|
|||||||
في لوديف
كنتُ في لوديف، حيث يُقيم الفرنسيون مهرجاناً شعرياً متوسطياً. المدينة صغيرة، يقطعها نهيرٌ، وتطل عليها مرتفعاتٌ جبلية عميقةُ الخضرة. وأكثريةُ ساكنيها من عرب الشمال الأفريقي. ولا يحسن العربية منهم إلا كبار السن. وهي على مقربة من مونتبلييه، مدينة "المقبرة البحرية"، التي اكتسبت سمعتها من قصيدة الشاعر فاليري. المهرجان الشعري الموسيقي امتد لأيام عشر. وبرامجه اليومية عالية الزحمة، من العاشرة صباحاً حتى الواحدة بعد منتصف الليل. لا يفلتُ منها جهدٌ لشاعر في كل يوم، بين قراءةٍ شعرية، أو حوارٍ بشأن الشعر. تقعُ على هذا النشاط في كل ركنٍ ملائمٍ من أركانِ شوارع وأحياء المدينة الصغيرة. والناسُ تحتفل وتنتفع، والشعراءُ في شاغل من أمرهم، يسرعون أبداً بحثاً عن أماكن نشاطهم المرتقب. وعادةً ما يقعون عليه متأخرين، لأن أحداً من أبناء المدينة لم يألفْ أسماء العناوين المرقومة على خارطة المهرجان، المُعَدةِ بأناقة. ولذا فإن المواطن عادةً ما يبدو أكثرَ حيرةً من الشاعر السائل. الشعرُ الفرنسي المُلقى في المهرجان لا يعرف سرَّه إلا الفرنسيون. لأنه لم يُترجم للغات المشتركين الأجانب بالتأكيد. وكذلك العربي، والمالطي، والتركي، والاسباني، والعبري، واليوناني، الذي تُرجم بدوره إلى الفرنسية وحدها. وهذه هي حدود الممكن. صاحبي الشاعر الإنكليزي الذي يُقيم في ريف لوديف منذ عشرين سنة، والذي يُحسن الفرنسيةَ كأبنائها، عادةً ما كان يتكفّل بإبلاغي بأن "معظم الشعر الفرنسي المُلقى: مُتقن الصنع، وخالٍ من المعنى". وهو يطرب للشعر العربي، وشعراء المتوسط البعيدين قليلاً عن مؤثرات نزعة الشعر اللغوي، التي طلعت من أحياء باريس، والتهبت في أمريكا، ثم عادت لتشمل عموم أوربا. وأنا تام القناعة بهذا. على أني لمْ أُخفِ عن صاحبي الإنكليزي موقفي من الشعر العربي هذه الأيام، والذي خفّ، منذ سمع بما بعد الحداثة الغربية، فسبق الحداثةَ، وعبرها بخفّة طائر، حتى أصبح أكثر طليعية من الغربيين. ترجمةُ النصوص العربية إلى الفرنسية كانت متعجلةً تماماً، تمت في اليومين السابقين للمهرجان. وكنت أرى نشاطها متواصلاً في غمرة المهرجان أيضاً. فالقصائدُ المترجمة كانت محدودة، قياساً بعدد مشاركات الشعراء الكثيرة. الأمر ُالذي اضطر الجميعَ إلى تكرار قراءة قصائدهم في كل يوم، مُعزّين النفس باختلاف جمهور اليوم عن جمهور البارحة. ولذا استعان بعضُهم بزملائهم، ممن يُحسنون اللغة الفرنسية، في ترجمة قصائد إضافية بخفة يد ملائمة. معظمُ الشعراء العرب المشاركين هم من جيل الثمانينيات وما تلاها. بينهم أربع شاعرات كنّ يمنحن للمجموعة العربية حميميةَ العائلة الواحدة. أحسبُ أني وقعتُ، من بين الجميع الذين يكتبون قصيدة النثر، على استثناء فلسطيني يواصل كتابةَ القصيدة الموزونة. ولقد عزّزتْ ثقلَ القصيدة اليتيمة الأمسيةُ التي أُقيمت تكريماً لذكرى الشاعر الراحل محمود درويش. كنت وعدت بالمشاركة في قراءة قصيدة انتخبتها له، ولكن ارتباك صحتي حال دون ذلك. التظاهرة التي اعتمدت الشعرَ والموسيقى وسيلةً لانتشال المدينة الصغيرة من الغفلة والنسيان، لم تكن متعافيةً بصورة تامة. وهذا أمر مُتوقع في كل مهرجان بهذه السعة. ولكن الأمر الذي لم يكن متوقعاً أن يجد كلُّ واحد منا سمعةَ المطبخ الفرنسي وهماً لا صحة له. فوجباتُ الطعام في النهار والعشية كانت في غاية الرداءة. مشهدُ طابورنا وهو يستلم الصحنَ الكارتوني بالخلطة السريعة تُذكر بطوابير معسكرات الاعتقال. وجبةُ العشاء كانت أخفَّ وطأة، بفعل شاغل الموسيقى المهرجانية المحيطة. والنفرُ القليل من المقتدرين يفضلون الذهاب إلى المطاعم، رغم غلاء الأسعار. في متحف المدينة، الذي يتوسط مركزَ المهرجان، كان المعرض المُقام للرسام الفرنسي الانطباعي بيير بونار (1867-1947) أجملَ هدية شخصيةٍ أستلمتها من هذه المناسبة. سبق أن رأيت لوحات متفرقة لبونار في لندن، وخبرت لوحته عبر الكتب الفنية، ولكن هذا المعرض، بفعل اتساعه، كان فرصة نادرة. بونار يرسم كما ترسم الطبيعة، وكما يرسم القلب الإنساني، لو أُتيح للقلب أن يرسم. تأملت كيف كان يرسم دون أن يترك للفرشاة أثراً في أول شبابه. وكيف اتضحت الفرشاة في وسط شبابه. ثم كيف صارت الفرشاة تترك كتل اللون ظاهرةً، بارزةً على سطح الكانفس.
|
|
||||||
|