فوزي كريم 

Fawzi Karim

من البرج العاجي

قبلة فرانتشيسكا الدامية

    "'ليس من ألم أشدّ، من تذكّر العهدِ السعيد وقتَ البؤس ". الجملةُ الغنائية الأولى التي ينطق بها العاشقان فرانتشسكا وباولو، الخالدان داخل دوامة رياح الجحيم، في أوبرا "فرانسيسكا دا ريميني" للروسي رخمانينوف. على أن دانتي، الذي جعلهما خالدين في الجحيم، هو الذي جعلهما خالدين أيضاً في عالم الأدب والفن والموسيقى.

    في النشيد الخامس من "الجحيم"، أول ثلاثية "الكوميديا الإلهية"، يرد المقطع التالي، نقلاً عن ترجمة حسن عثمان (دار المعارف، القاهرة):

    "ثم اتجهتُ إليهما، وتكلمتُ، وبدأتُ: 'يا فرانتشيسكا إن عذابك يستقطر مني الدمعَ حزناً وخشوعا./ ولكن أخبريني: في وقت التنهدات العذبة، كيفَ وبأي دليلٍ أتاحَ لكما الحب، أن تتعرفا على رغباتكما التي يحوطها الشك؟`./ أجابتني: 'ليس من ألم أشد، من تذكّر العهدِ السعيد وقتَ البؤس، وهذا ما يعرفه أستاذك. / ولكن إذا كانت تحدوكَ رغبةٌ عميقة، في أن تعرفَ أصلَ حبنا، فسأفعل كمن يبكي ويتكلم./ كنا ذات يوم نقرأ للمتعة، عن لانتشلوتّو، وكيف تيّمه الحبُّ: وكنا وحيدين، لا يخامرنا شك./ وجعلت تلك العلاقة عيوننا تتلاقى عدة مرات، وأشحبت لونَ وجهينا، ولكن أمراً واحداً كان ذلك الذي غلبنا./ حينما قرأنا أن البسمة المرتقبة، قد قبّلها مثل ذلك العاشق، طبع هذا ـ الذي لن ينفصلَ عني أبداً ـ / طبع على ثغري قبلةً، وهو يرتجف كلّه. كان الكتابُ وكاتبه هما جاليوتّو: ولم نقرأ فيه ذلك اليوم مزيداً./ وبينما كانت إحدى الروحين تنطق بهذه الكلمات، بكت الأخرى بمرارة، حتى تهالكتُ من الأسى كأني أموت. وهويتُ كما يهوي جسمٌ ميتٌ."

    فرانتشيسكا روت المشهد الأخير من حكايتها. كان دانتي معاصرهما في فلورنسا القرن الثالث عشر. وقد عرف زواج فرانتشيسكا السياسي من مالاتيستا الشائه. وعرف أن لهذا الأخير أخاً شاباً اسمه باولو، تعلق بالزوجة الجديدة الشابة، وتعلّقت به. وأن مالاتيستا قتلهما معاً كما قتل عطيل ديزدمونة. دانتي، في أبيات معدودات، ومشهد مختزل رمى العاشقين في رحابة الخلود. تماماً كما فعلت كتب الحكايات الأثيرة، مثل الإلياذة، الأوديسة، التوراة، ألف ليلة وليلة..

    ولكن من هم مرايا هذا الخلود غير أولئك الشعراء، الموسيقيين، الرسامين، ممن تمرأت تلك الحكايات في نتاجهم الإبداعي! نحن ننعم بما لا يُحصى من أعمال الشعر الدرامي أو الحكائي، ومن الأعمال الموسيقية والأوبرالية، والأعمال التشكيلية والسينمائية، هذه الأيام بفضل عنصر الاستلهام من مصادر التراث. على أن هذه الفاعلية ظلت في دائرة الثقافة الغربية، للأسف.

    كنت أصغي لإصدار جديد لأوبرا رخمانينوف (1873-1943) عن فرانتشيسكا. وضعها عام 1897، بعد أن استعان بـ "موديست" أخي الموسيقي الشهير تشايكوفسكي، لكتابة النص الحكائي الشعري. والمعروف أن الحكاية سبق أنْ أقتُرحت على تشايكوفسكي لتأليف أوبرا، ولكنه فضل نوع "القصيدة السيمفونية" الأوركسترالية (1876). سارعت ، كالعادة، الى رفوف مكتبتي الموسيقية لاستعادة عواطف تشايكوفسكي الحارة، حيث تتابع موسيقاه الأفقَ الجحيميَّ الداكنَ في المفتتح، ثم العاصف، ثم الرومانتيكي الهادئ حين تبدأ فرانتشيسكا رواية حكايتها، ثم العودة العاصفة التي تغمر العاشقين في تيارات العتمة. ولكن مناخ العتمة الجحيمية أكثر دكنة في موسيقى رخمانينوف. لأنه انتفع بفاغنر، لا في الموسيقى وحدها، بل بتلك النزعة التي توحد ذروة الحب والرغبة بالموت والتلاشي.

    على أني أحتفظ في مكتبتي أيضاً بتسجيل يعود الى الأربعينيات، وقد حدث أن نُقل الى أسطوانة LP في السبعينيات، لأوبرا رائدة لا تقل قيمة عن عملي تشايكوفسكي ورخمانينوف.

إنها للإيطالي زاندوناي (1883-1944)، التي أصبحت أكثر شهرة على حساب أعماله الموسيقية الأخرى.

    زاندوناي هذا اعتمد مسرحية شعرية لم تتحدث عن مشهد الجحيم، بل رجعت الى حكاية فرانتشيسكا وزواجها القسري وحبها لباولو ثم مقتلهما. لقد وسع لي زاندوناي المشهد الدرامي، لا بفعل توسع الحدث الأرضي فقط، بل بفعل الأفق المثخن بالعواطف في موسيقاه. كانت موسيقى الأوبرا متواصلة أوركسترالياً وغناءً. ما من أغنية (آريا) منفردة بل لحن حسي بَوْحي متواصل،  بين الشخوص الرئيسية والكورس والأوركسترا. إن دقائق لقاء فراتتشيسكا وباولو لأول مرة، وأتلاق قدْحة الحب بينهما، في الوقت التي تُساق فيه للزواج من أخيه الشائه، لا تُنسى. آلة التشلو الشجية ذات اللمسة الشبقية تنفرد بك في لحن مديد. ثم ذلك اللقاء الثنائي على امتداد الفصل الثالث بين العاشقين لا يعلو عليه إلا لقاء ترستان وإيزولدا في أوبرا فاغنر الشهيرة.

    التسجيلُ الأسطواني معبّأ بدويّ القِدم، بحيث يضفي على التأثير بعداً إضافياً.

    عرفت أن هناك فيلماً سينمائياً عن حكاية فرانتشيسكا أنتج عام 1953 للمخرج ماتارازّو، لم أره. ولكن عوّضتُ عن ذلك بتأمل لوحات الرسامين الذين استعادوا الحكاية بالتشكيل واللون. لعل منحوتة الفرنسي رودان "القبلة" (قبلة فرانتشيسكا وباولو) أكثر الأعمال شهرة، ولا تقل عنها لوحة الفرنسي آنغر: فرانتشيسكا بالثوب الأحمر وقد ارتخت لقبلة باولو، فسقط من يمينها الكأس. من وراء الستارة يبين شخص مالاتيستا بسيف الجريمة. لوحة آري شوفر يبدو العاشقان في دوامة الجحيم أمام مرأى دانتي ودليله فيرجل. في حين تنفرد عاصفة اللعنة الجحيمية في لوحة الشاعر بليك. عشرات اللوحات تنوّع على حكاية الحب الدامية، في الدنيا والآخرة. إذا لم تكن تملك من الكتب الفنية ما يكفي لتأمل بعض من هذه اللوحات فالانترنيت أكرم من الكتاب هذه الأيام. ولك أن تنقش اسم Francesca da Rimini لتحصل على معرض رائع لعشرات اللوحات من مختلف العصور.    

 

 

(نشرت في جريدة المدى في 8/7/2007)     

  

 

يوميات

 

عن الإيمان بقوّةِ الحياة!

 

الجديةُ والإحاطةُ وما دونهما!

الاستدارة المذعورة، ولكن للمستقبل!

حفنة مسرات أوبرالية

قبلة فرانتشيسكا الدامية

تلك الورقة البائسة!

حكاية الفارس الأخضر

ستة مصابيح داخل دخان الحرائق

استحالةُ أن تحصل على كتابك المفضّل دون دليل؟

استعادة المنسيات

غجر بالاماس

 اعتماد الخبرة الداخلية في فن المقالة

رسالة الى "الشيوعي الأخير"

معنى الحوار بين القارئ والنص

في العتمة المضاءة من الداخل

بشارة الخوري

مسرّات الشرق القديم

 بي قارئ متحفز

شعراءالنهضة الاسبانية

شيمانوفسكي وغلاس

 

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail