فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

رومانتيك

 

مسرات بعث المنسيات

(1/2/2002)


    حين مات الموسيقي الايرلندي جون فيلد (1782 ـ 1837)، كان عمر الموسيقي الفرنسي سيزار فرانك (1822 ـ 1890)، خمسة عشر عاماً، وقد بدأت سمعته تتسع، مع دخوله معهد الموسيقى في باريس، كعازف ماهر على آلة الأورغن. في حين اعتمدت سمعة فيلد، منذ صغره، على مهارته في العزف على البيانو. وقد كان هايدن، في إقامته الإنجليزية، شاهداً على ذلك. وإذا بقي الأول كلاسيكياً وفياً لمرحلته، مع أن مشاعر البوادر الرومانتيكية الجديدة لم تكن غريبة عليه، فقد ابتكر فن «الليليات» على البيانو، الذي اشتهر على يد شوبان في ما بعد، فان الثاني، سيزار فرانك، كان رومانتيكياً عميقاً.
    دار Naxos، تواصل اصدار كونشيرتات البيانو لجون فيلد. الاصدار الأخير يضم الكونشيرتو الخامس والسادس. ومعهما تم التعرف إلى هذه الموهبة الممتازة في هذا الحقل، مع أنها كانت تتمتع، في زمنها، بسمعة واسعة، إلا أن غبار الأيام يغطي معالم بعض الوجوه بصورة غامضة.
    ظل فيلد بصحبة مدرسه الإيطالي كليمينتي منذ صغره حتى مراحل نضجه، صحبه إلى باريس، ثم إلى روسيا، وبسبب انصراف كليمينتي إلى مشاغله التجارية، فقد عانى فيلد من مشاق العيش حتى استطاع، بعد حرمان وجوع، أن يؤسس له موقعاً مشهوداً في روسيا، بعد نجاح كونشيرتو البيانو الأول. بالإضافة إلى مهارته الفائقة على البيانو، كانت موسيقاه لهذه الآلة تتمتع بلمسة شعرية هي لمسة الأغنية، هذا التعامل الماهر مع البيانو جعل الدراسة على يديه غالية الثمن، إلا أن حالته الصحية بدأت تتدهور عام 1831. فطمع بالعلاج في لندن، وفي الطريق إليها، كانت مشاق السفر غير محتملة، فاضطر للعودة إلى موسكو بمساعدة سيدة روسية ثرية. وهناك، غادر الحياة، وسحب شهرته معه إلى وادي النسيان.
    هذه السنوات من التحول الألفي في الثقافة الموسيقية الغربية، هي سنوات بحث واكتشاف وبعث. ودور النشر تنقب عن مخطوطات كل غابر ومغمور، وكثيراً ما نجد فيها جواهر عالية الثمن. موسيقى فيلد لا تخلو من متعة تأمل تألقات الجواهر. انه فيها لا يأخذ الفكرة الموسيقية ويطورها وفن القاعدة لنمو شكل السوناتا، بل يعنى بزخرفة الأفكار أو الثيمات الموسيقية المتلاحقة، فتجدها تتفجر كل حين.
    الكونشيرتو الخامس له بعنوان «نيران من العاصفة» وهو مستوحى من مقطع موسيقي عاصف في آخر مرحلة النمو من الحركة الأولى الطويلة. وعلى الرغم من أن فيلد هو مبتدع فن «الليليات» Nocturne العذب الهادئ، إلا أنه تجنب الحركة البطيئة في هذا الكونشيرتو، لكنه عوّض عن ذلك في كونشيرتو البيانو السادس، حيث أشبع الحركة الوسطى البطيئة بروح «الليليات».
    الاصدار الآخر من موسيقى سيزار فرانك الشهير جداً، يضم عملاً غير معروف ومكتشفاً حديثاً، هو كونشيرتو البيانو الثاني. وقد ألفه وهو في الثالثة عشرة من عمره. كان فرانك عازف أورغن درجة أولى ومدرساً رفيع المستوى، ونتاجه القليل فريد وعميق بسبب مشاعر براءة دينية تذكر ببروختر. كان فرنسياً، ولد في بلجيكا، وله جذر ألماني، ولم يحقق شهرة يستحقها إلا في أواخر حياته، وبعد مماته.
    في هذا الإصدار «تنويعات سيمفونية»، وفن «التنويع»، يفترض وجود لحن أصيل أو مستعار، تقوم عليه تنويعات عديدة تالية. ولحن فرانك في هذا العمل يبدأه البيانو، ثم تتلاحق التنويعات أوركسترالية حيناً، وحيناً على آلات الفيولا أو التشلو. أما العمل الثاني، فمن فن «القصيدة السيمفونية»، الذي يعتمد حكاية أدبية. وبالفعل فإن عمل فرانك هذا، الذي تحت عنوان «الجن»، يعتمد قصيدة لفيكتور هيجو، تصف مشهد ظهور الجن كسحب محترقة، وجحافل مصاصي دماء. وما من منقذ، ثم يتلاشى المشهد. كلا العملين يعتمد البيانو مع الأوركسترا، تماماً مثل الكونشيرتو، في الظاهر، لكن الفارق جوهري، فهذا الأخير لا يبنى على لحن واحد ينوع عليه، ولا على حكاية أدبية خارجه، بل يبنى فنياً وداخلياً بناء شكل السوناتا، الذي يقتضي في الحركة بيانا من لحنين يتصارعان في مرحلة النمو التي تقودهما إلى الذروة والخاتمة. وهذا البناء واضح كالماء العذب في كونشيرتو الصبي ذي الثلاثة عشر عاماً.
Field: Piano Concertos (Naxos) < Franck: Symphonic Variations (Naxos)

 

 

 

 

الثامنة والتاسعة لـ «دفورجاك» من روائع القلب الطيب

(14/9/2001)


      هناك روائع في الفن السيمفوني مشهودة، الثامنة والتاسعة للموسيقي التشيكي انتونين دفورجاك (1841 ـ 1904) ظلت من هذه الروائع، القادرة على التحليق فوق تيارات تقلب الذائقة والمودة الدائم. وضعهما وهو في ذروة نضجه، في مرحلة الثقة التي مكنته من الاقتراب الحذر من محاولة التعبير الصوري والمنهاجي. وهي محاولة ليست مرغوبة في حقل الموسيقى الجدية، لأن معنى هذين يكمن في أن المؤلف يستعين للتعبير بمشاهد خارجية وصفية، أو بتفاصيل حكائية لا يشكل النص الموسيقي الا وسيلة ودليلا إليها. وأحسب أن في هذا الفهم تسطيحاً وتبسيطاً لفكرة التعبير. فأنا أشعر أن العمل الموسيقي يظل سامياً في تجريده حتى لو أوحى بمشهد أو حدث خارجه. والثالثة والتاسعة، وحتى السادسة، لبيتهوفن خير الأمثلة على ذلك.
    على خلاف السادسة والسابعة اللتين وضعهما دفورجاك بتكليف من فيينا ولندن، وضع الثامنة والتاسعة استجابة لحاجة داخلية. وضع الثامنة في معتزله الصيفي، في أعماق غابات بوهيميا. انها تنتسب للعالم القديم، الذي تمتد الجذور فيه إلى الارث الاوروبي الشرقي، حيث الأغنية ومساءات الصيف، ومسحة الكآبة التي تغشيها الغابات الزرقاء، ورقص الفلاحين. في معتزله كان دفورجاك كثيرا ما يتحدث عن غناء الطيور، ويعد بتأليف سيمفونية له، وكانت الثامنة.
    في الحركة الأولى، التي تبدأ بمقدمة بطيئة، نقع على أغنية الطائر كلحن أول على آلة الفلوت. في الحركة الثانية، وهي تأمل في غاب حيث نشهد بوادر عاصفة عابرة، ثم نسمع غناء طيور بشأن الأسى الإنساني. السيمفونية تقرن بالسادسة الريفية لبيتهوفن ـ مع شيء من تأثيرات تشايكوفسكي ـ لأن وراءها منهاجاً أو حكاية خفية داخل مؤلفها. حتى أن برامز، وقد بقي دفورجاك أميناً لتأثيره الموسيقي، لم يكن مرتاحاً من منهاجها الخفي حين سمعها في فيينا، لأنه يبعد مؤلفها عن مسار الموسيقى الخالصة.
    هذه الثامنة مع التاسعة صدرت بتوزيع جديد أخيرا عن دار Philips، تحت قيادة الهنغاري ايفان فيشر لفرقته «أوركسترا مهرجان بودابست»، التي بدأت تحت رعايته محلية، ثم قادها إلى الشهرة العالمية. هذا الاصدار جاء بعد سلسلة اصدارات عديدة من شركات مختلفة، ومن قواد وفرق مختلفة، لذات العملين، حتى بات السوق يزدحم بالثامنة والتاسعة. والناس، والنقاد من ورائهم، يميلون الى اصدار دون آخر وفق ميلهم إلى طبيعة التأويل للعمل في العزف، هادئاً أو متسارعاً، غنائياً بحرارة تشايكوفسكي السلافية، أو غنائياً بالصلابة الألمانية لبرامز. وقد يتوقف الخلاف على حركة بعينها، أو على تكرار لحن أول في حركة، أو تفوق آلات داخل الاوركسترا.. الخ.
    السيمفونية التاسعة، التي تنطوي مثل الثامنة، على أربع حركات، وتمتد لأكثر من نصف ساعة، تخرج من مشهد مختلف تماماً. فقد ألفها دفورجاك في عالم نيويورك المغلق، مقارنة مع عالم الريف المفتوح في الثامنة. كان دفورجاك، بعد نجاحه في لندن وبعد إنجازاته السيمفونية والكورالية، قد دعي إلى نيويورك عام 1891، فأقام هناك ثلاث سنوات استلهم من إقامته شيئاً من خصائص الموسيقى السوداء، كما أملى البعد عن وطنه شيئاً من خصائص الحنين الملتاع إلى ذلك الأفق الراقص المفتوح. من هذا المناخ ألف التاسعة، مع بعض الأعمال الأخرى المهمة مثل كونشيرتو التشلو الشهير.
    في الحركة الأولى يضعنا دفورجاك في قلب الميناء الذي تحط فيه سفن المسافرين. فصوت السفينة البخارية ينطلق كل حين «صوت أبواق» بعد المفتتح الهادئ على آلات التشلو وكأنها أولى لحظات يقظة المؤلف الصباحية. يفتح الستائر (لحن الفلوت)، ثم يسمع صوت حلقات المرساة الحديدية تنحدر (أوتار الفايولين وشيء من آلة التينباني)، بعدها تستقر السفينة على الماء..
    هذه المخيلة في رؤية المشهد الصوتي انفرد بها الناقد انتوني هوبكنز في كتابه المعروف «دليل زائر الكونسيرت»، وهي مخيّلة نافعة وممتعة في آن.
    ثم تأتي الحركة الثانية البطيئة مفعمة بمشاعر الحنين إلى الوطن الأم، وفي قلب الحركة لحن آلة «كوراونغليه» المنفردة، الذي لا ينسى، ثم الحركة الثالثة الراقصة، لأنها مستوحاة من مشهد زواج تشيكي على درجة عالية من الحيوية. الحركة الأخيرة استعادات مما مضى ومحصلة متلألئة من أجل نهاية وضاءة.
     اللقب الذي شاع لهذه السيمفونية التاسعة هو «من العالم الجديد»، ولعلها من أكثر سيمفونيات دفورجاك شهرة. وضع فيها زبدة شخصيته القلبية المليئة بالروح المحلي والوطني، الرقيقة التي لا تحتمل وطأة البعد عن الأهل والأرض، والبسيطة في الاستجابة للأسى العفوي، وللرقص الفلاحي العفوي.
    بعد التاسعة انهمرت عليه مظاهر الحفاوة والتكريم العالمي، لكنه لم يكن من الطراز الذي يستكين، بفعل ذلك، إلى الراحة والكسل. ففي سنوات الكهولة الأخيرة انصرف إلى فن الأوبرا الصعب، فوضع ثلاث أوبرات اشتهرت منها «روسالكا» عالمياً (سبق أن عرضت لها)، ونحن بانتظار شهرة البقية التي تحمل، من دون شك، طينة هذا الرجل الموسيقي الطيب.

 

Dvora"k: Symphony No. 8 and 9 (Philips)

 

 

 

نسائم منعشة من الظلال المنسية

(7/9/2001)


    داخل التيار العام والمألوف للموسيقى الكلاسيكية، تبدو التاسعة لبيتهوفن أو عايدة لفيردي أو آلام القديس ماثيو لصيقة بجلد المستمع، يعرف ما خفي من اسرارها بفعل الصحبة الطويلة. وهذا يصح على الكثير الكثير من الأعمال التي تسمى في الانجليزية الماستربيس. داخل التيار العام يتطلع السابح الى الغريب المفاجئ، الذي لا عهد له به. لنأخذ على سبيل المثال شوبرت (1797 ـ 1828)، فنحن ألفنا سيمفونياته التسع، ورباعياته الخمس عشرة، وسوناتات البيانو الثمان عشرة، وأعمال موسيقى الغرفة، وأغانيه التي تجاوزت الستمائة، ولكن اغنيات درامية من اوبرات له تبدو غريبة ومفاجئة. لا شك ان معرفتنا بمحاولات شوبرت في حقل الأوبرا لا غبار عليها، ولكننا نعرف ايضاً أن محاولاته باءت بالفشل وتركت في مخطوطاتها منسية.
    دار Hyperion تفاجئنا بمجموعة آريات (أغنيات أوبرالية) منتخبة من اوبراته المنسية لصوت الباريتون الرجالي (يؤديه أوليفر ودمير) مع الاوركسترا تحت قيادة يان شولتس للاوركسترا الوطنية الهنغارية.
    كان تأثير أوبرا روسيني على فيينا سحرياً. ولأن بين صحبة شوبرت الأثيرة عدداً من الشعراء والدراميين، فقد وجد الموسيقي الشاب اكثر من محفز للمساهمة في التأليف في هذا الفن، بالرغم من أن غنائية شوبرت الفائقة للعادة لم تترك لموهبته فسحة للفن الدرامي، ولكنه حاول اكثر من عشر مرات، فوضع عدداً من فن Singspiel الشائع في فيينا، وهو ضرب من الاوبرا الشعبية ذات الطابع الفكاهي، ثم عدداً من الاوبرات الأكثر جدية ذات الإرث الايطالي. ولقد اعطى شوبرت ثقلاً واضحاً لصوت الباريتون العالي، في هذه الأوبرات وفي معظم اغانيه ايضاً، والسبب لا يعدو اعجاباً وصداقة ربطاه بالمغني الشهير آنذاك يوهان فوغل.
    في هذا الاصدار اغنيتان من اوبرا «التوأمان»، واخرى من اوبرا، «قبة مباهج الشيطان»، واغنيتان من اوبرا «الفونسو واوستريلا»، ثم من «اصدقاء سالامانكا»، و«كونت مدينة غليشن» و«الرباط»، وجميع هذه الأغاني، وهي تعبر عن لحظات درامية وشخوص واحداث، لا تبخل على الأذن بطاقة شوبرت على توليد اللحن، خاصة في اللحن الذي يتوالد ويتطور وفق النص الشعري through composed song لا في الأغنية التي يتكرر اللحن ذاته في كل مقطع strophic song.
    المغني السويسري اوليفر ودمير (مواليد 1965) كان رائعاً في الأدوار المتنوعة، التي تعكس مراحل وأمزجة وشخوصاً مختلفة عن بعض. والمقطوعة هنا تقف بين الأغنية الفنية (الليد lied) والأغنية الأوبرالية (آريا Aria)، وهذه المختارات تطمع بالكثير مما لا نعرف من نتاج هذا الموسيقي، الذي مات في الواحد والثلاثين، مخلفاً ثروة ألحان لم يشهد عزفها في حياته.
    بنفس مستوى هذا التقديم الغريب والمفاجئ اصدرت hyperion ايضاً اسطوانة بعملين من اعمال كونشيرتو البيانو لا عهد لي بهما ولا بمؤلفهما، باستثناء عمل واحد ظل يتكرر في الظل منذ عقود، هو كونشيرتو البيانو الرابع.
    المؤلف هو هنري ليتولف (1818 ـ 1891)، فرنسي من مواليد لندن، حياته أشبه برواية غريبة ومتسارعة الاحداث. بدأت موهبته في عزف البيانو بوقت مبكر جداً، تحت رعاية أبيه. في عمر السابعة عشرة هرب مع فتاة وتزوجها عن غير موافقة من أبويه، وأقام معها في فرنسا وهناك وضع كونشيرتو البيانو الأول، هجر زوجته التي عادت الى لندن، وفي بروكسل تورط في فضيحة غرامية، ذهب على اثرها الى وارسو، ثم لايبزك، حيث وضع كونشيرتو البيانو الثاني. مهارة تقنيته عرفته بليست وشوبان وحقق شهرة نافعة. رجع الى لندن للطلاق من زوجته الأولى ولكن المحكمة فرضت عليه غرامة رفض دفعها فسجن. ولكنه سرعان ما هرب مع ابنة سجانه الى هولندا. وهناك ألف كونشيرتو البيانو الثالث الذي عزز من نجاحه الأكيد.
    على هذا الايقاع تواصلت حياة هذا الموسيقي الذي لا يعرف معنى الاستراحة. تزوج أربع مرات، وتجول في كل بلدان الغرب حتى روسيا. قطع سنوات صمت حسبها المعنيون بحياته، سنوات نوبات مرض عقلي كان يعاني منه. وجرب الخوض بالسياسة في فيينا وعانق افكاراً ثورية كاد يسجن بسببها فهرب، ثم بعد سنوات استقر في باريس. وكان الكونشيرتو الرابع والخامس آخر نشاطه الموسيقي الناضج.
    في هذا الاصدار نقع على كونشيرتو البيانو الثالث والخامس. والمؤلف يصر على تسمية عمله بـ «الكونشيرتو السيمفوني»، لأنه يعتمد، شأن السيمفونية، على حركات اربع. وهذه ليست حجة مقنعة، التقنية فيهما وليدة فيوضات عاطفية محتدمة، تحسها حتى في الحركة التأملية البطيئة (الكونشيرتو الثالث).
    انه أمر رائع ان تأتيك بين حين وآخر هبة هواء جديدة من تلك المرحلة الرومانتيكية العاصفة، هبة تذكرك باحتراقات بيرليوز، وقد كان صديقاً ومعجباً بليتولف، وبمدهشات ليست، الذي كان صديقاً ومعجباً ايضاً.
    في الكتيب المرفق مع الاصدار اشارة الى ان الدار سبق ان اصدرت الكونشيرتو الثاني والرابع، كان عازف البيانو، في جميعها، الانكليزي بيتر دونوهو (مواليد 1953) الذي حقق مسيرة عازف ناجح منذ فوزه في مسابقة تشايكوفسكي العالمية لعام 1982.
Schubert Opera Arias (Hyperion) Litolff: Concerto Symphonique (Hyperion)

26

 

 

 

«الطرواديون»: أوبرا بين ملحمة فيرجل ودراما شكسبير

24. آب. 2001


    بيرليوز (1803 ـ 1869)، الفرنسي الرومانتيكي، الذي عاش حياة عاطفية عاصفة، وشغل نفسه والناس، لم يفلت من اجحاف التاريخ وغفلته، فقد بقيت أوبراه «الطرواديون» مخطوطة في كراريسها الموسيقية على مرأى ومسمع من الحياة الموسيقية الكلاسيكية الغربية الصاخبة، دون سبب وعذر ظاهرين، سيمفونيته «الفانتازية» تتردد اصداؤها في كل ركن، ودون انقطاع، وكذا الأمر مع اعماله الأخرى التي لا تقل شهرة: «روميو وجوليت»، «لعنة فاوست»، «هارولد في ايطاليا»، و «طفولة المسيح». وكل واحدة منها تحفة عزيزة في الثروة الموسيقية، لا يمكن الاستغناء عنها، إلا ان اوبرا «الطرواديون» بقيت استثناء.
عودتها الى مكانها الذي تستحقه في النشاط الموسيقي، بفضل قائد الاوركسترا الانجليزي كولن ديفز، جعلت كل ناقد ومتذوق موسيقي في حالة احتفاء ودهشة، لا بفعل هذا السحر المفاجئ والمعمار الموسيقي الفخم وحدهما، بل بفعل السر الذي وراء هذا الاهمال المريع على امتداد قرن ونصف من الزمان، حتى ان الناقد الفرنسي كلود روستان اعتبر هذا الاغفال «واحدة من الفضائح الموسيقية المدهشة عبر العصور». والباحث الموسيقي أدورد دينث شبه هذه الاوبرا بمدينة أثرية مدفونة من العصور الغابرة. وها هي المدينة تبعث بكل كنوزها لتملأ الحياة الموسيقية غنى حقيقيا.
    سبق لكولن ديفز ان قدم هذه الاوبرا عام 1969، ولكن كمن ينزل مخطوطة من الرفوف العالية ويعيدها الى مكانها. اما هذه المرة فقدمها دون عرض تمثيلي على مسرح الباربيكان في ديسمبر الماضي، ثم سجلت وصدرت في اربع اسطوانات CD عن دار LSO Live هذه الايام، فاستقبلت بصورة مختلفة، وكأن الغشاوة كشفت عن اعين الناس فرأوا ان وراء بيرليوز امرا لا يمكن اغفاله. الاوبرا رائعة، بل مدهشة، والنص الشعري الذي اعده بيرليوز نفسه عن ملحمة فيرجل «الانيادة»، اعطى العمل الموسيقي مدى ملحميا غاية في تشعب الدلالات الرمزية.
    كان بيرليوز شديد التعلق بشعر الملحمة منذ صباه، وكان يتحين فرصة هدوء من فورة مشاعره الفائرة، التي لا تخلو من عتمة والتباس، لكي ينصرف الى فيرجل الذي يحبه، ولم يتح له ذلك الا في اواخر العمر، حين حصل على تكليف من صديقة الموسيقى «ليست» الاميرة كارولين فيتجينستاين، فدفع نفسه في موج الملحمة الصخاب وانجز عمله في سنتين.
الاوبرا في فصول خمسة، وتمتد لساعات اربع، وتتحدث عن حصار طروادة، وتدميرها على يد اليونانيين، ثم هرب اينياس بن بريام ملك طروادة، وتجواله البحري ولجوئه الى قرطاج، حيث الملكة المدحورة المستوحشة «ديدو»، التي اعانها اينياس على اعدائها، واحبا بعضهما حبا عاصفا، إلا انه سرعان ما اضطر الى هجرها، مأخوذا بنداء باطني باتجاه ايطاليا، لأن القدر شاء ان يلقي عليه مهمة بناء روما وتأسيس امبراطوريتها. هذا الهجران دفع بديدو الى الانتحار، الامر الذي شكل واحدة من قصص الحب الخالدة، التي لم تتوقف الموسيقى عن استلهامها يوما.
    حين اكمل بيرليوز «الطرواديون» لم تقبلها دار الاوبرا في باريس. المسرح الكوميدي الأقل شأنا قبلها بشرط ان تقسم، بسبب طولها، الى قسمين: «حصار طروادة» و«الطرواديون في قرطاج». ولقد قبل بيرليوز بهذا الشرط اضطرارا، رغبة منه في ان يسمع شيئا منها قبل وفاته. وهكذا كتب على هذه الملحمة الموسيقية ان تبقى موزعة حتى الاحياء الأخير على يد كولن ديفز.
    ان التعلق الشديد من قبل بيرليوز بالشاعر الروماني الملحمي فيرجل يجاذبه تعلق آخر، لا يقل شدة، بالشاعر الدرامي شكسبير. ولم تكن حكاية بطل «السيمفونية الفانتازية» الا حكاية هاملتية تعكس تجربة حب مستلبة، وفي هذه الاوبرا تتجاذب قوتا الملحمة والدراما، كما تتجاذب قوتا السلام والسكينة مع فورة الانفعال، وكذا قوتا السلام والحرب بصورة متواترة. ان الفصل الرابع موسيقى خالصة للحب من اينياس وديدو، وخاصة في المشهد الذي يتواصل فيه اللحن الخماسي، الذي يصبح سداسيا ثم ثنائيا بين العاشقين. وقد اداهما في هذا التسجيل كل من التينور الكندي بين هيبنر، والميتسو ـ سوبرانو الفرنسية مشيللي دو يونغ.
    في الفصلين الاول والثاني تتم الاحداث على ارض طروادة، والبطلة الرئيسية، الى جانب اينياس هي اخته كاسندرا (الميتسو ـ سوبرانو الالمانية بيترا لانغ)، التي ملأت الفصل الاول بهواجسها النبوئية النذيرية المريعة. فهي وحدها التي لم تأمن انسحاب اليونانيين على حصار المدينة، تاركين وراءهم حصانهم الخشبي الكبير.
    ان حشد الشخوص: (4 تينور ـ 3 باريتون ـ 6 باص ـ 4 ميتسو سوبرانو ـ 1 آلتو) يكفي للايحاء بمقدار ضخامة هذا العمل تحت قيادة مايسترو خبير بعالم بيرليوز، فقد بدأ كولن ديفز الاهتمام به منذ الخمسينات، حتى اصبحا يقرنان معا في عالم التسجيل والعروض الموسيقية. لقد اعاد وضع نصب بيرليوز في مكانه الحقيقي، بعد رحلة تقديم وتسجيل اعماله جميعا في مشروع يحلو لنقاد الموسيقى تسميته بـ «أوديسة بيرليوز»، لأنه مشروع بدأ منذ اربعين سنة، ثم بلغ قمته في انجاز هذه الاوبرا الجليلة.
    ان طموح اينياس باتجاه ايطاليا لبناء مدينة المستقبل روما يشد الاوبرا باتجاه جاذبية قدرية بطولية ملهمة، ولكنها مضمخة بالدم والآلام والانانية ايضا. فقد خلف وراءه طروادة المبادة، وبعدها خلف قلب ديدو المحبة المتولهة في قرطاج نهبا لليأس والموت، وهل ترفع الموسيقى الى الذرى غير الآلام الكبيرة؟


Berlioz: Les Troyens (Lso Live)

 

 

 

كاريان.. شتراوس.. وفارس الوردة

 10. آب. 2001


    هيربرت فون كاريان (1908 ـ 1989)، اشهر قائد أوركسترالي في القرن العشرين، بفعل نشاطه ومثابرته وغنى تأويلاته للأعمال الكثيرة التي قدمها، الى جانب ولعه بالانتفاع من كل التقنيات الجديدة في حقل التسجيل السمعي والبصري، ارتبط طوال حياته الناضجة بفرقة برلين الاوركسترالية، وبفرق مهمة أخرى على حواشيها، كما ارتبط اسمه بعدد كبير من الاعمال الاوبرالية التي قدمها بصورة رفيعة المستوى، حتى اصبح اسمه يقرن بها مع اسم المؤلف سواء بسواء.
    من هذه الاوبرات «روزينكا فالير» (فارس الوردة) والتي ألفها الموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس (1864 ـ 1949) في مطلع مراحل نضجه (1911). قدمها كاريان أول مرة عام 1956، وكان تقديما رائعا قاده الى المجد، ولم يرتفع تقديم آخر الى مستواه حتى اليوم. وهذا العزف شهير اليوم، مع ان كاريان قدم العمل ثانية مع فرقة فيينا الفيلهارمونيك عام 1984، ولكنه لم يرتفع الى مصاف الأول، مع كل ما يتمتع به من استيعاب لمشاعر ابطال شتراوس المتعارضة الحارة، وما تتمتع به فرقة فيينا من استيعاب لايقاع الفالس الذي يفيض في هذه الاوبرا بين حين وآخر.
    هذا التسجيل الثاني، الذي صدر في حينه على اسطوانة CD، يصدر ثانية اليوم ولكن على اسطوانة DVD السمعية البصرية عن دار Sony Classical. فنحن فيه لا نصحب الابطال، الذين الفناهم، عبر اصواتهم وحدها، بل عبر هيئاتهم وحركاتهم كلها هذه المرة.
في حقل الاوبرا يظل شتراوس وريث فاغنر الأبرز في الاندفاعة الرومانتيكية، التي استبدلت الرحيل الخارجي برحيل داخلي اكثر تعقيدا، منتفعة من العلاقات الجديدة بين الكلمات والاصوات، وبين الامتداد اللحني والتنافر، وبين السلم الموسيقي واللامقامية، وبين الموسيقى والدراما.
    في أوبرا «روزينكا فالير» حقق كل عناصر طموحه، خاصة في هذا الالتهام المذهل بين النص الشعري والموسيقى. فقد كان شتراوس يتعامل، وعلى امتداد سنوات نضجه، مع الشاعر الشهير هوفمانسثال باستيعاب متبادل، جعل شتراوس لا يغادر في بناء موسيقاه، سياق الكلمات بالتفصيل.
    عنوان الاوبرا (فارس الوردة) لقب يمنح داخل ارستقراطية القرن الثامن عشر، وهو زمن احداث الاوبرا، للشاب الذي يقوم بدور الوسيط أو المبعوث للخطبة مع وردة فضية في يده. هذا الشاب يدعى أوكتافيان في حكاية هوفمانسثال، وهو في السابعة عشرة من عمره، وعلى علاقة حب غير متكافئة مع مارشالين، التي تجاوزت الثلاثين وهو عمر متقدم آنذاك.
أعطى شتراوس دور الشاب هذا لمغنية سوبرانو (تغنيه هنا أغتيس بالتسا)، مستجيبا لأعراف القرن الثامن عشر الموسيقية، والمشهد الأول لا يخلو من جرأة: امرأة وفتى، تقوم بدوره امرأة، يتساجلان بحوار غنائي غاية في الرقة والعذوبة لا تخلو من أسى، هذا الأسى مبعثه مشاعر مارشالين (تقوم بدورها آنا سينثو) غير المطمئنة لهذا الحب غير المتكافئ. فالفتى الذي أخطأ هدف قلبه قد يعثر على هدفه الحقيقي في أية لحظة وقد حدث الأمر بالفعل.
كان البارون قريب مارشالين يريد الزواج من شابة ارستقراطية، فكلفت حبيبها الصغير اوكتافيان بان يقوم بدور فارس الوردة الوسيط، وما ان التقى هذا بالشابة صوفي (المغنية جانيت بيري) حتى تبادلا مشاعر حب خاطف.
    أوكتافيان شخصية مركزية في الاوبرا، لم يغب على امتداد الفصول الثلاثة، وتعلم خبرة التحول من الحبيب ـ الدمية الى العاشق المتكافئ. ولقد عكست الموسيقى مزاجه المضطرب المتصارع، خاصة في لحظات توزعه بين حبه القديم وحبه الجديد، الى ان تحرره مارشالين، بحكمتها وتضحيتها، من هذا المصاب.
    ومارشالين لا تقل اضطرابا وتحولات. فهي في المشهد الأول طموحة المشاعر، ثم تنفرد بالنفس في مونولوغ مؤثر:
«أشعر أنني أعرف ان كل ما هو أرضي باطل محض أحلام فارغة تافهة وأن كل ما تقبض عليه لا شيء ولا شيء ما نتعلق به وكيف ان الحياة ومسراتها تتسرب من بين اصابعنا».
    وهذه الحكمة في رؤية الزمن تستغرق نهاية الفصل الأول، وكأنها تلقن فيها النفس، كما تلقن حبيبها الصغير، درسا في آخر مشهد، حين يلتقي العاشقان الشابان، تكون مارشالين ثالثتهما. وهنا يقدم شتراوس احدى تحفه الغنائية في اغنية من ثلاثة اصوات، تتصارع فيها العواطف وتتصالح وتتعانق. تشعر في هذا الفيض الموسيقي الاضطراب الرقيق الهش في روح العاشق الصغير بين حبه السابق للسيدة، التي يملأ حضورها المكان، وبين حبه المزهر الجديد وكذلك حيرة العاشقة الشابة أمام كرم وسعة أفق السيدة، ثم الاضطراب الذي تحول الى استكانة وصفاء في صوت مارشالين التي تعترف بـ«أن ما من امرأة تفلت من هذا المصير.. غدا أو بعد غد».
    هذه الاوبرا وجبة روحية غنية وشهية، ومشاهد كاريان في حركة المايسترو المحلقة، بعينيه المغمضتين دائما، لا تقل اغواء.


Strauss: Der Rosenkavalier (Sony DVD) =

 

 

 

 

 

دفورجاك: الأسى الشخصي في الموسيقى الدينية

20. 07. 2001


    «ستابات ماتر» في اللاتينية تعني «الأم الحزينة»، المتفجعة ، وهي قصيدة دينية مكرسة لآلام العذراء تحت صليب ابنها القتيل. كتبها شاعر من القرن الثالث عشر يدعى «دا تودي» لتنشد في حرم الكنيسة، بدون هارموني ومصاحبة آلات. مع السنوات أصبح هذا الاداء ضربا من التأليف الموسيقي للأصوات البشرية، تطور على يد موسيقيين عظام من أمثال «باليسترينا»، من الموسيقى المبكرة، و«بيرغوليسي»، من الباروك، و«هايدن»، من المرحلة الكلاسيكية، و«روسيني»، «فيردي»، «دفورجاك»، من المرحلة الرومانتيكية، و«ستانفورد»، و«شيما نوفسكي» من المرحلة الحديثة.
    «ستابات ماتر» تقسم، عادة، الى عشرة فصول، حسب النص الشعري. والموسيقي يفسر النص لحنيا على هوى نوازعه العاطفية، ودوافعه، وهذه النوازع والدوافع حزينة ملتاعة بالضرورة. لا تخلو من بعد شخصي، ولكن العمل الموسيقي يطمح في النهاية الى ان ينتفع من كل هذه ثم يتجاوزها الى أفق أشمل من حدود التاريخ الديني وحدود الظرف الشخصي، وهذا ما تمثل في رائعة الموسيقي التشيكي «دفورجاك» (1841 ـ 1904).
   في عام 1875 كان دفورجاك في حمى ابداع استثنائية، وضع سمفونيته الخامسة، والسيرينيد الوترية، وثلاثة أعمال مهمة من موسيقى الغرفة، وأوبرا «فاندا»، وكانت السنة، أيضا، سنة فقدان حزينة ماتت فيها ابنته الطفلة «جوزيفا» ومن يراجع رائعته ثلاثية البيانو لا بد ان يلمس بالاصابع عمق هذا الأسى على الشغاف الرقيق، ولكنه سيلمسه بصورة أشد في رائعته الأخرى «ستابات ماتر»، التي وضعها على اثر الحادثة أيضا، ولكي تصبح هذه الرائعة نار أسى شاءت الاقدار، في مرحلة التأليف الأوركسترالي، ان تفجع دفورجاك بموت ابنته الأخرى «روزينا»، وموت ولده الوحيد «أوتاكار»، ولذلك نصغي، منذ الجمل الموسيقية الأولى، الى طبيعة تراجيديا ملحمية في تفتح الافكار الموسيقية المتتالية. الصرخة القلبية المفاجئة توحي بارتفاع وجه الأم الباكي الى ابنها في نزعه الأخير، والحركة الأولى، الطويلة بصورة فريدة (عشرون دقيقة)، بين مد وجزر يقودانها الى الذروة. في الحركة الثالثة لحن درامي شديد الاتساع، على وقع مارش يذهب قدما وبتهدج مؤثر، وهكذا يأخذنا العمل الى مشارف لا تخلو من اضاءة، لأن دفورجاك، الذي ينطوي على ايمان ديني عميق وعفوي، يرى في الألم طريقا يقود الى الفرح، وهذا ما يحدث مع بناء العمل الذي يستبدل المقام الصغير (ويرتبط بالمزاج الحزين) بالمقام الكبير (الحيوي المبهج) في الفاصل بين الحركات الأربع الأولى والأربع الثانية.
    اصدار دار DG الألمانية لهذا العمل لا يخلو من اطار محزن. فالذي قدم هذه الحلة الجديدة في توزيع العمل هو قائد الاوركسترا الايطالي «جوسيبي سينوبولي»، الذي توفي على الأثر في شهر ابريل (نيسان) الماضي، سينوبولي (من مواليد 1946) شخصية ثقافية استثنائية. فهو مؤلف موسيقي، وجراح، وعالم نفس، وعالم آثار بالمصريات، ثم قائد أوركسترا من الطراز الأول، اشتهرت بين يديه أعمال قدمها لمالر وبروخنر وشومان وبوتشيني، وعمل دفورجاك الديني هذا كان آخر انجازاته، ولقد غلب عليه الطابع الأوبرالي، وكأنه أراد ان يعكس تأثرات دفورجاك بالموسيقي الأوبرالي فيردي.
    في هذا العمل، الذي قاده الراحل سينوبولي، تشترك أربعة أصوات: سوبرانو، وميتسو ـ سوبرانو نسائية، وتينور، وباص رجالية، مع الكورس، والنص الشعري لاتيني الأصل، دفورجاك شديد التأثر بالموسيقي باليسترينا من عصر الباروك، ولكن موسيقى هذا الأخير، شأن موسيقى المرحلة تلك، موضوعية خالية من البعد الشخصي، ولكن هذا البعد قوام موسيقى دفورجاك، خاصة بهذا العمل الذي ولد نتيجة مشاعر الموت والفقدان الشخصي، ولذلك جاءت غنائيته المعهودة غاية في العذوبة، خالية من الاحتدام والدراما، حتى لو حاولها قائد الاوركسترا، مستسلمة لفيض أحزان المصائر البشرية ولفيض الرضا الذي تمليه العناية الالهية على الكائن.
    إن الفقدان الشخصي هنا مضاف الى المشاعر الدينية الخالصة، ولك ان تتخيل أي لحن شجي يخرج من ذلك!.
    هناك تأثرات ملموسة بموسيقى فاغنر، وأشياء من هاندل، اذ كان دفورجاك كثير التردد على انجلترا، وكذلك من لمسات موسيقى برامز الخريفية، وكان هذا الأخير بمثابة استاذ مباشر لم يكف دفورجاك عن الاعجاب به، إلا ان الطابع القومي التشيكي يظل هو الأبرز، وخيط الأسى في موروثه لا يخفى عن أذن مستمع.


Dvorak: Stabat Mater )DG)

 

 

 

 

ڤاگنر: ينعم بتمزقاته تحت ظل شوبنهاور

 29. 06. 2001


    عادة ما يبدو العمل الابداعي لنا بين عالمين. فهناك فنان ينتسب الى موضوعه، وفنان ينتسب الى نفسه. بمعنى آخر، هناك فنان موضوعي يطمئن الى الأعراف، وعبرها يعالج محن الانسان ومسراته، بمباشرة ترضي كل حاجة. وهناك فنان ذاتي لا يطمئن الى موضوعه، ولا يجد وفاقا مع ذاته. رحيله داخلي، ويولد من اكتشافاته «أشكال» فنه التي لا سابق لها. من الأول نعرف «هوميروس» و«شكسبير» وكل شاعر على شاكلتهما. ومن الثاني «فيرجل» حتى بودلير. في شعرنا العربي يبدو نموذج أبي تمام ملائما للأول، في حين يليق أبو نواس للثاني.
    في الموسيقى، إذا كان فيردي نموذجا رائعا للأول، فإن فاغنر هو النموذج الامثل للثاني، ولعله نموذج استثنائي في هذا التوق للإبحار الخطر في الداخل، والكشف عما وراء حجاب الوعي، قبل «فرويد» بنصڤف فرن، وفي هذا التجسيد الدرامي للافكار الكبيرة، والتوق للشكل الجديد، الذي هو محض تمظهر حسي للاحتراقات غير الظاهرة.
   ڤاگنر مذهل في كل شيء، والاستغراق في موسيقاه يولد إدمانا. وهذا الإدمان يدفع دائما الى حافة خطرة، حافة مشارف اللاوعي الغامض المجهول، حيث قوى الغرائز العمياء والتطلعات الظامئة والرغائب المحاصرة.
    وڤاگنر مذهل، لأنه توحيد فريد بين قوى الفن وقوى الفكر. فهو أغنية شوبنهاورية. فلسفة إنسان لا يحسن أداؤها الا بالإنشاد والعزف والشعر ولذلك كان فاغنر موسيقيا وشاعرا ودراميا وفيلسوفا ومفكر يوتوبيا، يطمح بتغيير نفسه ومحيطه والعالم.
    الا ان ڤاگنر (1813 ـ 1883) لم يكن الا وريث تيار بدأه «غلوك» باتجاه الدراما الموسيقية، وتخليص الأوبرا من ثياب البهرجة المسلية. تماما كما كان «فيردي» في الجهة الثانية، وريث تقاليد «نابولي» من «موتسارت» الى «روسيني» الا انه استثناء في تياره، لم تهدأ موجات الاختلاف المتطرفة بشأنه حتى اليوم. وأعماله أبراج ضخمة لا تخفى عن عين. يقر بها قادة الاوركسترا والمغنون الكبار بحذر لاختبار وامتحان قدراتهم والقلة القليلة من تفلت بتفوق، لأن الأداء الاوركسترالي مشحون بمشاعر وأفكار يجب ان تتضح في هذه اللغة المجردة، كما ان الحوار أغنية ممتدة واحدة وغير منتهية، على مسرح تتواصل فيه الأحداث، أحيانا لساعات خمس.
    من أوبراته الرائعة، التي تبدو أغنية لا منتهية واحدة «تريستان وايزولدة» الشهيرة، والأخرى «بارسيفال» وكلاهما يعتمد أسطورة جرمانية، ويبحث في موضوعة إنسانية مركزية، لكن شتان ما بين غايتيهما.
الأولى حكاية حب شائكة، بمعالجة شائكة، كان فاغنر حينها، في منفاه السويسري، قد انجز النص الشعري لأوبراه الملحمية «الحلقة» ثم استدار منشغلا في وضع «تريستان»، لأنه كان في غمرة حب جديد للسيدة ماتيلدة، زوجة صديقه وراعيه.. وڤ
اگنر خبير في التورط بهذا النوع من الحب. أنجز الأوبرا وعرضت عام 1865.
    الحب هنا رغائب وغرائز متفجرة متطلعة، لا تصل حد الإنجاز والاشباع الا في الموت. وتلخيص الحكاية قد لا ينفع كثيرا في تقريب هذه الدلالة السيكولوجية. ان موت «تريستان» وانتحار «ايزولدة» كان خيارا قد توج الأوبرا، التي تشبه عملا سيمفونيا، في امتدادها المتطلع الى وحدة الحب والموت والأغنية الأخيرة الشهيرة: Liebestod التي تعني «الموت في الحب» أو «الحب في الموت»، تؤديها «ايزولدة» لتكون اللحن النهائي لذلك الخيار، وهي واحدة من روائع فاغنر بحق.
    ظل تسجيل قائد الاوركسترا الالماني القديم «فورتفانگلر» في الخمسينات لهذه الأوبرا هو الاشهر بين التسجيلات العديدة. عن تسجيلات Preiser التاريخية صدر آخر يعود الى 1950قام به «كونفيتشني» مع فرقة لايبزج. وهو اول تسجيل كامل للاوبرا تؤدي دور «ايزولدة» فيه السوبرانو «مارغريت بومر» و«تريستان» التينور «لودفج سوهوس».
من التسجيلات التاريخية الاثيرة ايضا واحد لأوبرا «بارسيفال» صدر عن
Philips، قدمه الالماني «كنابرتسبوش» مع فرقة «بايروث» المتخصصة بفاغنر. وهو تسجيل رائع لأوبرا لا تقل روعة عن «تريستان» واذا كان «ڤاگنر » قد حول الحب في «تريستان» الى ديانة، فإنه في «بارسيفال» حول الدين الى اسطورة، وعبر الاسطورة عالج موضوعة الخير والشر. كان في الاول تواقا لحب مستحيل لا يخفف الا بتلاشي الطرفين في الغناء، وفي الثاني يمتحن النفس الدامية بين جاذبي الخير والشر ثم يختار الخلاص في إنكار جاذبية المادة والحواس واللذة، لصالح جاذبية التسامي وتجرد الروح. وفي كلا الحالتين، في العملين الرائعين، نجد الموسيقي ينعم بظل «شوبنهاور» الظليل. ففي هذه الأوبرا يقول فاغنر، عن طريق الموسيقى طبعا، ان معاناة الانسان في العالم لا تخفف الا بفعل مشاعر الحنو والتعاطف من قبل كائن مجرد من الانانية يرى معاناة الآخر بعمق تنعكس في داخله هو. ان وعي الانسان بالألم إنما يقبل عليه من داخله، حين يرى ألمه جزءا من ألم العالم أجمع. من هذا وحده يمكن ان يقطف ثمرة الحكمة.
    ابرز ادوار هذه الأوبرا أداها الباص الألماني «هانس هونز» والتسجيلات الڤاگنرية العظيمة تاريخية دائما، لأن مرحلة أول القرن العشرين كانت ذهبية بالنسبة لأداء الأدوار الصعبة في أوبرا فاغنر خاصة.
    ان الخلوة مع اوبرا، او اوبرات، ڤاگنر ـ مثل الخلوة مع موسيقى بيتهوفن ـ تسمو على ارفع خلوة مع كتب الشعر والفلسفة. هذه نصيحة مجرب لكل طامع بالخلوات الجليلة.


- Wagner: Tristan and IsoIde (Preiser) - Wagner: Parsifal (Philips)

 

 

 

 

مشاعر «توسكا» ودوامة الواقعية الإيطالية 08

(6/2002)


    مع نهاية القرن التاسع عشر، ظهر في الأدب تيار يُعنى بالمشاكل الاجتماعية في أكثر جوانبها قسوة وخشونة، وبروح صريحة وجريئة، وكان ردة فعل واضحة على تيار الرومانتيكية الذي ابتلع القرن التاسع عشر دون منازع، والذي كان يرفع كل ما هو أرضي الى أفق المثل. أطلق على هذا التيار اسم «الطبيعية»، وكانت روايات أميل زولا (فرنسي) فاتحة هذا المد الواقعي الذي اندفع الى كل ركن في العالم. وفي الحقل الموسيقي، اتضحت ملامح حركة بذات الخصائص الواقعية، خاصة في فن الأوبرا، لتواجه طغيان رومانتيكية فاغنر وفيردي. ولقد ارتبطت هذه الموجة بأسماء ايطالية، ولم تتجاوزها الى بقية أوروبا، هي أسماء: ماسكيني، ليونكافاللو، وبوتشيني، والأخير هو الأغزر انتاجاً والأعمق تأثيراً.
جياكومو بوتشيني (1858 ـ 1924) الذي أسر أوسع قطاع من محبي الأوبرا طوال القرن العشرين، وما زال، بدأ سيمفونياً ولكن استاذه اكتشف فيه موهبة أوبرالية استثنائية فدفعه في هذا الاتجاه وسط مدينة ميلان، قلعة هذا الفن. تعثر مساره أول الأمر، لكنه سرعان ما استقام في أول نجاح مع أوبرا «مانون ليسكوت» 1893، ثم تعزز مع «لابوهيم» 1896، الأقرب الى قلوب الناس حتى الآن. وبفضلها قفزت حياته الى مصاف النجوم فابتنى بيته الكبير في توري ثم توالت على قلوب الناس أعماله «توسكا»، «مدام بوترفلاي»، «فتاة الغرب الذهبية» وصولاً الى «توراندوت»، التي لم تكتمل بسبب وفاته بمرض السرطان. الثنائية الغنائية، التي هي ذروة الأوبرا وخاتمتها، أكملها عنه صديقه ألفانو.
    يقال عادة ان بوتشيني لا يملك نبالة فيردي. ولكن الحقيقة تكمن في واقعية الأول ورومانتيكية الثاني. ان ارضية بوتشيني مضمخة بدم المشاعر القلبية، التي تنحدر احياناً الى الميوعة ولا احسب ان احداً قطع الشوط مع ذرى المشاهد العاطفية في أوبراه (خاصة «مدام بوترفلاي» و«لابوهيم») دون دمعتين مكتومتين، أو شهقة بكاء مسموعة. والمدهش ان بوتشيني يأسر تلك المجسات الانسانية في بضع نوتات داخل النسيج الاوركسترالي وبطلاته دائما ذات خصائص «البنت الصغيرة»، التي تشف ـ كما يرى أحد النقاد ـ عن ميل للقسوة وللسادية في شخص المؤلف.
    إن كلمة Verismo أو الطبيعية في اللغة الايطالية أصبحت سمة موسيقى بوتشيني، ومن أشهر الكلمات في الاسماع، على أنه لم يكن بعيداً عن تأثيرات فاغنر فلقد استعمل تقنية «الليتموتيف»، وهو اللحن الذي يرمز الى أحد الابطال أو الاحداث او الافكار والذي يستعيد هؤلاء بمجرد تكراره. وهذا الليتموتيف، الذي يميل الى الحزن الفاغنري الرقيق، لا يتورع عن الخشونة والقسوة التي تتميز بها «الطبيعية». وما يأسر دائما في موسيقى هذا العاطفي قوة الأغنية في كل لحن له، وألحانه على كل لسان.
    هذه الخصائص جميعاً نجدها في اوبرا «توسكا»، بالاضافة الى الخصيصة الدرامية العالية التي تنفرد بها. فالحدث فيها يبدأ منذ المشهد الأول في حرم الكنيسة حيث يلوذ الهارب السياسي «انجيلوتي»، وينشغل الرسام «كافارا دوسي» بلوحته وبمشاعر حبه لـ «توسكا» التي تحضر بكل توقدها العاطفي وغيرتها، حتى آخر مشهد ـ حيث تقتل توسكا رئيس الشرطة السرية «سكاربيا»، الذي يلاحقها برغبته الجسدية ويلاحق حبيبها لقتله بتهمة سياسية، ثم تنتحر حين تكتشف موت حبيبها برصاصة الاعدام، هذا الحدث يتواصل بتوتر عال، تتوزعه موتيفات لكل شخص: موتيف «سكاربيا»، الذي تجفل معه العروق ويبدأ مع أول لحظة لهذه الأوبرا، وكأنه شبح شيطاني يحيط مناخ العمل بظله، وموتيفات الحب بين «توسكا» و«كافارا دوسي»، التي نتعرف عليها في الأغنية الثنائية في الفصل الأول، وهي واحدة من أروع الحان بوتشيني:
«أي عينين تقرنان بعينيك العميقتين جمالاً وسواداً»

في الفصل الثاني يسيطر ظل «سكاربيا»، وحواريتاه تكشفان عن رجل سلطة لا يلين وهو زبدة المعترك اللحني، فهنا يجتمع الثلاثة: «سكاربيا» و«توسكا»، و«كافارا دوسي» تحت التعذيب. الأول يطارد بالرغبة والتهديد، والثانية ضحية مذعورة وموزعة، والثالث صرخة ألم، والثلاثة لا تلين. توسكا تأخذ وعداً خطياً من سكاربيا بانقاذ حبيبها من الإعدام، اذا ما تنازلت لرغبته فيها، ولكنها ما إن تستلم الورقة حتى تقتله بسكينه، ولكنها تكتشف ان وعده كاذب. يتم هذا في الفصل الثالث، وفيه اغنية «كافارا دوسي» الرائعة الشهيرة.
«النجوم تلتمع، والأرض تستحم بالعطر، وأنا أسمع بوابة الحديقة تفتح، وخطواتها تمسح بنعومة حصى الطريق، تدخل.. وبين ذراعي تسقط».
    اوبرا «توسكا» ارتبطت دائماً بصوت سوبرانو استثنائي، وبقدرة أداء درامي عالية. هذه المتطلبات حققتها «ماريا كالاس» في الخمسينات، في أروع تقديم لهذه الأوبرا، مع أحسن «سكاربيا»، قدمه الباريتون «تيتوغوبي»، ولكن الأوبرا لم تنقطع عاماً عن الجمهور، داخل دور الأوبرا، أو داخل ستوديوهات التسجيل. السوبرانو الشابة «ماريا جولينا» خصت بهذا الدور منذ شيوع اسمها في الثمانينات. وها هي دار Sony Classical تصدر تقديماً جديداً لـ «توسكا» تحت قيادة المايسترو الايطالي الشهير «ريكاردو موتي»، وهو نقل حي عن عرض في دار الأوبرا «لاسكالا». ابرز ما في هذا العرض اداء السوبرانو واداء الأوركسترا، ثم يليهما اداء «سكاربيا» (قام بالدور الباريتون «نو نشي») واداء «كافارا دوسي» (التينور «ليشيترا»).

