العدد 17 شتاء 2009

 

البريكان:

احتفاء بالإنسان وأشيائه الزائلة

 

فوزي كريم

 

 

عادة ما أحسن الحوار مع قصيدة البريكان. السياب، صلاح عبد الصبور أيضاً. هناك أصوات شعرية أتابع قصائدها باهتمام أيضاً. أُصغي لها، وأتأمل فيها. ولكنني لا أطمع بحوار داخلي معها. لا لأني غير راغب لسبب شخصي. بل لأنها تنأى عن ذلك بفعل رغبة للحوار مع التاريخ، مع الحدث، مع الخارج. القصيدة التي تشكل مائدة حوار داخل الشاعر هي وحدها القادرة على تشكيل مائدة حوار مع قارئ مثلي. ونحن نعرف أن قصيدة تُقرأُ من قبلِ قارئين تصبحُ، بصورة من الصور، قصيدتين.

البريكان شاعر قد ينشغل بالتاريخ، ولكن فقط لكي يحسن الانفلات منه. في أواخر الخمسينيات كتب عدداً من القصائد عن السجن. كان سجنه حقيقياً، ولسبب مرتبط بمرحلة وحدث وموقف. مرتبط بمكان وأشياء غاية في محليتها: "هواجس عيسى بن الأزرق..."، "أغنية من معتقل المنسيين". ولكن السجن داخل القصيدة تجرد عن مرحلتِه، حدثِه والموقفِ الذي وراءه. تجرد عن المكان وأشيائه. تجرد عن الشخص كاتب القصيدة، ليحلّ مكانه الشخص داخل القصيدة. كل ما يبدو حواراً، صراعاً مع التاريخ تحول إلى حوار، صراع في عالم الشاعر الداخلي. طريقُ رحلة القطار إلى السجن بدا له طريقاً أبدياً:

أعرفه

فهو طريق موحش سحيق

ولم تكد تبتدئ الرحلة

وبالرغم من أن البريكان كاتب القصيدة إلا أنه لا يكاد يبين فيها. ينأى بقصدية عالية عنها، ويحلُّ بدله صوت داخلي آخر، يرصد عبر المخيلة وحدها مشهداً وكأنه يخطر في عدسة كاميرا محايدة. في واحدة من قصائده يكتب الشاعر البرتغالي بيسّوا:

يقولون إني اختلق أو أكذب

في كلّ ما أكتب. لا حقيقة في ذلك.

كلّ ما في الأمر إني أشعر عن طريق التخيّل.

لا أمس أوتار القلب من أجل ذلك.

......

المشاعرُ؟ كفيلٌ بها القارئ[1].

قصيدةُ البريكان تبدو وكأنها لا تُريدُ أن تشعر. إنها ترصدُ، عَبر المخيلة، مشهداً وبحياد. ثم تفتح للقارئ فرصةَ المشاعر واسعة. ولكن بيسّوا يشير إلى مشاعر عبر التخيل، فهي وليدةٌ منه. هل تأخذُ هذه الإشارة بيدي إلى مشاعر مخيلةِ البريكان؟ مشاعر لا تنتسب لي كقارئ. مشاعر لا أحسها أنا عبر مداعبة القصيدة لأوتار قلبي؟

المدهش أن البريكان ("أنا" الشاعر فيه) لا يكاد يتراءى في قصائده. حتى المبكرة منها. نسمع صوتَ الشاعر عالياً فيها، ولكن بمحاولة لا تخفى من التستر والمحايدة. الراصدُ للمَشَاهد المتتالية عدسةُ كاميرا محايدة (بلا تقعّر أو تحدّب، هذا إذا فهمنا من هذين معنى الرؤية التي تُشرك المشاعر الشخصية في الرصد). عدسة سينما ترصد ولا تعلق:

مهرجانُ المصابيحِ

لافتةُ المصنعِ الضخمِ ترسمُها نبضاتُ النيون

الفراشةُ لا تستطيعُ القراءةَ

رفّتْ بكل رشاقتِها

دخلتْ وهي ترقصُ

        وانطلقتْ في رحاب المكان.

الفراشة ابنة الحقل دخلت حقل الحداثة الصناعية. المشهد يتواصل ليكتمل على ما رصدت الكاميرا، لولا "الفراشة لا تستطيعُ القراءة" التي تبدو مُقحمة. قارئ الشعر العربي الحديث لا بدّ من أنه سيحتاجُ إلى نجدة من الشاعر للتدخل. شعراء كثيرون عودوه على ألاّ يحار. البريكان لا يشغله ذلك. يقدم في الدقيقة الأولى مهرجان مصابيح ولافتة نيون لمصنع ضخم. القارئ يعرف مقدار الوحشة والوحشية والصنعة المضادة للطبيعة في المشهد الخاطف. ويعرف حميمية ورقّة وطبيعية الفراشة، وهي تحتفي، إذ تتوهم، بكل هذا المهرجان الضوئي، رافّةً برشاقة، راقصةً بطلاقة. ثم في الدقيقة الثانية تواصل عينُ الكاميرا المشهد:

 لمحتْ فجوة وانعكاساً من الضوء فانجذبتْ نحوه

 سقطتْ وسطَ هاويةٍ مُعتمة

 ورأتْ سلّماً لولبياً

 وشيئاً كبرج من الصلب، لا قعر له

 وخيوطَ دخان

 كبخارِ الصهاريج

 والتقطت مدخلاً دائرياً فخفّت إليه

 إذا نفق من حديد

 يؤدي إلى نفقٍ من حديد

 وأحسّت بزاوية الميلِ فانزلقت   

 واستقرت على حامل...

البريكان يعرف عن دراية شعرية عميقة وهي أن الصمت، في حينه، أبلغ من الكلام. وأن رصد حركة ما بتجرد بارد، قد ينطوي على حرارة بالغة التأثير. عبارة "وأحست بزاويةِ الميلِ فانزلقت واستقرّت على حاملٍ.." تبدو عبارة نثرية في حكاية على لسانِ أحدٍ ما. عبارة بالأسود والأبيض. ولعل القصيدة برمتها رصدٌ نثريٌّ يتحرك بإيجاز وإيماء أحياناً. ولكن إرادة المخرج وراء العدسة، إرادة الشاعر وراء الكلمات، هي إرادة شعرية غاية في الجدة وعمق الرؤية الحديثة. لقد أبعد البريكان عنه، بإرادة حديدية، بلاغةَ القصيدة العربية المعهودة في القصيدتين القديمة والحديثة على السواء. البلاغة التي تشكل لحمة وسدى المعنى الشعري، وطبقة الصوت الشعرية، والخيال الشعري، والعاطفة الشعرية. هذه العناصر غائبة هنا تماماً. وغيابها لم يخلف فراغاً. على العكس، فقد منح هذا الغياب للبريكان فرصةَ أن يحقق بديله الشعري بحرية وتلقائية وخفة حركة. مشهدٌ وعدسةٌ لا غير، ولكن لكل منهما عناصرَ عصية على كثيرين من الطليعيين. عناصر المشهد غاية في العينية، وعناصر العدسة غاية في الحساسية: "عتلاتٌ مهاجمةٌ/ وكوابس دوّارةٌ/ وأصابع من معدنٍ/ فحزامٌ سريعٌ جرّها فجأة...". تفصيل ماكنة حقيقة مرصودة بحياد، ولكن تتابع التفصيل، لا الحركة، جعل المشهد كاسراً.

بهذا المعنى، هل يبدو البريكان مستجيباً لثلاثة من متطلبات تي. أس. إليوت الشعرية: إبطال مفعول الحضور الشخصي للشاعر، الانتفاع مما يسميه إليوت "المعادل الموضوعي"، ثم استخدام اللغة المحكية؟ قصيدة البريكان توحي بذلك. على أن عدسة السينمائي هو ما يميزها بالتأكيد. أما العنصر الرابع الذي يميز إليوت، وهو البعد الديني، فقد شغله البريكان ببعد ليس بغريب عن الدين، وهو البعد الميتافيزيقي. البريكان ليس شاعراً مأزوماً بمشكلة الإيمان أو غيابه، شأن إليوت. ولكنه، بالتأكيد، مأزوم بمشكلة الإنسان الميتافيزيقية. تبدو ملحّة في كلّ قصيدة من قصائده. حتى قصيدة "متاهة الفراشة"، التي عرضت لها، تبدو وهي ترصد معترك الطبيعة مع الآلة، عميقة الانشغال بالمصير الإنساني.

الإنسان، شرط حياته، ومصيره، محور مركزي في كلّ تجربة البريكان الشعرية. وهو بهذا المحور يقف على مبعدةٍ من التيار الشعري العراقي الرائد جملة، باستثناء السياب. الإنسان، لا الأفكار التي يولدها الإنسان بفعل معتركه مع التاريخي، هو الذي يعني البريكان الشاعر بالدرجة الأولى. حتى مشاهد الحيوان والشيء (السفينة، النسر، الجواد القديم، المدينة، الصخرة...) إنما تتأنسن داخل خبرة القصيدة ذاتها. النافذة (في قصيدة "نوافذ") ليست أكثر من إطار رمزي للإنسان، الذي نتبينه عبرها بأشكال وحالات عدة: نافذة فتاة، نافذة كسيح، نافذة عجوز، نافذة للطفولة، نافذة عامل وافد...

الشعر العراقي الذي أحاط بالبريكان، وأحاط بالحياة الثقافية العراقية جملة، هو شعرٌ يصدر عن أفكار ولّدت عقائدَ، ويتطلع لأفكار ترسّختْ عقائد، على امتداد الأربعينيات حتى اليوم. وعبر هذه الزاوية تُطلّ قصيدتُه على الإنسان. ولذا تبدو حيراتُ هذا الإنسان مشروطة بها: بالحرية التي تعنيها، وبالثورة التي تعنيها، وبالتمرد الذي تعنيه، وبالحب الذي تعنيه... إلخ. كان الإنسان، في أبرز المؤثرين في هذا الشعر، نموذجاً نمطيّاً للفكرة مجسدة، وليد استجابة مُثلى لمعترك التاريخ المحلي، القومي والعالمي. حتى الثائر، المتطلع للحرية، العامل، الطفل، السجين... تراه وليد عواطف جماعية داخل مظاهرة مسيّسة. النمط الذي يبدو عرضة للتلاشي السريع مع تغير الزمن، بفعل هشاشته.

البريكان كان عظيم المناعة داخل هذا الغليان النفعي. كان يحدّق في الإنسان، مجرداً من انتسابِه الفكري، طبقتِه، عرقِه... كان يحدق في مسراتِه ومآزقِه، عبر معتركه الداخلي هو. حبه للسياب، ابن مدينته، صادر عن فهمه العميق لهمِّهما الشعري المشترك، وأيضاً عن فهمه العميق لضعف مناعة السياب النسبية. كان السياب رائعَ التحديقِ في الإنسان، في مسرّاتِه ومآزقِه. ولعله يفوق البريكان في عمقِ وسعةِ وحرارة هذه الروعة. وفي الوقت الذي كانت فيه المومس، اللوطي، الأعور، الخصيّ... عينات رمزية للشرّ في قصائد شعراء "العصر الأيديولوجي العربي"، كان السياب يكتب، في بحران معتركه الشعري الداخلي، قصائد حنوّ ورأفة ورعاية للإنسان حتى في داخل "المخبر" السريّ، دعك عن "المومس" العمياء. ولكن السياب رغم ذلك لم يكن عظيم المناعة شأن البريكان، فكثيراً ما عرّض عالمه الشعري لمؤثرات الأهواء العقائدية الدائرة.

في مقالة نقدية للشاعر سامي مهدي[2] عن البريكان، يشير إلى مناعة البريكان هذه، ولكن بصورة لا تنمّ عن رضا، فهو يرى أن موضوعه "موضوع وجودي خالص في وقت كانت فيه السياسة هي شاغل الشعراء الأول كما ذكرنا، وكان الشاعر الذي يكتب في موضوع كهذا يعدّ لدى بعض الأوساط بطراً أو عابثاً أو منحرفاً"، وأن "هذه القصائد معنيّةٌ بمحنة الإنسان في الوجود، نعني الإنسان المغترب، المَقصيّ، المهزوم، الذي يرى هذا الوجود عبثاً في عبث حتى لتستوي عنده الحياةُ والعدم".

إن شاغل البريكان الشعري، الذي بدا غريباً على شاغل شعراء المرحلة، هو شاغل المعترك الداخلي، الذي تبدو الوجودية ظلاً من ظلاله. أما عدم رضا الشاعر سامي مهدي فأتبينه في صفات "العابث، المنحرف..."، التي تُقرن عن قرب بصفات "المغترب، المقصي، المهزوم، الذي تستوي عنده الحياة والعدم"، وهي صفات مُقحمة على شاعر التساؤلات والتأملات، وليدة صراع الداخل، من قبل مرحلة الإجابات واليقين، وشعرائها الكثيرين. حتى مفهوم "العدمية" الذي انفرد به البريكان في رأي حيدر سعيد، وقد ورد اجتهاده في مقالة سامي مهدي خاصة حول قصيدة "حارس الفنار" باعتبارها قصيدة عدمية "بالمعنى الدقيق والواضح والمكتمل"، فهو مفهوم مُقحم، كفكرة، على الرحابة الشعرية التي ترتبط مع الفكر بعلاقة خاصة، لا تحتمل يقيناً في الموقف من الحياة. هناك تطلّع عند البريكان للتلاشي (في). وهو تلاشٍ يفترض ضمناً انفلاتاً من وطأة المحدود والقسري، والدخول في اللامحدود والمطلق. تماماً كما يتعامل مع التاريخ بنيّة الإفلات منه. في مواجهته "بحراً من الظلمات" (رمز الموت في الشعر عادة)، منتظراً الزائر "المجهول"، يواجه صوتُ الشاعر كلَّ ماضيه وماضي بشريته. القصيدة على امتدادها لا تتحدث عما يرتجيه من الزائر الآتي، ولا ما يرتجيه من بحر الظلمات الذي ليس له حدود. بل هي تجعل مواجهةَ الآتي "بالقلب الجسور" وسيلةً لاستعادة الإنسان وتاريخه، لا لتحطيم القيم وإنكار تبرير وجودها، أو لإنكار الوجود ذاته واستبداله باللاوجود، كما نفهم من مفردة "العدمية". إن الاعتقاد بعدمية البريكان ستضطرنا إلى إيجاد مخرج تأويلي من قراءة قصيدة أخرى للبريكان تحت عنوان "احتفاء بالأشياء الزائلة"، يبدو فيها الشاعر غاية في احتضان الكائن الإنساني، والاحتفاء بمجده ومجد الأرض التي يقيم عليها:

 أربعُ أيدٍ

 تمتدُّ إلى دفء النار معاً

 وعيونٌ أربع

 تتأمل طفلاً في مهده

 مائدةٌ

 من زاد الفقراء

 وحديثٌ هادئ

 الليلُ، وفيلمُ السهرة

 أنسامُ الفجر ترفُّ رفيفَ جناح فراشة

 العشبُ الليُّن بعد الغيث

 يبدو منتعشاً ونظيفاً

 الموسيقى تتموج في الغرفة

عنوانُ كتابٍ مُمتعْ

 كأسُ الماءِ لظمآن

نعاسُ المتعبِ

 لعبُ الأطفال وضجّتُهم

 الذكرى تمرق في لحظة

 خطةُ يومٍ قادم

 نورُ الشمس

 مجرّد نور الشمس.

 

أجملُ ما في العالمِ

 مشهدُه العابر

 ومباهجُه الصغرى.

 طوبى لك

 إن كنتَ بسيط القلب

 فستفهم مجدَ الأرض

 سحرَ الأشياءِ المألوفة

 إيقاعَ الدأبِ اليومي

 وجمالَ أواصر لا تبقى

 وسعادة ما هو زائل.

هذا الصوت هو نتاج طبيعي للصوت المُرهَق بالتساؤلات، الذي ألفناه في قصائد البريكان الأخرى. ما من تعارض، إلا إذا أخذنا معنى "العدمية" مأخذاً فلسفياً غير شعري. وهذا الأمر يعيدني قليلاً إلى إليوت و"معادله الموضوعي". يقول في واحدة من "مقالاته المختارة": "إن الشاعر الذي "يفكر" هو الشاعر الذي يملك أن يعبر عن المعادل العاطفي للفكرة لا غير. ولكنه ليس بالضرورة معنياً بالفكرة ذاتها". المناجاة العاطفية المعبرة دون وسيط عن فكرة، والتي وقعنا عليها واضحةً كمرآة مغسولة بماء في القصيدة السابقة، نراها في بضعة قصائد أخرى، منها قصيدة "فقدان الذاكرة". فلنتأمل هذا التضرع، مقارنة بالقلب الجسور الذي رأيناه في "حارس الفنار" وفي "قداس..." التي سترد لاحقاً:

  إلهي.. إذا كان هذا عقابك

   دعنيَ أجتزْ عذاب الثواني سريعاً

   إذا كان هذا اختبارك

   هبني الشجاعة أن أتأمّل وجهي الغريب

   أعنيّ لكي أتنفس ثانية في سمائي

   لكي أستعيد روائح أرضي

   أعنيّ لأعثر يوماً على روحي الضائعة

   أعنيّ لكي أعبر الفاجعة.

ما أقرب هذا الصوت من صوت الشاعر البولندي الكبير ميووش (1911-2004). في واحدة من قصائده الأخيرة قبل رحيله، وقد تجاوز التسعين، يتضرّع:

إليكَ تضرّعتُ فتلطّفتَ بالإجابة علي

كي أُبصرَ مقدارَ لا معقوليةِ ما كان.

 

ولكن حين تضرّعتُ شفقةً على الآخرين من أجلِ معجزة

كانت السماءُ والأرضُ صامتتين كعهدهما.

 

ولأني أؤمن بك تشككتُ

وكمْ أُكبرُ من لا إيمان لهم لبسيطِ إصرارهم.

 

أيُّ متعبّدٍ لذي الجلالِ أنا،

إذْ أرى الدين ملاذ ضعفاءٍ مثلي، فقط؟

........

........

ولأني مبعوثُ ذلك الذي أثقلني بالأحزان

أُسرِعُ قُدُماً بقصائدَ جديدة.

 

حرّرني من ذنبٍ، مُتَخَيّلٍ أو حقيقي.

هبني يقيناً، كمْ سعيتُ إليه كادحاً من أجلِ مجدك.

 

أعنّي، في ساعةِ سَكرةِ الموت، بآلامك

التي لمّ تبرّئ هذا العالمَ من الآلام[3].

تضرع الشاعرين واحدٌ، وما من غرابة. فقد كان شعر البريكان ينطوي على جوهرة "البعد الميتافيزيقي"، التي يتمتع بها صوت ميووش بامتياز. كلاهما يرون وراء "المدينة ذات الوجوه المائة/ هناك مدينة أخرى" (البريكان). تماماً كما يرى الرائي السويدي عمانويل سويدينبيرغ (كان ميووش شديد التأثر به): "الجحيم الأكثر اعتدالاً يأخذ مظهر الأكواخ البسيطة، وفي حالات تبدو متجاورة على هيئة مدينة وأزقة وشوارع". هذا البعد، الذي تمتع به السياب، تمتعت به أكثر قصائد البريكان، حتى المبكرة منها. ما من مشهد أرضي إلا ويتخفى في ظلاله شبح مشهد غير أرضي. احتفاؤه بالأشياء الزائلة ينطوي على معنى احتفاء عميق السرية بالفراغ الذي لا زوال له. ولعل "البرق" أحد رسل ذلك العالم المتخفّي وراء الظاهر. أحد الرسل الذي أطلّ علينا في أكثر من قصيدة للسياب[4]. في القصائد التالية يعرض البريكان، بصورة مباشرة،  لدور البرق في الكشف عن المتخفّي في الحياة الأرضية:

البرق 2

قبّةُ الليلِ في لحظةٍ تتفطّرُ

الأرضُ بحرٌ من الزرقةِ الساطعة

البيوت

فجأةً تستحيل شواهدَ من مدنٍ دارسة

ثمّ تستأنفُ الكائناتُ تنفّسَها

وتواصلُ في العتمةِ القارسة

نبضَها...

في قصيدة "عالم في البرق":

عالمٌ أزرقٌ

يتشعْشعُ في هوّةِ الليلِ

يقفزُ في ظلمات العدم.

أفقٌ مائلٌ يتلألأُ سيفاً رهيفاً تُكهربُه شعلةٌ باردة.

.......

مئذنةٌ تتحدّدُ أقواسها في الوهج

طرقٌ تنطلق

كالأشعة نحو مراقي السماءْ

سحبٌ تتصادمُ إذ تحترق

وفضاءٌ يشقّ سطوحَ فضاءْ

انهيارُ الرعود وتدهورها في التخوم.

استغاثةُ كلبٍ مرَوّع

وارتجافة كفٍّ ترد الستارَ على النافذة.

في البيت الأخير تطل القصيدة على ردة الفعل الإنساني الجافلة. الإنسان الذي لا حول له ولا قوة أمام الإرادة الغامضة للمجهول. هذا البعد الميتافيزيقي يحتاج أن يتعامل معه الشاعر بتجريد أحياناً، وأحياناً أخرى ببصيرة عينية، عميقة ولكن ملموسة: سيفٌ رهيف تُكهربُه شعلةٌ باردة. مئذنةٌ تتحدّدُ أقواسُها في الوهج. استغاثة كلب مرَوّع. وارتجافةُ كفٍّ ترد الستارَ على النافذة. البريكان هيّاب أمام المجهول. ولكنه شجاع في تحديه له. يتعامل مع التاريخ بمسؤولية، ولكن لكي يتحرر منه.

في هذا الحرص على الرصد العيني بالغ الحسية نقع على نقطة اللقاء الأخرى مع الشاعر البولندي ميووش. المقطع التالي من قصيدة "ضواحي" (1944) لميووش، نموذج للرصد البصري الموجز:

ظلُّ مدخنة مكسور. عشبٌ ناعم.

وعلى البعد تتشظى المدينة قرميداً أحمرَ.

أكوامٌ بنية، سلكٌ شائكٌ في محطات.

ضلوعٌ جافة لسيارة صدئة.

حفر طينية تلتمع"[5].

النعوت تتحدث بصورة غير مباشرة عن الخراب، انعدام الحياة واللاجدوى: "تتشظى المدينة قرميداً أحمرَ"، "ضلوع جافة لسيارات صدئة". التأثير ذاته يمكن استيحاؤه من مشاهد الهدأة الساكنة ومن تراكم الأشياء غير النافعة، ومن الآثار المرئية لكائنات بشرية سالفة. باختصار، إن خراب العالم مراقب وموصوف ولكن بقدر من التكتم والاقتصاد، وبدون توكيدات عاطفية. وميووش باختياراته ووصفه للعناصر أنجز هدفاً قد يبدو مستحيلاً: حيث ارتبط المظهر الذاتي والموضوعي للواقع بوحدة لا سبيل إلى انفصالها. الإشارة في نهاية القصيدة تكثف وحدة الصورة وقيمتها الرمزية في ذات الوقت"[6].

 

***

يقول أريتش هَيللر[7] في فصل عن "ريلكه ونيتشه": "إنهما اكتشفا أن ينبوع الغبطة كامن في صميم أرض الألم ومركزها. إن السعادة بالنسبة لهما ليست في غياب الألم، كما يرى شوبنهاور، بل هي ثمرة قبول أقصى للمعاناة، تلك التي تتفجر الغبطةُ الغزيرة من صلبها المؤكد. لأن إنكار الألم يعني إنكاراً للوجود ذاته. الوجود ألمٌ، على أن الغبطة لا تسكن اللاوجود، كما يريد لها شوبنهاور، بل تسكن التجلّي، أو لحظة التغير المظهري، التراجيدي". لحظة التغير المظهري التراجيدية هذه هي لحظة الشاعر، ريلكه أو البريكان أو السياب. إن "الحزن الذي يبعثه المطر" (أنشودة المطر) لدى السياب، و"المبتسم في المرآة في أعمق ساعات الحزن؟" (حضور الأموات) لدى البريكان، عادة ما التبس على وعي شعراء ونقاد المرحلة الأيديولوجية. الفرح الأرضي لهم وللناس أجمعين. بطل البريكان "مُنتزعٌ من الفرح الأرضي" (قصيدة المأخوذ). مسرّاته في ذلك الهمس الذي "لا يسمعه في الكون سواه". وحين يفتح شاعره نافذته على المسرات الأرضية، "يهجم منها صخب العالم: "يغلقها كأنما لآخر الزمان/ ومثلما يغلق تابوت إلى الأبد." (قصيدة نوافذ). إن ما يصحّ على عدمية الفيلسوف لا يصحّ على عدمية الشاعر. أو أن العدمية في جملتها لا تصحّ على الشاعر أصلاً، لأنها تتطلب موقفاً يقينياً، والشاعر لا يقين لديه. الشاعر كيان غير سوي بالتأكيد. علم النفس أضاء هذا الجانب، وتوماس مان ذهب أبعد في توكيده. والألم الناتج عن اللاسويّة هذه ألم مثمر بصورة فائقة للعادة. ألم تطهيري، إذا اعتمدنا اجتهاد أرسطو القديم، أو ألم يتحول عن طريق وعي الألم إلى فعل إرادة (نيتشه). والتصرف الإرادي هنا شعري عند البريكان.

في رسائله إلى شاعر شاب يكتب ريلكه: "تولّهْ بوحدتك وتحمّلِ الألمَ الذي تسببه هذه الوحدة بتفجّع متناغم (هارموني)". إن تطلع الشاعر باتجاه الخفي المجهول يملأه بالروع، ولكن خطوته لا تتردد في السعي للالتحام به من أجل تحقيق مصيره الخاص، وفي هذا التحقيق ذروة انتصاره، وذروة غبطته. إني دائم التمثل بالمشهد المؤثر لبطل البريكان في قصيدته "قداس لروح شاعر على حافة العالم":

 على حافة العالم المتجمّد تأبى الخيول

ذهاباً، وتنكفئ الأشرعة

ويخطو المسافرُ ظلاً وحيداً، وتخطو معه

على الثلج ريحٌ قديمة.

الريح القديمة هي الريح الأبدية أيضاً. والبطل الذي يطول انتظاره (وهو منتظر في أكثر من قصيدة!) يقتحمُ ويخطو إلى ما يصبو إليه من مجهول، هو والريح الثلجية. ما من سعي أكثر من هذا إلى مركز الألم. على أن هذا السعي، شأن كل سعي في رؤى البريكان الشعرية، يتمتع ببعد ميتافيزيقي، يراه نقادُه تفلسفاً. حتى يذهب أحدهم إلى القول: "لعل هذا المنحى الفكري الفلسفي في شعرية البريكان هو أحد أسباب عزلته وتمركزه حول أسطورة الذات المتعالية التي تحولت فيما بعد إلى عبء وجودي على الشاعر لم يستطع تجاوزه...". كلام لا يليق إلا بعربية هذه الأيام. لم أفهم ما الشعرية، أسطورة الذات المتعالية، والعبء الوجودي، ولكني فهمت "المنحى الفكري الفلسفي" بالتأكيد، الإدانة العربية الشائعة لكل شاعر يعلو قليلاً على المحسنات (تُسمى جماليات لدى الطليعيين!)، وعلى الأغراض الشعرية (ولها أكثر من تسمية بشأن القصيدة الهادفة!). كان المتنبي يرى نفسه حكيماً مقارنة بالبحتري. وليمَ المعري من قبل أكثر النقاد القدامى والمحدثين، رغم كل محاولات طه حسين. ولكن الجميع يقرأون شعراء الجارة فارس: عمر الخيام، شيرازي، رومي... ولا يتساءلون حول مصدر الفتنة في هؤلاء. هل هي في العناصر الفنية؟ وإذا ما توفرت وفق وعي ومعايير الناقد العربي المحدث، فلمَ لا يتساءل هذا الناقد عن سرّ افتقاد شعرنا العربي إلى عدد ولو يسير (دون المعري طبعاً!) من هذا الطراز من الشعراء؟

في رده على أحد محاوريه، على أثر استفتاء أجرته جريدة الحياة حول المتنبي، يقول أدونيس: "هل يصحّ تقويم الشعر بوصفه «عملاً»؟ الشّعر «لغة»، لذلك ينبغي تقويمه جماليّاً فنّياً، بحصر المعنى. وليس «عملاً» لكي نقوّمه أخلاقيّاً، سلباً أو إيجاباً. الإصرارُ على تقويم الشعر، أخلاقيّاً في نوعٍ من «محاكمة» صاحبه، إنما هو إصرارٌ على الاستمرار في متابعة «تقليدٍ»، تنكره، جَذريّاً، جماليّات الإبداع الفنّي، وبخاصّةٍ في عالم اليوم.

الشعر طريقةٌ في الحسّ بالوجود، وفي فهمه، وفي التّعبير عنهما. فلا يصحّ النّظر إليه إلاّ في حدود جماليّته، في معزلٍ عن كلّ بُعدٍ أخلاقيّ. فالشعر، تحديداً، «خَرقٌ» (يجوز له ما «لا يجوزُ لغيره)، فكيف يصحّ أن نُخضعَهُ للواجب، أو لما «يجب»؟..."[8].

أدونيس يسعى بلغته النقدية على هوى المسعى الذي يريده للشاعر داخل هاجس اللغة، وداخل عناصرها الجمالية الفنية. ولذا لا يمكن لقارئ جدي أن يخرج من هذا الشطح اللغوي بأيّ دليل لوعي النفس، الآخر، الحياة والكون! فلماذا يُفرد أدونيس "التقويم الجمالي ـ الفني" في مقابل "التقويم الأخلاقي". وكأن لا تقويم يمتد من الجمالي ذاته إلى التأملي، التساؤلي، الاحتضاني لمسرات الكائن وأوجاعه، ولا لكل ما شُغل الشعر الإنساني، الغربي والشرقي به، طيلة كل عصوره! وكيف أصبح "النظر إلى الشعر في حدود جماليّته" هو السبيل الوحيد لفهم الشعر على أنه "طريقة في فهم الوجود"؟ وما هو هذا "الخرق" العجيب الذي جوّز لهذا الشعر العربي ما لم يُجوّز لغيره؟

لأترك تودوروف ـ في كتابه نقد النقد المترجم إلى العربية بلغة تتزاحم فيها الالتباسات ـ يردّ على أدونيس:

"منذ مئتي عام ردد علينا الرومانطيقيون وورثتهم الذي لا يُحصون، ... أن الأدب لغةٌ تجد غايتها في ذاتها. حان الوقت لبلوغ (للرجوع إلى) البديهيات التي من المفترض عدم نسيانها: للأدب علاقة بالوجود الإنساني، إنه، تباً لأولئك الذين يخشون الكلمات الكبيرة، خطابٌ موجّه نحو الحقيقة والأخلاق. كان سارتر يقول إن الأدب هو كشف للإنسان والعالم، وكان على حق. ولن يكون الأدب شيئاً إذا لم يُتح لنا أن نفهم الحياة بصورة أفضل.

إذا كان قد أمكن إغفال هذا البعد الأساسي للأدب، فلأنه جرى اختزال الحقيقة مُسبقاً إلى التحقق، والأخلاق إلى الوعظ... لكن الأدب هو دائماً محاولة كشف "جانب مجهول من الوجود الإنساني" لنا، كما يقول ذلك كونديرا في مكان ما، وبالتالي حتى وإن لم يكن له أيّ امتياز يؤمّن له بلوغ الحقيقة فهو لا يتوقف أبداً عن البحث عنها.

أدب وأخلاق: "أي فضاعة!" سيصيح معاصريّ. وأنا بالذات كنت أعتقد، مع اكتشافي حولي لأدب مرهون للسياسة، أنه يجب قطع أيّ صلة للأدب بكل ما عداه، وصونه منه. إلا أن العلاقة بالقيم هي في صميم الأدب: ليس لأنه من المستحيل الحديث عن الوجود دون الرجوع إليها وحسب، وإنما أيضاً لأن فعل الكتابة هو فعل اتصال، مما يتضمن إمكان التفاهم، باسم القيم المشتركة... إن أدب التبشير أو الرواية ذات القضية هما أبعد من أن يستنفدا العلاقات الممكنة للأعمال بالقيم، بل هما لا يمثلان إلا نمطاً شاذاً: نمط الحقيقة الدوغماتية، المُتَمَلّكة سلفاً...."[9].

في أسطر أخرى يجيب أدونيس، وهو لا شك في تهويم داخل جمالية ـ فنية اللغة النقدية : "«مدح» المتنبي أشخاصاً كثيرين، لكن ليس لكي يُمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة. كان في «مدحه» يستبطن تخيلاته، شهواته، ومطامحه، بوصفه رائياً، لا «مستجدياً»."!!!

هذا التسويغ للبذاءة والسوقية والرخص تحت رعاية "التقويم الجمالي ـ الفني" ليس جديداً على أدونيس، ولا على الشعر العربي والنقد العربي، قديمه وحديثه. ولعل استجابة الشعر والشعراء العامة للعصر الأيديولوجي العربي، والسعي للإسهام في بناء عمارته لم يخرجا إلا من هذا التسويغ. إن أدونيس يقرأ بودلير، على سبيل المثال، ويعرف كيف كشف النقد الغربي عن معنى أن بودلير كان مُجبراً تحت قوة لا مردّ لها على تحويل رغائبه المُعذّبة ووعيه بالشرّ ومصادره إلى هذه الروعة المتناغمة في شعره. ولكن أدونيس بجرة قلم عربية يساوي بين وعي بودلير برغائبه المعذبة ووعيه بالشرّ وبذاءة ورخص المداح العربي. إنه يساوي بين الألم الدامي للبريكان أمام بحر مصيره الإنساني الغامض، أو أمام أسى الإنسان الذي لا مردَّ له، وبين الألم الدامي لشاعر مثل عبد الرزاق عبد الواحد أمام تمنّع صدام حسين عليه في العطايا والمكارم!!

إن لعنة "الجمالي ـ الفني" لن تتوقف عن إفساد الشعر العربي والنقد الشعري العربي يوماً. وهي لم تتوقف عن ملاحقة شعر البريكان المبرأ منها، كما لاحقت السياب وصلاح عبد الصبور قبله.

سامي مهدي في مقالته السابقة عن البريكان يواصل بحرص كحرص أدونيس:

"وهذا ما جعل مغامرته الوجودية أهمّ شيء في شعره. غير أننا لسنا معنيين هنا بطبيعة هذه المغامرة، ولا بما يتخللها من أفكار البريكان، بل معنيون بأدائه الفني. ولذلك لن نعمد إلى تحليل أفكاره، بل سنكتفي بإشارات عابرة إليها هي تلك التي يقتضيها سياق بحثنا. فهو لم يشغل نفسه بالبحث عن أشكال جديدة وتقنيات مبتكرة بل شغلها بالتعبير الدقيق عن أفكاره، حتى كاد شعره يخلو من أية مغامرة فنية...". هذا ما يشغل الشاعر وناقد الشعر العربيين حقاً. ليس مسرات، ولا آلام، ولا رؤى، ولا إشراقات، ولا وعي بوجود أو بحياة أو بذات.. الشاعر. بل بمغامراته الفنية (أشكال جديدة، وتقنيات مبتكرة..). بالرغم من أن سامي يعترف بأن ما يسميها مغامرة البريكان الوجودية، وتعبيره الدقيق عنها، هي "أهم شيء في شعره".

 

أشعر أن حديثي النقدي عن البريكان يحتاج إلى توسع وإضافة في كلّ حين يلي تأملي في الشعر، في الشعر العربي، وفي البريكان. وعلّةُ هذا كامنةٌ في مهمة الشعر "الكلية" القليلة الحضور في شعرنا العربي، التي تتمتع بها قصيدته. وهي ميزة الشعر الجيد في كلّ مكان. هذه المهمة "الكلية" على نقيض من المهمة "الجزئية"، المقتصرة على ردة الفعل في حقل العواطف والأفكار، وعلى الاستجابة للزمان كحدث وتاريخ. الشعر العربي، منذ المرحلة الإسلامية حتى اليوم، تعبّأ بهذه المهمة القاهرة لجوهره، حتى وحّدته، بصورة مخاتلة، بمهمة النثر. المهمةُ التي تبدو لعين القارئ العربي جديدةً في شعر البريكان، هي، في حقيقتها، مهمة الشعر الوحيدة، المألوفة لدى الشاعر الحقيقي في الغرب، أو في الشرق. الشاعر الحقيقي في عصرنا الحديث، أو في العصور الغارقة في القدم (سوفوكلس، وردزورث، إليوت ... أو كلكامش، رومي، أبو العلاء، السياب، عبد الصبور). ولقد بدت مهمة البريكان لنا مدهشة الجدة، مقبولة بحماس أو بتردد، لأنها عائمة، بهمومها "الكلية" هذه، وسط شعر مهموم بردود الأفعال ومعترك التاريخ، سريع الزوال. ولهذا السبب أجدني دائم الحاجة إلى حديث إضافي عن تجربة هذا الشاعر، وتجربة الساعين مسعاه في شعرنا العربي اليوم.

على أني سأختتم هذا الحديث بموضوعة غاية في العرضية والهامشية، كثيراً ما شغلت نقاد البريكان وقارئيه. ولعلها شغلت الهاجس الطامع بالحكاية، لا بالحقيقة، فيهم. موضوعة عزوف الشاعر عن النشر، وعزلته. والهاجس الطامع بالحكاية لا بالحقيقة هو وليد شرعي للهاجس الشعري المقتصر، في مهمته الجزئية، على ردود الأفعال في حقل العواطف والأفكار، وعلى الاستجابة للزمان كحدث وتاريخ.

رغبة البريكان في العزوف عن النشر بدت ناشطة مع فوران نشاطنا الستيني وما تلاه. ومع فوران النشاط السياسي، عقائدي الطابع، الذي أحاط به وولّده، ثم مع مجيء حزب البعث إلى السلطة، والهيمنة العقائدية المطلقة على الثقافة والناس والحياة. لقد بلغت معانقةُ "الجزئي"، في أهواء المثقف، والشاعر على الخصوص، العاطفيةُ والفكرية، أعلى مدياتها. وكذلك معانقةُ الحدث والصراع معه. ولم تُترك فسحة هواء صغيرة لرئات شعرية كانت تنفرد وحدها في البحث عن الحقيقة. فاختنق السياب، فائق الحساسية والضعف. ووهن حسين مردان وبلند الحيدري. وتعالى البريكان على المشاركة، أو مجرد الحضور.

حسب الشيخ جعفر واحد من الشعراء الذين انتسبوا لجيلنا الستيني ولكن براية المأخوذ بالكليات، شأن البريكان والسياب. فما الذي حلَّ به؟ لقد تعالت حوله قامات شعراء المعترك التاريخي حتى بدا نشاطه الشعري طيلة هذه السنوات في العزلة، أو في الظلّ. ولولا حضوره الشخصي الدائم في خمارة اتحاد الأدباء لطوته، مع النسيان، الشائعةُ كما طوت البريكان. كان يتردد في نشر قصائده، وإذا ما نشر مجموعة شعرية بدت ردود الأفعال النقدية واهية النبض، متداعية، مقارنة بردود أفعالها إزاء النشاط الشعري ذي الهدف (العقائدي) الوطني، أو القومي، أو الأممي، أو الحداثي، أو المابعد حداثي....

الذي كان يمنح شعر حسب الشيخ جعفر حرارة الحضور هو اهتمام الشاعر أو قارئ الشعر الحقيقيين، اللذين تتسع بهما العزلة مهما ضاق مكانها. والذي كان يمنح شعره حرارة الحضور أيضاً هو الجيل الفتي من الشعراء وقراء الشعر آنذاك. كان هؤلاء، بالرغم من كل انتساباتهم العقائدية، التي أُرغموا عليها، أو ربما بسببها، يملكون نقاهة الباحث عن الحقيقة. يتمّ هذا الأمر معهم في مرحلة بحثهم الأولى المبكرة. ثم سرعان ما تهرسهم عجلةُ ثقافة العصر العقائدي العربي الدوارة.

ما حدث لحسب الشيخ جعفر حدث للبريكان قبله ومعه، وهذا الذي حدث كان يمكن أن يحدث لأيّ شاعر غربي أو شرقي، حديث أو قديم، لو تعرض للظرف العربي، أو العراقي ذاته. ولذا يبدو أمر عزوف البريكان عن النشر غاية في الطبيعية وتحصيل الحاصل. مع أن هذا العزوف تمّ في عقدين (70-1980) فقط، في حين تتوزع قصائده المنشورة على سنوات حياته الأخرى بصورة بيّنة.

إن مجيء حزب البعث للسلطة ثانية، واعتلاء صدام حسين مقعد الدكتاتور، كان الدافع الحاسم في انسحاب البريكان عن النشاط النشري، والنشاط الثقافي جملة. دافع حسم قرار الشاعر الذي اتسعت قناعتُه به، بعد خبرة المتأمل في بربرية الظاهرة الثقافية والشعرية المهووسة بالأفكار الكبرى، داخل بهو الصراع العقائدي. إن تأمل حركة فراشة داخل ماكنة جهنمية لا يختلف عن تأمل حركة أفلاك في الكون المجهول. ميلٌ مريبٌ في عصر اليقين الأيديولوجي. في التعامل مع البريكان تحول هذا الارتياب إلى دهشة، والدهشة إلى تغريب، والتغريب إلى مخيلة سوق تنافسي عاجزة عن رؤية شاعر حقيقي في بحران عزلته.


 

[1] Fernando Pessoa: Selected Poems, Edinburgh University Press, 1971.

[2]  مجلة نزوى، العدد 41، سنة 2005.

[3]  Milosz: New and Collected Poems 1931-2001, p.742, Penguin, 2001.

[4]  تجد تفاصيل ذلك في كتابي ثياب الإمبراطور، دار المدى، دمشق، 2000، صفحة 179-182.

[5]  Milosz, p.65.

[6] من دراسة لي عن ميووش مع ترجمة لمختارات شعرية، نشرت في مجلة اللحظة الشعرية العدد 4، سنة 1993.

[7] Erich Heller, Disinherited Mine, Apelican Book, 1961.

[8]  جريدة الحياة في 7/6/2007.

[9] تودوروف، نقد النقد، ترجمة سامي سويدان، مركز الإنماء القومي، 1986.

 

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 


خزعل الماجدي: لا أحد قرب قبري
ياسين طه حافظ: حياة عبد اللطيف الراشد وموته


*


ملف: محمود البريكان


محمد خضير: سُدم/ عوالم/تكوينات
عبد الكريم كاصد: الصوت الناصع
حسن ناظم: الشعرية المفقودة
علي حاكم صالح: في الطريق إلى البريكان
سعيد الغانمي: شعر البريكان، هواجس انتظار المصير
ناظم عودة: دوائر سود على بحيرة بيضاء
فوزي كريم: البريكان، احتفاء بالانسان وأشيائه الزائلة


*


حصاد المحرر: الشعر


الشعر الباحث أم الشعر المغير
الهجين الأمريكي
شعراء المحج الروسي
رومي
في لوديف

 

*

 

حصاد المحرر: تشكيل


الحديقة والكون
رياح التجريد الروسية
ريتشارد لونغ
نداء بالبل

 

*

 

حصاد المحرر: موسيقى


بروميثيوس
جريمة قتل في الكاتدرائية
ثلاثية دانتي الموسيقية

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009