فوزي كريم 

Fawzi Karim

من البرج العاجي

رسالة الى "الشيوعي الأخير"

 

    عزيزي سعدي يوسف،

     سأقرأ مجموعتك الأخيرة بعنوانها المثير بالتأكيد. ولكني قرأت باهتمام هجاءك المؤثر الأخير لي ولآخرين من (أصدقائك) ممن حضروا مؤتمر عمان (14-16 من شهر أيار). و بين عنوان قصائدك وهجائك وجدت أكثر من صلة للوصل، قد تخفى على كثيرين ممن ألفوا قراءتك متفقين معك، أو مختلفين. في رسالتي هذه أطمع أن أكشف لك عن هذه الصلة، التي ستنكرها أشد الإنكار.

    أنت تعرف أحسن مما أعرف أن الحلم الشيوعي، وقد خرج من الكتب بكل الألوان التي تشي بالآمال الكبار، سرعان ما تحول في ساعة فرضه على الأرض الى أنظمة شمولية ، وأن هذه الأنظمة سرعان ما أينعت وأنضجت ثمرة الدكتاتور الشريرة. ما من استثناء في هذا بين الدول الشيوعية جميعاً، وإلا لكان الاستثناء حجة تأخذك بلياقة الى تكفير خونة الشيوعية في كل مكان. الأمر الذي فعلته دون لياقة، وبيسر أكثر مع رفاقك المحليين.

    الأنظمة الشمولية ذات المسحة المقدسة أعطت الدكتاتور زبدة قداستها. ولذا بدت سبلهم باتجاه المجد مخاضة دماء مبررة تماماً. وهل ثمة علاقة أعمق من هذه التي بين المقدَّس ودم الانسان المراق؟! مخاضةُ دماء الانسان الأعزل بالتأكيد. مخاضة دماء عشرات، مئات، آلاف، ملايين الناس. دماء أجسادهم النازفة تحت (قدميْ قدْرِ نفْسِ) ستالين، ماو، شاوشسكو،..حتى كاسترو!. لا شك أن شاشات التلفزيون تقرّب ذلك لأعيننا هذه الأيام، من داخل مدننا، محلاتنا، أزقتنا، وبيوتنا، باسم العقيدة، وإن اختلفت سحنتها. وتجعل الفكرة المجردة مجسّدة، موثّقة. أمر المقاربة لن يعجبك. فأنت، كما ألفتَ البطل المناضل (المثالي) في شعرك، كذلك ألفتَ الرصاصة (المثالية) في جبهته، والدمَ النازف (المثالي) من جسده. ولم تألف تلك الرصاصة ولا ذلك الدم النازف على حقيقتهما، وإلا لجفل الدم في عروق قصيدتك بالتأكيد. ألفتهم داخل دائرة اليوتوبيا المضاءة بالحلم. وألفتَ أكثر تلك الرصاصة المباركة التي تخترق جبين الأعداء (أعداء الفكرة)، وأنت تعرف أن كراهيةَ العدو المثالي أمر يحقن النفس بالكراهية، ولكنه لا يشبعها بفعل تجريده. ولذا تتجاوز المثاليَّ، في كراهيتها الى الواقعي. وكم وجدت في قصائدك كراهية للإنسان باسم اختلاف الرأي، حتى لم يسلم منها ذوو العاهات، الذين يستحقون الرأفة والشفة والرعاية . ولأنك لم تجرؤ على إراقة دم جسدك حقاً، أو إراقة دم عدوك عن قُرب، فقد حفزك الحلم اليوتوبي (الانتصار للفكرة المقدسة لا للإنسان الأعزل، ابن الأرض!) على مزيد من التضحية بالإنسان وأنت بمنأى عن المشهد. ولا أحسب أنك ستجفلُ وتفزع الى نفسك ذات يوم من لمسة المُجسّد، الموثّق! أنت لم تقل: "إنا سنجعل من جماجمنا لمجدك سلّما.."، ولم تقل: "السيف أصدق أنباءً من الكتب.."، ولم تقل "إنا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر.."، ولكن لهذه أكثر من صدى في شعرك. بل لعلك قلت أكثر من هذه، ولكن بصورة (فنية) تُرضي المجددين أكثر.