 

 

 

 

- أوبرا «فالستاف»: آخر وداع من فيردي وآخر دعوة للضحك!

 

(27. أبريل. 2001)


    كان فيردي 1813 ـ 1901 في سنواته الاخيرة يطمع بتأليف اوبرا ضاحكة، بعد الخاتمة التراجيدية «عطيل» التي وضعها لسنوات المجد. والشاعر والموسيقي بويتو اقترح عليه نصا شكسبيريا: «زوجات ويندسر السعيدات»، فوافق فيردي. وفي شتاء 1889 تعاونا على انجاز النص الشعري (الليبريتو) حيث اكتمل في الربيع التالي. بعدها انصرف الموسيقي وحده للتأليف ولكن بصورة متقطعة، لأن المرحلة فاجأته بموت اكثر من صديق، فتفتر همة الشيخ ويفقد الامل بالانجاز، ولكن العمل الذي اكتمل تحت اسم «فالستاف» عرض على الناس في دار الاوبرا «لاسكالا» في ميلانو عام 1893 وبنجاح كبير، كان هذا آخر جديد يعد به المؤلف، الذي شغل ايطاليا والغرب والعالم في حقل الاوبرا.
    هناك اكثر من تغيير حدث في النص الشكسبيري، من اجل ان يكون ذا طبيعة ايطالية تلائم فيردي وموسيقاه وجمهوره. ولعل ابرز علائم هذا التغيير هو غلبة الاندفاعة الحسية من اجل المتع الجسدية على حساب الجشع وشهوة المال، لدى البطل «فالستاف»، الضخم، المترهل السمنة، المخمور ابدا، والباحث عن لذائذ الحب ابدا.
    ان ضحك الشيخ فيردي لا يشبه كوميديا الاوبرا المألوفة، فهو ضحك الحكمة الواسعة الصدر، الرحبة، التي لا تخلو من خيط تأمل رمادي. ان اندفاعة «فالستاف» الشهوانية، وتباهيه بهيئته ـ مع كبر سنه وبدانته وادمانه ـ لا تخفي قلب طفل ميال الى العبث التلقائي، والى حب للحياة بدائي ولا روية فيه وان اغنيته الاخيرة مع كل ضحاياه والمنكلين به في آن تكشف عن هويته:
«كل ما ينطوي عليه العالم
إنما هو مجرد نكتة / وما ولد الانسان الا نكّاتا يقارع بهذه الطريق أو تلك / بسلاح المعتقد أو العقل / نحن جميعا أبطال هزل نصرف العمر بالضحك على الآخرين / ولكن أحسننا ضحكا من يبقي ضحكه للحظة العمر الاخيرة».


    حكاية الاوبرا تعتمد تصفية حساب مع تجاوزات «فالستاف»، النبيل الحامل للقب «سير» الواثق بقدرته على سرقة قلوب النساء حيث يكن. فهو يبعث برسالتي حب الى السيدة «أليس» وصاحبتها «ميغ» فتقرران العبث به. تجيبانه بالموافقة مع موعد في الظهيرة داخل بيت «أليس» وهناك يدخل «فالستاف» يسبقه كرشه وثقته الفائقة برجولته وبعد دقائق تزعم «أليس» ان طارئا حدث وتطلب منه ان يختبئ، ولكن الطارئ يصبح حقيقة اذ يعود زوجها كالعاصفة، بعد ان تسلم خبرا بموعد «فالستاف» مع زوجته، من دون ان يكتشف المؤامرة المخبأة. يوضع الضحية في سلة الغسيل ويرمى من النافذة الى مجرى نهر التيمز. ثم تكشف «أليس» لزوجها حقيقة الخطة، التي انتقمت فيها من وقاحة «فالستاف» ولا تتوقف الملاحقة عند هذا الحد، بل تدبر موعدا آخر في غابة البلوط، حيث يهيئ الجميع جوا شيطانيا مسحورا لافزاع العاشق المسكين، حينها يستسلم تماما ويعلن توبته.
    داخل سلسلة المفارقات يتوهج الحب على هيئة شموس خارقة، او اقمار شاحبة، او سماوات صاحية، فهناك حب الفارس الواهم، وهناك حب الزوجين الآمنين، وهناك حب «نانيتا» ابنة «أليس» و«فينتون» الشاب وهو حب يوفر داخل الاوبرا اروع المشاهد الموسيقية، التي تشف عن قلب فيردي الابوي الحنون والمتلألئ رقة. كل لحظة في هذه الاوبرا هي لحظة موسيقية، لأن فيردي فيها، على خلاف كل اوبراته السابقة، جعل من الموسيقى (الاوركسترالية والبشرية) استجابة فورية وتفصيلية للنص الشعري الدرامي وخاصة في الاغنيات الثنائية والمونولوغ، حيث يغرق المستمع في تنوع ايقاعي ونسيج اوركسترالي وموتيفات لحنية واساليب هارمونية متواصلة.
    وفي الاصدار الجديد لهذه الجوهرة الفيردية، حاول قائد الاوركسترا الانجليزي جون إليوت غاردنر، ان يجعل الشخوص والاحداث تتوسط العازفين، بحيث يحيط صوت الآلة الصوت البشري «فلا تعرف من هم الممثلون ومن هم العازفون»، على حد قوله «وهل فالستاف داخل سلة الملابس الكبيرة أم داخل طبل الاوركسترا الضخم».
    هناك اكثر من مايسترو شهير حاول تقديم هذه الاوبرا: توسكانيني، كارايان، جوليني، شولتي. وبالرغم من ان توسكانيني الاقدم وكارايان هما افضل الرواد، الا ان «غاردنر» بتجربته هذه قادر على توسيع خبرة الذائقة الموسيقية.
    المغنون معه رائعون جميعا. صوت الباص باريتون «لافونت» الفرنسي (ممثل ايضا)، والسورانو «مارتينبيلتو» السويدية والباريتون «انتوني مور» الانجليزي، يمثلون اداء من طراز اول. وهذا الاداء مع النسيج الموسيقي ليس بطوليا، كما عودنا فيردي في كل اوبراته، وحتى في قداسه الجنائزي الشهير، بل هو اشبه بأغنية رائعة مداعبة عن الجانب الرائق المداعب من الانسان. ما من قوى شريرة وعتمات. وما من مصطرع داخلي دام حيث لا ملاذ ولا مخرج. انها صحبة محبة للانسان في سنوات الشيخ الاخيرة مع كل ما يحتاجه الانسان من حب ومعانقة ودعابة.


verdi: falstaff (philips)

 

 

 

 

 

- صوت بيتهوفن وصورة موتر على الشاشة الموسيقية

 

 (20. أبريل. 2001)


    هذه هي المرة الأولى التي اختبر فيها العالم الموسيقي في اسطوانة DVD المرئية والمسموعة. إنها وريثة الفيديو من دون شك ولكن بقفزة نوعية في الصورة والصوت معاً. كلاهما مدهش الوضوح والدقة بصورة يصعب وصفها من دون تجربتها. وهي مدهشة في استيعاب الوقت، لأن الاسطوانة الواحدة تسع اوبرا بكاملها لثلاث ساعات، واذا ما قصرت الاوبرا او الكونسيرت عن ذلك فإن الفراغ عادة ما يعبأ بتوثيق حول المؤلف او العازف او قائد الاوركسترا. فتكون المتعة والفائدة مضاعفة كما ان هذه الـDVD يمكن ان تسمع من دون صورة شأن الـCD. ولا تكلف المستهلك ما تكلفه تلك.
    هذه فضائل التقنية، التي تجعل مستمعا مثلي، بين عشية وضحاها، يقدر ان يجلس امام الشاشة الصغيرة ليعبر محيط سوناثات بيتهوفن العشرة لآلة الفايولين مع البيانو، بالاضافة الى فيلم توثيقي حول السوناثات من دون ان يشعر بانه قطع قرابة ست ساعات في بحر غير ارضي، باستثناء الدقائق التي تمليها الحاجات الارضية، من شربة شاي الى آخره.
اصدارات الـ
DVD للموسيقى الكلاسيكية بدأت مؤخرا، واجتاحت بفترة قصيرة عالم الفيديو، الذي يتوقع انقراضه عام 2005، وهي مثل موجة اسطوانات الـCD سرعان ما بدأت تستحوذ على مجالات العروض الموسيقية النقدية الطابع، لأنها بدأت تزاحم اصدارات الـCD لدى الشركات الكبرى مثل «دويج غرامافون» الالمانية. ساعات الاختبار لهذه الاسطوانة بدأت، كما قلت مع سوناثات بيتهوفن العشرة التي اصدرتها Deutche Grammaphon مؤخرا في اسطوانتين تمتد الاولى الى 176 دقيقة والثانية 160، وتتضمن فيلماً وثائقياً تحت عنوان «عش مع بيتهوفن» يدور حول تجربة عازفة الفابولين الالمانية الشهيرة «آن ـ صوفي موتر» مع سوناثات بيتهوفن على امتداد سنوات عشر، ومع كونشيرتو الفايولين البيتهوفني قبل ذلك.
    كانت صوفي موتر صغيرة السن حين قدمها في السبعينات قائد الاوركسترا الشهير «كارايان» الى العالم. انها تتحدث عن أول لقاء اختباري معه حين عزفت امامه لدقائق، صرفها بعدها ووعدها بلقاء اختباري آخر بعد سنة. وتتحدث عن نشوة النجاح بين يديه مع كونشيرتو الفايولين الذي رفعها الى مصاف النجوم. بعدها عُرفت موتر بتوقها الدائم الى الكمال ومزيد من الجدية. في عام 1998 كرست جهدها الموسيقي لبيتهوفن، فبدأت جولة عالمية لعزف السوناثات مع عازف البيانو لامبيرت اوركس، لا على مسارح العالم بل في استوديوهات التسجيل الصوتي والصوري ايضا. وفضلا معا تسجيل هذه السوناثات بتتابعها التاريخي لكي يلقيا ضوءا على تطور مسار بيتهوفن في هذا الفن عبر خمسة عشر عاما من عمره، منذ كان تلميذا لهايدن، ثم عبر مرحلته الوسطى الثائرة ذات الهوى الايقاعي المتميز، حتى مرحلته المتأملة الاخيرة (سوناثا مصنف 96) ان ثمرة هذه الرحلة التطورية رائعة المذاق، لأن المستمع ـ على حد قول موتر ـ بعد قطع مراحل السوناثات التسع يكون على درجة عالية من الاستثارة والاجهاد، بعدها يبدو احوج ما يكون الى السوناثا العاشرة والاخيرة، حيث هدأة السلام والراحة، تماما بشأن متسلق الجبل لاستراحة القمة.
    في مرحلة موتسارت وبيتهوفن كانت هناك سيادة واضحة لآلة البيانو، حتى في العمل الثنائي مع آلة الفايولين التي تعزف على يمينها، او الثلاثي مع آلة التشلو على يسارها. واشارة موتسارت الى ثنائياته على انها سوناثا البيانو بصحبة الفايولين، دليل على ذلك ولكن بيتهوفن ثائر مغير على عادته كسر هذا القيد وجعل الآلتين متكافئتين ورفع من شأن الحوار بينهما، حيث لا تبعية.
    ما عزز هذا التكافؤ بين عازفي هذا الفن هو ريادة عازف بيانو مثل شنابل مع عازف فايولين مثل كارل فليش، او رودولف سيركن مع ادولف بوش مطلع النصف الاول من القرن العشرين.
    كل لحظات بيتهوفن الجدية وكل مداعباته تستحق اكثر من استعادة، ولكن بين هذه السوناثات العشر تبقى الخامسة «الربيع» والتاسعة «كروتزر» اكثرهن شهرة فالخامسة مع انها وضعت مع الرابعة في مزاج تأليف واحد، تبدأ بلحن على الفايولين شديد الاضاءة والنقاهة، وبسببه سميت السوناثا باسم «الربيع»، وهي مبهجة ومداعبة (في الحركة الثالثة، حيث ادخل بيتهوفن حركة «سكيرتسو لأول مرة، وتعني الدعابة) في السوناثا التاسعة «كروتزر» (اسم عازف فايولين اهداها بيتهوفن اليه بعد ان كانت مهداة الى عازف آخر هو برج تاور) ندخل نسيجا يتطلب مهارة عزف عالية ـ كمهارة موتر ـ بالحركة الاولى ذات اللحن الغامض، الذي سرعان ما يتفجر حيوية، ثم يختلط بلحني اغنية عذبة وبالحركة الثانية البطيئة التي تعتمد فن التنويع.. الخ.
    السوناثا العاشرة تنفرد بالخصيصة الرفيعة مثل ثلاثية «الأرسيدوف» الشهيرة. اكمل بيتهوفن صياغتها عام 1816 تحت تأثير عازف الفايولين الفرنسي «بيير رود» وشأن اعمال مرحلته الباطنية الاخيرة، تبدأ الحركة الاولى بلحن هادئ يتسع شبحه ليشمل الحركات الاربع التالية، ومن ضمنها حركة الاداجيو الثالثة التي ينفرد بها البيانو باللحن الفريد.
    العازفة الالمانية «آن صوفي موتر» تبدو هنا صنيعة عالم بيتهوفن. رشاقة يدها واستقامة جسدها وتقطيبة ملامحها تنتسب اليه جملة، ولا يهن «اوركس» عازف البيانو عن الملاحقة.


Beethoven: The Complete Violin Sonatas-Mutter (DG. DVD

 

 

 

 

 

الفرنسي شوسون: موسيقي يخرج من أعماق حلم

 

(23/مارس/2001)


    في كل حقول الإبداع هناك، دائماً، صوت يحسب له حساب خاص. لا بفعل استثنائية قوته، بل بفعل تنحيه عن السياق واختلائه بركن متواضع. هذه الصفة، في الموسيقى، تصلح على الفرنسي ايرنست شوسون (1855 ـ 1899)، فهو حتى في مظهره يشبه «شخصاً يخرج من أعماق حلم ويخطو باتجاه الحياة الواقعية» على حد تعبير أحد أصدقائه.
    إن من يسمعه مرة لا يمكن أن ينساه، ولكن يمكن أن يغفله بسبب قلة نتاجه في زحمة أبناء جيله: ديبوسيه، رافيل، فرانك، فوريه.. من فرنسا وحدها. وقوة تأثيره تتأتى من شيء أثيري غير أرضي في موسيقاه، قد لا يشبه النزعة الرومانتيكية لنهاية القرن، أو النزعة الانطباعية، أو الرمزية لأبناء جيله. إنه وليد رقة مشوبة بتواضع لا محدود، مع شيء من انعدام الثقة، تسمح بتسرب مسحة قداسة إلى النفس.
    كان شوسون من عائلة غنية، عميقاً في مشاعره الدينية، متزوجاً من امرأة جميلة، وكريم اليد في إعانة أصدقائه، قليل الثقة بموهبته، وقليل الحيلة في بهو التنافس، وأشبه بملاك. لم يسعفه الحظ، مع كل هذه الخصائص، أن يعيش طويلاً، فقد مات على أثر اصطدام دراجته الهوائية بحائط في منحدر، وهو لم يتجاوز الخامسة والأربعين.
    إن أجمل ما يمكن أن تبدأ به للتعرف على هذا الصوت العذب، هو عمله: «قصيدة الحب والبحر»، لصوت الميتسو ـ سوبرانو النسائي مع الأوركسترا، وبعض أعمال فن موسيقى الغرفة، مثل رباعية البيانو، وكونشيرتو البيانو والفايولين مع الرباعي الوتري. كذلك أوبراه الوحيدة (من ثلاث أوبرات)، التي قدمت له، وهي: «الملك آرثر»، لكن من تحفه، التي تكاد تكون مجهولة، مجموعة أغانيه للصوت المنفرد مع البيانو، وهي ليست كثيرة، شأن كل نتاجه.
عازف البيانو غراهام جونسون (من روديسيا ويقيم في لندن)، أنجز مشروعاً رائعاً لدار النشر
Hyperion، في تقديم المجموعة الكاملة لأغاني شوبرت، ولقد حققت نجاحاً وإعجاباً نقدياً عالياً. كان هو العازف المصاحب لعدد كبير من المغنين الذين تناوبوا على أغنيات شوبرت، وهي تتجاوز الستمائة. بعد نجاحه باشر بتقديم أغنيات شومان، وما زال على الطريق، ثم عطف بالتفاتة رائعة إلى أغاني هذا الفرنسي المؤنس الدافئ شوسون، ضمن مشروع أوسع لتقديم الأغنية الفرنسية عامة: ديبوسيه، فوريه، رافي.. إلخ.
    في اصدار شوسون الجديد في اسطوانتين، نقع على 43 أغنية تؤدى من قبل ثلاثة أصوات: فيليستي لوت (سوبرانو)، آن موري (ميتسو ـ سوبرانو)، كريس بيدرو تراكاس (باريتون)، مع مصاحبة في أغنيتين ثنائيتين لجيرالدين مكغريفي (سوبرانو). والأصوات الثلاثة الأولى على درجة عالية من الجودة والشهرة.
    إن علاقة شوسون بالشعر والشعراء تشبه علاقة شوبرت. فهو كثير المصاحبة لشعراء الماضي الكبار، ولكنه مفتون أيضاً بالشعراء المجايلين له، فالقصائد التي تخرج حارة إليه مما تصدره المطابع كانت تلهب مشاعره الموسيقية. على أن هذه العلاقة الفنية ظلت محكومة بالصدفة، فقد أغفل قصائد لصديق مهم مثل ملارميه، ولم تمتد به السنوات لكي يصل ابولينير، في حين وضع ألحانه لشعر بوشور، وهو صديق مقرب، دون أن يكون هذا في مصاف ذاك. وهناك قصائد لكل من فيرلين وبودلير وغوتير.
    معظم هذه الأغاني لا تتجاوز دقائق معدودة، منها ذات الدقيقة وبضع ثوان، وأخرى تصل حدود الدقائق الأربع، حتى لتحسب اللحن حساب الثواني، تماماً كما تحسب الذهب بالمثاقيل. الحنجرة البشرية وهي تعالج اللحن بتوافق أو تقاطع مع آلة البيانو (ومع الرباعي الوتري في الأغنية الأخيرة الموضوعة لنص شيكسبيري). تمس مساً رقيقاً تلك الغلالة الخفية للمشاعر الغامضة تحسّ ذلك في واحدة من أشهر أغاني المجموعة، وهي جزء من عمله «قصيدة الحب والبحر»، التي أشرت إليها سابقاً:
«زمن الليلك وزمن الورد لا عودة لهما هذا الربيع...
الريح تغيرت، والسماء متجهمة،
/ وما من تجوال لقطاف الليلك المزهر والورد الجميل/ فالربيع حزين وعاجز..» إنها بعنوان «زمن الليلك» مشحونة بالحنين الغامض، مما جعل طابعها رثائياً وعلى شيء من التوجع، وكأنها تتأمل وهن الكائن الإنساني أمام مصيره الغامض. إن صوت السوبرانو لوت، الذي عرفناه أوبرالياً على امتداد السنوات الطويلة الماضية، يُدجن الآن بحميمية الأغنية الفرنسية. كانت قد غنت قبل ذلك ألحان يولانك بنجاح، وها هي تتمكن من هذه الطبيعة الفرنسية بصورتها الأكثر داخلية، وكذلك الأمر مع الطبقة الصوتية الاخفض للمغنية موري.


The Songs of Chausson (hyperion)

 

 

 

 

 

فرقة متخصصة في بيتهوفن تصدر اسطوانات لرباعياته الأولى

 

(2/ 3/2001)

 

    ان صورة بيتهوفن، وهو على قمة عزلته المطلقة، لا تصح الا على مرحلته الأخيرة. المرحلتان الأولى والثانية من تطوره الروحي لهما خصائصهما الواضحة أيضاً، التي تتعين في كل أعماله: السيمفونية وموسيقى الغرفة وموسيقى الآلة المنفردة.
    في المرحلة الأولى يبدو الموسيقي الفتي، وسط إضاءة فيينا، باحثاً بحرارة وتوقد عن الشكل الأكثر كمالاً والأكثر تعبيراً عن طموحه. في الثانية تصبح حرارة وتوقد الشاب نارية ودرامية ومكثفة بفعل سعي لنقل المجرى الموسيقي برمته إلى اتجاه جديد. في الثالثة يحل الغامض المدهش اللامحدود، تحل العزلة المطلقة بالذات لتنصرف إلى تأمل الكليات وإلى التساؤلات الكبرى.
    إن متابعة هذا التطور الروحي لبيتهوفن (1770 ـ 1827) عبر المراحل الثلاث في السيمفونيات، أو في سوناتات البيانو أو في الرباعيات الوترية، لتشبه من حيث السعة والعمق، متابعة تاريخ الأفكار منذ خُلقت الحضارة حتى اليوم. ولا ننسى المتعة اللامحدودة التي تتولد بفعل صحبة غنية كهذه.
    الفرقة الرباعية الوترية الانجليزية The Lindsays، وريثة أهم الفرق الرباعية الأوروبية العريقة، خُصت ببيتهوفن منذ سنوات، فلقد سبق أن قدمت دورة رباعياته أكثر من مرة. وها هي تشرع من جديد في الإبحار داخل الرباعيات الست عشرة. قبل أيام أصدرت وجبتها الأولى عن دار ASV. وتضم الرباعيات الست الأولى تحت مصنف 18، إلى جانب مصنف 14 المنقول عن سوناتة بيانو منفرد. وهي رباعيات لصيقة بالروح الكلاسيكية. ما من صراع واضح بين فردانية بيتهوفن الرومانتيكية وبين تلك الروح. فالموسيقي الفتي (وضع بيتهوفن رباعياته بين 1798 ـ 1800) يحاول أكبر قدر من المهارة من أجل بناء صرح عمله الفني، خاصة وهو في حاضرة هايدن وتحت ظل موتسارت الذي غادر قبل أقل من عقد من الزمان، وهما عمودا صرح الكلاسيكية من دون منازع. وبيتهوفن ينعم، دون كلل، بتأثيرات خاصة في فن الرباعية الوترية هذه. فهو يتابع «شكل السونات» كما حدد معالمه الاساسية هايدن. ومثل هايدن يعكس الطبع المهذب للمجتمع الراقي (مُفتتح الرباعية الثانية نموذج لذلك حتى سميت برباعية التحية)، ويعتمد الحركات الاربع، ويضع الرباعيات الست جميعها تحت مصنف واحد، وكأنها أجزاء من عمل واحد، تماماً كما فعل موتسارت في الرباعيات الست التي أهداها إلى هايدن. ولكن رغم كل هذه الأمانة لمعايير الفن الجديد الا انك تحس بكل شحنات بيتهوفن الخاصة وهي في لحظات استيقاظ على ما تملك من قوة وملكة، لا على ما تملك من فردية. فهذه الفردية في سنوات مخاض، وستطلع ثمارها بعد قليل.
    في الرباعية الأولى مباهج حيوية العبقرية الشابة، والتي لا تخلو من ظلال تراجيدية (في الحركة الثانية البطيئة وقد وضعها بيتهوفن استحياء في قبر روميو وجولييت). هذه الظلال تعاود في الحركة البطيئة من الرباعية الثانية، وكأن مباهج الموهبة المحتفية بنفسها أحوج ما تكون إلى وقفات تأمل. في الرباعية الثالثة نجد حركة متباطئة Andante لا بطيئة Adagio، لأن الرباعية بجملتها ذات طابع غنائي طاغ فلا مجال لوقفة تأمل ثقيلة اللحن، والأمر ذاته مع الرابعة والخامسة. لكنه يعاود ما حاوله في الأولى عند الرباعية السادسة والأخيرة حيث الحركة البطيئة ثانية، وحيث يقحم طقس Adagio ذاته في الحركة الأخيرة، ولكن بصورة مفاجئة سرعان ما تعاود بعده الحركة لحنها المبتهج.
    هذا الاصدار بالاسطوانات الثلاث ضم «خماسية وترية» مصنف 29، وضعها بيتهوفن مع مفتتح مرحلته الثانية: لكنها تكاد تنتمي لروح المرحلة الأولى. وهي كثيراً ما أهملت قياساً لشعبية الرباعيات الست الأولى، مع هذه الخماسية يمكن للمستمع ان يتأمل الغنى في النسيج الموسيقي، الذي أملته إضافة «الفيولا» الثانية إلى الرباعي الوتري.
    ان مباهج بيتهوفن في رباعيات مرحلته الأولى هذه لا تغادر بهو هايدن وموتسارت. وهي مباهج فيينا في مرحلة التحول من القرن الثامن عشر، قرن الكلاسيكية، إلى القرن التاسع عشر، قرن الرومانتيكية، الذي سيفتتحه بيتهوفن بعد تأليفه السيمفونية الثالثة. وكل مستمع لرباعيات هايدن الكثيرة سيألف صوت بيتهوفن هذا، قبل أن يحول مجرى الموسيقى إلى وجهة أخرى فهنا شيء حميمي اجتماعي، والعبقرية تحاول أن تؤنس وتغني وتدعو إلى الرقص، وأحياناً تجلس لتهدأ وتتأمل.
    فرقة «لندسيز» تستجيب لمباهج بيتهوفن بصورة غاية في الرشاقة والخفة والحيوية على اني اعتدت على الرباعيات تُعزف من قبل فرقة «الرباعي الايطالي» التي اشتهرت منذ الخمسينات، وأصبح عزفها معياراً بسبب المتعة في كل تفصيلة، وبسبب الوضوح البلوري لأصوات الآلات الاربع. لكن هذه الرباعيات عزفت من قبل عدد كبير من الفرق، ومع الرباعي الايطالي المعتدل في درجة حركة العزف عادة ما أعود إلى فرقة Vlach التشيكية الأكثر تباطؤاً، في حين يبدو عزف «لندسيز» متسارعاً حاراً وحيوياً. إن تجربة تناوب فرق عدة في عزف عمل واحد تنطوي على متعة تناوب التفسيرات المختلفة، تماماً كما تستمع إلى وجهات نظر في لوحة أو إلى لحن أغنية عند أكثر من مغن.
    إن هذه الفرقة وعدت باستكمال مشروع عزف رباعيات بيتهوفن الكاملة. ستخرج رباعيات المرحلة الوسطى (خمس رباعيات) هذا العام، وترجئ الرباعيات الأخيرة (خمس رباعيات) إلى العام المقبل.

 

 

 

صدور أعمال فيساريون شيبالن يسلط الأضواء على موسيقاه

 

(23/2/2001)

 

    فيساريون شيبالن (1902 ـ 1963) موسيقي روسي منسي تقريباً، تحاول دار Olympia إعادته الى الأضواء من جديد، فقد اصدرت له كل اعماله الاوركسترالية من سيمفونياته الخمس الى عدد من كونشيرتاته، ثم التفتت اخيراً الى رباعياته الوترية التسع. بين يدي آخر إصدار لرباعياته السادسة، السابعة والثامنة. وهو الاصدار الوحيد الذي استمعت اليه، وطمعني بالمزيد فـ «شيبالن»، الذي كان موضع اعجاب «شوستاكوفتش»، ومن مجايليه، وممن تحمل مثله عبء ورعب المعايير الجمالية للواقعية الاشتراكية، ظل أمينا للموروث الرومانتيكي. ولم تكن تعتمل في داخله تلك الهواجس النفسية المتوترة شبه المرضية، التي كانت تدفع بموسيقى «شوستاكوفتش» الى محيطات لا سواحل آمنة فيها.
لم يكن «شيبالن» موضع اعجاب في موطنه كموسيقي فقط ولكن كمدرس موسيقي ايضاً، حتى اصبح عام 1942 مديراً لمعهد موسكو، وكانت مرحلة حرب حرجة جعلته شأن «بروكوفييف» و«شوستاكوفتش» وكل الفنانين الذين يسعون بحرية من أجل فن يليق بالانسان، تحت وطأة نقد سلطة الفن الحزبية ووعيدها، خاصة بتهمة «الشكلانية»
Formalism، التي كانت تقود الى السجن أو الى الفصل الوظيفي. وهذا ما حدث لـ «شيبالن»، فقد خرج من عمله ومن حياة الطمأنينة والعافية، حتى اصابه مرض قلبي شل يده اليمنى عام 1953. ولكنه ظل يواصل التأليف في يده اليسرى داخل الظل، الى أن اعيد اليه شيء من الاعتبار قبل وفاته عام 1963.
    في الاستماع الى رباعياته نتبين هذا الميل الكلاسيكي الى «شكل السوناتا» المنضبط، ولكن الى جانبه نتبين شغفاً بالانتفاع من الفولكلور الرومانتيكي. ان في كل حركة من حركات الرباعية السابعة، وهي أربع حركات، نجد هذه الطبيعة الفولكلورية في المادة اللحنية بصورة جد معلنة وغنائية. ومن الطريف ان نكتشف ان هذا الميل الى المادة اللحنية الفولكلورية انما جاء، أول الأمر، كمحاولة استجابة لمتطلبات المعايير النقدية الرسمية، فالفولكلور بعد محلي، وطني وقومي. ولكن هذه الضرورة الفوقية سرعان ما وجدت هوى في اعماق الموسيقي وأصبحت خصيصة من خصائصه.
    حركاته البطيئة تشف عن أسى ناعم لا جراح فيه ولا تُعنى كثيراً باحتدامات داخلية على العكس، كثيراً ما تجد لحظات تحررها في الرقصة أو الأغنية الصغيرة الفولكلورية. وشيبالن فيها منعش دائماً. خاصة أن اعماله هذه تعزف بأياد ومشاعر روسية خالصة، «فرقة كراسني الرباعي الوتري». تأسست عام 1998 في «سانت بترسبورغ» وهي فرقة شابة تماماً لا يتجاوز عمر أكبر اعضائها الرابعة والعشرين.
    عازف البيانو البولندي، الأشهر، آرثر روبنستاين (1887 ـ 1982) لا يحتاج الى الاضاءة التي احتاجها «شيبالن» الروسي. ومشروع دار RCA لاعادة كل ما عزفه على الاسطوانة السوداء، التي أصبحت قديمة، الى الاسطوانة الممغنطة CD ليس فيه تأكيد شهرة، بل استجابة لحاجة المستمع لأن يسمع عزف احد سادة البيانو من دون شائبة. والتقنيات الجديدة كفيلة بذلك، خاصة في ما يتصل بالتسجيلات التي تعود الى ثلاثينات واربعينات القرن الماضي. لأن «روبنستاين» بعمره المديد باشر العزف منذ مطلع صناعة الاسطوانة، ولكنه توفي قبل صناعة الـ compact disc (1983) بسنة واحدة.
    المشروع الجديد يحيط بعزف روبنستاين منذ 1928 حتى 1976، في 81 اسطوانة ومعظم هذا العزف قدمه الفنان في اميركا وعموم أوروبا وروسيا. وقد كان ماهراً مع النتاج الكلاسيكي والموسيقى الحديثة، ولكنه في المرحلة الرومانتيكية خص بابن بلده «شوبان» وكلاهما تغرب عن بلده ومات منفياً.
    ان سماع «شوبان» على يد «روبنستاين» يشبه سماع بيتهوفن على يد شنابل. فكلاهما برع في عزف مؤلفات صاحبه وكأنه تقمص روحه. ولطالما احتفظت بهذا العزف على الاسطوانات التي تعود الى أول الستينات الا ان من المشروع الاستعادي الجديد، لم أقع الا على أعمال «الليليات» Nocturnes، وهي 19 عدداً. ولقد انتخبتها لأنها أقرب تجليات شوبان الى القلب، الذي يطمع بالخلوة الخالصة مع الصمت.
    ان فن الليلية يعود الى القرن الثامن عشر. يؤلف للآلات ويعزف ليلاً وفي الفضاء الطلق، ولـ «مونسارت» اعمال شهيرة منه آنذاك. في القرن التاسع عشر أصبح فن «الليلية» يشير الى قطع موسيقية مستوحاة من الليل، أو توحي بما هو ليلي.
    الموسيقي الذي حدد خصائص «الليلية» بالهدوء والتأمل والحزن الشفيف هو الايرلندي «جون فيلد» (1782 ـ 1837). ومنه انتفع كل من «مندلسون» و«شومان» و«ديبوسيه» بليلياتهم، ولكن هذا الفن ما ان حل بين أصابع «شوبان» (1810 ـ 1849) حتى انتمى اليه وحده. فقد وضع مجموعة ليلياته بين عامي 1830 و1846. ولكن الليلية التاسعة عشرة مبكرة وتعود الى أول شبابه (1827).
    «ليلية» شوبان تعتمد في الظاهر بنية بسيطة A - B - A (لحن ـ لحن معارض ـ ثم معاودة للحن الأول). وفي ما تنشغل اليد اليسرى باعطاء الخصيصة العامة ودرجة السرعة للمقطوعة تذهب اليمنى بتوليف اللحن، الذي يبدأ بسيطاً ثم يتركب.
    عزف «روبنستاين»، هنا يعود الى 1965 ـ 1967، وله عزفان سابقان لهذا الزمن أيضاً. ولكن هذا الأخير نموذج يليق بعمق وجلال وجمال «الليليات»، التي لا تُمل أبداً، حتى لو يعاودها المرء كل يوم.


