|
|||||||
متاهةُ المينوتور!
المعرض الفني الذي رأيته قبل أسبوع شغلني في تسؤلات وحيرات، لم أكن في غنى عنها، بل في حاجةٍ إليها. فتيارات الفن التي تطلع علينا كل يوم، تضع ذائقتنا ووعينا في اختبار دائم الفعالية. ولأني عودتُ النفسَ على التريّث في الاستجابة، وعلى الاحتفاظ بمسافة من التشكك والريبة، بيني وبين ما تلقيه عليّ فورةُ الحياة الفنية الحديثة، صرتُ أتابعُ القراءات النقدية لهذه الأنشطة في الصحف والمجلات، وأُحاورُ الشعراءَ والكتاب المقربين ممن أعرف من الانكليز. وأتكلّفُ هذا الحوار، لأن هؤلاء أبناء حضارة أُقيمُ تحت ظلها، لا فيها. ولن أبرح مقعد التلميذ في بهوها العامر ما حييت. ولعل هذا الفارق ما بيننا يُتيح فرصةً لمعرفة ينبوع ذائقتي وذائقتهم. ومُستقر حاجتي وحاجتهم. في هذا العرض الفني، الذي خرج من موطن أسرار هم ألصق بها مني. على أن كلينا يطمع بثمار غنية المذاق، من هذا الفن الذي نفترض فيه فاعليةً باتجاه الإنسان، حيث ينتسب، وحيث يكون. حين يحدث عرضٌ كبير لفن من الشرق العربي، الفارسي، الهندي أو الصيني، في لندن، لا تحتبس الدهشةُ والعُجب في كيان المشاهد الغربي. المثقفون ممن أعرف يُكثرون من الأسئلة، ولكنهم يُكثرون من الاجتهادات في رؤية القوى العفوية التي تتملك الحواس، والشمولية المحيطة بالظاهر وما وراء الظاهر، الكامنة في هذا الفن. ولا يكبحون الرغبة في اتهام حياتهم الحديثة بالتقصير، بفعل الاستجابة غير المشروطة للبحث المتسارع عن أي جديد، وبأي ثمن. أشعر أن إقبالهم على فن الشرق، الذي أنتسبُ إليه، يختلف، إنْ لم يكن يتعارض، مع إقبالي على فن الغرب، الذي ينتسبون إليه. هم إقبالُهم احتضانيّ، وإقبالي ارتيابي. والسبب لدي واضح، ومشروع. فهم، بحضارتهم المتفوقة، اكتشفوا أنفسهم، وتحرروا من مخاوف نقد النفس وتعريتها. وأسهموا، بالتالي، في اكتشافي لنفسي. وأنا بتطلّعي إليهم، المتوجّس من اكتشاف النفس، أفتقد إلى عددٍ من المفاتيح لاستيعاب حضارتهم، التي أصبحت كونية. هم، بالتالي، يُقبلون على لوحتي الشرقية باحتضان المُكتشف الذي رحُب أفقُه. وأُقبل على لوحتهم، إن بقيت لوحةً، بتردد من يختبر الطريق. خواطر كهذه لا تفارقُ وعيي، كلما شاهدت عرضاً فنياً لم يخرج من فاعليةِ زمنٍ مشتركٍ بيننا. بل خرج من زمن غربي لا عهد لي به، ولا دراية. عرضٌ فني هو وليدُ تلك المعارف الخفية، في مُختبرات النفس، والعقل، والجسد، التي لم تصلني بعد. ولو وصلني منها شيءٌ، فعلى هيئة مُصطلحٍ، أو رمز. أو هيئة منهجٍ ذهني مُجرّد، (كما حدث مع "التفكيكية" في الأدب، على سبيل المثال!).
زرت معرض ريتشارد لونغ، في "التيْت برِتِن"، قبل أسبوع، وخرجتُ أتزاحمُ مع نفسي، بفعل هذه الخواطر. فلونغ فنان (ولد عام 1948) ستيني، بدأ أسلوباً في البحث الفني عن أسرار النفس، والطبيعة، والكون، لا عهد لأحدٍ به قبله. بدا لي بالغ الغرابة، مع بساطته المُتناهية، وبالغ الفقر مع ضخامة العناوين، والتعليقات، إلى جانب أعماله. عمله النحتي (أو المفاهيمي على ألأرجح) يعتمدُ انتقاء شظايا حجارة كبيرة حادة الحواف، تتوافق في الحجم واللون (الأسود، الأحمر أو الأبيض)، ثم يجمعها في نظام، بهيئةِ مثلث. ينظم المثلثات الثلاثة بهيئة دائرة كبيرة على الأرض.ولك أن تدور حولها وتتأمل. أعمال كثيرة أخرى ترك آثارها في الطبيعة البكر، خارج المدن: خط طباشيري أبيض، يمتد بضعة أمتار، دليل مشي في مرج، أو سفح. يستدل المشاهد عليها عبر صورة فوتوغرافية لها، مُعلّقة على أحد جدران المعرض. ولأن الفنان شغوف باكتشاف الطبيعة عبر المشي، والتجوال لأميال، في ويلز، مقاطعته، أو أي مدى مفتوح في العالم، فقد ثبّت خطّاً بالأسود على مسيرته هذه، فوق خارطة جُغرافية، ثم علّقها كعمل فني. هناك أكثر من جدار استقلّ بنص نثري قصير، يعبّر عن انطباع للفنان بشأن الطبيعة. قرأت أكثر من مقال نقدي تمجيدي عن لونغ. صديقي الشاعر الإنكليزي لا يقل حماساً عن النقاد، حين شاورته في الأمر. هل ما بيني وبينهم مجرد خلاف في الذائقة؟ أم أنه خلافٌ بين ثمرة زمني البطيء، عن زمنهم المتسارع؟ أم أن الفن متاهةٌ تُخبّئ المينوتور، الوحش الأسطوري؟
|
|
||||||
|