    نعم، هناك شيوعيون كثار جفلوا وفزعوا الى أنفسهم حين رأوا التضحية بالإنسان من أجل الحلم اليوتوبي قد بلغت هذا المدى الدامي. حين رأوا الملايين من الأحياء يقادون الى المسالخ. حين سمعوا نزف دمائهم. منهم من ارتد متطرفاً، ومن توقف متأملاً متشككاً، ومن ارتاح لبدائل مناسبة. حدث هذا في كل العالم، وحدث هذا في العراق أيضاً. ولكنك لم ترتض منهم ذلك. بل ارتضيت أن تكون "الشيوعي الأخير"، المتضرّع: "خلّ الدم الغالي يسيلُ..". الطامع بمزيد من الأضحيات من الكائن الانساني الرخيص للمقدس الغالي. ولكن الاستجابة بدت واهنة، ضعيفة لتضرعك. وسرعان ما بدا أصحابها لك أعداءً، وبدت الكراهية ينبوعاً شعرياً ثرّاً. وما أيسر من أن تولّدَ أعداء من هذا النفر الفاني من البشر، ممن وقف متردداً، متشككاً بالفكرة المقدسة بفعل يقظة الضمير. ما أيسر أن تستشعر الكراهية له. للإنسان، الذي لا يشبه البطل المناضل في قصيدتك. لقد أصبح توليدُ الأعداء خارجك، ومشاعرُ الكراهية داخلك سلوانك الوحيد. أنت المحصَّن الأخير بدفء الفكرة المقدسة (ولتكن الشيوعية)، المعبأ بعناق البطل المناضل (وليكن المُفتدي بالروح بالدم للراية...)، في وجه هذا الانسان ألأرضي، المتسائل، المتردد، المذعور من مشاريع التضحية به، والذي حكمتَ عليه بالخيانة. ولأن عُدة التهمة بالجاسوسية والعمالة الغربيتين جاهزة منذ الستينيات، فما أيسر أن تلبسه إياها في هذا الظرف الدامي الأنسب للاتهام!!

    ولكنك لم تكتفِ بذلك. كانت عاطفة الكراهية في داخلك أشد من أن تكتفي بما تراه حقيقةً، فسعت الى المجاز. فرأتنا، أنا وعدداً من أصدقائك، "مُمثلي قمامة". لا غرابة في ذالك. كان لينين وستالين أشد كراهية منك! وأنت المهتدي بنجمتهما منذ نصف قرن.

    على هوى كراهيتك، ولكي أفهم نسيجها العربي شديد التعقيد، حاولت أن أتخيلني عبر زاوية نظرك العقائدية: أنا والشعر والموسيقى والرسم والعزلة والحيرات... في قمامة!! وأنت والشعر المناضل ذو العقيدة المكرّمة فوق الانسان...في بهو "ثقافة العصر العربي الإيديولوجي"!! وكم دُهشت حين وجدت تصورَك صحيحاً. فالقمامة ليست أكثر من حُكمٍ (حُلمٍ) بالسجن يرتجيه شاعر الكراهية الهادف (في بحران العقيدة...) بحق الشاعر الخائن، الذي لا يسعى الى هدف.

    نعم، عزيزي سعدي. ها أنت ارتضيت أن تكون "الشيوعي الأخير" المخلص ليد التاريخ، وهي تمسك بخناق الانسان الى المذابح الجماعية، على امتداد أكثر من سبعين عاماً من التجربة الدامية. مخلص للهدف الذي خانه الكثير من رفاقك بفعل وعيهم بالمأزق، وبفعل الإحساس بالذنب، وحماقةِ الإصرار على الخطأ. لا يمكن أن أفهم معنى بديلاً لهذا من عنوان قصائدك "الشيوعي الأخير". ولو كنت الشيوعي الأخير بهذا المعنى لهان الأمر. ولكني أطمئنك أن النسبة الكبرى من شعراء العربية ومثقفيها اليوم يقفون موقفك داخل البهو المُضاء. على أنهم ،بصمت المطمئن، تركوا مكبر الصوت لك. وفي منأى عن كل هذا أجدني أسعى منذ أربعين سنة دون هدف. أرتاب ممن يسعون تحت راية، ويرون هدفهم يتراءى بوضوح كشمس أكثر احمراراً، تمثلت، وما زالت، في شبحٍ كشبح كيم إيل سونغ.

    وما أليق شعري، ثقافتي، موسيقاي، لوحاتي وتأملي بالإنسان الأعزل المذعور، بالقمامة، وقد ألقيتني فيها بإرادة بطل مناضل من هذا الزمان! وأقول "من هذا الزمان" لأنك لست وحدك في ميدان الكراهية، والسعي الى توليد مزيد من الأعداء. "ثقافة العصر العربي الإيديولوجي" معك، وتحيطك كهالة، وتبسط تحت قدميك سجادة ترحابها واحتضانها. ولذا أقدّر بقناعة أنك لن تضم الى قمامتي وقمامة أصدقائك العراقيين أيَّ عربي من بهو "ثقافة العصر العربي" ذاك. لن تُكرّمهم بعضوية المخابرات المركزية حتى لو أمسكت بعروة شغفهم بصدام حسين، ودفء عطاياه في أيديهم. لا عن خشية وخوف، بل عن رغبة بالتحام مع العصبة ذات الهدف البيّن الواضح. بالإضافة الى أن صدام هو سيّد الكراهية، والمولّدُ البارع للأعداء ومُكرّم العقيدة دون كلل بمزيد من دماء القتلى؟ وهل أكثر غنى من هذا للتاريخ، الذي تميل اليه وتصطرع معه؟ وأكثر غنى للعقيدة، وقد نشأتَ ونضجتَ بشجاعة المحارب، تحت رايتها منذ الصبا الأول؟ أمرٌ شئتَ أن  يليقَ بك، وأنت شاعر لا تملك خبرة السياسي ورجل الدولة. ولعلك تعرف معنى الشاعر الذي يشغله معتركُه مع التاريخ دون خبرة مع التاريخ. معنى الشاعر الذي يشعله معتركُه مع الآخر دون خبرة مع الآخر، إلا خبرة أهوائه وعواطفه؟ وكيف يبدو السياسيُّ ذو الخبرة، دون أهواء وعواطف، أقلَّ خطراً، وأكثر اكتراثاً؟ على أني أعرف أنك، كشاعر عربي ووريث للمتنبي العظيم، لا تكترث لمطابقة الكلمة مع الفعل. لمطابقةِ سلاح الكلمة مع السكين والرصاصة. حتى لأتمثّلك في فارس بيت للمتنبي يليق بشجاعتك، يقول:

              تمرُّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً    ووجهُك وضّاحٌ، وثغرُك باسمُ

لأن مديحك للمناضل الأمثل مبرّأٌ من ظلّ الدماء التي "تغوّر بها الأفقُ واختفت الأنجم" (الجواهري). وأن بلاغة هجائك للرفاق من خونة الإيمان لم يعتورها وهنٌ، بفعل الأنين الطالع من ملحمة القتل العراقية رفيعة البلاغة. على أني أعرف أيضاً بأنك شاعر عظيم المرح داخل بهو "ثقافة العصر العربي الإيديولوجي" المضاء بالنجوم. عظيم الاكتراث لهالة المجد حول رأس الشاعر المسؤول، الملتزم، المناضل، وقد تألق عالياً في أفق البهو المضاء.

    مثقف القمامة يدخل الأسطورةَ لا التاريخ، ويُشغله المعتركُ مع النفس لا مع الآخر. ومائدتُه في العزلة لا تخلو من كأسٍ غير كأسه، للزائر الذي يُقبل من متاهة التاريخ، ووحشة العقيدة الموجهة العمياء، طامعاً بإعادة الاعتبار للإنسان.

 

   (نُشرت في جريدة المدى 27/5/2007)

 

   

 

  

 

يوميات

 

عن الإيمان بقوّةِ الحياة!

 

الجديةُ والإحاطةُ وما دونهما!

الاستدارة المذعورة، ولكن للمستقبل!

حفنة مسرات أوبرالية

قبلة فرانتشيسكا الدامية

تلك الورقة البائسة!

حكاية الفارس الأخضر

ستة مصابيح داخل دخان الحرائق

استحالةُ أن تحصل على كتابك المفضّل دون دليل؟

استعادة المنسيات

غجر بالاماس

 اعتماد الخبرة الداخلية في فن المقالة

رسالة الى "الشيوعي الأخير"

معنى الحوار بين القارئ والنص

في العتمة المضاءة من الداخل

بشارة الخوري

مسرّات الشرق القديم

 بي قارئ متحفز

شعراءالنهضة الاسبانية

شيمانوفسكي وغلاس

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail