|
|||||||
الهجين الأمريكي
في عام 1994، أصدرت دار نورتُن للنشر مختارات ضخمة من شعر مابعد الحداثةالأمريكي. عرضتُ الكتاب في حينه، وأوجزتُ خصائص مابعد هذه الحداثة الشعرية بما تبدو اليوم لصيقة بالشعر الأمريكي جملة. ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وكأنها، بإعلانها تفكيكية التعبير، نذير لضياع الفردية في المجتمع الاستهلاكي. معلنةً عبر قصائدها مقاومةَ السائد بكل تياراته، مُنكرة غياب شخصية الشاعر في النص الشعري، الذي وطّده تي. أس. أليوت. عامدة إلى نزعة الارتجال في تدفق الكلام، وغير مكترثة بقيمة الكلمة بإزاء انتصار وسائل الاتصال الضخمة. حتى لتنتصر للكلمة المفرغة من الدلالة، على حساب الكلمة التي تطمع بمعنى في ما وراء الظاهر. إنها تشجع زاوية النظر متعددة الأوجه، وترغب بالسؤال النقدي: كيف كُتب النص؟ على سؤال: ماذا يعني النص؟ هذا الأمر حدث في القارة الأمريكية وحدها. ثم زحف تأثيره فيما بعد على عموم الغرب والعالم. أسوة بكل قوى الأمركة التي لا مرد لها. الشاعر الأمريكي يعيش وسط دوامة إشباع معرفي. بل اختناق معرفي، وسطوة عقلية بالغة القوة. الشاعر الأمريكي يضيق بما يراه إجابات عقلية، وعلمية جاهزة. وتُقلقه الأسئلة التي تتجاوز مدار العقل. وحين يقنع بعجز اللغة في التوصيل، وتبدو المعاني مثار شكوكه، يتعامل مع اللغة كغاية في ذاتها. حتى الشاعر الأوربي لم يبلغ هذا القدر من الحصار. ولكن زحف التأثير الأمريكي العالمي له أسراره. وإذا ما طوى بجناحه الفيلم الهندي، والمصري، فلمَ لا يبعثر بذيله الشعرَ، والرسم، والموسيقى؟ ولقد تم له ذلك مع الشعر، ونقد الشعر العربيين بصورة مثير للرثاء. المفترض أن الشاعر العربي، وناقده، لا يسعيان إلى إرباك اللغة بالدافع ذاته، وبالطريقة ذاتها. فهو لا يعيش هذا الاختناق المعرفي، وسطوة العقل البالغة. بل هو، على العكس، أحوج ما يكون إلى الأناة والصبر، والسعي إلى إغناء لغته الشعرية بكل عطايا المعرفة، والعقل. ولا أنكر أن هذا تم بتوازن مع أصوات شعرية، من الأجيال الأولى لحداثتنا. ولكني لا أنكر أن هذه الأصوات كانت قليلة، بل نادرة. حتى طمر الجناح الأمريكي كل شيء. معظم الذين ادعوا استلهام العبقرية النقدية الفرنسية، إنما استلهموها، في الواقع، بعد هجرتها إلى أمريكا. أو بعد أن وفرت لها أمريكا القاعدة العالمية الرحبة. ولأن المرحلة العربية المتردية ثقافياً وعقلياً، بلغت هذا المستوى الذي لا يختلف فيه اثنان، فمن الطبيعي أن تضعف الموهبة، ومن الطبيعي أن تعوّض بالتكاثر المفرط. وهذا ما حدث. الموهبة الجيدة قد تؤخذ بمرصعات الظاهر. ولكنها تظل نائية عن الاستجابة، حتى لو عاشت في قلب القارة الأمريكية. ولدي في الشاعر العراقي الراحل سركون بولص عينة ممتازة. فهو موهبة رائعة لا أشك في ذلك. وعاشت نصف حياتها المنتجة في سان فرانسيسكو، وعقدت صداقات مع أبطال التيارات الشعرية مابعد الحداثية المتزاحمة (راجع الحوار الطويل معه في مجلة "اللحظة الشعرية"، العدد 15). وكانت مأخوذة بها، منتصرة لها. ولكن هذه الجاذبية، فيما أرى وأعتقد، خارجية، وظاهرية. فقصيدته، لمن تابعها، لم تتأثر بواحدة من تلك العناصر التي أشرت إليها، أو تستجب لها. بل على العكس تماماً. فقصيدته تنطوي بحرص على الإرث الذي حفر مجرى القصيدة العربية الحديثة، منذ مرحلة الرواد، حتى اليوم. حتى لتنطوي بحرص على مذاق عراقيتها خاصة. دار "نورتون" تصدر من جديد، هذه الأيام، إنثولوجيا شعرية ضخمة تحت عنوان يقترح مرحلةً جديدة للشعر الأمريكي: "الهجين الأمريكي". فقد قطعت مرحلة ما بعد الحداثة الشعرية شوطها كفاية. وتراخت عناصرها، بل تلاشى أكثرها تحت وقع الأجناس الخليط، واللغات الخليط، والثقافات الخليط، ومن ثم المزاج الشعري الهجين، المتولد من كل ذلك. ولذلك جاء مقترح هذا الإسم، من قبل محرريْ المختارات سي. سوينسِن، و دي. جون، مثيراً ومؤثراً في آن. فهل نتوقع من أجيالنا الشعرية استجابتها الهجينة؟
|
|
||||||
|