|
|||||||
الصوت الناصع
(عن البريكان وشعره)
عبد الكريم كاصد
يكون الأمر قد تمّ وهل للموت تبرير؟
لم الحظ أيّ توتّر أو شعور بالملل رافق عزلته هذه وإذا كان تسكّعه في بغداد وليد رتابة ما في حياة اعتيادية لمثقف عراقيّ، فإنّ تسكّعه في البصرة هو أقرب إلى النزهة منها إلى الشعور الحاد برتابة الحياة. وأودّ أن أقول هنا لهؤلاء الذي يبحثون في تفصيلات حياته عن معنى لإضاءة شعره إنهم لن يعثروا على ما يسعفهم في فهم هذا الشعر أو اكتشاف ما وراءه من قيم شعريّة كبيرة لانّ البريكان ليس من هؤلاء الشعراء الذين نجد لديهم ذلك الفاصل الكبير بين حياتهم وشعرهم.
لعلّ الحدث الكبير في حياته هو مقتله الذي سيهب مجرى حياة البريكان
توتّراً لن ينتهي صداه أمداً طويلاً، مضيفاً إلى شعره وحياته غموضاً
وتطابقاً آخر بعد أن تطابقا من قبل. يقول البريكان في قصيدة له عن الحرية: دعوتموني لاكتشاف قارة أخرى/وأنكرتم عليّ رؤية الخريطة/ أودّ أن أبحر في سفينتي البسيطة/ فإن تلاقينا تحسن الذكرى. جئتم بوجهٍ آخر جديد/ حسب المقاييس المثاليهْ/ شكراً لكم لا أشتهي عيناً زجاجيّهْ/ فماً من المطاط/ لا أبتغي إزالة الفرق. ولا أريد/ سعادة التماثل الكامل/ شكراً لكم. دعوه يبقى ذلك الفاصل/ أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد
إن المسافة التي يشير إليها البريكان في هذه القصيدة ليست هي المسافة
الفاصلة بين العبد وسيّده، ولا مسافة الإنسان المتفوق، بل هي تلك
المسافة المنبعثة عن رغبته العميقة في النأي عن سعادة التماثل الكامل
التي كان ثمنها فادحاً للكثيرين: العيون الزجاجية، والأفواه المطاط،
والأضواء البرّاقة المعشية للأبصار.
وقد ساعده في ذلك قدرته على المزج بين الإحساس والفكرة، إذ من الصعب، في شعر البريكان ، أن تفصل الإحساس عن الفكرة أو الفكرة عن الإحساس، فوراء كل إحساس مهما صغر ثمّة فكرة، ووراء كل فكرة مهما عظمت ثمّة إحساس متجّسد:
وهنا لابدّ من الإشارة إلى ما ينفرد به البريكان من عمق فكرةٍ، وجلاء أسلوب ما جعل شعره ذا طبقات عديدة، كالآثار الكلاسيكية، بالنسبة إلى قرائها المختلفين. لقد ساعدت الفكرة في شعره على تحديد الشكل، مثلما ساعد جلاء الأسلوب في مدّ الفكرة بالظلال والإيحاء، وهذا على النقيض مما يُكتب في هذه الأيام من شعرٍ يتّصف أغلبه بتسطح الفكرة وتعقّد الأسلوب ، لذلك يبدو البريكان غريباً لكثير من شعراء الأجيال الأخرى المعنية بالكلمات التي تعني كلّ شئ ولا تعني شيئاً. لعلّ شعراء قليلين في شعرنا العربيّ استطاعوا أن يجمعوا بين عمق الفكرة ووضوحها، دون أن يفقد شعرهم قدرته على الإيحاء بما يتجاوز الفكرة نفسها. وإذا كان أسلوب البريكان يبدو مهلهلاً أحياناً في جزء منه، فما ذلك إلاّ تعبيرٌ عن موقف البريكان من بلاغة معينة وسعي لتقريب لغة الشعر من الحياة اليومية، بعد أن جفّ نسغها على أيدي صنّاع الشعر: ثمّ إلى العمل/ يمضي على عجل
إنّ هذين البيتين يبدوان عاديّين تماماً لكنّهما ليسا كذلك في صلب
القصيدة وبنائها الأساسيّ. قد يستخدم البريكان أكثر من وزن في القصيدة،
وقد يخرج على الوزن، أو يستخدم ما هو عاديّ من الكلام ولكنّه في كلّ
ذلك يبقى الشاعر الماهر الذي يخفي صنعته، في حين يتباهى الكثير من
الشعراء في إبداء صنعتهم التي يجد فيها النقّاد مادة للحديث في ما لا
يفيد الشعر. وبدلاً من أن ينهمك النقد في الكشف عن هذه القيم الشعرية
في شعر البريكان، نراه يؤكد على قيمة واحدة هي عزلة البريكان أي القيمة
الحياتية لا الشعرية، وانقطاعه عن النشر وهو الذي نشر عشرات القصائد
التي تدلّ على تفرّده، دون أن يدرك هذا النقد أنّ هذه العزلة قابلتها
شمولية في الرؤية ورحابة في الفكرة ندرتا في شعرنا العربيّ، ممّا
يدفعنا إلى البحث عن القدرة على الاستبصارلدى شاعر مثل البريكان وقدرته
الكبيرة على التخيّل. وعلاقة هذا الاستبصار وهذا التخيّل بواقعه في
كليّته. وليس بواقع عزلته المحدودة وشخصيته الاجتماعية التي تبدو أقرب
إلى الإذعان منها إلى التمرّد الذي نلمسه في شعره. وفي هذا مفارقة
للنقد المهموم بتفصيلاته الحياتيّة. كذلك قد ينهمك النقد في البحث عن
موقعه الشعريّ بين شعراء جيله وفي ذلك إضرارللشعر والنقد معاً، لأنّ
البحث عن المواقع في الإبداع ينتمي إلى عصور طبقات الشعراء ونقّادهم.
إنه الشاعر الذي انتمي إلى وحدته ومدّ جذرها إلى ما يجعلها شجرة تظلل
الأشياء والناس بأفيائها.
من جهة أخرى، ينكر البريكان على الذات، أيّا كانت عادية أم غير عادية،
نزوعها إلى تشكيل العالم كما تريد. ونظرتها إلى تماثله لا إلى غناه
وتنوعه وحياته الخبيئة حتى في أصغر كائناته وأبعدها عن الحياة. وقد
تتمثل هذه الذات في اليد التي تسحب الطفل إلى الداخل، أي في أدنى
تجلياتها كما في قصيدة (نافذة للطفولة):
أو تتمثل في اليد التي تمارس التعذيب، أي في أبشع تجلياتها وأشدها
تدميراً:
هذه الرؤية هي التي منحت شعره هذا الامتداد وذلك العمق الإنساني النادر
الذي غمر بحنانه الموجودات صغيرها وكبيرها. لنقرأ هذا المقطع المليء
بالحنان لـ (صخرة في المحطة):
وقد يتجسد هذا الحنو بأشكال أخرى عبر هاجس الشاعر القلق على مصير
الموجودات المهدّدة بالتدمير، كما يتجلى ذلك في قصيدة «رحلة قرد»، حيث
لا يعرف القرد شيئاً عن موته في المختبر المسوق إليه: ولعلّ هاجس التدمير ظلّ يسكنه في معظم القصائد التي نشرها أخيراً. في متاهة الفراشة تنجذب الفراشة إلى نبضات نيون مصنع ضخم فتلقى حتفها: لمحت فجوةً وانعكاساً من الضوء/ فانجذبت نحوه/ سقطت وسط هاويةٍ معتمه/ ......../ رأت نفسها في الهواء/ بنصف جناحٍ/ ونصف جسد/ ولم تستطع أن تحرك أطرافها/ ولم ترتعش غير ظلّ ارتعاشهْ/ وكانت هناك/ على الأرض تزحف،/ نصف فراشه ويمكننا قول ذلك عن الموجودات الأخرى في بقية قصائده: فالسفينة: راسية بجوار الرصيف/ تستقرّ بهيكلها المتآكل/ تخفي بداخلها صدأ الأزمنه والنسر: يتسمّر بين الطيور المحنّطة الساكنه وجواد السباق الأصيل: يسحب جثته داخل الطرق المتربهْ والنافذة تُغلق: كأنما لآخر الزمن/ ومثلما يغلق تابوت إلى الأبد والغرف: تتحجّر فيها ساعات الحائط/ وتلوح عقاربها/ ساكنة منذ عصور موجودات هي عرضة للتدمير. ولم يكن الشاعر بمعزل عن هذا المصير الذي تنبأ به للأشياء وقد شارك الموجودات حيواتها وسكنه هاجس الموت: على الباب نقرٌ خفيف/ على الباب نقرٌ بصوتٍ خفيض ولكن شديد الوضوح/ يعاود ليلاً. أراقبه. أتوقّعه ليلةً بعد ليله/ أصيح إليه بإيقاعه المتماثل/ يعلو قليلاً قليلاً/ ويخفت/ أفتح بابي / وليس هناك أحد ولكن أكان يدور في خلده حقّاً أنّه سيكون يوماً عرضةً للتدمير أيضاً؟
زيارة إلى قبر البريكان
قلتُ وقد طالعني شبحٌ: "كفنٌ أم ثوبٌ ابيضُ ما تلبسُ يا محمود؟ " كان هنالك غيمٌ (مع أنّ الفصلَ هو الصيف) وظلالٌ تجلسُ مطرقةً كنساء يندبنَ وتاجٌ من شوكٍ تصبغهُ شمسكَ تلك البردانة، كم تنزف! كم ينزف هذا الشبحُ الواقف هل أدعوهُ لندخل ذاك المَغسَل عند البوّابة ؟ (ما أشبهَ أحجارَهُ بخلية نحل!) ليزيل اللطخة عن ثوبه، يصحبنا الدفّان بدرّاجته المدفوعة بين الأشجار وكوفيته البيضاء
حين وصلنا طرف المقبرة استيقظت الصحراء ومضت تحمل فوق ظهور الإبْل مقابرها
البصرة - حزيران 2007
|
|
||||||
|