حديث
الفضائل الدنماركية:
نيلسون
(16/6/2002)
موسيقى البلدان الاسكندنافية الكلاسيكية لم تبدأ شهرتها الجدية خارج
حدودها، وفي عموم الغرب، الا في القرن التاسع عشر، ومع صعود المشاعر
القومية والوطنية في مطلعه. ونحن نعرف اليوم موسيقياً واحداً شهيرا لكل
من هذه البلدان الشمالية الباردة. وعادة ما يرتبط اسمه بظاهرة الطبيعة
الوطنية في الموسيقى الرومانتيكية والحديثة.
مع رومانتيكية القرن التاسع عشر ولدت ظاهرة المشاعر القومية ولادة
طبيعية بفعل ملاءمتها الحارة معها، على امتداد أوروبا. والتهيام
الرومانتيكي بالطبيعة والعودة اليها (روسّو) صار تهياماً بطبيعة الوطن
والاعتزاز به. حلم نابليون لإخضاع أوروبا تهدّم أمام موجة المشاعر
الوطنية الملتهبة، ولذا باتت العودة الى الموروث الشعبي والى مباهج
إنسان الشعب وأحرانه جوهراً في النشاط الفني والموسيقي. فالفنان
الرومانتيكي أصبح فناناً وطنياًّ. والنجوم بدأت تتراءى في سماء الأدب
والفن والموسيقى: الروايات التاريخية لولتر سكوت ودوماس، ودورة البطل
سيغفريد لفاغنر، وشعر بوشكين في روسيا، وروبرت بيرنز في اسكوتلندا،
وديفيد في ملاحم بابليون على الكانفس، كونستابل وتيرنر واحتفاؤهم
بالمناظر الطبيعية الإنكليزية، وكورساكوف ومسورغسكي وتشايكوفسكي
لروسيا، فاغنر وفيبر لألمانيا، ليست لهنغاريا، شوبان لبولندا، ألبانيث
لأسبانيا، ألغار لإنكلترا، دَبوسيه ورافيل لفرنسا.
في عمق هذه الموجة أصبح سيبيليوس الصوت الموسيقي لفنلندا، وGrieg
لبلاد النرويج، ونيلسون للدنمارك. وهناك أسماء أقل
أهمية. ولا شك أن الأول والأخير قد احتلا مركز الصدارة في السمعة
العالمية. إلا أن الاخير، نيلسون لم يحقق هذه السمعة إلا بعد الحرب
العالمية الثانية، وخاصة بعد عزف سيمفونيته الخامسة.
كان كارل نيلسون (1865 ـ 1931) عازفا ماهراً لأكثر من آلة، أولها
الفايولين. وكان قائد أوركسترا أيضا. بدأ مهارته الموسيقية منذ صغره
وحقق شهرته في كهولته، لأنه لم يبدأ التوجه للتأليف الموسيقي إلا بعد
الربعين. ومنذ صغره الفقير المعدم حتى شهرته الغنية كان يطمع أن يعكس
في كيانه مسيرة وطنه، الذي عانى من ذل الاحتلال الألماني وخرج الى نور
الاستقلال وغناه. وموسيقاه ثمرة استيعابه للموروث الموسيقي الوطني،
إضافة الى تعبيريته الفردية. لقد قطع الوصل مع النموذج الرومانتيكي
لـ«اللحن الابدي» اللا منتهي، الذي ابتدعه فاغنر، وعاد الى الحان السلم
الموسيقي المألوفة. تشعر ذلك وأنت بصحبة أعماله السيمفونية الستة
الشهيرة. على ان له مساهمات مهمة في حقول التأليف الاخرى: اوبرا وكورال
وموسيقى غرفة وأعمال بيانو وأغان.
شاع عنه بين بعض النقاد أنه محلي، وأن موسيقاه لا ترقى الى قابلية
معاصريه الفنلندي والنرويجي. ولكن الحقيقة ليست كذلك. فنيلسون كان
باحثاً بصورة قصدية عن هوية دانماركية. ولكن الهوية لم تمنعه من السعي
المالري (نسبة الى مالر) الى المعالجة البعيدة للمشاغل الكونية. ولعل
التسميات التي اطلقها على سمفونياته الثانية والثالثة والرابعة تعطي
فكرة ما عن حجم مخيلته.
السيمفونية الاولى هي أكثرهن تقليدية، الا أن كثافتها وطاقتها اللحنية
البسيطة تستحضر مشهد الطبيعية الشمالية المثيرة لمشاعر الوحدة. في
السيمفونية الثانية الاكثر شعبية، تحت عنوان «الامزجة الاربعة»، نتابع
الحياة عبر هذه الامزجة: سريع الغضب، ورابط الجأش، وميال للحزن، ومزاج
دموي. ولقد استهلم نيلسون موضوعها عرضا من صورة معلقة على جدار أحد
المنتديات. الثالثة باسم " اسبانسيفا" متدفقة حماسا، في حين تمتد
الرابعة المسماة "المتعذر إخمادها" تحت سحب داكنة، محاولة لوصف القوى
التي لا تخمد للطبيعة. السيمفونية جاءت على أثر انفصاله من زوجته
النحاتة آن ماري عام 1914، واحتدامها وليد قوتي الاحتفاء ومشاعر
الحصار. ولذلك وضع المؤلف العنوان رصداً لهذه الجذوة الملتبسة التي لا
تخُمد. أما الخامسة الاكثر نضجا فهي دراما في حركتين فقط، يولدها صراع
قوتين هما: الشر والخير. مُفتتحها يُذكر بمفتتحات سيبيليوس التي تشبه
غموض وعدم يقينية الفجر. ولكنك مع سيبيليوس تشعر دائماً بوحدة الإنسان
في قلب الطبيعة الواسع، في حين تواجه في هذه السيمفونية عاصفة من
الطبيعة لا تًقاوم. الطبيعة هنا انعكاس لمشائر الكائن الانساني. على
امتداد غزف الوركسترا لا تتوقف ضربات الطبل المجنونة، تساوقاً أو
تعارضاً معها وكأنها تفلت من أي ضابط. أما السيمفونية السادسة
«البسيطة» فتستسلمُ لضرب من اليأس لا خلاص منه.
بالرغم من أن هناك من يأخذ على نيلسون محليته، الا أن آخرين يرون في
موسيقاه بعدا كليا وكونيا يقرن بموسيقى غوستاف مالر. إنه بهذا المعنى
تعبيري شأن مالر. ولكنه لم ينجذب الى تقنيات التعبيريين الجدد المتمثلة
في تأليفات مدرسة فيينا الثانية (شوينبيرغ، فيبَرن، بيرغ)، بل ظل
لصيقاً بالسلم الموسيقي المعهود.
من الغموض الرمزي إلى التعبيرية السوداء
(24/5/2002)
وضع الموسيقي الانطباعي الفرنسي كلود ديبوسيه (1862 ـ 1918) أوبراه
الوحيدة «بيلياس وميليساندة» عن عمل مسرحي للكاتب الرمزي البلجيكي
ميترلنك. اعجبته الايحاءات الضبابية الغائمة في هذه الحكاية حول البطلة
اللغز ميليساندة، التي يعثر عليها الأمير غولود في غابة. يتزوجها وفي
بيته تقع في حب أخيه بيلياس، الذي يقتله بفعل الغيرة.
موسيقى ديبوسيه هنا امتداد لموسيقاه في قصائده السيمفونية، ومشبعة
بتأثيرات فاغنر الايحائية. لا تعتمد على الألحان والاغنيات المستقلة
بالطريقة المألوفة لدى معاصريه: ماسينيه، فيردي، وبوتشيني، بل على
ايقاعات الكلام المحكي الممتد، الذي وضع قاعدته فاغنر، واصبح فيما بعد
قاعدة الدراما الموسيقية الحديثة.
خصائص هذا العمل المشبعة بالظلال والزوايا المعتمة والاسرار، المنعكسة
جميعا في الموسيقى، جعلها اهم أوبرا فرنسية دون منازع. صحيح انها
انتفعت من اسلوب فاغنر، ومن فكرته عن علاقة الحب بالموت (خاصة في أوبرا
تريستان وايزولدة)، إلا ان انطباعيته التي تلاشي الحدود اللحنية (كما
يلاشي الرسام الانطباعي الخطوط او الحدود اللونية) جديدة تماما.
الاقبال عليها من قبل قواد الاوركسترا والمغنين كثير، إلا انها تظل
عصية على الاستجابة الا لقائد اوركسترا يعرف سر بناء الدراما الداخلية،
وكيف ينمو الحدث النفسي الدفين، وإلا لمغن يحسن التمثيل الى جانب
الأداء الصوتي.
لهذه الأوبرا اكثر من اربعة عشر تسجيلا على الاسطوانة منذ عام 1941،
ولكن التسجيل الاخير الذي صدر عن
Naive،
تحت قيادة الالماني بيرنارد هايتنك، يعتبر انضج تقديم كاشف لكل ما فيها
من سحر اضاءة وظلال.
هذه الأوبرا هي النواة «الانطباعية» لحداثة القرن العشرين. هناك نواة
أخرى لهذه الحداثة «تعبيرية» الاتجاه جاءت من موروث الأوبرا الالمانية
هذه المرة على يد النمساوي ألبان بيرغ (1885 ـ 1935). والتعبيرية اكثر
اقترانا بموسيقى فاغنر، لأنها تلجأ الى النبش في المشاعر الداخلية
الخفية للانسان.
مثل ديبوسيه، وجد بيرغ مصدر إلهام في مسرحية شاهدها عام 1914 تحت عنوان
«فوتسيك» لرائد التعبيرية الأدبية جورج بوشنر (1813 ـ 1837) وهي تعتمد
قصة حقيقية لرجل مسحوق تحت ظروف نفسية واجتماعية يُدفع لقتل المرأة
التي احبها بفعل خيانتها.
بيرغ لم يلتزم، شأن استاذه التعبيري شوينبيرغ، بالسلم الموسيقي
المألوف، بل خرج عليه كما خرج على قاعدة الاغنية والهارموني واللحن،
لأنه مقاد بدافع التعبير عن التعارضات الداخلية التي لا تلتزم بقانون،
غير ملتفت الى زاوية النظر الجمالية والموضوعية القائمة.
تابع مشاهد المسرحية مستخدما فواصل موسيقية متنوعة بينها، معتمدا عنصر
التكثيف والتوتر في الموسيقى الأوركسترالية وفي الحوار الذي يتناوبه
الكلام والغناء.
هذه الأوبرا مقدمة رائعة للمستمع الذي يرغب بالتعرف على الأوبرا
الحديثة، والموسيقى الحديثة عامة. من أجل دربة الأذن على التنافرات
والتشويهات المقصودة في المسار اللحني من أجل مزيد من قوة التعبير عن
التوتر النفسي وكثافته الخليطة.
الاصدار الجديد رائع في الانجاز الأوركسترالي والاداء الغنائي تحت
قيادة الفنلندي ليف سيجيرستام، ورائع في السعر الذي لا يتجاوز
الباوندات العشرة لاسطوانتي
CD
مع كتيب فيه ملخص للنص ودراسة عن المؤلف والأوبرا. وهذا شأن كل اصدارات
دار Naxos
التي تجتاح سوق الموسيقى الكلاسيكية هذه الايام.
- Debussy: Pelleas and Melisande (Naive) -
Berg: Wozzeck (Naxos)
غرانادوس: موت المؤلف ساعة انتصاره
(11/1/2002)
الاسباني اينريك غرانادوس (1867 ـ 1916) رائع في كل المجموعة الموسيقية
الكبيرة التي بين يدي، فقد صدرت الاعمال الكاملة لآلة البيانو المنفرد
في اسطوانات ست عن شركة
Nimb us، مع عازف البيانو البريطاني مارتن
جونز، الذي اتحفنا عبر السنوات الماضية بأعمال البيانو الكاملة لكل من:
مندلسون، ديبوسيه، برامز، شيما نوفسكي، وسترافنسكي، كما صدرت له عن دار
ASV
اعمال اوركسترالية مع الصوت البشري سأعرض لها في ما بعد.
كان غرانادوس من كاتالان في الولادة، والنشأة من برشلونة، قد شغل نفسه
بالتأليف الموسيقي من دون مدرسة او معلم، وحقق سمعة حسنة مع اول عمل
ناضج على البيانو، وهو سلسلة من الرقصات الاسبانية، إلا ان الشهرة جاءت
مع تأليف اول اوبرا له تحت عنوان «ماريا ديل كارمن»، إلا ان الشهرة ظلت
محلية، حتى قادته موهبته على البيانو الى اوروبا في عام 1959، حيث بدأ
عملا على البيانو من فصول مستوحاة من لوحات فنانه الاسباني الأثير غويا
(1746 ـ 1828). واصبح هذا العمل مع الايام اهم تأليف له، حتى دفعه
الاعجاب العام به الى تأليف اوبرا بذات الاسم من مجموع الحانه، هذه
الاوبرا جعلته يعترف بأنه يمسك، ولأول مرة، بزمام وعيه الموسيقي
الناضج: «انني الآن ابدأ عملي» وهو محق، فهذا الانجاز مثل اعلى مراحل
النضج، ولم يتح لهذه الاوبرا ان تعرض في باريس عام 1914، بسبب اندلاع
الحرب الاولى. في 1916 عرضت في نيويورك واستقبلت بحماس من قبل الجمهور
الاميركي، حتى ان غرانادوس دعي الى هناك ليحضر العرض في البيت الابيض
الى جانب الرئيس الاميركي ويلسون. وفي نهاية عودته البحرية الى اوروبا
ضرب سفينته طوربيد معاد وهو في القناة الانجليزية، ومع ان مركبه وصل
الساحل بمعجزة إلا ان غرانادوس، وقد شاهد زوجته تصارع الأمواج، ورغم
خوفه من الماء، فضل العوم عائدا لانقاذها فما افلح، وغرقا معا.
كانت نهايته، مثل نهاية ابطال همنغواي، تتحقق في ذروة انتصاره.
ان تعلق غرانادوس بلوحات غويا، بحياة غويا، وبأبطال غويا يمثل نموذجا
رائعا لعلاقة الموسيقى بالرسم. في الموروث الموسيقي هناك امثلة شبيهة
نجدها في عمل مسورغسكي الشهير «صور من المعرض» وفي القصيدة السيمفونية
«جزيرة الموت» لرحمانينوف، التي استلهم فيها لوحة السويسري بوكلن. ولكن
غرانادوس يبدو الأشد تعلقا، فقد اطلق على عمله ذي المقطوعات السبع
«أعمال تشبه غويا» او «شباب عشاق»، والعناوين الفرعية: كلمات حب ـ
محادثة عبر الحاجز ـ رقصة المطبخ ـ مريضة الحب ـ الحب والموت ـ سريناد
الشبح ـ الرجل الفضلة.
اعمال البيانو الكاملة تتوزع مراحل غرانادوس الفنية الثلاث: الوطنية،
التي تشربت فيها موسيقاه بالروح المحلية، وخاصة الروح المدريدية، التي
سبق ان تشربت بروح لوحات غويا، هنا نسمع كثيرا من اصداء شوبان. ثم تأتي
المرحلة الوسطى الرومانتيكية، التي تألق فيها غرانادوس بفن الارتجال في
العزف والتأليف. ثم المرحلة الاخيرة، مرحلة تهيامه بغويا، هنا تتوهج
غنائيته وقدرته على الوصف التعبيري للناس في اسبانيا، بحيث تحولت هذه
الهواجس الدرامية الى مشروع اوبرا.
الساعات الست في هذه المجموعة الكاملة لبيانو غرانادوس، هي زمن لا
محدود من العذوبة والغنائية والرقص والتأمل والبحران في افق يتمتع
بخصائص اسبانية تكاد تكون غير اوروبية، نعم، هناك شوبان وشومان والكثير
من الموروث الاوروبي الشمالي، ولكن هناك الكثير من شمس المتوسط ايضا.
غرانادوس الف للاوركسترا الضخمة بضعة اعمال مهمة بين عامي 1895 و1910،
بقي اكثرها غير مكتمل، ولعل القصيدة السيمفونية «دانتي» ـ من اصدار
ASV
ـ من اهمها، انها من جزءين، الاول يصف رحلة دانتي الملحمية مع الشاعر
فيرجل، ذي الخبرة بالعالم الآخر، حيث الهوائيات الخشبية والابواق تأخذ
بيدنا بلحن عميق الهدوء يذكرنا بمفتتح اوبرا ديبوسيه الشهيرة، ثم يزداد
اللحن كثافة مع كثافة مناخ الجحيم في القسم الثاني، يروي العمل حكاية
حب باولو وفرانسيسكا وعذابهما بفعل ممارستهما الخطيئة. هنا ينتخب
المؤلف نصا شعريا من دانتي ويضع له لحنا تراجيديا على طبقة صوت ميتسو ـ
سوبرانو (تؤديه نانسي فابيولا هيريرا):
«أيها المخلوق الرقيق اللطيف، الذي تسير خلال الجو المعتم زائرا
إيّانا، نحن الذين خضبنا الارض بالدم لو كان ملك العالم صديقا لنا،
لضرعنا اليه من اجل سلامك لأنك تشفق على حظنا العاثر...» (عن ترجمة حسن
عثمان).
في هذا الاصدار عمل مستوحى من الموسيقى الاسبانية الشعبية وضعه المؤلف
في الاصل على آلة البيانو، ثم وزعه على الاوركسترا موسيقي من كاتالان
يدعى فيرير، وهناك جزءان صغيران مقتطعان من الاوبرا المستوحاة من اعمال
غويا، تنشد احدهما هذه المرة السوبرانو فرانسيس لوسي (بدور البطلة
العاشقة روزاريو):
«لم يغن العندليب لحنه المتناسق داخل الظلال» وهي تجلس في ركن حديقتها
مستوحية عواطف حب جديدة من صوت عندليب، في حين تعزف الجزء الثاني كقطعة
انترميتسو خالصة ـ تقدم عادة كفاصل موسيقي في الاوبرا ـ الاوركسترا هي
فيلها رمونك جزر الكناري تحت قيادة ادريان ليبر.
Granados: The Complete Piano Music (Nimbus).
Granados: Dante (ASV).
الموسيقي الإنجليزي: الخيط الرثائي الذي يتدفق دون عنت
(13/7/2001)
هناك ركن حميمي دافئ، وشبه عائلي في الموسيقى الانجليزية. نجده، إذا ما
احسنا البحث، في الأصوات الخافتة، التي لم تألف الأضواء ومشاغل الشهرة.
هذه الأصوات لك ان تنفرد بها آخر الليل، كما فعلت، لتصغي الى عناصر تلك
الحميمية: الخيط الرثائي الذي يتدفق دون عنت، وكأنه يصدر في غفلة عن
الرقباء. الرغبة اللحنية في استيحاء الأغنية الشعبية التلقائية. تنهدات
المتأمل بالمصير، تنويع غير ارضي على نص شعري.
ان السير ولفورد ديفيز (1869 ـ 1941) احد هذه الأصوات، فاجأتنا به دار
DUTTON
الانجليزية، وهي المعنية ببعث الموسيقى الانجليزية المعاصرة.. انني لم
اعثر على تعريف به حتى في «قاموس اوكسفورد للموسيقى»، فهو لصيق آلة
الأورغن، ولصيف الأفق الديني، وكلاهما فرديان يعمقان التواضع والرغبة
بالظل. بلغ النضج في مرحلة اول الفجر الذي انبأ بيقظة الموسيقى
الانجليزية على يد «الإلغار». وكل الأعمال التي وضعها من رباعيات وترية
ورباعيات بيانو وسيمفونية وسوناتات للفايولين لم تعزف، ولم تنشر في
مطبوع.
يقتصر هذا الاصدار على بضعة اعمال قصيرة له معظمها على آلة الأورغن،
واعمال اورغنية اخرى مهداة له من اصدقائه. وقد لا يتجاوز السبب حماس
عازف الأورغن روجر فيشر في تقديمها للناس، قبل ان ننعم بالأعمال
المنسية من موسيقى الغرفة.
من اروع هذه القطع عمل قصير (قرابة اربع دقائق) على الأورغن وآلة
التشلو، بعنوان «لحن مهيب». التشلو يحاول بتهدج ان يقول شيئاً ينطوي
على أسى دفين، يحيطه الأورغن مثل هواء برعاية المواسي، ثم فجأة ينطلق
اللحن على لسان كليهما معاً، يبدأ الأورغن ثم يلاحقه التشلو، الذي يحيل
تهدجه الى اغنية، او الى نشيد. ثم ينتهيان كما بدآ.
الأورغن سيد الآلات، لأنه قادر على الاحاطة الأوركسترالية. انه افقي
الصوت وعمودي حتى ليملأ كل مساحة ولا يترك فراغاً. ديفيز هنا اكثر
حميمية من ان يستثمر هذا الجانب. ولذا تبدو مقطوعاته أقرب الى اغنية
المبتهلة. العازف فيشر مطواع لهذه الحميمية.
«مارغوت رايت» (1911 ـ 2000) موسيقية انجليزية منسية ايضاً، تحاول
الدار بعثها الى الضوء. انها امرأة مليئة بالحنان والأمومة والحقيقة.
حميميتها دافئة، حزينة، وذات لمسة رثائية، ومجاورة لسحر الأغنية
الشعبية. وهذه خصائص شائعة في الموسيقى الانجليزية. فالسيدة «رايت»،
بالرغم من اهتمامها بالموجات الطليعية الاوروبية، وخاصة موسيقى
«سترافنسكي»، الا انها بقيت امينة لعالمها الانجليزي الخاص. قليلة
التأليف بسبب قلة المحفزات، امام موجات التجديد المتدافعة. ولذلك
انصرفت الى التعليم، فهي استاذة «بيانو» من الطراز الأول، ولكن على
حساب سمعتها كمؤلفة، وعلى حساب أعمالها.
تأثير الأغنية الفولكلورية يتضح في لحن الحركة الأولى من سوناتة
التشول، التي يبدأ بها هذا الاصدار. في الحركة الثانية حوار حي منفعل
بين آلتي التشلو والبيانو، وفي الثالثة مفتتح قلق عاطفي يقود الى اعادة
التنويع على لحن الحركة الاولى.
التأثير الشعبي يعود في العمل الثاني «اغنيات ثلاث مع آلة كلارينيت».
ولكن في اغنية، «لا تخشى ثانية حرارة الشمس» ـ عن قصيدة لشيكسبير ـ
تعود المؤلفة الى اللحن المعتم في سوناتة التشلو. ولقد وضعتها اواخر
عمرها. عمل آخر رائع الحزن، رائع الذاتية وضعته لآلة الكلارينيت
المنفرد تحت عنوان «ارتجال».
العمل الاخير والأكثر استثارة هو رباعية البيانو الوترية، وهو من اعمال
شبابها المبكر، حيوي ومشرب بالحس الفولكلوري في الحركة الاخيرة. ولكن
في الحركتين الاولى والثانية تغيم الدلالة تحت وشاح غامض لا تفارقه
الغنائية.
الانجليزي الثالث، الذي لا يقل حميمية، ولكنه يتسع لمؤثرات ابعد من
«بيرد» و«تاليس» الانجليزيين، ويتسع لخبرات تقنية عالية، هو «أدموند
روبرا» (1901 ـ 1986) بدأ في التلاثينات منسجماً مع نزعة «المدرسة
الرعوية الانجليزية»، ثم بدأ يطور اسلوبه باتجاه لا ينتمي لمرحلة او
لمدرسة. موسيقى خصائص لا زمنية، تعتمد لغة هارموني مجردة وفريدة.
اصدرت DUTTON
له اكثر من اسطوانة لأعماله في موسيقى الغرفة. وهذا الاصدار الاخير
يقتصر على كل اعماله للبيانو المنفرد. الأعمال قصيرة وعلى هيئة
مقطوعات، باستثناء الـ«سوناتينا» من ثلاث حركات، و«البرليودز». ان
تنوعه على هذه الآلة الغنية يحيط بالأزمنة جميعاً. فأنت حيناً تقرب من
فيوغات «باخ» وحيناً من انثوية «شوبان» وثالثة من تصوفية الموسيقي
والمفكر «سيريل سكوت»، ورابعة من عوالم الشرق (اليابان).. وفي جميعها
تصحب صوت «روبرا» الخاص.
آخر الأعمال تسع قطع تعليمية تؤديها الطفلة «دوسيك» وهي ابنة ميشيل
دوسيك، عازف البيانو في هذا الاصدار.
موسيقى ««أدموند روبرا» انجليزية، شأن السابقين، ولكنها لم تقرب
الموسيقى الفولكلورية، ولا الهاجس الرثائي، بل عنيت باختبار الآلة
وفنون التأليف من اجل استنفاد حدودها التعبيرية. العازف دوسيك حاول
ذلك، كما حاولت الفرقة الرباعية الوترية «كاميلي» مع موسيقى «مارغوت
رايت»، وكذلك المغني الميتسو ـ سوبرانو «راشيل آن مورغان»، وعازفة
الكلارينيت «نانسي بريثويت».
Walford: Solemn Melody (DUTTON) * Margot Wright:
Champer Music (DUTTON) * Rubbra: Piano Music (DUTTON)
*
أرنولد باكس: الإنجليزي الذي أشبع موسيقاه بالروح الآيرلندية
(18/5/2001)
مند احتفل عام 1983 بمئوية ميلاد الموسيقي الانجليزي آرنولد باكس (1883
ـ 1953) من قبل اذاعة
BBC،
كان التاريخ قد استدار تماما لصالح اسمه وموسيقاه. كان مثل عدد من
أبناء جيله، تحت غيمة داكنة من الغفلة، ثم دفعت المناسبة احدى دور
النشر لانجاز خمسة من أعماله السيمفونية، التي تبلغ السبعة، ونشرها على
الناس. وعلى الأثر أسست جمعية باسمه لرعاية تراثه وهو اليوم علم بين
الاعلام، وأعماله، خارج حقل السيمفونية الأكثر شيوعاً، تطل علينا كل
حين. آخر هذه الاطلالات أعماله في فن «سوناتة الفايولين»، وهي أربعة
أعمال، أغفلت الأولى المبكرة منها وصدرت الثلاثة عن دار
ASV
للعازفين روبرت جبس على الفايلوين، وماري مي ـ لوك وو على البيانو. كان
العازفان تلميذين في مدرسة يهودي مينوهين الشهيرة، ثم طورا عزفهما معاً
في حقل فن السوناتا الثنائي وبدآ تجوالهما في بريطانيا وخارجها (هونك
كونغ واليابان).
كان باكس ينتسب لعائلة على قدر من الثروة، وفي لندن بدأ دراسة
الموسيقى، في السنوات الخمس الأولى من مطلع القرن العشرين ، فبرع في
العزف على آلة البيانو، وفي ذات المرحلة اكتشف صوت الشاعر الايرلندي
بيتس، الذي حفزه لكتابة الشعر، وتشرب عميقا في داخله، حتى انه هجر
بلاده مأسوراً بالدفء الايرلندي: من مشهد الطبيعة، مرورا بمشهد
الابداع، حتى مشهد المشاعر الجمهورية الفوارة. ولم تكن تنقص باكس مشاعر
الحب التقليدية، فهو مولع بأكثر من امرأة لاحق احداهن حتى موسكو
(1910)، ولكنه رجع خائباً، ثم تزوج وأقام في دبلن وهناك حصل على شهرة
شاعر وكاتب قصص ومسرح. على ان نشاطه في التأليف الموسيقي لم يهدأ هو
الآخر، إلا انه لم يلفت الانظار. سافر الى ألمانيا، ولكن النزعة
الموسيقية الرومانتيكية الألمانية لم تصمد في داخله أمام موجة الموسيقى
الجديدة المضادة، التي جاءت من ديبوسيه ورافيل وسترافنسكي بلغتها
الجديدة إبان سنوات الحرب الأولى.
في العشرينات كانت سيمفونيته الثالثة هي الأكثر شعبية، وهي وحدها من
بين أعماله، التي سجلت على اسطوانة طوال حياته، على ان الرابعة
والسابعة وكونشيرتو الفايولين لا تقل عنها، إن لم تكن تفوقها عمقاً
وتأثيراً.
لقد عول باكس في شيوع موسيقاه، وموسيقى البيانو على الأخص، على عازفة
البيانو هاريت، التي أحبها وهجر من أجلها زوجته وأطفاله. ولكن هاريت،
حين فشلت في عزفها للعامة، احتفظت بها لنفسها وهكذا بقي باكس في ظل
الصمت.
ان بعث أعماله، وهي غزيرة، لن يتوقف. لقد بدأت الأعمال الأوركسترالية
(السيمفونيات والقصائد السيمفونية تتزاحم في السوق) تحت رضا الجمهور
الموسيقي ونقاد الموسيقى، وها هي أعماله من موسيقى الغرفة تطل علينا
بدءاً من هذا الاصدار الجديد، الذي سأعرض له.
إن فن السوناتا، ولا تشترك فيها عادة أكثر من آلتين، كان يعني في
المرحلة المبكرة كل عمل موسيقي لا يساهم فيه الصوت البشري، ولكن وجهه
الأكمل اتضح على يد هايدن، موتسارت وبيتهوفن، الذين أسلموه الى المرحلة
الرومانتيكية الحارة. ومنذ تلك المرحلة لم يخل مؤلف من مساهمة في هذا
الفن.
أحياناً يعكس هذا الفن من التأليف طبيعة أوتوبيوغرافية، فيكون مرآة
لحياة الفنان الشخصية. هذه الموجة خص بها الفرنسيون في مطلع القرن
العشرين، خاصة في عمل سيزار فرانك الرائد، ثم تابعها الانجليز، جون
آيرلند، إلغار وروبرا، ثم أرنولد باكس.
السوناتا الثانية، التي يبدأ بها هذا الاصدار، وضعها المؤلف عام 1915،
ثم أعاد تنقيحها عام 1921 وقدمت للجمهور عام 1922، وكان المؤلف على
البيانو، وهي في حركات أربع لا فواصل واضحة بينها، الحركة الثانية تحت
عنوان «راقص رمادي في المغيب» أو كما يحب المؤلف «رقصة الموت»، وهي
تشير الى حدث الاعدامات التي شملت رجال انتفاضة 1915 الايرلندية ضد
الانجليز وهذه أبرز جوانب التعبيرات الشخصية فيها. في السوناتا الثالثة
(1927)، وبعد مرحلة الاستقلال، يهوم ذات المناخ الايرلندي، مع تطلعات
لمناخ مطل جديد. كان باكس في هذه المرحلة يبدأ حباً جديداً، ولكن احتفظ
بسريته طوال حياته، مع عازفة للبيانو تدعى ماري غليفس. هذا الحب لم
ينعكس على السوناتا قدر انعكاس الألحان الراقصة الايرلندية، خاصة في
الحركة الثانية والأخيرة.
في السوناتا الرابعة (1928) يواصل ذات المناخ، ولكن بضرب من الهدوء
والاشراق والجو المفتوح الذي يذكر بفن السيرانيد. إن العنصر الغنائي
بارز في كل ألحان باكس، ولقد عبأ هذا العنصر بمادة فولكلورية ايرلندية
أحبها وانتمى لها، بالرغم من انجليزيته الخالصة، ولكنك تشعر بغنائية
هذه السوناتات على آلتي الفايولين والبيانو بطيئة وخفيضة وعلى شيء من
الدكنة، التي تمليها الروح المتأملة، وكم أعدت سماعها رغبة في التقاط
ذلك الحبل السري الغامض الذي يوصل الرقص بالألم، أو المباهج الطبيعية
بخيوط الكآبة التي تبين في الأفق مثل طيور مهاجرة.
وللذين لا عهد لهم بموسيقى ارنولد باكس لهم ان يتذكروا فيلم ديفيد لين
الشهير «أوليفر تويست»، فموسيقاه من تأليفه، وضعها أواخر حياته.
Arnold Bax: Three Violin Sonatas (ASV)
«كواكب» الانجليزي «هولست» من أفق الأوركسترا إلى أفق البيانو
(6/4/2001)
غوستاف هولست 1874 ـ 1974، الموسيقي الانجليزي يذكرني بشعراء الواحدة
في العربية، فهؤلاء ايضا وضعوا قصائد متناثرة لكنهم اشتهروا بانجاز
متميز واحد غطى على كل بقية انتاجهم وغمره النسيان تحت ظله.
كان هولست في التاسعة والثلاثين حين شرع بتأليف عمله الأوركسترالي
«الكواكب» ولم ينته منه إلا بعد سنوات سبع، وهو مثل الموسيقي الانجليزي
ايلغار، لم يحقق سمعة طيبة في الوسط الموسيقي إلا في متوسط عمره.
وهولست بعد عمله «الكواكب» لم يحقق عملا آخر بذات المستوى في النضج
والنجاح وهو في هذا يشبه ايلغار ايضا، مع ان الأخير يظل أضخم حجما
وأوسع تأثيرا.
تخرج هولست في الكلية الملكية للموسيقى عام 1898، واصبح مدرسا في
«مدرسة سانت بول للبنات» وظل كذلك الى آخر حياته وكان لمهنة التدريس
تأثير مهم في تطوره الموسيقي كمؤلف، فالمدرس بطبع العمل يحيط تلاميذه
كعائلة ويحيطهم بما يعرف ويأخذ منهم بالتأمل ثمرة استيعابهم وقدرات
فهمهم. كان هولست، في هذا معتزلا ولا يميل الى الشهرة ووطأة اضاءتها،
بل على العكس كان يجد في الفشل احيانا عاملا دافعا لتطور الفنان ولعل
هذا الجانب يشكل احدى خصائص موسيقاه المحددة، الميل الى اللحن الخفيف
المفاجئ، الخروج المفاجئ عن المقام الموسيقي (يذكر بالاميركي آيفز، وما
كان ليعرفه، وبشوينبيرغ)، الميل الى التجريب التقني، تأسيس قاعدة
للأوبرا الصغيرة (أوبرا الغرفة).. الخ.
من خصائصه ايضا ميله الى متابعة الموسيقى الشعبية، وهو ميل انتشر آنذاك
لاحياء هذا المصدر الملهم، وله الحان، من هذا الفن، مع الاوركسترا ثم
ميله المتميز للأدب السانسكريتي، ولقد وضع أعمالا اعتمد فيها نصوصا
شعرية رائعة من هذا الادب، لعل أشهرها وانضجها الأوبرا الصغيرة ذات
الفصل الواحد «سافيتري» المأخوذة من ملحمة «ماهابهراتا» الهندية
الشهيرة وله ايضا «ابتهالات كورالية من ريغ فيدا»، ولحن كورالي بمقاطع
من القصيدة الرائعة «رسول السحب» (تحدثت عن الاغنية الهندية فيها في
عدد سابق)، ثم حين باشر بوضع لمسات عمله «الكواكب» كان يطمح باستعمال
أوركسترا ضخمة جدا على طريقة الروسي سترافنسكي في باليهاته المبكرة.
وضع الجزء الأول من العمل عام 1914، قبل بدء حمى الحرب العالمية
الأولى، وكان هذا الجزء لكوكب المريخ، ومع ان الموسيقي لم يستلهم مادته
من الاسطورة الكلاسيكية، بل من عالم الكوكب ذاته، إلا ان روح الحرب
المريعة المقبلة تجسدت في موسيقى هذا الكوكب (وهو إله الحرب في
الاسطورة).
أما في الجزء الثاني «الزهرة» فقد صفا للحب والجمال، حيث يبدأ بنداء
بوق ناعم مع رشة باردة من الآلات الخشبية الهوائية. في الجزء الثالث
«عطارد»، الرسول المجنح، تتسارع الموسيقى راقصة بايقاع «السكيرتسو»
المضاء وتتصاعد مع «المشتري» جالب المباهج، كما يسميه المؤلف، ومع
«زحل» جالب الشيخوخة نبدأ بصوت الفلوت والقيثارة، رمزي عبور الزمن
البطيء، حيث خطوات المسنين بطيئة متعثرة عبر أصوات الوتريات والأوبو،
(وهذه الحركة احبهن الى المؤلف) بعدها ندخل عالم الساحر مع الكوكب
«أورانوس» وهو سابع الكواكب السيارة، حيث النداء الهادئ بآلات النحاس
يهيئ لحضور الساحر والرقصة الغرائبية على آلات الباسون، التي سرعان ما
تنتقل عدواها الى الأوركسترا كلها. وأخيرا كوكب «نبتون» إله البحر في
الاسطورة اليونانية.
هذا العمل، الذي أصبح اليوم أكثر من شعبي لكثرة الاصدارات فيه، وضعه
هولست أول مرة على آلة البيانو في خطوطه العريضة الأولى، وهو اجراء في
التأليف الموسيقي معتاد، ثم يكسوه أوركستراليا ولكن بعد وفاة المؤلف
بزمن عثر عازف البيانو «جون يورك» على مخطوطة في دولاب في مدرسة «سانت
بول للبنات» التي صرف فيها هولست حياته مدرسا، هذه المخطوطة هي لعمل
«الكواكب» ولكن على آلة البيانو، ولعازفين، وهو اجراء في التأليف معتاد
ايضا منذ زمن بيتهوفن وسيمفونياته، التي وضعت للبيانو من أجل العزف
العام، أو لعزف الطلبة الخاص.
هذه النسخة على البيانو لعمل «الكواكب» المعروف غير معروفة بالمرة،
يقدمها اليوم العازف «جون يورك» مع زوجته «فيونا يورك» عن دار
black box،
ولا شك ان الذي ألف عمل «هولست» الأوركسترالي يجد في متابعة اللحن هنا،
وقد تحول بيد سحرية الى خطوط لحنية تولدها اصابع اربع اياد على آلة
بيانو واحدة، متعة خاصة جدا، خاصة ان العازفين قد ملكا ناصية هذا الضرب
من الاداء في أعمال سابقة عدة قدماها للجمهور، مثل عمل «البحر»
لايبوسيه، وعمل «شعائر الربيع» لسترافنسكي.
في هذا الاصدار عدد من الاعمال القصيرة الاخرى الى جانب عمل «الكواكب»
وضعها هولست في ذات المدرسة، ولقد أهداها الى عدد من الشخصيات في حقل
عمله التدريسي، وهي متجانسة تماما مع أفق البيانو في عمل هولست الكبير.
* Holst: The Planets (black box)
أوبرا «حب البرتقالات الثلاث»
لبروكوفييف في تسجيل جديد
(16/2/2001)
قائد الاوركسترا الروسي فاليري جيرجييف مع فرقته
الشهيرة «كيروف» يواصل استكمال أوبرات بروكوفييف وتسجيلها على اسطوانات
شركة Philips
الألمانية، وسبق أن قدم «الحرب والسلام» و«المقامر» و«خطبة في دير»
و«سيميون كوتكو»، ولقد تحدثتُ عن العملين الأخيرين في حقلي هذا مشيراً
إلى رغبة بروكوفييف فيهما أن يحقق موقعاً موسيقياً في بلده بعد عودته
من منفاه الأميركي. ولكن سمعة المؤلف برزت قبل ذلك بكثير فقد استجاب
لدعوة المخرج الطليعي مايرهولد ـ قبل ثورة اكتوبر بفترة قصيرة ـ في
تأليف أوبرا عن نص قديم وضعه ارستقراطي من فينسيا يدعى غوزي عام 1761.
وكان هذا النص قد اقترحه الشاعر الشهير أبولينير. وهو مسرحية بعنوان
«حب البرتقالات الثلاث»، ذات طبيعة فانتازية. وهي تلتقي في لا واقعيتها
مع مطامح بروكوفييف الطليعية المجددة والمتأثرة بفورة «المستقبلية»
وشعارها المعروف «صفعة في وجه الذوق العام». حين غادر بروكوفييف بلده
بعد الثورة مباشرة، حاول العيش في اميركا كعازف ماهر على البيانو أول
الأمر، ولكن طموحه المتوقد دفعه لمحاولة التأليف الأوبرالي، الذي سبق
أن جربه في بلده. وبالرغم من أن سنوات بلده المضطربة لم توقف تدفق الفن
الطليعي والمحاولات التجريبية بعد، إلا أن أميركا أفق أكثر رحابة.
فباشر بوضع موسيقاه لمسرحية «حب البرتقالات الثلاث» وحقق لها عرضاً
ناجحاً، بعد عثرات، عام 1921، ثم بدأت سياحتها في أوروبا بعد أميركا،
حاملة اسم بروكوفييف مضاءً بالشهرة إلى بلده.
بروكوفييف (1891 ـ 1953) في هذا العمل الريادي سبق كل الاجتهادات التي
جاءت في ما بعد على يد بريشت، أو في «مسرح القسوة» أو «مسرح
اللامعقول». فالأوبرا أبعد ما تكون، في كل تفاصيلها، عن الواقع، تستخدم
شخصيات فانتازية، هزلية في عالم شبه رمزي يختلط فيه السحر وكائنات
الخرافة. وفي الجانب الموسيقي ألغى مادة «الأغنية» الأوبرالية المستقلة
التي تعتبر عماد الأوبرا في كل مراحلها السابقة، وفضل عليها الحوار
السريع الحيوي، الذي يلائم أحداثها الخيالية.
الحكاية تتحدث عن أمير معلول بوهم المرض، يتوسط طرفين، أحدهما معاد
يريد أن يسلبه سلطته، وآخر مدافع وراعٍ. وكلا الطرفين معزز بمساعدين من
السحرة والجن. واحد يغويه إلى الغرق في التراجيديا ليميته غماً وبكاءً
، وآخر إلى الكوميديا ليحييه بالضحك والتسلية. ثم يُدفع إلى البحث عن
حبه في البرتقالات الثلاث، إلى أن يحصل على واحدة تصبح زوجته بعد محن
غرائبية.
النص الشعري بسيط ولا يشغل الذهن والذائقة كثيراً. ولكن عماد الحيوية
على تسارع وتنوع وتداخل الاحداث التي لا تكاد تُفصل عن تسارع وتنوع
وتداخل الموسيقى، جعلت بروكوفييف يستبدل الكورس المعتاد بخمس مجموعات
تتجاذب التأثير في الأمير، هي «الكوميدية» و«التراجيدية» و«الغنائية»
و«الرأس الفارغ» و«الطور الغريب»، دون أن يترك كفة راجحة. فهو لا يريد
أن تنطوي الأوبرا على كثير من الدلالات وراء الظاهر الموسيقي ووراء
الظاهر الذي يمتع البصر حتى لحظات الحب لا يتركها تمتد بل سرعان ما
يفاجئها بارباك الكورس. هذا الهوس، بتحطيم قواعد العرف الموسيقي كان
شاغل بروكوفييف في هذه الأوبرا الرائدة بصورة خاصة. وهو أمر لم يُستقبل
برضا من قبل النقاد آنذاك. الا أن هذه الاوبرا ظلت الأكثر شعبية فهي
خفيفة الظل، وحيوية في بنائها الاوركسترالي الذي يخلو من الرتابة
والكليشية، والممتلئ بالمفاجآت.
قائد الأوركسترا «جيرجييف» إذن، يقدم أوبرا بروكوفييف الخامسة، وهي
الثانية في التسلسل التاريخي. بعد «المقامر» (عن رواية لدستويفسكي)،
التي كانت الأولى. ومع فرقته الروسية «كيروف» ومغنيه الروس، يبدو اليوم
أبرع من يملك أن يقدم لمحبي الأوبرا هذا التراث الروسي الأخاذ ولقد
سجلتها دار Philips
عن عرض حي قدمته الفرقة في مدينة امستردام.
عن أعمال البيانو المنفرد للروسي الآخر سكريابن كتب أحدهم يقول: انها
كانت الرائدة لـ «رؤى بروكوفييف الموسيقية الهاربة»، فلقد توفي سكريابن
عام 1915 ولم يتجاوز الثالثة والأربعين. وكان مثله طموحاً في تجريبيته
واختراقه القاعدة، ولكن باتجاه الدلالة السرية البعيدة الغامضة. الأمر
الذي لم يطمئن إليه بروكوفييف كثيراً. كان سكريابن، مثل بروكوفييف،
عازف بيانو ماهراً وكان مأخوذاً بالنزعة التصوفية، وطموحاً بتأليف
أعمال ضخمة كالعمل السيمفوني الذي لم يكمله (سبق أن صدر تحت اسم
«استعدادات للغموض الأخير» وتحدثنا عنه)، ولكنه رغم ميله للضخامة كان
سكريابن بطبيعته منمنماً ونساجاً للتأليفات الصغيرة، خاصة على آلة
البيانو. هذه القطع التي قال عنها أحد النقاد «أشبه بمنقار عصفور» شكلت
أروع جانب في تراثه الموسيقي، منها قطع في فن «السوناتا» وهي عشر، وفي
فن «أتيود» (24)، وفن برليود (85)، وبعض الفنون الأخرى.
عازف البيانو البريطاني بيرس لَيْن، وهو موسيقي وكاتب معروف اليوم، سبق
أن قدم (24 أتيود) عن دار
hyperion.
ونجاح محاولته مع «سكريابن» أثار حماسه وحماس الدار إلى تقديم كل أعمال
«البرليود» في اسطوانتين.
هذا الاسم، الذي يعني مفتتحاً، ظل مرتبطاً بفكرة تهيئة مزاج الجمهور
لاستقبال العمل الكبير حتى القرن التاسع عشر. ولكن بفضل شوبان
ورحمانينوف و ديبوسيه تحول هذا الفن الوسيط إلى فن قائم بذاته، منتفعاً
من فكرة الارتجال التي ظلت جوهرية فيه، بالمقارنة مع «السوناتا» التي
تعتمد معماراً صارماً.
أول «برليود» يبدأ عام 1889، يوم كان المؤلف في الرابعة والعشرين،
والأخير عام 1914، أي قبل وفاته بسنة واحدة. الأول لا يتجاوز 55 ثانية،
وهذا شأن كثير منها، وكأن سكريابن يحدق في حبة رمل، تلك التي رأى
الشاعر وليم بليك فيها العالم أجمع فهي تبدأ بلحن يشبه نداء بوق.
وكأنها تهيئة لدخول عالم مليء بالاسرار والمفاجآت تفلت من بين أصابع
العازف الماهر.
Prokofiev: Love For Three
Oranges (Philips) Scriabin: The Complete
Preludes (hyperion)
من يأخذنا أبعد: تناغم الرومانسية أم
تنافر الحداثة؟
(2/2/2001)
جورج اينيسكو (1881 ـ 1955)، كان من كبار العازفين على الفايولين، قائد
أوركسترا، ومؤلفاً موسيقياً. ولأنه من رومانيا، في أوروبا الشرقية، فقد
ظل الحاجز بين العالمين، حائلا دون التعرف على كل أعماله. ولقد سبق أن
قدمت عازفة الفايولين «إدا هاندل» مع السونلتا الثالثة للفايولين، التي
ألفها اينيسكو عام 1926. كانت إدا تلميذة له في باريس يوم كانت في
العاشرة من العمر، وكان هو في الخامسة والستين، وقد هجر وطنه ولم يعد
إليه. إن روح اينيسكو الرومانية، منعكسة في موسيقاه بصورة معلنة لا
بفعل دوام إقامته في وطنه، بل على العكس، بفعل حنين دائم إليه. لأن
اينيسكو بسبب موهبة العزف المبكرة (سن الرابعة)، بدأ دراسته في فيينا
ثم باريس بعدها. هناك نضج تحت تأثيرات برامز في الأولى وماسينيه وفوريه
في الثانية، حتى امتلأ انتساباً للروح الرومانسية. وعلى الرغم من
عودته، إلا أنه عاد إلى باريس بعد الحرب الثانية. وهناك مات.
دار Olympia
أعادت علينا عزف سوناتا الفايولين الثالثة، وهي اكثر أعمال اينيسكو
شهرة، وعملين: «حركة واحدة»، وهي ما تبقى من سوناتا وضعها عام 1911،
و«انطباعات طفولة»، وهي استعادات على الفايولين والبيانو، لأيام
الطفولة في عشرة مشاهد السوناتا الثالثة، وليدة مرحلة النضج، مشبعة
بالروح الفولكلوري. وعلى الرغم من كل التعارض، الذي نتوقعه بين المادة
الفولكلورية ولغة السوناتا، إلا أن اينيسكو استاذ ماهر، فلقد شغلنا
باللحن الروماني، الذي هو مزيج من أساليب رومانية، هنغارية، غجرية،
يهودية، وعربية، وبالمزاج التواق المليء بالحنين.
في «انطباعات طفولة» (1940)، نصغي إلى سلسلة من الذكريات الخاصة: في
الأولى (عازف الكمان الجوال)، الذي لقن اينيسكو العزف، كما يبدو، وهو
طفل، ثم «المستجدي العجوز» باللحن الحزين، ثم لحن «الساقية في مؤخرة
الحديقة» و«العصفور في القفص»، إلى أن نصل «ضوء القمر عبر النافذة»
وصوت «الريح في مدخنة البيت»، وصفير «العاصفة في الليل»، ثم «شروق
الشمس».
إن آلة «الفايولين» (العازفة آن سولومون)، هي الأساس في إعطاء الألوان
اللحنية المحاكية خاصة مع لون القمر وصوت الريح. والبيانو (العازف
دومينيك سوندرس) يملأ الفراغات ويشكل الخلفية، في هذه اللوحة المكتملة
ليوم من الطفولة موزع على مشاهد تختصر الطفولة كلها، من خارج البيت إلى
الإطلالة من البيت إلى الانسحاب الأخير إلى النوم.
في الاستماع إلى رباعيات موري شافير الوترية السبع، قفزة واسعة المسافة
في إحدى حواري الرومانتيكية المخلصين إلى أحد حواري الحداثة أو ما
بعدها، بصورة أدق. فالموسيقي الكندي شافير (مواليد 1933) بدأ مع
رباعيته الوترية الأولى عام 1970، وهي من حركة واحدة، تمتد لست عشرة
دقيقة بتلاحم الآلات الأربع (2 فايولين، فيولا وتشلو) في تواصل متناغم
شديد الكثافة، تعبيري لحد تصبح معه النشازات هي القاعدة. وكأن الموسيقى
تعود بنا إلى المادة الروحية أو العاطفية الخام في أعماقنا، إلى تلك
التي لا تحتمل التجزئ والتفصيل للداخل الإنساني، بل تحاول تقديمه كما
هو وقد سلطت عليه إضاءات للمعرفة والتقنية الحديثة. أنت لا تشعر مع
شافير أن هناك لعباً أو هستيريا ضاحكة، هناك حاسة درامية وتراجيدية
دائما، حتى عبر ما يبدو تأملاً حسابياً في ظواهر الحركة الطبيعية. في
الرباعية الثانية يحاول المؤلف أن يعكس في البنية والإيقاع ما رآه غير
متساوق في إيقاع الأمواج على الساحل الكندي. وفي الرباعية الثالثة، وهي
الوحيدة التي وضعها المؤلف في ثلاث حركات، القوة الدرامية تتولد عبر
مزيد من تعارضات الألحان، ثم فجأة يقحم عليك، في الحركة الثانية، أصوات
العازفين أنفسهم إلى جانب العزف. تعتعة إيقاعية خشنة، تكشف صفحة بدائية
من الأعماق، حتى لتبدو المقارنة مع رومانتيكية «اينيسكو» السابقة
مستحيلة. فأنت تصغي هنا إلى شيء جديد تماما، لكنها جدة ليست لذات الجدة
والادهاش، بل الموسيقي يقول لك، بصورة مقنعة تماما، إن هناك طيات في
اللاوعي وفي الأعماق لا يستطيع اللحن التقليدي ولا البناء التقليدي
الكشف عنها. في التنافرات وحدها وفي الاستجابة العفوية للحركة الدفينة
يمكن للموسيقى أن تبعثر الطيات لتفجير ذلك الأتون الدرامي المهتاج
الحاد أبداً. في الرباعية الرابعة نسمع صوت سوبرانو دخيل مع صوت
فايولين يقبلان من بعيد فيحيلان المحيط إلى عالم غير واقعي. وفي
الرباعية السابعة (1998)، يعود صوت السوبرانو مع الآلات الأربع بقصيدة
كتبتها امرأة من مرضى الشيزوفرينيا: «أعول إن شئت، تأوه وأصرخ/ حلق
وزوّم أيها اللهب المتفجر/ اطحن وامتد، قرّبنا أكثر». والرباعية لا
تحاول أن تأخذ مساراً شيزوفرينياً، فالفن الحقيقي لا يحاكي حالات الصحة
أو المرض، بل تنتفع وتولد جديدا.
الجديد هنا، أن أصوات الآلات الأربع ترتبط بألوان عزيزة على الرسام
الطليعي الكندي موليناري، الذي تسمّت الفرقة العازفة باسمه. اللون
الأحمر للفايولين الأول، الذي يمثل النار، والأزرق للثاني، الذي يمثل
الماء، والاخضر لآلة التشلو، التي تمثل روح الغاب، والأصفر للفيولا،
رمز الضوء، وصوت السوبرانو اللون الأبيض، لون النقاء (لون المستشفى
والمرض، ولون الموت لدى الصينيين القدامى).
إن حداثة مركبة هذا التركيب، الذي ينسج الواقع بالأسطورة والوعي
باللاوعي، لتبدو، مع الدربة المتواصلة، أقرب إلى الوعي وإلى المشاعر
وإلى الذائقة، إن فرقة «موليناري» الكندية (تأسست 1996)، معنية بموسيقى
القرن العشرين والواحد والعشرين، ولقد تبنت رباعيات هذا الموسيقي بصورة
متحمسة وتامة، حتى لكأنها مساهمة في التأليف.
Enescu.
lmpressions of Childhood (Olympia) Schafer:
String Quartets 1 - 7 (Atma)
18
«جينوفا» وموسيقى أحاديث الناس
(3/1/2003)
الأوبرا من أوروبا الشرقية لم تدخل أبهاء الغرب
إلا على مراحل وببطء، أحد أبرز مؤلفيها، التشيكي «ياناتشيك» (1854 ـ
1928)، لم يحقق موقعاً حتى في بلده إلا في مراحل عمره الأخيرة، على أنه
من بين رواد الأوبرا التشيكية (سميتينا ودفورجاك) أكثرهم انصرافاً إلى
هذا الفن، ولم يعرف له نشاط غيره إلا بصورة محدودة، قياساً إلى
السابقين وأعمالهم الأوركسترالية الشهيرة.
كان يناتشيك، ذو الوجه الطيب، التاسع من بين
ثلاثة عشر طفلاً لعائلة معلم فقيرة في شمال مورافيا. درس في عاصمتها
«برنو»، مدينة الروائي كونديرا، وقضى كل سني حياته فيها، باستثناء
مرحلة دراسة قصيرة غير موفقة في لايبزج وفيينا.
ولأن التراث الموسيقي الشعبي ظل أعمق عناصر
التحرر والحيوية للموسيقي الحديث في هذه البلدان، فإن «ياناتشيك» انصرف
لتجميع الألحان الشعبية، حتى اجتمعت بين يديه قرابة عشرة آلاف أغنية،
أثرت عميقاً في أسلوبه، خاصة الألحان القصيرة التي تجد أثرها في
موسيقاه الأوركسترالية. وكذلك «ألحان الحديث اليومي للناس»، الذي تجد
أثره في موسيقاه الدرامية. يقول إنه كان يتنصت سراً على أحاديث
العابرين، ويقرأ تعبيرات وجوههم، ويقبض على كل ذبذبة من أصواتهم،
الانعكاس الذي يحسه في لحن الكلمة، فكم من تنويعات لحنية في الكلمة
الواحدة كان يجد! لقد اكتشف في ألحان الحديث اليومي شيئاً أصيلاً
وغريباً في آن، انها تنطوي على تغيرات داخلية بين المباهج والأحزان،
حاولها بصورة رائعة في ثالث أوبرا له، وأول نجاح وضعه على طريق المجد،
وهي أوبرا «جينوفا»، التي أخذها عن عمل مسرحي معروف لـ «غابرييلا
بريسوما».
انها الأوبرا الوحيدة، من بين الأوبرات الأربع
الناجحة، التي لم يستوحها من علاقة حبه الأخيرة مع المتزوجة «كاميلا»،
التي تبلغ نصف سنوات عمره. كان «ياناتشيك» قد تزوج أول مرة من طالبة له
تصغره بعشر سنوات، ولم يكن زواجاً ناجحاً، ثم تعلق بمغنية أوبرا لم
تحقق إشباعاً. وفي العقد الأخير من حياته، تعلق بكاميلا، التي لم
تبادله ذات العاطفة، وكتب لها أكثر من 700 رسالة حب (نشرت مترجمة
للانجليزية)، واستوحى منها بطلات أوبراته: «كاتا كابانوفا»، «الثعلبة
الصغيرة الماكرة»، و«حادثة ماكروبولوس».
أوبرا «جينوفا»، التي صدرت عن دار
Erato
تحت قيادة الألماني فيرنارد هايتنك لكورس وأوركسترا دار الأوبرا في
الكوفن غاردن، مفعمة بالدراما وكثافة المشاعر. احتفظ «ياناتشيك» بالنص
النثري، كما تجنب اعتماد الأغنيات المنفردة لصالح الأغنية المتواصلة.
ثلاثة فصول متراصة من الانفعال لا تترك لك لحظة لغفلة عائلة فلاحية ـ
شأن كل أبطال «ياناتشيك» ـ وفيها تتعلق جينوفا بحب رجل غادر، ومنه تنجب
طفل خطيئة تحاول أمها التخلص منه بادعاء موته، ولكنها تقتله عمداً
بالسر. وبعد انهيارات آمال تستسلم البطلة لحب قريب كانت ترفضه، واذ يتم
مشروع الزواج بسلام أو يكاد حتى يقبل الناس هائجين وفي أيديهم جثة طفل
وجد مطموراً بالثلج.
هنا نجد أكثر من عنصر يجعل أوبرا «ياناتشيك»
حديثة، خاصة من ناحية المعالجة النفسية لأبطاله، في المنحى الموسيقي
ومنحى الأفكار. أما التأثير الفولكلوري، فقد أغنى الألحان بالجانب
الغنائي الذي لا يمل. على أن هناك عاملاً مؤثراً آخر من حياة المؤلف
الشخصية. فالأوبرا أُلفت تحت ظل مرض وموت ابنته أولغا، وهي في العشرين
من عمرها، ولقد أهداها لها، كما فقد ابناً صغيراً قبل ذلك أيضاً.
|