Shebalin: String Quartets (Olympia) Chopin"s Nocturnes. Rubinstein (RCA)

 

 

 

 

 

 

أول الغيث في احتفالات مئوية فيردي

حكاية حب من الحرب الصليبية

(22. 09. 2000)

 

    ظلت الحرب الصليبية أحد أهم المصادر التي تمدّ الأوبرا بقصص تتمتع بكل العناصر الدرامية التي تحتاجها موسيقاها، من بطولة، حب، تضحية.. إلخ. كان الإيطالي مونتفيردي (1567 ـ 1643) أول المبادرين إلى عمل درامي موسيقي من فصل واحد، معتمداً على نصوص شعرية للإيطالي تاسو. وبعده توالت ذات الموجة، التي تعتمد عنصر الخيال بصورة أساسية، وتعتمد قصائد تاسو مباشرة أو بصورة غير مباشرة. عمل ذلك من المشاهير هاندل وهايدن ثم فيردي (1813 ـ 1901) من المتأخرين الرومانتيكيين. ولم يقرب هذا الحدث التاريخي من بعده أحد. بسبب ما ينطوي عليه من مغزى ملتبس قد يكون يسيراً على القدامى، الذين تكفيهم عواطفهم الدينية معياراً لتفسير كل شيء. أما اليوم فقد كشف العلم أن حرب الديانات ليست إلا غطاء لمصالح سياسية واقتصادية. وان الحرب الصليبية مدفوعة بهذه الأطماع، وكل قصص البطولة والحب التي ولدها القدامى منها تبدو اليوم شاحبة إن لم تكن مضحكة. بعد نجاحه الكبير في عرض أوبراه «نوبوكو» أو «نبوخذنصر» (1842) وضع فيردي عملا جديدا مشابها في الحدث والضخامة باسم لومباردي (1843) مستوحى من الغزوة الصليبية الأولى. وعلى امتداد عقد من الزمان بعد ذلك، كان فيردي من الغزارة بحيث قدم 16 عملا أوبراليا. وأصبح اسماً أكثر من لامع، كانت أوبرا باريس آنذاك ذات جاذبية خاصة، ألف لها ولذوقها الفرنسي الخالص الكثير من الموسيقيين قبل «فيردي»، مثل روسيني ودونيزيتي ومايربير. وتحت التأثير نفسه حاول فيردي أن يسهم بإرضاء الذائقة الفرنسية فلم يجد إلا أن يعود لأحد أعماله السابقة ويكيّفها على المقاس. كانت أوبرا «لومباردي» هي الخيار، فهي ذات طابع ملحمي ضخم، وتحتوي على ألحان كورس متنوعة وعلى مشاهد حرب وعلى قصة حب ملتهبة. كل ما تحتاجه، لكي يكتمل المذاق الفرنسي، هو بعض من مشاهد «الباليه». فأضاف فيردي إلى الفصل الثالث أكثر من عشرين دقيقة موسيقية للرقص.
لقد حور في أحداث ومعمار الأوبرا الأولى الشيء الكثير، أصبحت اللغة فرنسية، والمكان «تولوز»، بدل «ميلان» والأبطال فرنسيين، ووضع لها عنوان «جيروساليم» أو «أورشليم»، وعرضت في أوبرا باريس عام (1847) بنجاح مشهود لسنوات، ثم غمرها شيء من النسيان حتى سنوات متأخرة.
    في حمى الاحتفال بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة فيردي التي ستحل في شهر يناير (كانون الثاني) في السنة المقبلة، بدأت نشاطات العروض والإصدارات الأوبرالية منذ مطلع هذا العام الذي يوشك على الانتهاء، وسوف تمتد إلى كل أشهر العام المقبل. من هذه النشاطات صدور تقديم جديد لأوبرا «جيروساليم» على يد قائد الأوركسترا الشاب فابيو لويسي وأوركسترا سويس روماندي ونخبة من المغنين العالميين عن دار النشر Philips.
حكاية الأوبرا تتحدث عن أحقاد بين حاكم «تولوز» وأخيه، الذي حاول تدبير اغتيال منافس له، فوقع الحاكم ضحية بحكم الخطأ. الأخ (روجر) يتهم منافسه (غاستون) بمحاولة الاغتيال، وغاستون هذا يرتبط مع ابنة الحاكم (هيلين) برابط حب، وفي نفيه إلى فلسطين تبدأ دراما الحرب والحب. فالحاكم يعين قائد حملة صليبية لاحتلال القدس الشريف، وروجر ينفي نفسه طوعا إلى هناك من أجل التطهر من ذنب جريمته في قتل أخيه كما يظن، لأن أخاه الحاكم جُرح ولم يمت. والجميع يلتقي على الأرض الموعودة: الحاكم الفاتح، ابنته الباحثة عن حبيبها المنفي ظلما، غاستون المتهم المتطلع إلى استعادة شرفه وحبه على الرغم من حكم الموت، وروجر الذي أصبح راهباً وثابر من أجل إنقاذ غاستون بفعل اعترافه بكل ما فعله من شرور.
الحكاية، كما هو واضح، مفبركة، وهي واحدة من نقاط ضعف هذه الأوبرا لكن الموسيقى الرائعة قادرة على الاستقلال بروعتها حتى داخل وحدة الأوبرا، فهناك إضاءات في الموسيقى التي وضعت لدور البطلة السوبرانو، خاصة في أغنيتها حين عثرت على حبيبها في الفصل الثاني: «أي سعادة قصوى في أن يصون الله الإنسان الذي أحب». وفي الثنائية بينها وبين حبيبها التينور في ذات الفصل، وكذلك في الثلاثية الآسرة بين هيلين وغاستون وروجر (باص) حين يخاطب غاستون «عبثا تتحدثين عن الآمال، فآمالي معقودة على الموت وحده..»، وتجيبه: «إذا ما حانت ساعتك. وانطفأ كل أمل، فسينهي القبر كل أحزاني، وأكون كلية لك». وبينهما يتدفق صوت روجر خفيضاً عميقاً: «أيها الرب، امدد يدي رحمتك على المذنب الحقيقي..». إن هذا الاصدار واجه عدداً من الانتباهات النقدية، تضاف إلى المآخذ على السوبرانو الروسية ميرشير ياكوفا لم تكن على رهافة صوتها تحسن الفرنسية. كذلك شأن التينور الايطالي جيورداني والباص الايطالي سكاندبوزي، واشتراك ثلاثة أصوات أساسية غير فرنسية في موسيقى أريد لها من قبل فيردي أن تكون فرنسية، أمر غير مطمئن. لكن طاقة الصوت لدى المغنين الثلاثة لا غبار على أدائها، فالسوبرانو ذات رقة ملائكية في ابتهالها (
Ave Matia) في الفصل الأول، وذات استثارة متوقدة في «أي سعادة قصوى..».
هذا الاصدار إيذان بتدفق اصدارات آتية، لكل أوبرات فيردي التي لا تملك شهرة «اوتيلو» و«لاترافيانا»، «فالستاف»، انها الأوبرات التي في ظل الشهيرات من أمثال: «أوبيرتو»، «اتيللا»، «الكور سارو»، «ستيفيلبو».. وأخريات.


Verdi: Jerusalem (Philips)

 

 

 

 

نادرة تشايكوفسكي الأوبرالية: حكاية حالمة للقلب الملتاع

 

(15/12/2000)

 

    وضع تشايكوفسكي (1840 ـ 1893) تسع اوبرات. وعلى الرغم من ان شعبيته في العقود الاخيرة اعتمدت اعماله في موسيقى «الباليه» والتفات النقاد اليه كان بتأثير اعماله الاوركسترالية، إلا ان بعض اوبراته بدأ يتصدر سمعته الموسيقية وخاصة اوبرا «ايوجين اونييغن»، عن رواية شعرية لبوشكين، واوبرا «ملكة البستوني». على ان اوبرا «مازيبا» سرعان ما وجدت مستمعيها، ثم تقدمت «عذراء اورليانس»، ثم «الحذاءان الصغيران». واذا بالسمعة الاوبرالية تحتضن مجد تشايكوفسكي وتساعد على بحث كل نتاجه الموسيقي في حفل «الاغنية» (عرضنا لذلك في حديث سابق عن اصدار Naxos). ان تشايكوفسكي في الاوبرا والاغنية رائع الالتصاق بمحنته الروحية ورائع التطلع الى أفق اكثر نقاهة. ان في اكثر اوبراته دعابة وحلمية تعثر على خيط الأسى العميق المديد ومذاق النزف وهو ما يعطي موسيقاه طعمها الخاص، الا حين تأخذ مدى تبدو فيه على شيء من الميوعة. وهذا ما يقلق النقاد احيانا كثيرة.
    هذه الميوعة لا تجد لها موقعا في الاصدار الاخير لاوبراه «الحذاءان الصغيران» أو «الخفان» Chrevichki، التي اصدرتها دار Dynamic الايطالية.
    هذه الاوبرا التي تكاد تكون مجهولة، هي الثامنة في سلسلة اوبراه، إلا انه اعتمد في تأليفها عام 1885 على اوبرا «فاكيولا الحداد» التي وضعها عام 1874 ولم تحقق نجاحا. الصيغة الاخيرة لم تحقق النجاح المطلوب ايضا، على الرغم من ان المؤلف اعتبرها احد أجمل اعماله بعد عرضها الاول عام 1887 لم تعد الى المسرح إلا مرة في نيويورك عام 1922 وفي لندن عام 1984، والإصغاء لتفاصيلها اليوم، في هذا الاصدار الذي قاد اوركسترا المسرح الغنائي فيه الروسي جينادي روشديستفينسكي ليضع اطراف مجسات الروح على أروع نبضات الوجدان الغنائي. وتشايكوفسكي قلب منشد معبأ بالأسى، لكن دائم التطلع للمباهج التي تبدو نائية. انه في كثير من المقاطع الموسيقية يذكر بمقاطع باليهاته كما يذكر بمقاطع سيمفونياته، ولكنه يظل في اكثرها لا يذكر إلا بمذاقه الاوبرالي المشهود.
الحكاية في هذه الاوبرا ـ وهي مأخوذة عن قصة لـ «جوجول» بعنوان «ليلة عيد الميلاد»، مزيج من الواقع الشعبي والخرافي. فالحداد «فاكيولا» يرسم بشكل كاريكاتيري صورة الشيطان على باب كنيسة في قريته.. الشيطان يحاول الانتقام بأن يحول بين «فاكيولا» ولقائه بحبيبته «اوكسانا» عن طريق سرقة القمر في ليلة اللقاء، ليلة عيد الميلاد، فتعتم الدنيا وتهب عواصف الثلج.. الشيطان ينشغل ايضا باغواء الساحرة «سولوشا» ام الحداد الشاب، و«سولوشا» بدورها تعبث بأهواء الرجال ومنهم «كاب» والد «اوكسانا». وهذه الاخيرة شابة كثيرة الدلع، لكنها تضمر حبا حقيقيا لـ «فاكيولا»، وتظهر عكس ذلك. حتى انها بروح دعابتها تطلب شيئا مستحيلا. تطلب منه بأن يهديها حذاءين صغيرين كحذاءي قيصرة روسيا. وبدافع اليأس يذعن لاغواء الشيطان بأن يبيع له روحه مقابل ان يحمله الشيطان الى بلاط القيصرة الذي يشبه الحلم. في البلاط يقابله الامير مع من يقابل من فلاحي القوزاق، وكان في ذروة النشوة بانتصار جيوشه، فيجيب الحداد الشاب ويمنحه فردتي حذاء الملكة. وبهما يعود الى حبيبته وامه وتنتهي الحكاية بزواجهما السعيد.
    الاوبرا لا تخرج عن سياق تتابع الالحان في بنائها العام: ريمستيتف، آريا، كورس، دويت، كورتيت... الخ. ومناخها الاحتفائي بأعياد الميلاد تزحمه التنهدات التشايكوفسكية الملتاعة، على الرغم من ان المؤلف يحتاط لذلك بعدد من الرقصات الشعبية المبهجة والكولارات الجماعية الانيسة. كما ان دعاباته ـ والنقاد كثيرا ما يأخذون عليه فقره في هذا ـ ليست قسرية، بل عفوية لا بطفولة، بل بشعبية. الاروع يكمن اخيرا في الالوان التي تزدحم رقيقة في موسيقاه والهواجس الانسانية التي تفيض في اغانيه. خذ اغنية «اوكسانا».
«شجرة التفاح الصغيرة تزهر في حديقة البيت بالرغم من الازهار ولكنها تذوي...» كيف تكشف عن المشاعر العذرية المتعارضة في الفتاة التي تقبل على الحب (غنت الدور السوبرانو الروسية «موروسوفا») واغنية «فاكيولا» وهو في ساعات اليأس: «من ترى يعرف اذا ما كان قلبك يا فتاتي يحس بألمي المبرح؟
    وانك ترين، في الحلم على الاقل، حمامتي، واحتراقي..» (غنى الدور التينور «بويوف»).
الاوبرا وهي في اربعة فصول تمتد لساعات ثلاث تقريبا لا تشعر فيها انك تسقط في غفلة أو فراغ لا موسيقى فيه. الرائع في هذا التسجيل ان المؤلف فيه والمغنين والكورس والفرقة العازفة وقائد الاوركسترا روس جميعا، وانا اميل الى الاوبرا الروسية التي تُغنى بلغتها وتؤدى من قبل مغنين روس، دعك من اهمية العزف الاوركسترالي والقيادة في فهم العمل. فاللغة الروسية ذات جرس خاص تماما، وجلال ادائها الاوبرالي غارق في الظلال، أو على شيء من العتمة ولا يحسن استيعابه إلا الاداء الروسي. وهذا الاصدار يتمتع بكل هذه الخصائص.


Tchaikovsky: Cherevichki (3CD Dynamic)

 

 

 

ماسينيه الفرنسي يبعث من جديد

أوبرا تاييس ومحنة الراهب

 

(6/10/2000)

 

    «تاييس» Thais الرواية وضعها الفرنسي «اناتول فراس» عام 1890. بعد سنتين من صدورها المؤثر باشر الموسيقي الفرنسي «يوليس ماسينيه» بتأليف اوبرا عنها مستعينا بالنص الذي اعده «غاليه».
    يوليس ماسينيه (1843 ـ 1912) بدأت شهرته مع فن «الاوراتوريو» الديني الطابع اما سمعته كمؤلف اوبرا فقد بدأت مع عرض «هيروديا» 1881 وتألقت مع «مانون» الاثيرة. ثم توالت اعماله التي تتسم بغنى الالحان وبالحلاوة الطاغية (حتى اعتبرت هذه الاخيرة مأخذا!) «دون كيشوت» و«ملك لاهور» و«لاسيد» (أو السيد..) و«الام فيرتر»، و«فتاة نافار» و«سيندريلا» و«تاييس» واخريات.
    كان شديد التأثر بتقنية «الموتيف» الفاغنري. وهو ارتباط لحن محدد بفكرة او حالة او شخص، بحيث تستدعي اعادة عزفه تلك الفكرة او الحالة. واعماله بجملتها تنم عن ادراك عميق بأهواء الانسان ومشاعره. ولكن الغفلة سرعان ما طوت ذكر «ماسينيه» بعد وفاته، خاصة بعد ان تلاطمت امواج تيارات الحداثة الموسيقية وتطلعاتها المضادة للامتدادات الرومانتيكية في العقود الاولى من القرن العشرين.
    مع نهايات القرن الماضي عادت الرغبة بتفحص الاصوات المطمورة بفعل التعصب وردود الافعال ومحاولة انتشالها من النسيان وكان ماسينيه واحدا من ابرز هذه الاصوات.
ان غنى الحانه لا تبطلها مرحلة لانه غنى مشاعر الكائن الانساني الذي لا يستنفد. وهذا ما تحسه وتمتلئ به حين تستمع الى تدفق الالحان في «مانون» و«فيرتر» و«دون كيشوت» وهذه «تاييس»، التي صدرت اخيرا عن دار
DECCA، ترتفع الى الذرى بين اوبراته ولكن ما يحير في عالم النشر الموسيقي والعرض الموسيقي هو سر هذا الاغفال الطويل لاعمال نفيسة تضاهي، واحيانا تسمو على ما هو شائع في الاوبرات.
    ان موسيقى «تاييس» والدراما فيها والاشكال الذي تطرحه تجعلها جوهرة حقيقية. صحيح ان عددا من الشخوص فيها لا يشكلون إلا ظلالا ازاء تفرد الشخصيتين الرئيسيتين «تاييس» الغانية في حاضرة اسكندرية مصر الرومانية في القرن الرابع الميلادي، و«اثانيل» الراهب المتبتل في عزلة العبادة، إلا ان دراما الراهب والغانية وحدهما تكفي لاغراق المستمع في بحر من الاهواء والغرائز لساعة وخمسين دقيقة.
    الاوبرا في ثلاثة فصول، في الاول نتعرف الى الراهب «اثانيل» في عزلة الصحراء وهو مهموم بفساد الاسكندرية وما تثيره الغانية «تاييس» من اهواء. يتذكر كيف التقاها يوم كان اول الشباب في غمرة الشهوات، حتى هرب الى الصحراء ليعيش مع العبادة بسلام وهو يمني النفس بهداية هذه المغوية الى ما اهتدى به. كما نتعرف الى «تاييس» في بيت الثري «نيسياس» وصحبه الغارقين بمتع الحواس. فجأة يدخل «اثانيل» ليمارس مهمته في اقتياد «تاييس» على ان يلتقي بها على انفراد في بيتها. في الفصل الثاني يواجهها الراهب وهي في غمرة تأملها الحزين في حياتها العابثة. وبين دعوته لان تهتدي فتتبعه وبين صوت «نيسياس» القادم من الخارج يبدأ تمزقها الروحي. هنا ينفرد بنا لحن «تأمل» Meditation الشهير في هذه الاوبرا (فايولين واوركسترا)، ليصف لنا باللحن وحده تغير «تاييس» الروحي عبر ليل عزلتها بنفسها. في الصباح تنقاد لـ «اثانيل» الى الصحراء هاجرة متع الحواس والمدينة. في الفصل الثالث نجدهما في واحة صحراوية وقد انهك «تاييس» الاجهاد وادمى قدميها. هنا يرق الراهب ويرق لقاؤهما في واحدة من اعذب الحواريات التي عرفتها الاوبرا. بعد قليل يحصل الفراق حين تقبل الراهبات لتأخذ «تاييس» فيعرف «اثانيل» انه لن يراها بعد ذلك، وهكذا يختص هذا الفصل بتحولات الراهب، كما اختص الفصل الثاني بتحولات «تاييس». انها تسامت من حياة الدنيا، في حين انحدر هو إليها بفعل يقظة جسده. وفي هذا ذروة الدراما. تأخذه الاحلام الحسية في عزلته فيرى «تاييس» تموت بفعل مشاق الرهبنة. فينحني إليها لتموت بين يديه مستعيدين في لحظات آخر لقائهما في واحة الصحراء، هي التي لا ترى غير اجنحة الرحمة الملائكية. وهو الذي لم يعد يؤمن إلا بالحب الارضي.
    ان اروع ما في هذا الاصدار هو اشتراك مغنيين مقتدرين ارتفع نجمهما هذه السنوات الى الاعالي، خاصة السوبرانو الاميركية رينيه فليمنغ Flemig والباريتون الاميركي توماس هامبسون Hampson. مع الاخير تابعنا كيف تلاحق الموسيقى الكلمات على شفتيه وتفضح سر تعنته الذي يخفي رغائب دفينة حارة تتطلع الى التحرر، وقد القت «تاييس» الضوء على ذلك في اول لقاء بينهما: «... لم تنكر النار التي تأتلق في عينيك؟» ومع الاولى نلتقي بالصوت المناسب لـ «تاييس» في تمزقها الارضي (الفصل الاول) وفي تساميها وتسامي صوتها الذي يبلغ ذرى طبقاته خاصة في وداع «اثانيل» «وسوف نلتقي ثانية في المدينة السماوية».
    ان كل لحن، على آلات الاوركسترا او على شفاه المغنين واضح دقيق الملمس. فكل كلمة وكل جملة تتبطن مشاعرها الغنية. ويعود الفضل في ذلك ايضا الى قائد الاوركسترا ديفيس يفيس ابيل Abel، الذي حقق مع صوت فليمنغ افضل تسجيل لهذه الاوبرا مقارنة مع تسجيلين سابقين.
    كان «ماسينيه» يحفظ النص الشعري للاوبرا قبل الشروع في التأليف، وهذا ما نلمسه في كل اغنيات الاوبرا هذه، حيث تمتزج الكلمة واللحن بصورة فريدة.


Thais : Massenet (DECCA 2 CD)

 

 

 

الروسي «سكريابن» في «السر الأخير»

المسعى التصوفي لمعانقة الكون

 

(1/9/2000)

    من مناخ «الرمزية» الذي كان كثيفاً في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، خرج الموسيقي «الكسندر سكريابن» (1872ـ 1915)، بكل ما تنطوي عليه هذه الرمزية من عناية بالفلسفة والتصوف واللاهوت كدليل يأخذ بيد الفنان الطموح الى كل ما هو كوني ميتافيزيقي، وسري داخل مجاهل النفس.
    «سكريابن» كان بين الموسيقيين من مجايليه (كورساكوف ـ بورودن ـ غلانونوف ـ رخمانينوف) طبيعة شاذة. فقد كان كثير القلق لا يميل الى الاستقرار. حمل معه موهبته الاستثنائية في العزف على البيانو والتأليف الى كل أوروبا فلم يجد مستقراً. حتى انه هجر وظيفته وزوجته مع اطفالها الاربعة ليأخذ بيد شابة كانت شديدة الحماس لتكريس موهبته باتجاه عالمه الداخلي، الذي أصبح بعد لقائه بافكار «مدام بلافاتسكي» تصوفياً.
سوناتاته الخمس الأخيرة للبيانو ملهمة. ولقد لفت اهتمام «شوبان» و«ليست» وهما سيدا هذه الآلة دون منازع. كما ان له «24 إتيود» و«85 برليود» لا تشبع نهم جائع لمعرفة مجاهل الروح، ومع الأوركسترا لم يكن «سكريابن» أقل طمعاً في التعبير عن اسراره. فله سيمفونيتان مرقمتان، ولكنه بفعل الشعر والافكار خرج من الرقم الذهني الى الاسم الحسي. فسيمفونيته الثالثة هي «القصيدة المقدسة»، والرابعة هي «قصيدة الوجد». والتأليف الخامس «برومثيوس: أو قصيدة النار»، ومع السيمفونية الثالثة غرق «سكريابن» بصورة تامة في محيط ولعه بالاسرار، بعد ان اجتاز مرحلة التساؤلات مع الكتاب المقدس وفلسفات «نيتشه» و«شوبنهاور» و«بلافاتسكي» بصورة خاصة.
    هذا الطموح القلق، وهو بعد في الثلاثين، دفعه الى الانشغال بتأليف عمل موسيقي اكبر من حجم الحياة التي يعرف. عمل ينطوي على هوية كونية مداراتها الخليقة والكائن الانساني ومرحلة تحوله الى ما لا يعرف أحد. هذا الطموح يذكرنا بطموح الموسيقي الأميركي «تشارلس آيفز» وقد عرضنا لسيمفونيته «الكونية» في حديث سابق. ولكن «آيفز» لم يكن يميل الى التصوف. في حين كان «سكريابن» كذلك، حتى على مستوى الفعل. فاذا كان «آيفز» يحلم بعزف عمله الضخم بين قمة جبل وواديه، فكر «سكريابن» بالسفر الى الهند لاقامة معبد خاص بانتاج وتقديم عمله السيمفوني، الذي وجد له عنوان «السر الأخير»، وهو مزيج من شعائر ودراما تتواصل لسبعة أيام وسبع ليال. وما من أحد يعرف شيئاً عن الجانب العملي الذي كان يشغله انجازه. كان يقول لاصدقائه: «لا يوجد مشاهد واحد في هذا العرض. الكل سيكون مشاركاً. فالعمل يتطلب فنانين خاصين، أوركسترا، كورساً ضخماً، آلات موسيقية بتأثير بصري، راقصين، موكباً، بخوراً،...».
    طبعاً، مات «سكريابن» في الثالثة والأربعين (1915) بسبب سرطان في الشفة العليا ولم يخلف من مشروعه الحالم الا أوراقاً مخطوطة لا يحسن قراءتها أحد الا بجهد النصير والحواري.
    الموسيقي «الكسندر نيمتن» (1936 ـ 1999) كان أبرز المتحمسين لحلم «سكريابن»، فشغل نفسه 26 سنة بإعادة خلق ما خلفه الأول من مخطوطات تحت اسم Preparation لـ «السر النهائي»، لينجز عملاً يمتد لثلاث ساعات في أقسام ثلاثة، الأول «الكون» أكمل في 1972 والثاني «الجنس البشري» 1980 والثالث «التجلي» 1996.
    هذا العمل الضخم المذهل، الذي كان في طي الغفلة أو النسيان، يفاجئنا عن دار Decca، تعزفه أوركسترا برلين السيمفونية تحت قيادة «فلاديمير اشكنازي». و«اشكنازي» روسي أقام في أوروبا منذ الستينات كعازف بارع على البيانو، ثم اتسعت موهبته لقيادة الأوركسترا من دون ان يخيب أمل أحد.
    في هذه الفصول الثلاثة ـ كل فصل يستقل اسطوانة CD كاملة ـ يأخذنا الخليط العجيب المتنافر المتعارض بين العنف الكثيف والهدأة الحالمة، وبين محيط الأوركسترا والكورس (لحن بلا كلمات) وبين الانفرادات لصوت الأورغن والبيانو والسوبرانو (لحن بلا كلمات)، تماماً كما يأخذنا المد المأسور لما هو كوني الى المجاهل التي هي سر. الغبطة في الفصل الأول احتضان للعالم، مع أن مدخل الكورس المطعم بلحن «الموت» انما يشير الى القدر الذي لا محيد عنه: «من حرارة اللحظة تطلع الابدية. وهي تضيء الاتساعات القصوى، اللانهاية تنبض مع العوالم، والصوت يعانق الصمت» وفي الفصل الثاني يتكشف لنا تاريخ الانسان، تظهر أولاً الغابات والحقول والصحارى والحيوان والطير والسمك، حتى يتماسك الهارموني. ثم تعم الفوضى مع الانسان ومع السوبرمان، مجسد الشر، تفيض الحروب والدماء: «نتسلق جثث الموتى كما نتسلق حجار...». وفي الفصل الأخير يعاقب بالموت حيث يأتيه على هيئة أخت بثياب بيض: «لا تخف، يا صغيري، فأنا من ترغب في رؤيتها، اعماك مظهري فما تتعرفني! كم جئت دون تحذير، وأنت دائم الهرب بفعل الخوف..».
    الحديث عن عمل موسيقي على هذا القدر من السحر والفتنة والعمق والاتساع، يبدو «ادبا» متطفلاً. والدعوة لسماع هذه المشاكل الروحية في فنون العالم، وليست الموسيقى استثناء، لتبدو دعوة اكثر تطفلاً في محيط هذه الثقافة الشكلية واللفظية و«الأدبية» التي لا تحيد عن دائرة التسلية وصرف الوقت الذي يبدو أزهد من عفطة عنز.
    مع اشكنازي يسهم كل من «لوبيموف» و«غندن» على البيانو، والسوبرانو «كابولا»، و«تروتر» على آلة «الأورغن».

 

 

 

كولمبوس: الأوبرا المنسية للبطل غير المنسي

(25/8/200)

 

    تماماً مثل شعراء الواحدة في الأدب العربي ممن لمعت اسماؤهم بسبب قصيدة واحدة، كذلك هناك موسيقيو الأوبرا الواحدة. هؤلاء جمعتهم الصدفة في ايطاليا في مرحلة التحول من القرن التاسع عشر إلى العشرين. ولقد سموا بجيل «بوتشيني» لا لأنهم جايلوه فقط، بل لأن اوبراتهم أخذت ذات المنحى الواقعي والعاطفي الذي اشتهر في الايطالية باسم Verismo من هؤلاء: «بويتو» و«ماسكانيي» و«تشيليا» و«ليونكافالو» و«جيوردانو» و«وولف ـ فيراري» و«فرانكيتي». وكلهم لمع نجمهم لأوبرا واحدة الا «فرانكيتي» الذي طواه النسيان تماماً، مع انه كان يتمتع بسمعة موسيقية حسنة بين عامي 1890 ـ 1914، خاصة ان ثروته الطائلة يسرت له تقديم اعماله الاوبرالية على المسرح.
    هناك متعة خاصة يحققها العثور على أوبرا مجهولة رائعة. فزمن الاصغاء والاستمتاع ينفرد بطعم استثنائي. ولحسن الحظ لا تنقطع هذه الفرص عن محب الموسيقى هذه الايام. فهناك دائماً جديد ومفاجئ.
    ومع اني أعرف ان لألبيرتو فرانكيتي 1860 ـ 1942 عملين جيدين منسيين هما «كريستوفورو كولمبو» و«جيرمانيا» إلا اني أعرف ايضاً انهما لم يصدرا في تسجيل. ولذلك أملت النفس بتلك الفرص التي تأتي مفاجئة. وها هي دار Koch Schwan الالمانية تطلع علينا بتسجيل حي رائع للأولى منهما تحت قيادة، مارتشيلو ففيوتي لأوركسترا فرانكفورت السيمفوني.
    ولد فرانكيتي في مدينة تورين ولقد انفرد عن واقعية جيله بميله إلى المواضيع التاريخية. فأوبرا كريستوفورو كولمبو تتحدث عن مرحلة 1487 ـ 1506 من حياة الرجل الذي اكتشف اميركا صدفة وهو في طريقه المزعوم إلى الهند، وهذه السنوات عبر المشاهد الاوبرالية تكشف عن الجانب المأساوي في الرحلة ولذلك تبدو حياة هذا الرجل بانكساراتها المتتابعة خالية من التوتر والدراما. فلقد انتخب من قبل مجلس الملكة «ايزابيلا» الاستشاري لرحلة الوصول إلى الهند عن طريق الغرب، ولكن «دون رولدانو»، المعارض للرحلة يبدأ محاولاته التآمرية ضد كولومبوس (كولمبو) على امتداد الرحلة في الفصول الثلاثة.
الفصل الأول يتم على الارض الاسبانية، امام المجلس الاستشاري، حيث ينشغل رولدانو بتأليب الجمهور ضد كولومبوس الذي يسلب ارواح ابنائنا في رحلة البحر الخاسرة في مقابل هذا الاحتدام يظهر «كولومبوس» في وحدته التي تبدو وحدة متأمل أو فيلسوف (بصوت «باص» يقوم بدوره «ريناتو بروسن») فيضفي صوته وكلماته ولحنه لوناً داكناً على المشهد بفعل روح الشك التي تسربت اليه بشأن نجاح رحلته، ولكن صوت الملكة «ايزابيلا» (سوبرانو ـ روزيلا اغاتسو) التي انتصرت له يبدو حزيناً ولكن مشجعاً. فهي مثله مفعمة بالحلم وتمنحه ارادة التاج في واحدة من أجمل ثنائيات الأوبرا.
    الفصل الثاني يتم في البحر على سطح السفينة «سانتا ماريا»، حيث تعتمل الرغبة بالتمرد على كولومبوس من قبل البحارة بفعل الخوف والارهاق والاحباط، وبفعل تأليب «رولدانو» (باص ـ روبرتو سكاندوزي) والاوركسترا تكاد تكون بطلاً أو عنصراً درامياً اساسياً، فمنها لا تتوقف العواصف والامواج المزمجرة. وكولومبوس المهدد دائماً لا يفقد عصباً. ومثل السحر حين تصل ثورة البحارة ذروتها تلوح نار للمبصرين فيعرف الجميع ان ارضاً جديدة تلوح من بعيد.
    في الفصل الثالث تكون المشاهد على أرض العالم الجديد، حيث يعبث البحارة الاسبان، كما يعبث المحتل عادة بأقدار الهنود الحمر، تحت قيادة رولدانو، الذي يرتبط بعلاقة مع ملكتهم «اناكوانا» (سوبرانو ـ غزيلا باسينو). ولكن هذه الأخيرة تحت ضغوط شعبها تعترف انها افتعلت هذا الاغواء لتنتقم من رولدانو وكل المحتلين.
    كان كولومبوس دون دراية بما يحدث واذ يعرف يحتج ويحاول القاء القبض على رولدانو وكل العابثين، ولكن الارادة الملكية من اسبانيا تغير مجرى كل شيء لغير صالح كولومبوس فيصبح هو الضحية ويقاد سجيناً إلى وطنه في حين يقبض المتآمر على مقاليد الأمور. انها نهاية مفجعة تذكر بأقدار التراجيديا اليونانية.
    في الخاتمة نرى العجوز كولومبوس وقد صرف سنواته الأخيرة في السجن بصحبة أحد خلصائه «غويفارا» (تينور ـ ماركو بيرتي)، وهناك، بعد ان يفاجأ بقبر الملكة «ايزابيلا» التي ماتت حديثاً، يشعر بان آخر خيط أمل يربطه بالحياة قد انقطع: «دع اغلالي تستريح قرب قلبي، وستصبح دموعي خالدة، هي والامي وأساي»، ويموت.
    الأوبرا بفعل شخص كولومبوس الشاعري النبيل والمتأمل، وبفعل غموض البحر وغموض الرحلة، وبفعل روح رولدانو الشيطانية، تبدو أوبرا مليئة بالعتمة والظلال، وهي لا تخلو من غنائية «بوتشيني» وجيله، وجلال فيردي. كما لا تخلو من تأثيرات ڤاگنر. هناك موسيقى لمشاهد رقص الهنود تذكر ايقاعاتها بالرقصات التي سمعناها في «عايدة» لفيردي. ولعل مما يعمق الظلال ان هذه الاوبرا تخلو من قصة حب، فالبطل روح متطلعة من قلب عزلتها إلى الاعالي، وحب رولدانو كاذب. وحب غويفارا هوائي.
    دور المغني (وهو من طبقة باريتون وينخفض إلى باص) «ريناتو بروسن» كان رائعاً، ولم يكن كل المشاركين أقل درجة. وأروع الجميع ان الأوبرا جديدة وتستحق اكثر من سماع واحد.
Alberto Franchetti: Cristoforo Colombo Rso Frankfurt Marcell Vioti

 

 

 

 

ديبوسيه: علاقة القصيدة باللحن كالضوء بالظل

 

(24/1/2003)

 


