي أو الكلاسيكي.
دار NMC
معنية منذ سنوات بالموسيقى الجديدة الانجليزية. أصدرت مؤخراً
اسطوانتين، واحدة لـ «جون وولرتش»، والاخرى لـ «هيو وود». جون وولرتش
(مواليد 1953) بدأ نشاطاً حقيقياً منذ أواسط الثمانينات حتى تجاوزت
أعماله المائة، من أوبرا وكونشيرتو وأعمال أوركسترا وآلات منفردة. وفي
كل اعماله تلاحق تضمينات من أعمال الاسلاف: موتسارت، فاغنر، شومان،
ولكن بخيوط لحنية تتوازى ولا تتقاطع، أو تتقطع هي نفسها لتعكس موضوعاً
على شيء من التعقيد، مستوحى من مادة أدبية، مثل المقطوعة الأولى التي
بعنوان «ساعة الحلاق». التي ألفها بعد قصة للايطالي ايتالو كالفينو حول
ساعة واصلت قروناً في دقة الوقت حتى أصبحت للقرويين محجة لمعرفة الغيب:
«أيتها الساعة، متى تنتهي متاعبنا؟» أو «أيتها الساعة متى يحين
الموت؟». والساعة تجيب: «تيك توك. تيك توك. ربما للذي لا يغني/ تكون
الحياة طويلة». طبعاً في العمل الموسيقي ما من كلام، فالآلات تقوم
مقامه. البيانو تتك والآلات الهوائية تؤدي الأغنية.
في الاصدار عمل آخر مستوحى من الأدب هو «شبح في ماكنة» عن قصة لـ
«كوستلر». يبدأ اللحن الضخم مع ستة أبواق متجانسة ثم يتواصل عبر خمسة
مقاطع متنقلاً بين آلات الفيولا والهوائيات الخشبية ثم المترددات ثم
يعود في الخاتمة الى الأبواق وهي تحولات في ربع ساعة يلوح فيها النظام
واللانظام العقلاني والحدسي.
العملان الآخران لـ «وولرتش» هما كونشيرتو لآلة الأوبو الهوائية مع
الاوركسترا تهدف الى مصطرع درامي بين الآلة الواهنة العذبة وبين قوى
الأوركسترا الكاسرة، وكونشيرتو لآلة الفيولا مع الأوركسترا، وهو عبارة
عن سبع «أغنيات دون كلمات»، في كل مقطع أغنية لآلة الأوبو تعيد أصداءها
الأوركسترا.
كل فنون الرحيل والتحول والدراما والأغنية تتم تحت تنازع قوتي الانسجام
والتنافر، وتكاد هذه الخصيصة تكون أبرز خصائص الموسيقى الكلاسيكية
الجديدة، التي تنتسب الى ما بعد الحداثة الغربية.
اسطوانة هيو وود (مواليد 1932) تضم عملين كبيرين أوركستراليين، بالرغم
من ميله الدائم للتأليف لموسيقى الغرفة وللأغنية، حيث وضع الحاناً
كثيرة لقصائد: اليوت، لورنس، روبرت غريفز، بابلو نيرودا، تيد هيوز. وهو
مثل وولرتش كثير التضمين من اعمال الاسلاف: موتسارت، فاغنر، إلغار،
سترافنسكي... على أنه يحكم حياكة تضميناته بنسيج موسيقاه هو. ويتضح هذا
في عمله «سيمفونية» في حركاتها الأربع المتواصلة دون انقطاع، حيث لا
تضعف الاستشهادات العديدة من تماسكها. في مفتتح الحركة الأولى العاصف
نحس بنذير منتزع من عالم موسيقى مالر، واذ ندخل الحركة الثانية دون
فاصل نمر بمارش مأخوذ من أوبرا «الناي السحري» لموتسارت، ومن مشهد عبور
النار الاختباري، وهنا يحاول المؤلف ان يكشف عن صراع بطله الموسيقي مع
القدر. ما تبقى من السيمفونية حركتان تعتمد الأخيرة مجموعة من
التنويعات تحاول أن تقتنص الجمال.
العمل الثاني «مشاهد من كوماس» غنائي اوركسترالي يعتمد نصاً درامياً
شعرياً للانجليزي ميلتون وضعه عام 1634، ويدور حول سيدة تبحث داخل غابة
غامضة عن أخوتها المفقودين، تواجه الساحر كوماس وجماعته الذي يغويها
بالانضمام اليه.. ولكنها تفلت حرة أخيراً. العمل تؤديه السوبرانو
جيرالدين ماكريفي والتينور دانيل نورمان تحت قيادة أندرو ديفس.
الاصداران عينة ممتازة لما بعد الحداثة الانجليزية في حقل الموسيقى،
بالرغم من أن وولرتش ووود يمثلان جيلين بينهما عشرون عاماً. الموسيقى
لديهما لم تنتصر للنزعة التقنية المتطرفة، والميلودي لم يفتقد كلية بل
يصطرع مع ما يعارضه من تنافرات. وهناك دائماً سياق في النمو أو التنويع
يجعل المستمع، بأناة يسيرة، يطمئن إليه والى الرحلة الغنية بالثمار.
Hugh Wood:
Symphony.. (NMC) John Woolrich: The Ghost.. (NMC)
فن الموسيقى المعاصر حيث النشازات تستنهض الانسجام
(22/6/2001)
لا شك ان معظم الوقت، الذي يستغرقه السماع الموسيقي، يذهب الى العصور
الذهبية للموسيقى الجدية: المرحلة الكلاسيكية والرومانتيكية والباروك
قبلهما، حتى اصبحت كلمة موسيقى كلاسيكية لا تتجاوز الخط البياني من
مونتفيردي الى مالر. والاطلالة على الموسيقى الكلاسيكية الحديثة تبدو
احيانا واجبا ثقيلا لاستكمال الدورة.
الا ان السنوات الاخيرة ايقظت موجة من سبات، فالاصغاء الى الموسيقى
الكلاسيكية الجديدة ومتابعة الاسماء التي تظهر بين حين وآخر، والنبش في
سنوات اول القرن العشرين على المحاولات الرائدة، اصبحت ديدن الجميع،
خاصة المجلات الموسيقية النقدية المتابعة، ودور النشر المتحفزة.
اصبحت ظاهرة الاصوات الجديدة
والموسيقى الجديدة اشبه بمنتجعات نقاهة واعادة نشاط. فأنت هنا تنغمر
بوسائل وطرق تعبير غير مألوفة، تحاول الوصول الى اركان في النفس غير
مألوفة وجديدة ايضا. وليست هذه الموسيقى الجديدة تعتمد النشاز والصخب
والضوضاء باعتبارها ظواهر عصر لا مهرب منها فقط، فهناك على العكس من
يرى ضرورة مواجهة هذا النشاز بالانسجام، او دحر الاول بالثاني، على ان
يكونا معا لكي يظهر التضاد مقدار العمق في كليهما. من هؤلاء، الموسيقي
الاميركي ريتشارد دانيلبور (مواليد 1956)، تشبه موسيقاه احيانا لمسات
رومانتيكي من القرن التاسع عشر، لكن بدم جديد انه يؤمن بأن الموسيقى
ذات مهمة للكشف عن حقيقة العالم وحقيقة انفسنا ومهمة انسانية كهذه دفعت
دانيلبور لوضع عمله «مراث» هذا الذي صدر عن دار
sony classical، وهو لحن لخمس قصائد (للشاعر كيم
فيث)، قبل مقتله بلغم في عام 1945 في المانيا. حدث ذلك قبل ولادة ستاد،
ولذلك اصبحت هذه الوسائل ـ القصائد بمثابة وسيلة بحث وحيدة عن الأب ـ
الجذر، وعن الذات ـ الهوية واداء المغنية هنا لم يعد اداء فنيا فقط، بل
تجربة بحث قلبية غاية في العمق.
«ارتفع، ايها الحبيب/ اجمع اشياء الاسى قريبا بدونك عالم النجوم وعالم
المر سواء مخيف وقاحل».
القصائد ـ الموسيقى في «مراث» تتواصل باتجاه الضوء، لكن عبر ظلمات
كثيرة في الحركة الاولى تتطلع الابنة لتلمس روح الاب عبر الزمان
والمكان، ثم تدلهم الاصوات، كصدى الحرب، ويخرج صوت الأب (توماس همبسون
ـ باريتون) فزعا: «ايتها المدينة الجوفاء الضائعة، ايتها الامواج
اللانهائية لازهار الحرب..» في الحركة الثانية، ثم سرعان ما يهدأ
وتجيبه الابنة الباحثة دون جدوى، في الحركة الثالثة يخاطب ابنته قبل
الولادة: «ايتها الروح الصغيرة، الى اي وجهة تذهبين من عتمة الرحم؟».
وفي الرابعة يلتحمان في خيط لحني كأنه يقبل من عالم آخر: «ما الذي
نعرفه في هذه العتمة»، ثم تعود الابنة متفردة الى واقعها الارضي في
الحركة الخامسة.
صوت «ستاد» الحميمي يتلاحم مع موسيقى دانيلبور الحميمية في عمل آخر وضع
لقصائد «ريلكه»: «سونيتات لأورفيوس»، وتكاد تكون المادة الروحية واحدة،
فالشاعر الالماني الكبير يستلهم رحلة الاسطورة اليونانية الى العالم
السفلي ليعبر عن معنى الرحيل الى ظلمات النفس الداخلية من اجل مزيد من
معرفتها، ولقد حاولت الموسيقى ذلك بطريقتها العميقة الخاصة.
دار Decca
اصدرت سلسلة عن الموسيقيين المعاصرين، ويعتبر «مارك انتوني تورنيج»،
اليوم في مقدمتهم (مواليد 1960) وتذكر موسيقاه بلوحات «بيكون» ذات
المعالجات السايكولوجية الملتبسة، او بكتابات صمويل بيكيت المختزلة.
«تورنيج» على خلاف «دانيلبور» منتم كليا لنشازات عصره وموسيقاه، ولذلك
تجد دماء الجاز والموسيقى السوداء عامة متشربة في مجموعة الاعمال
الخمسة التي في الاصدار الجديد.
ان هذه الخصائص تبدو لصيقة بأوروبا الغربية وأميركا بصورة خاصة، لأنك
ما ان تتحدر قليلا الى اوروبا الشرقية حتى تقع على موسيقي معاصر مثل
«ميكلوش روزا» (1907 ـ 1995)، تذكرك اعماله من موسيقى الغرفة برباعيات
الكلاسيكيين والرومانتيكيين الاثيرة.
ولد «روزا» في بودابست، وموسيقاه، شأن الرواد الهنغاريين «كوادي»
و«بارتوك»، مشبعة بموروث الموسيقى المحلية الا انه ما ان خرج الى باريس
ولندن حتى اسرته السينما والتأليف في الموسيقى التصويرية التي اشتهر
بها من الافلام التي وضع موسيقاها «لص بغداد»، «بن هور» «السيد» و«ملك
الملوك»، لكنه على امتداد هذا النشاط لم ينقطع عن التأليف في موسيقى
الكونسيرت.
والرباعيتان الوتريتان اللتان صدرتا عن دار
ASV
مع سوناتا آلتي الفايولين، تكشف عن اسلوب شديد الخصوصية والصفاء،
بالرغم من ان الفيض المحلي للموسيقى الهنغارية لا يتضح الا في
السوناتا، في حين نلمس في الرباعيتين ظلالا من رباعيات «بارتوك»
الشهيرة.
ان التنوع في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة يدعو الى التفاؤل فالنشازات
والضوضاء لم يغويا كثيرين الا باعتبارهما عناصر تستنهض في النفس عناصر
مضادة من اجل الانسجام والشفافية وسلامة الروح.
- Danielpour: Elegies (sony) - Rosa: String Quartets
(ASV
أوبرا... الرجل الفيل: من الحدث
التاريخي إلى معالجة المشاعر
(12/1/2001)
حكاية «الرجل الفيل» تاريخية، وحدثت لانسان حقيقي عاش في النصف الثاني
من القرن التاسع عشر، اسمه «جوزيف ميريك» 1862 ـ 1890، لكن هذه الحقيقة
وضعت عام 1979 في عمل مسرحي منحها كل عناصر الفانتازيا، العمل كتبه
برنارد بوميرانس. ثم سرعان ما تناولت السينما هذا العمل ونشرته للعالم
1980.
كان ميريك طفلاً طبيعياً من أبوين طبيعيين، باستثناء عرج بسيط لدى
الأم. لكن تشويها عجيبا بدأ يدب في طبيعة بشرته وعظامه منذ بدأ سن
الخامسة. أصبحت استدارة رأسه عظيمة الكبر (3 فوتات) بنتوءين ضخمين من
الخلف وضخامة الفكين منعاه من النطق الواضح، وبالرغم من سلامة يده
اليسرى إلا ان اليمنى ذات شكل شديد الغرابة وتنتهي برسغ باستدارة 12
انج، وكذلك شأن الساقين والحوض.
وضع ميريك في اصلاحية الأحداث وهو في سن السابعة عشرة، لكنه هرب منها
بعد سنوات أربع ليلتحق بمهرج يعرضه أضحوكة للناس. إلا انه اكتشف في
لندن من قبل الدكتور «تريفيز»، الذي أدخله مستشفى لندن 1986 وفيها،
وبفضل دكتوره، أصبح واسع السمعة وموضع رعاية من الجميع مؤسسات
وأفراداً، حتى موته المبكر وهو نائم.
ان كثيرين منا رأوا الفيلم الذي قام بالدور الرئيسي فيه «جون هيرت»،
وتعرفوا على الذات الداخلية الفطنة المرهفة الواعية لـ «ميريك»، تعرفوا
على رغبته الفياضة في أن يحب، وأن يعانق الجمال والحياة كانسان سوي لا
كاستثناء، وكيف انه واجه وحده، بكل كيانه العاجز، حقيقة الحياة التي
تنطوي على قسوة ضارية، حتى ان موته كان برأي كثيرين، انتحاراً مقصوداً.
في هذه الأوبرا الجديدة، التي فاجأنا بها الموسيقي الفرنسي، الجديد
تماماً، «لورنيه بيتيتجرارد»، نرى بصورة خاطفة كيف يموت ميريك انتحاراً
في آخر لحظة منها. إذ يرمي برأسه الكبير الثقيل الى الخلف، وهو أمر
محذور، فينحدر وراءه على الأرض الصلبة.
ولأن الأوبرا تتعامل مع المشاعر والرغائب أولاً، فإن ميريك وحكايته
يبدوان ملائمين تماماً. إن الاصدار الجديد، الذي طلعت علينا به دار
Le Chant du Monde
الفرنسية، مرفق بنص العمل الشعري الذي وضعه بنجاح «اريك نون» وهو نص
بالغ الشعرية والدرامية، لكن الكتيب، للأسف، لم يقدم، ولو بصورة أولية،
أي تعريف بالمؤلف ولا بتفاصيل عمله الأول هذا. ونحن نعرف المغنية
الفرنسية ناتالي ستوتزمان «من طبقة (آلتو) الخفيضة جداً» التي قامت
بدور «ميريك» أكثر مما نعرف المؤلف، إلا ان عمله هذا كفيل بتقديم
قابليته وعالمه الداخلي بصورة وافية، فالطبيعة الموسيقية في الأوبرا
محافظة على «التونالتي» أو «المقامية» التي تعارفت عليها المراحل
الموسيقية حتى القرن العشرين، أو مطلعه، حتى خرجت عليها مدرسة فيينا
الثانية، بقيادة شويبيرغ، ولذلك نملك ان نتابع خيوطاً لحنية على امتداد
الفصول الأربعة، باستثناء الاستعانات، بين حين وآخر، بأساليب مدرسة
«المينيالزم» التي تعنى بالتكرار المتواصل وهي مدرسة ما بعد حداثية
خرجت على المقامية التقليدية.
في الفصل الأول لا نتعرف على صوت ميريك بل على هيئته الشائهة صامتة تحت
إدارة «نورمان» صاحب الاستعراض التهريجي وكأن المؤلف اراد لمشاعرنا
المتعاطفة ان تقطع شوطاً للنمو والنضج. في المشهد الثاني في الفصل
الثاني يطل علينا صوت البطل الضحية وهو يتهدج بصعوبة: «أنا لست
شحاذاً..»، لكن تسبق صوته افتتاحية «برليود» غاية في الرقة والنبل
والتشكك ثم التفجر، وكأنها بكل ذلك تمثل كيان ووجدان ميريك. في المشهد
الثالث نستمع لأربع دقائق لحناً ثنائياً رائعاً بين ميريك و«الكورس»
وفيه مناجاة لله بأن يشمل بعطفه ورحمته «عبده على سرير آلامه».
المؤلف الموسيقي، مع الشاعر، حافظ على واقعية وتاريخية ميريك ولذلك
تعبر الاحداث كما عرفناها في سياقها التاريخي: في الاستعراض، ثم في
المستشفى، بعد اكتشاف الدكتور «تريفيز» ثم تعرض ميريك لأضواء الاعلام
بعد ان نشرت عنه «التايمز» خبراً استعطافياً. ثم موته فوق سريره، لكن
الأوبرا لا تعنى بالحدث التاريخي لذاته ولذلك وضعت للبطل طبقة «آلتو»
(وهي طبقة صوتية نسائية) على درجة من العتمة عميقة وأعطت «ستوتزمان»، ـ
ولقد ألفت هذه الأوبرا لها خصيصاً ـ عمقاً اضافياً، بفعل صوتها
الاستثنائي في ظليته وعمقه وكأن المؤلف أراد لنا ان نصحب، عبر موسيقاه،
عالم البطل الداخلي وحده، وما رجل الاستعراض «نورمان» والدكتور
«تريفيز» و«جيمي» والممرضة «ماري» إلا مظاهر الحياة الخارجية العارضة
حول الجوهر المعذب المتطلع الى السوية، لكن المرعب ان الأوبرا لا تعرض
سوية حتى في هذه الحياة الخارجية.
المغنية ستوتزمان
Stutzmann
اكثر ولعاً بأداء موسيقى «الباروك» وخاصة الحان فيفالدي وباخ وهاندل
ورغلوك، لكنها لا تتردد مع ألحان فاغنر، والحداثيين بعده، وهي في هذه
الأوبرا الجديدة على درجة عالية من الانسجام، لأن موسيقى الأوبرا كما
أشرنا، ظلت وفية للطابع اللحني، ولم تستجب كلية للتنافرات واللامقامية
الطليعية. فرقة «مونت كارلو الاوركسترالية» تحت قيادة المؤلف نفسه كانت
بعيدة نسبياً وراء أصوات المغنيين بحيث بدت غريبة والنقاد لم يستقبلوا
هذا العمل بحماس وترحاب بسبب محافظته الغنائية كما اعتقد. واعتبروا
أبرز ما فيه مساهمة المغنية «ستوتزمان».
Petigirard: J Merrick the Elephant Man (Le chant du
Monde
جدية الموسيقى العربية من باريس
حسين المصري: معانقة بين العود
والسيتار
(20/9/2000)
في مواجهة تهريج الاغنية العربية من المحيط الى الخليج، عبر الاعلام
العربي المترنح انتشاء او بفعل الدوار، تتحرك الموسيقى العربية التي
تحاول ان تكون جدية بكثير من الحياء، عبر الاعلام الغربي المفتون
بنبضات قلب الشعوب الشرقية العريقة لأنه اصبح يعرف بحكم الخبرة والعلم
ان قلب هذه الشعوب، الذي لم يمسه ضر، لا يملك ان ينبض ألقا الا
بالموسيقى الجدية. وان موسيقى التهريج ليست الا عارضا مرضيا مهما طالت
مرحلة التدهور والانحطاط.
في عواصم الغرب ومدنه انتشت ظاهرة التجمعات الموسيقية العربية، التي
تحاول ان تستعيد انفاسها وتصغي الى نفسها والى ما يحاورها من موسيقى
جدية شبيهة، غربية كانت او أم شرقية. وكأنها تنتفع من منفاها الذي
التجأت اليه مختارة او مجبرة، من اجل ان تغني بصوت صاف، مستعيدة عمارة
الشكل النبيل وقد وطأته نزعة التهريج (التجارية + الاعلامية) في عالمها
العربي الكبير.
معهد العالم العربي في باريس يحاول بصورة متواصلة ان يعلن عن هذه
المحاولات الموسيقية. آخر اصدارين له: اداء «عائشة رضوان» مع فرقتها من
القاهرة. تحاول بطريقتها اعادة مجد المقام التقليدي في ثلاث وصلات
(مقام حجاز ـ وبيات وحجاز كار) وعبرها بين اداء الحنجرة واداء الآلة
الموسيقية. تقدم 13 عملا منها موشح يعود الى المدرسة الحلبية، والبقية
موروث مصري (فن القصيدة ـ النوال ـ والدور).
واجمل ما في صوتها تلك الاطلالة على حقل الموسيقى، التي كانت طربيتها
جدية، ان صح تعبيري. والاصح ان اسميه اداء. على انها كثيرا ما تستجيب
لوازع داخلي خص بتطريب الجمهور. وفي هذه الاستجابة تتزاحم الميوعة
العاطفية فيفقد الاداء والصوت الخبرة والنضج.
الاصدار الثاني: عمل على آلتي العود والسيتار، وهو اكثر جدية، من دون
شك، من الاول، واقل استجابة لتطريب الجمهور. العمل تحت عنوان «بين نهري
النيل وغانجيس» صنعه الفنان حسين المصري، عازف العود، على ان الكراس
المرفق لم يشر داخل المقالة الممتعة الطويلة الى ذلك، ولكن احدنا
يستنتج هذا من انفراد حسين المصري بالغلاف وتفاصيل الدراسة ان استيحاء
عنوان العمل من نهرين مبجلين في مصر والهند يبدو رمزيا. فهما في حقل
الابداع الموسيقي آلتان: العود العربي والسيتار الهندية. وهما بالتالي
تهدجات.. المقام العربي وتساميات الراج الهندي. هذا اذا ما اطمأنينا
الى حقيقة ان العود ذو طبيعة موسيقية ارضية بالمقارنة مع السيتار، الذي
يبدو في اكثر حالاته اثيريا.
العمل يمتد لاربع وخمسين دقيقة من دون فواصل وهذا يعني ان العمل يعتمد
على بنية داخلية ما، بنية تؤهله لهذا الامتداد. وبين بنية المقام وبنية
الراج يستجيب الموسيقي الى الثانية، بالرغم من ان كليهما يعتمدان
«التنويع» الطويل على جملة المفتتح وعلى فاصلي مرحلة التأمل ومرحلة
الاغنية وعلى الارتجال.
ضربات العود ذات حواف عائمة غير حادة الصفاء بالمقارنة مع ضربات آلة
السيتار، وآلة العود توفر اللحن عبر الضرب على اوتار عدة مع حركة
الاصابع على الدساتين، في حين تخرج السيتار اللحن عبر رنين وتر واحد.
الامر الذي يفرد الجملة اللحنية بصورة على درجة عالية من الصفاء. مع ما
في الموسيقى الهندية اصلا من غنى مدهش في مجال اللحن.
الجملة التي يبدأ بها العمل سرعان ما تتلاشى في مرحلة تنويع تأملي هادئ
يمتد لقرابة عشرين دقيقة، تتناوب فيه الآلتان بصورة صبورة جدا، وانت
تشعر ان كلا منهما تنتظر في آخر اجتهادها اللحني ايماءة من الآلة
الصامتة لكي تصمت هذه وتبدأ تلك. في الحركة التالية يبدأ العود يعجل من
سرعة الجملة الموسيقية التي بدت مختلفة عن جملة المفتتح، تلاحقه
السيتار بذات الخبب المتسارع. وبينهما تلوح في اللحن ظلال اغنية توارب
ولا تتضح ويهدأ العود باللحن فجأة لدقيقة واحدة لا اكثر، وكأنه يعد
الانفاس لاستقبال لحن الاغنية وتدخل الاغنية مع الطبلة الهندية فعلا،
معتمدة جملة واحدة اساسية يكرسها العود بالتكرار الطويل ثم تتناولها
منه السيتار بالتنويع الفاتن لتكتمل بين يديه. بحيث يصبح اللحن يسيرا
على العود فيواصل اعادة الاغنية على طريقته، وهكذا حتى الخاتمة التي
بدت هادئة تماما.
محاولة الموسيقي حسين المصري موفقة تماما. واقتحامه بعوده معبد «الراج»
الهندي جريء وحكيم في آن. ولعل ملاذه في باريس، بعد ضيق من هواء
التهريج الموسيقي العربي الفاسد، قد جاء بثماره في اكثر من اصدار لم
اطلع الا على هذا الاخير منه.
وليس اقل منه شأنا العازف على السيتار ناريندرا باتاجيو، وهو يقيم في
باريس عازفا ومدرسا، فقد كان اداؤه للاغنية في منتصف العمل جوهرة
صافية.
ولد حسين المصري في القاهرة عام 1952. داخل عائلة شغوفة بالموسيقى. بدأ
في مطلع حياته الموسيقية مع البيانو ثم اختار العود، رفيق حياة فنية لم
يجد لها متنفسا داخل عالمه العربي فخرج الى باريس عام 1966. ومن هناك
بدأ خطواته الحقيقية حتى بدأت القاهرة تراه بوضوح رغم ضباب التهريج
الضارب.
* Hussein El
Masry: Between the Nile and the Ganges
* Aicha Redouane (Institut Du Mondie
Arabe)
بشارة الخوري: التماعة النجم
(20/12/2002)
هذا أول اصدار موسيقي لمؤلف عربي أقع عليه، يصدر عن دار نشر
Naxos
الشهيرة، هذه الأيام، على أن وراء هذه المفاجأة المسرة مفاجأة شخصية،
أعادتني أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء.
في أيام الشباب الأولى، شاءت الأقدار أن أقيم في بيروت سنوات ثلاثا
(1969 ـ 1972)، وكان الشاعر عبد الله الخوري احد أبرز الشخصيات الأدبية
التي تعرفت عليها، يفيض رقة وحنواً على هدي قصائد أبيه الأخطل الصغير،
الرقيقة الحانية. وذات مساء، جاءني بمخطوطة قصائد لصغيره بشارة، الصبي
الذي لم يتجاوز حينها الثالثة عشرة، وطلب مني أن أكتب كلمة لغلافها
الأخير أسوة بمن كتبوا، وأذكر أن غادة السمان كانت واحدة منهم.
الكلمات كانت محتفية ومشجعة، لكن كلمتي انطوت على شيء من الأسى، هكذا
كنت أشعر، وما زلت، أمام أي روح صبية تثقلها الرؤى الشعرية، بصورة
مبكرة وعلى حين غرة. ويبدو أن هواجس الأسى وجدت صدى لدى الشاعر الأب،
أو الشاعر الابن، إذ ما انقضى عام حتى جاءني عبد الله الخوري بمخطوطة
شعر جديدة، وأسرني برغبة بشارة في أن أنفرد بكتابة مقدمة خاصة لها..
وكتبت المقدمة وصدرت المجموعة الشعرية الثانية للموهبة المبكرة، بعدها
غادرت بيروت وانقطع بيننا العهد.
الآن أقع على بشارة الخوري من جديد، لكن بإهاب الموسيقي الرفيع
المستوى، وكأنه بأعماله الاوركسترالية الأربعة في هذا الاصدار يحقق
حلماً وهو أن أرى موسيقياً عربياً يدرج بين الموسيقيين، في هذا الحقل،
الذي أصبح مع الأيام وليد لغة عالمية واحدة لا تفصلها حدود وحواجز.
في الكراس داخل الاصدار، استعادة نافعة لنشاط بشارة الإبداعي، فهو درس
الموسيقى في بيروت، ثم باريس، التي أقام فيها منذ عام 1979، وبالرغم من
أن دليل أعماله المعلن يضم مؤلفات من عام 1979، وهي تتجاوز الآن 65
عملاً، أوركسترالية في معظمها، إلا أن لبشارة أكثر من مائة عمل وضعها
بين 69 ـ 1978، الى جانب عدد من المجموعات الشعرية، التي لم اطلع عليها
ايضا.
إذن، نحن أمام نموذج عربي للموسيقي العالمي يبرع، إلى جانب موهبته
المركزية في التوزيع الأوركسترالي، بالعزف على البيانو وبقيادة
الاوركسترا، ولكي يحتفظ بالموهبة حارة داخل أتون المشاعر، خشية من سطوة
التقنية، ظل بشارة شاعر كلمات وعواطف، وأنت تحس بذلك في كل جملة لحنية.
في العمل الاوركسترالي الأول «خرائب بيروت» (1985)، يفلت المؤلف من
نظام السوناتا الصارم، الذي يقتضي صراع لحنين ونمواً ثم ذروة، وينصرف
في الحركات الأربع إلى أسلوب القصيدة السيمفونية، حيث يتلون اللحن تلون
المشهد العاطفي. هنا تتزاوج رومانتيكية بدايات القرن العشرين الألمانية
مع تقلب المزاج العربي، في منحى لحني لا يغادر المقامية إلى تقنيات ما
بعد الحداثة الغربية المتطرفة. فالمؤلف اللبناني يريد أن يحتدم مع
موجات العنف المتضاربة التي تركت بيروته خراباً، في الحركة الأولى،
لكنه في الثالثة يدخل هدأة الشعر، وفي الرابعة يعود إلى المعترك
التراجيدي.
العمل الثاني «هضبة الغرابة»، وهو تأمل سيمفوني يقول عنه المؤلف: «إنه
رحلة عبر ضباب مخترق من قبل ومضات ضوء تعلن عن أغنية للعزلة والصمت
تهيم فوق الحياة والزمن».
العملان الآخران في هذا الاصدار من القصائد السيمفونية ايضا، وعادة ما
يحب بشارة الخوري أن يضع لها عناوين شأن القصائد: «هارمونيات المغيب»،
و«خمرة السحب»، وفي كلا العملين تلوح مشاهد للهدأة وللسكينة، لكنها
عادة ما تكون مشوبة بالحذر، إذ سرعان ما تتحطم تحت وقع انفجار
النحاسيات والطبول.
Bechara El- Khoory: Orchestral Works (Naxos)
عن بشارة الخوري الحفيد: القصيدة
الأوركسترالية من الشرق العربي
"موسيقى بشارة الخوري ممتدة الجذور في تربة بلده
الأم لبنان، ولكن معرفته المتينة بتقنيات الموسيقى الغربية مكنته من
النجاح في خلق مزيج رقيق من الحساسية الشرقية واللغة الموسيقية
الأوروبية. الإجراءات الهارمونية التي يستخدمها تطلع من التقاليد
الكلاسيكية دون شك، ولكنه يملك صوتاً شخصياً ينطوي بصورة عميقة على
حضور ذلك السحر الشرقي الذي ينتمي إليه، دون السقوط بالبهرجة والتزويق.
إنه واحد من أولئك الموسيقيين القلة القادرين على
التوفيق بين طرفين يبدوان متعارضين، دون الانحراف عن الخط الذي يقوده
دون تردد من ضفاف الرومانتيكية الى أشكال التعبير المعاصرة"( بيير
بيتيت في جريدة الفيغارو).
رأي الناقد الموسيقي دقيق ومباشر بشأن الموهبة
الموسيقية المشرقة للعربي بشارة الخوري( مواليد 1957)، حفيد الشاعر
الكبير وابن الشاعر المتواضع عبد الله الخوري. لأن الأذن الموسيقية لن
تغفل السحر الشرقي فيها، المقترن بالهاجس الرومانتيكي، حيث العواطف
تفيض دون أن تعركها التقنيات، بل تتصالح معها. وحيث النشازات التعبيرية
تتمرد دون أن تبلغ مرحلة الصخب. إنه معاصر بالمعنى الذي يُرضي الهاجس
اللازماني الذي يتحلّى به المبدع. فهو لا ينقاد لموضات العصر
المتسارعة، ابنة الزمن العابر. بل هو ينحني لهواجس وجدانه الطموحة الى
أن تُبنى بناءً محكماُ.
سبق أن كتبت عن إصدار لأربعة أعمال عن دار
ناكسوس(20/12/2002)، واليوم أصغي بذات المتعة والإنتفاع لعدد من
الأعمال في إصدار جديد عن دار
Forlane.
اسطوانتا
CD
تحتوي الأولى على أعمال ومقطوعات من الفن السيمفوني. والثانية على
أعمال ومقطوعات من فن البيانو والأوركسترا. وعناوين معظم الأعمال تذكر
بالشاعر في المؤلف الموسيقي. فكلمات" الصورة " و" القصيدة" و" التأمل"
و" الحلم"...الخ عادة ما تتكرر، الى جانب عناوين " رقصة العقبان" و"
ليلة المخبول" و " لبنان في اللهب" و" أوراق الخريف". إنه بهذا الولع
يُذكر بالموسيقي الروسي سكريابن، إلا أن الأخير غارق في النزعة
التصوفية، في حين لا يقربها بشارة، بل هو ينزع الى عواطفه الشخصية
الميالة الى الغنائية. صحيح أن في موسيقاه هذا الهاجس بالغياب،
وباللامرئي. بالغموض الذي يتلبس الإنسان والطبيعة. إلا أنه هاجس مفتون،
وكأنه يرى جمالاً آسراً، لا غموضاً مثيراً للريبة والفزع.
ولا عجب أن تكون معظم أعماله من وحي الشعر، شعره هو بشكل خاص، وشعر
جبران خليل جبران! وبهذا المعنى قلت، في المقالة السابقة، أن الهاجس
الأعم في أعمال بشارة ينتسب الى فن "القصيدة السيمفونية". لأن القصيدة
السيمفونية تعتمد الحكاية، وتستلهم النص الأدبي.
وكم يشوقني أن أطلع على نصوصه الشعرية في مرحلة نضجه، بعد أن سبق
واطلعت على نصوصه الشعرية وهو في مرحلة طفولته قبل ثلاثين عاماً،
للإنتفاع من المقارنة وفهم المزيد من فيوضات هذا الموسيقي الذي لا يخلو
من حزن عميق. لأنني أتذكر، ما زلت، حزنا طفوليا ملفتاً للنظرً في قصائد
تلك المرحلة المبكرة.
صدور هذه المجموعة المختارة بعناية تحت قيادة الفرنسي بيير ديرفو
لأوركسترا كولن، وبمصاحبة عازف البيانو اللبناني البارع عبد الرحمن
الباشا، يمنح فرصة رائعة للراغب بالبدء بدربة الأذن مع الموسيقى
الجدية. فهنا موسيقي عربي، يُطلع اللحن والهارموني من مادة الشعر، ولا
يغادر السلم الموسيقي الى اللامقامية، مجاراةً للموجة المابعد حداثية،
ويعطي للمشاعر والعواطف الأولوية. ثم هو خالص الإنتماء الى المعمار
الجليل للموسيقى الجدية الغربية، وليدة الحضارة الحديثة.
|