    هناك فن «الأغنية» داخل الأوبرا، أو داخل الأعمال الكورالية عامة، تطورت من الإنشاد الجماعي، مروراً بـ «الآريا» ذات اللازمة، حتى «الآريا غير المنتهية» عند فاغنر. ثم هناك فن «الأغنية» خارج الأوبرا، الأغنية التي ترتبط بنص شعري بعينه، وبحنجرة مغن واحد، بصحبة الأوركسترا كما بدأت مع موتسارت أو بصحبة آلة البيانو وحدها كما انتهت بكامل نضجها على يد شوبرت. لذا شاعت تسميتها الألمانية «ليد»، وهي عادة ما ترتبط بمناخ الصالون أو القاعة المحدودة.
    كان فن «الأغنية» بسيطاً يعتمد لحناً يتكرر على اختلاف المقاطع الشعرية، تماماً كما هو الحال مع الأغنية العربية، وتسمى في المصطلح الموسيقي Strophic، ثم شاءت الموهبة الألمانية أن توازن بين فاعلية النص الشعري والنص اللحني، وأن تجعل من آلة البيانو أكثر من خلفية لحنية وإيقاعية، بل مادة لاستحضار ما هو خفي من مناخ الأغنية، وطرفاً في الحوار مع المغني، هذا ما أكملت عدته قرابة 600 أغنية لشوبرت.
    في إيطاليا كانت السيادة مطلقة للأوبرا ولفن الأغنية داخلها، ولم يقبل مؤلف ولا مغن على فن «الليد» الألماني، كما حدث في عموم أوروبا. كانت فرنسا أول مستلهمي هذا الفن، لكن على هواها المتسم بالرقة والنعومة. ولذا ظل فن الأغنية أسير الصالون حتى سبعينات القرن التاسع عشر، ثم أخذ منحى أكثر جدية وهجر الصالون العائلي الى قاعات الكونسيرت الجماهيري. في مرحلة النضج الفرنسي للأغنية هذه ظهر التجديدي الأصيل ديبوسيه (1862 ـ 1918)، بعد جراءة بريليوز التي سبقته.
    بين عامي 1875 و1915 وضع ديبوسيه اكثر من ثمانين أغنية، كان الباعث الأساس، بالإضافة إلى ذائقته الأدبية، هو مصاحبته كعازف بيانو شاب لعدد من المغنيات الشهيرات آنذاك. وكان أول درس في تأليف الأغنية.
    أغنيته الأولى كانت «ليل النجوم» للشاعر «بانفيه»، وهي الأغنية التي يفتتح بها المغني الباريتون البريطاني «كريستوفر مالتمان» هذا الاصدار الجديد لمختارات من أغنيات ديبوسيه عن دار Hyperion، ثم يتوالى تعرفه على نصوص شعراء مقربين مثل فيرلين، مالارميه، بودلير، حتى قصائد النثر. ولعل هؤلاء الشعراء هم الأكثر تأثيراً في موسيقاه من الموسيقيين أنفسهم، ولك أن تضيف تأثير الرسامين الرمزيين والانطباعيين ايضا.
    في الاصدار سبع أغنيات لقصائد فيرلين، الذي وجد فيه صوته الموسيقي بسبب طواعية النص الشعري وموسيقيته، إلا أنه التقى قصائد بودلير بعد ذلك، متوافقة مع تعرفه على موسيقى فاغنر، (في الاصدار خمسة ألحان أطولها قصيدة «الشرفة»)، وهناك قصائد لـ «بورجيه» و«فيلون».
    أحد النقاد يتأمل علاقة ديبوسيه وألحانه بالشعر: «الموسيقى في داخله لا تتواصل إلى جانب، أو تحت، أو حتى فوق القصيدة. انها تولد بكليتها من داخل القصيدة ذاتها، وما من معنى بعد ذلك لكلمة مصاحبة، بل هي تماماً علاقة الضوء والظل ببعض».


Debussy Songs (hyperion)

 

 

 

 

 

الحب وبراثن الموت

 

(17/1/2003)


    تحت رعاية رجل ثري يدعى بيتر مور، نشأت دار «أوبرا رارا» للنشر، التي تعني بالايطالية الاوبرا النادرة. وتقتصر جهودها على البحث والتنقيب عن الاعمال الاوبرالية الخافية عن مسرح العروض المألوفة، وخاصة في القرن التاسع عشر. هذا القرن الرومانتيكي الذي ازدحم بمؤلفين عظام من روسيني حتى فيردي، كما ازدحم بحشد من الاعمال لا يحيطها الحصر، حتى تبددت مع السنوات، وطمر الكثير منها تحت ظل النسيان، «أوبرا رارا» مدفوعة بحماس مجرد عن مشاغل الربح والخسارة والسوق، نشأت لغرض بعث المنسيات. احاطت نفسها بمغنين وعازفين مقتدرين، واشترطت على اصدارها ان يكون في اجمل حلة واغنى معلومة. ولذلك تلفت اصدارات الكتب مع الديسك النظر حقا، فالدراسة عادة ما تتجاوز النص الشعري (الليبريتو) طولا. ولذا فأنت سامع وقارئ معاً.
    الاصدار الاخير اوبرا منسية حتى في دليل اوكسفور الموسيقي، هي «جينيفرا السكوزية» وضعها مؤلف ايطالي، الماني المولد، هو جيوفاني سيمون ماير (1763 ـ 1845) عام 1801 وعرضت في مدينة تريستي، وحققت نجاحا كبيرا حينها، ثم داهمها الاغفال. بعد مائتي سنة بعثت من جديد وعرضت في مسرح تريستي ذاته، ومن هذا العرض اصدرت «اوبرا رارا» نسختها هذه في ثلاث اسطوانات.
    بدأ نجاح ماير في ايطاليا والبندقية خاصة، منذ عرض اوبراه الأولى «سافو» وعلى الاثر اجتاح المرحلة بقرابة سبع وستين اوبرا حتى عام 1824. ولكن نجمه بدأ يغيم بفعل صعود نجم روسيني، فانصرف الى تأليف الموسيقى الدينية.
    اوبرا «جينيفرا» اعتمدت النص الشعري الشهير «اورالندو» للشاعر الكلاسيكي الايطالي «اريوستو». ولقد سبق ان اعتمد هذا النص في اكثر من 14 أوبرا لعدة موسيقيين، لعل هاندل اشهرهم في اوبراه «اريودانتي» 1735.
    الحكاية تدور حول الاميرة الاسكوتلندية «جينيفرا» وحبها لقائد الجيش «اريودانتي». ولكن الدوق الشرير «بولينيسو» الطامع بتاج الاميرة، يتآمر مع الوصيفة ليحطم الفارس المحب بدافع الغريزة الشريرة، فيجعل الوصيفة تأخذ ملابس الاميرة وتخرج له في موعد غرامي خادع على مرأى من العاشق المسكين، الذي تدفعه الخيبة الى محاولة الانتحار غرقا. الملك والد جينيفرا يؤخذ بالخديعة ايضا ويستسلم لأمر القانون الذي يقضي بقتل مرتكب الذنب. ان «بولينيسو» هو مركز الشر، الذي يذكر بـ «اياغو» في دراما «عطيل»، وبخديعته: «اذا ما كانت الخديعة تثمر نجاحا فسأطلق الحقيقة الى الأبد، ان من يبحث عن الحق وحده لن يحصل على السعادة».
    ولكن اريودانتي ينقذ من الانتحار ويأتي متنكرا للدفاع عن جينيفرا رغم ادانته لها. ويقابل الوصيفة التي تعترف بخدعتها، وانها لبست ثياب جينيفرا ارضاء للدوق. وتنتهي الحكاية بسلام ومسرات كما انتهت اوبرا هاندل، على ان موسيقى ماير هنا رومانتيكية مشحونة بالمشاعر الدرامية، جمعت مهارة البناء الموسيقي الاوركسترالي الالماني مع تدفق الالحان الايطالية. ان ردة فعل «اريودانتي» امام المشهد الغرامي الغادر يكاد يكون بذات الوقع الذي رأيناه عند هاندل:
«ألا اسعدي ايتها البغي الغادرة بين ذراعي حبيبك.
ان حياتك اوقعتني بين براثن الموت.
ولكنني سأعود كظل معتم وشبح غامض للعقاب».


G. S. Mayr: Ginevra (Opera Rara)

 

 

 

 

 

فاغنر في «الخاتم»: سلطان الحب أم سلطان المال؟

 

(6/12/2002)


    أن تحب موسيقى ڤاگنر 1813 ـ 1883، أو لا تحبها. وما من موقف وسط. ولعل حبها لم يجعل منها ملاذاً وخلاصاً فحسب، بل دفع بعضاً الى الغرق فيها حد الانتحار. لأنها، وهذا سر جديدها، تعنى باضاءة الكهوف المعتمة اللاواعية للكائن الانساني. انها تنبش التربة السفلى للمشاعر. ومن يستهويه هذا يجد فيها لذاذة الكشف عن المواطن المحرمة في النفس.
    ان ڤاگنر خطير، وضروري بسبب ذلك. لأنه عزز، بصورة لا رجعة فيها، الرسالة الجدية للفن. كانت الأوبرا الالمانية، والاوروبية عامة، تعتمد المذاق الفرنسي والايطالي. وكان مايربير 1791 ـ 1864 العلم الموسيقي الأكثر طغيانا، باعماله التي تقرن الموسيقى بالتسلية، فهي اقرب الى ما يسمى اليوم عرضاً موسيقيا، وحضور فاغنر، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، عصف بالمجرى واخذه الى اتجاه آخر تماماً. انه قرن الموسيقى بالشعر وباللوحة وبالفلسفة بحيوية القلب والعقل الاستثنائيين في ذروة مآزقه المادية والنفسية، وكان ثورياً هارباً في سويسرا، بدأ ملحمته «الخاتم»، التي ستتألف من أربع اوبرات تمتد لست عشرة ساعة ثم جاءته معونة «لودفج الثاني» ملك بافاريا عام 1864، لتسدد ديونه وتتكفل بمعاشه، وتبني له دار بايرويث الخاصة بأعماله وحدها وتحت هذه الرعاية اكمل رباعيته.
إن اوبرا
ڤاگنر تتطلب شروطاً قد تكون عصية على بعض قواد الاوركسترا وعلى الكثير من المغنين. فالموسيقى لصيقة بالحدث الدرامي. ولقد استحدث ڤاگنر تقنية «اللحن الدال»، وهو لحن يرتبط بشخص، أو بفكرة، أو بحالة نفسية بعينها، لتكون مراكز قوى داخل الفعل الاوركسترالي. والغناء يتطلب اصواتاً من طبقة «التينور البطولي»، وهي طبقة نادرة، ما زالت مقصورة على الحنجرة الالمانية، او تكاد. وكذلك شأن طبقة السوبرانو الانثوي. عناصر مثل هذه، والكثير غيرها جعل من رباعية «الخاتم» عملاً عزيز المنال. ولقد قدمه لاسطوانات الموسيقى عدد محدود من كبار قواد الاوركسترا، من امثال «فورتڤانگلر» و«كارايان» و«شولتي»، والاميركي جيمس ليفاين، الذي تعيد شركة DG الألمانية اصدار انجازه، وقد قدمه في ثمانينات القرن الماضي، بأربع عشرة اسطوانة CD.
    انجاز ليفاين هذا تم مع كورس واوركسترا اوبرا ميتروبوليتان في نيويورك مع حشد رائع من كبار المغنين، ولقد حصل في حينه على اطراء نقاد الموسيقى جميعاً.
    ان عرض احداث هذه الملحمة الشعرية الموسيقية غير ممكن في حديث موجز كهذا. الا ان الثمرة يمكن الاحاطة بها بالشكل التالي: الرباعية تحدثنا عبر الاسطورة عن خليفة العالم وانهياره. عن البدء والتفوق ثم عن الانهيار والموت، تعرض لموضوع الارادة الحرة والعزيمة، ولموضوع الحب والتضحية بالنفس، ولموضوع النفس ذاتها. ان الحبكة الشديدة التعقيد تدور حول «خاتم» القوة والسلطة. المصنوع من الذهب، وقد سرق من عذراوات الراين من قبل البيريش، قزم النيبيلونج. وحين استعيد بالخديعة من قبل فوتان، ذي القوى الخارقة، حلت عليه وعلى مالكيه لعنة القزم. والشخصيتان محوران اساسيان في الرباعية كلها.
    اللعنة تلاحق فوتان وابناءه واحفاده في الصراع الدامي بين رغبة الخلاص بالحب ورغبة امتلاك المال والسلطة، حتى انهيار المشهد جميعاً في حريق «فالهالا» الكوني.
الرباعية تتكون من: «ذهب الراين»، «فالكيري»، «زيغفريد» و «مغيب العالم» وهناك جزء خامس اكتشفت مخطوطاته مؤخراً، لم يعزف ولم يصدر في تسجيل، وتقول الرواية انه وضع تحت عنوان: «وأشرق صباح».
    لم يؤلف ڤاگنر رباعيته دفعة واحدة، فبعد أن أنجز فصلين من الجزء الثالث «زيغفريد»، دفعته مشاعر جديدة الى اهمال «الخاتم» حوالي اثنتي عشرة سنة الف خلالها اوبرا «تريستان وايزولدة»، التي تدين بدين الحب (بتعبير رابعة)، ولكنه حب يقرن في حسيته وشهوانيته بالموت وكذلك اوبرا، «اساطين الشعراء المغنين».


* Wagner: Der Ring des Nibelungen (DG)

 

 

 

 

 

سوناتات شوبرت الى الجمهور المتخيل

 

 

    عادة ما يتمتع المؤلف الموسيقي، في كل مراحل الموسيقى الكلاسيكية، بنوعين من الجمهور يتأرجح بينهما كالبندول: الأول هو الجمهور الحقيقي، الملموس الحضور في قاعات الحفل العامة. والثاني الجمهور المتخيل. الجمهور الأول يعرف ما يريد من المؤلف فهما يستجيبان لبعضهما استجابات مشروطة. والثاني لا يكلف المؤلف أي متاعب ويتركه على هواه، يولد من كيانه اللحن النموذجي.

    كان شوبرت(1797-1828) واحداً من هؤلاء حتى عام1823، عام اكتشاف مرضه المميت(السفلس)، الذي دفعه في عزلة مطلقة مع النفس، تشبه تلك العزلة التى أحاطت بيتهوفن بعد استفحال صممه.

    أرجحة البندول بين الجمهور الحقيقي والجمهور المتخيل توقفت تماماً. وانصرفت العبقرية البريئة الشابة تؤلف على هواها لجمهور واحد لا وجود له. من بين هذه الروائع التي ألفها شوبرت في السنة الأخيرة من حياته ثلاث سوناتات على آلة البيانو ختم بها إنجازه في هذا الفن (واحد وعشرون سوناتة). وهذه الفرائد الثلاث ظلت محجّة مغرية لعازفي البيانو المهرة، فهي السوناتات العظام كما تسمى عادة، لا بفعل امتداداتها الزمنية الإستثنائية فقط، بل بفعل غرائبيتها بالنسبة للعارف بتقاليد هذا الفن وبعبقرية شوبرت. فهذا المؤلف المولع ببيتهوفن لم يشأ أن يستوحي في أعماله الأخيرة هذه سوناتات بيتهوفن التاملية الأخيرة، بل عاد فاستوحى الأعمال المبكرة المشبعة بالغناء. كما أنه، وهو في لحظات مرضه اليائسة، لم يدع تنهّدات اللوعة السوداء تمس أوتار حنجرته الرقيقة في غنائها، ولا توترات المخاوف تشنج الدعة والإسترخاء فيها. الى جانب أن شوبرت بدا في نسيجه طموحاً، فتياً، في قيادة فن السوناتا الى أفق أبعد من معمارها الصارم المعهود. إنه معني الآن بالظلال والهارموني والتلوين. والزمن   المحدود للسوناتا لم يعد محدوداً. فالأخيرة ( مصنف 960) تمتد لأربعين دقيقة.

    يكفي أن يذهب أحدنا مباشرة الى الحركة الأخيرة (روندو) من سوناتا مصنف(959) ليعانق شوبرت ويغني معه غناءً عذباً، عفوياً لا صعوبة تقنية ولا عضلية فيه. على أن نعرف أن الشجرة التي رسمها لنا شوبرت في المقدمة لا يمكن أن تخفي الغابة الكثيفة المتشابكة وراءها.

    فالظاهر اليسير السهل في الأغنية يخفي طيات مشبعة بالدلالات وراءه. استمع الى الحركة الأولى من السوناتا الأخيرة وتأمل كيف تتداعى الثيمة اللحنية لتتوقف كل مرة كالجافلة أمام ارتجافة مفاجئة، توحي بموجات طبل أو رعد بعيدة، ثم تواصل تداعيها العذب.

    هذه السوناتات الأخيرة للبيانو كانت وما زالت محجة، كما قلت، لكل عازف ماهر. وآخر عازفيها المهرة هو الأمريكي الأشهر باري بيرايا (مواليد 1947)، وقد صدرت مؤخراً عن دار Sony. بدأت شهرته الحقيقية مع مطلع السبعينات حين قدم كونشيرتات موتسارت للبيانو كاملة، قائداً لأوركستراه من على مقعده على آلة البيانو. ولقد تميز عزفه بالصفاء في أداء اللحن، وبالقدرة التعبيرية الحميمة، والسيطرة المحكمة على الشكل مهما كان صغيراً أو كبيراً.

في أواسط التسعينات أصيب بجرح في أصابع يده أوقفه عن نشاطه في العزف، فانصرف الى دراسة الأعمال الموسيقية لآلة البيانو بصورة تأملية ونظرية، الى أن عاد للعزف بصحبة أعمال باخ، بعد سنوات خمس.

    إنه العازف المنفرد الذي يُشعرك بأن العمل الموسيقي إنما يُعزف لوحده!

 

 

 

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail