فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

من كتاب تهافت الستينيين

(صدر عن دار المدى، 2006)

 

المقدمة

 

    الهوة بين النص الشعري وخبرة الشاعر الداخلية ظاهرة عربية، امتدت من الشعر الجاهلي حتى اليوم. عرضتُ لها بتفصيل في كتابي "ثياب الامبراطور". هذا الكتاب الجديد امتدادٌ له، ولكنه يُعنى بوجوه أخرى إضافية من الظاهرة، وفي عصرنا الحديث بالذات. هذه الوجوه العصرية استجابة ليست متعافية لنشاطات الغرب بالغة الكثافة والتعقيد. محاولة منها لإشعار نفسها بالتكافؤ مع الغرب، وتجاوزه أيضاً. وبالتالي كراهيته وتنشيط فعالية العداء غير العقلاني له. وكما بدت الجملة العصرية مترجمة، وبدت القصيدة مترجمة، بدا الوعي الثقافي والأدبي مترجماً هو الآخر. قناع مورد بالأصباغ، يخفي الوجه الحقيقي الشاحب. هذا واضح في أصوات شعرية كثيرة، يمكن لقصيدة النثر أن تكون أوسع أوعيتها. وأصوات نقدية أكثر، تحت راية البنيوية والتفكيكية.

    فورة الستينيين كانت محاكاة، ولكن صادقة العواطف. وهنا يكمن موطن مخاطرها. لأن أهواءها الخيالية طمعت بأن تكون فعلاً، وفعلا سياسياً بالدرجة الأولى. وإذا كان مفكرٌ أصيل مثل هادي العلوي صادقاً وغير محاكٍ، إلا أن أفكاره التي تسعى الى الفعل لا تقل خطورة بسبب هذه الأصالة وهذا الصدق.

    في الشعر لم أسع الى شعراء الظاهرة، بل انتخبت، في المقابل، عيّنات من شعراء الخبرة الداخلية. شعراء التيار الذي حفر مجراه ضيقا، ولكن عميقاً، الى جوار التيار الأغلب. احتل هذا المسعى القسم الثاني من الكتاب.

 

 

                                                                      فوزي كريم

                                                                                 لندن، 12/3/2005

 

 

الفصل الأول

 

تهافت الستينيين

 

1

 

    في الستينيات كنا نقرأ أعمال دستويفسكي بهوس. داخل هذا الهوس لم نتوقف عند شخوص رواية "الشياطين" لنذعر. كانت تلك الشخوص كفيلة بأن تثير الذعر في قراء على هذا القدر من الشبه بها.

     شياطين دستويفسكي هم ستينيو روسيا القرن التاسع عشر. جيل احتفى بـ "الفكرة العظمى" التي ورثها عن الجيل الأربعيني، وذهب بها، بطيش الأطفال الحمقى، الى أبعد مدى من التطرف.

    كانت ستينيات روسيا القيصرية، قبل قرن من ستينيات العراق والعالم الغربي، تضج بجيل يستحق ان يوصف بـ"الموجة الصاخبة" أو "الروح الحية"[1]. فالثقافة مسيّسة لدى الجيلين بصورة تامة، وهوية المثقف تكمن في انتمائه العقائدي. والجيل منقسم بصورة حاسمة الى تيارين لكل منهما فروع، الأول يستلهم الغرب وحداثته بكل ما ينطوي عليه من تيارات فكرية وسياسية. والثاني يتشبث بالجذور القومية بكل ما تنطوي عليه من معايير وقيم. وكل منهما يدعي سعةَ الأفق، التي لا تضيق باستيعاب حسنات الطرف الأخر. ولكن تسييس هذا الميل الفكري يلغي أية إمكانية لسعة الأفق المزعومة، لأن الفكرة سرعان ما تتحول الى عقيدة عمياء. ورجل العقيدة العمياء، أو المبصرة، يلغي "الآخر" كوجود يشكل طرفاً لتحقيق الحوار. لأن رجل العقيدة ببساطة "لا يعرف إلا شكلين للتعبير: الحوار مع النفس, أو المحاضرة" ،على حد تعبير أوكتافيو باث. انتشار الصحافة وفاعليتها في الوسط الثقافي عامة شبه آخر يجمع بين الجيلين المتباعدين، ودستويفسكي الروائي نفسه كان مسؤولاً عن مجلتين فكريتين: "الزمان" و"العهد"، وعبرهما كان كثير الجدل، كثير الخصام. وللتأكيد على قرابة الأدب والسياسة، كان يضع تحت عنوانيهما عبارة: "تعنى بالأدب والسياسة".

    الشبه الأساس الذي يظلل الجميع هو اندفاعتهم المتطرفة باتجاه الأفكار المجردة، دون التفاتة الى الواقع الأرضي، وإخضاع الفعل السياسي التاريخي المغير الى أهوائهم المبدعة في حقل العواطف والمخيلة. في "الشياطين" يقدم لنا المؤلف شخصية ستيفان الرئيسية كمثقف رائد لاحتضان رفعة الأفكار المتعالية على الانسان الزائل ابن الأرض. ودستويفسكي يقدمه بصورة هجائية ساخرة في أحد المشاهد الروائية الأخيرة: "الأفضل ان يمشي في الطريق العام، الأفضل أن يمضي دون أن يفكر في شيء. الطريق العام ... شيء طويل، طويل جداً، لا يرى المرء له نهاية، كالحياة الإنسانية، كالأحلام الإنسانية. الطريق العام يتضمن فكرة. أما جواز السفر في الطريق فأي فكرة يمكن أن يتضمن؟ جواز السفر نهاية كل فكرة...عاش الطريق العام، وعلى بركة الله..."(ترجمة الدروبي2/383). وعلى لسان أحدهم يتحدث عن الثوري شاتوف: "إن شاتوف واحد من أولئك الروس المثاليين الذي متى أشرقت في نفوسهم فكرة قوية كبيرة، بُهروا بها وتسلطت عليهم تسلطاً تاماً قد يدوم في بعض الأحيان الى الأبد، فلا يصلون يوماً الى السيطرة على هذه الفكرة التي أصبحوا يعتنقونها اعتناقاً عنيفاً. فحياتهم كلها تنقضي بعد ذلك فيما يشبه التشنجات الكبرى تحت وطأة تلك الصخرة التي سقطت عليهم ذات يوم فحطمتهم نصف تحطيم."(1/ 50)

    "عاش الطريق العام" باسم الفكرة التي يتضمن، فليغذ الستيني السير تحت وطأة الفكرة القوية الكبيرة التي سقطت عليه فحطمته. يعترف الصوت الستيني العراقي: "كنت انتمي الى الحلم بفردوس سوف يعم يوماً ما العراق والوطن العربي والعالم، معتقداً ان الثمن المدفوع في الحاضر هو ضريبة الوصول الى ذلك المستقبل."(2) . ما يثير الذعر يكمن في جملة "الثمن المدفوع في الحاضر". الثمن العراقي المدفوع كان باهظاً، ولكن لم يحظ بكاتب يملك ضمير دستويفسكي اليقظ، ليرقب ويعري "الشياطين" التي قبلت بدفع الثمن الباهظ من أجل حلم لا سبيل الى تحقيقه. روسيا حظيت بدستويفسكي، وابتلينا نحن بالكاتب الثوري الذي يرقب الظاهرة ليمنحها، بمزيد من العواطف والخيال، شرعية وطأتها كالصخرة. يكتب سامي مهدي في تاريخ هذه المرحلة ليؤكد أن الأكثرية من كتاب الستينيات كانت تنتمي لتنظيمات حزبية، وأنها منيت بانتكاسات سياسية ونفسية لم تؤد بهم الى مراجعة النفس والحكمة بل الى ميول وأهواء فكرية أكثر تطرفاً. "فكان أن تسللت إليهم، بدرجات متفاوتة، الأفكار الوجودية والعدمية والتروتسكية والفوضوية، حتى أن نفراً منهم أعاد الاعتبار لتروتسكي وأفكار الأممية الثانية. وحين تألق نجم الغيفارية صار أرنستو تشي غيفارا بطلاً محبباً لدى أغلبهم، وراحت صور مقاتلي الجبال والأدغال تداعب مخيلاتهم، بل كان بعضهم يحسد الكاتب ريجس دوبريه على ما وصل اليه من شرف...وحين انفجرت أحداث أيار 1968 في فرنسا كان هناك من عثر على بغية أخرى، فصار أبطال هذه الأحداث من النجوم التي يتطلع إليها... كان أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر من الأفكار عن خلاص ما غير الخلاص الذي وعدتهم به الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها. بل كانوا يبحثون عن مصداقية تسوغ لهم خروجهم من تلك الأحزاب، فراحوا يستقصونها في كل ما يُطرح من النظريات والأفكار والأساليب الكفاحية الجديدة، وكانت دور النشر في لبنان تلبي هذا النوع من الحاجات بحساسية تاجر عريق. فليس مستغرباً، والحالة هذه، أن يظهر بينهم من يتنطع بالتنظير للكفاح المسلح، ويختار له زاوية في مقهى يقصدها بضعة مريدين يلبون حاجة من حاجاته النفسية، ويشاركونه التفكير بمستقبل البشرية المعذبة، ويتعاطون معه نوعاً من أنواع المخدرات..."(3)

    صورة وصفية تبدو حيادية لولا لمسة السخرية المستترة، لأن سامي مهدي هو الآخر مثقف أحلام بفردوس موعود. فهو يرى أن البعثيين الذين كان ينتمي إليهم "أقوى حصانة من الآخرين تجاه هذه الأفكار"، بسبب "الفطرة القومية التي استثارها فيهم حزب البعث العربي الإشتراكي، والتربية التي غرست فيهم حب الأمة والاعتزاز بتراثها والإيمان برسالتها المتجددة"( نفس المصدر، ص24)، يعني الخالدة. لأن "الفردوس الذي سوف يعم يوماً" لا بد أن يُقرن بالخلود! سامي مهدي أنكر ترهات اليسار الماركسي المتغرب، وعانق شوفينية قومية لا تقل عن الأولى خطورة. وهو لم يعش خيبات الطرف الأول في أحزابه وانطفاء آماله، لأن حزبه أمسك بالسلطة بوقت مبكر من تطوره الثقافي. والسلطة تعوض بمكاسبها وأرباحها هنا عن كل انحرافات الحزب عن مبادئه وأحلامه. ونحن نعرف من "شياطين" دستويفسكي أن مثقف الفكرة المقدسة المتعالية أو "الحلم الفردوسي" منشطر على نفسه، أناني بطبعه، وكاذب. ستيفان المفكر المتسامي مع الفكرة المقدسة، والذي يتحسر: "آه...يجب أن يُباد الروس لتحقيق الانسانية لأنهم طفيليات ضارة" (1،360)، يتخلى عن أبسط مسؤولية إنسانية في العناية بصغيره بطرس، الذي نشأ مهجوراً. السبب أن هذه المسؤولية تنتمي للواقع الأرضي الذي يحتقره. معظم مثقفينا الثوريين يشاطرون ستيفان هذا الفعل المتسامي بشأن محبة أطفالهم، والعناية بهم. الشعب العراقي في واقعه على الأرض شيء، و"قضايا الشعب المصيرية" داخل الأفكار شيء آخر تماماً. كما أن المثقفين الثوريين، على مستوى المصير الفردي، لم يعرضوا حياتهم لأي خسارة تُذكر، روحية أو مادية. إن "تحقيق الانسانية" في محاججة ستيفان لا تفوق، في تجريدها،"مصير البشرية" في محاججة فاضل العزاوي في كتابه: " كان يهمني بطريقة ما أن أطمئن قبل رحيلي من الحياة على مصير البشرية."(78)

    في واحدة من صفحات "الروح الحية" يرد هذا المشهد، الذي يمكن ان ينتسب الى "شياطين" دستويفسكي ببساطة تامة:

    "ذات مرة وأنا أسير في شارع الجمهورية، قريباً من باب المعظم أوقفني شاب لا أعرفه. قدم لي نفسه باعتباره طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة وقال انه يريد أن يستشيرني في قضية مصيرية. كان مفاجأة لم أتوقعها، إذ ما كنت أعرف أنني يمكن أن أقدم النصح لأي إنسان في العالم.

    قال لي الشاب ببساطة:

    - إنني عضو في القيادة المركزية ويهمني رأيك. منذ فترة وأنا أمام خيار صعب: هل ألتحق بالحركة المسلحة في الريف أم لا؟ إن رأيك سوف يكون حاسماً بالنسبة لي.

    فكرت: يا إلهي من أين استمد الشاب كل هذه الثقة بي؟ إن عقوبة الالتحاق بالحركة المسلحة أو التشجيع عليه يمكن أن تؤدي الى الإعدام. فها هو يغامر بمصيره لقاء ثقته بي مثلما يريدني أن أغامر بمصيري لقاء ثقتي به. كلا، لا يمكن لمثل هذا الشاب أن يكون مدسوساً للايقاع بي. كان مأخوذاً بالثقافة وبريئاً مثل حمل، إذ راح يتحدث عن أعمالي التي قال إنها قد قلبت حياته رأساً على عقب.

    قلت وفي ذهني موقف مشابه كان قد واجه جان بول سارتر أثناء المقاومة ضد المحتلين الألمان: لا يمكن لي أن أطلب منك الالتحاق بالحركة المسلحة ولا أن أثنيك عن ذلك. مثل هذا القرار يجب أن تتخذه بنفسك، فهو يمكن أن يعني لك الموت أو الحياة. وفي كل الأحوال فاني لن أغفر لنفسي أن أكون مسؤولاً عن دفعك الى اتخاذ قرار قد يؤدي الى قتلك أو وقوعك بيد الشرطة. إنك تطلب مني أن أحرمك من حقك في ممارسة حريتك، وهو ما لا يمكن أن أفعله.

    كان ذلك الشاب الثوري هو عادل كامل الذي عمل فيما بعد معي في مجلة ألف باء ونشر العديد من القصص القصيرة، فضلاً عن بروزه كناقد تشكيلي ورسام موهوب ومؤلف للعديد من الكتب."(158-159)

    المأسور بفكرة "الحرية الوجودية"، كما وردت حرفياً في إحدى كتب سارتر، يغفل أبسط متطلبات المسؤولية في مجتمع متخلف، بشأن شبيبة لا حول لها ولا قوة. فبدل أن يعيد وسواسها والتباسها الى الأرض، رفعها المثقف الثوري المتطرف وألحقها بسماوات "حرية اختياره الوجودي" وفق الطبعة الفرنسية. الشاب عادل كامل، باعتباره ثورياً متطرفاً هو الآخر، وأمينا لازدواجية الثوريين المتطرفين، خلف حرية الاختيار وراءه، في لحظة من الزمن الأرضي الحاسمة، والتحق بحزب السلطة الحاكم. ثم كرس كل موهبته، التي أشاد بها فاضل العزاوي، لتعزيز نظرية "علم الجمال البعثي". 

  

    هذا ضرب من الضياع إرادي، تماما كالإنتماء العقائدي قبله، الذي لم يخل من إرادة. ضياع إرادي هو نتاج خيبة من انتماء إرادي قبله. هذا ما حدث تماماً في روسيا القيصرية. وبالرغم من أن الظاهرة الستينية الروسية - العراقية المتطرفة لها ما يشبهها في ستينيات الغرب، وثلاثينيات الثقافة الإنكليزية، كما سنتعرف على ذلك فيما بعد، إلا أنها ذات خصيصة لا شك في نزعتها التدميرية، نزعة التطرف التي هي وليدة حالة معقدة من مشاعر الدونية، والتطلع الى الآخر المتفوق لتجاوز الدونية. فكل من الستينيين الروس والعراقيين يتحركون باندفاعة مقلدة لأقران لا صلة لهم بهم، ولا معرفة. أقران في تهيام مسرات حضارة متفوقة. في حين لم تترك لهم الكتب، التي يحدقون بها، رغبةً في معرفة الناس المحيطين بهم، والمنتمين إليهم، أو رغبة في معرفة الحياة.

    في واحدة من أروع لحظات شاتوف العصابية، أو لحظات دستويفسكي التشخيصية، حين يعول قائلاً بدوره وقد سطعت نظراته وحميت عيناه: "لا، لا الشعب ولا روسيا. إن المرء لا يستطيع أن يحب ما لا يعرف. وأولئك كانوا لا يعرفون عن الشعب الروسي شيئاً البتة، ولا يفهمونه إطلاقاً. إنهم جميعاً، وأنت منهم، قد مروا بالشعب مروراً دون أن يلتفتوا إليه... لأن الشعب الوحيد في نظركم إنما كان هو الشعب الفرنسي، بل وشعب باريس وحدها، وكأنما يخجلكم أن الشعب الروسي لا يشبه الباريسيين. تلك هي الحقيقة صافية خالصة. ومن لم يكن له شعب لم يكن له إله. فاعلموا أن جميع أولئك الذين أصبحوا لا يفهمون شعبهم، وأصبحوا على غير صلة به، يفقدون إيمان آبائهم بذلك المقدار نفسه، ويصبحون ملاحدة أو غير مكترثين بالدين. إن ما أقوله صحيح. إنه واقع يسهل البرهان عليه. ذلك هو السبب في أنكم جميعاً، في أننا الآن جميعاً ملاحدة أشرار أو أشقياء غير مكترثين بالدين، ذلك هو السبب في أننا لسنا الآن شيئاً على الإطلاق. هذا يصدق عليك أنت أيضاً يا ستيفان تروفيموفتش. إنني لا أستثنيك. بالعكس: لقد قصدتك أنت نفسك، فاعلم هذا.

    "كان من عادة شاتوف، حين يندفع في حديث طويل من هذا النوع، أن يتناول قبعته، وأن يهرع الى الباب، مقتنعاً بأن كل شيء قد انتهى الآن، وأن علاقات الصداقة بستيفان تروفيموفتش قد انقطعت الى الأبد. ولكن ستيفان تروفيموفتش عرف كيف يستوقفه في الوقت المناسب."(1، 65-66)

    طبعاً، ما كانت علاقتنا الثقافية الاستلابية، نحن ستينيي العراق،  مع الغرب من نفس الطينة. كنا أضعف بكثير، وأبعد. وإذا خرج إلينا شاتوف عراقي فلن يكون بذات الحرقة، ولا بذات العصابية. فنحن كمثقفين لم تأسرنا "الحياة" الغربية بحكم علاقة ملموسة، كما أسرت المثقف الروسي، حتى صار يؤمن بضرورة أن تلتحق روسيا بعائلتها الغربية. بل أسرنا "الكتاب" الغربي، وبواسطة الترجمة. تعلقنا بثقافة غربية على ورق سيء الطباعة، وكان أشبه بتعلق مراهق من محلة باب الشيخ بحسناء في فلم أمريكي. في اتحاد أدباء مرحلة أول ثورة تموز تعلق أدباء اليسار الشبان بإضاءات همنغواي، وفي "مقهى السمر" بالمسافة بين تروتسكي ولينين، وفي "مقهى المعقدين" بدخان الوجودية، وفي "البلدية" بفضلات الشوفينية القومية الألمانية. ما كنا ننظر الى شعبنا بتعالٍ، بسبب مقارنته بالشعب الفرنسي أو الانكليزي. الكتاب المترجم لم يمنحنا هذه القدرة على إحالة الخيال الى واقع. كنا في الهفوة التي يغفلها التاريخ. هفوة لغوية، بيانية، وليدة وهن استثنائي في القوة الإنسانية الحية.

    فاضل العزاوي في حماسه الستيني أبرع ممثلي هذه الهفوة اللغوية، البيانية:

   "حركة التحرر الوطني في بلد مثل العراق لا بد لها من أن تدرك الأسس التي تقوم عليها الحداثة بمستوياتها وعلاقاتها وتشابكاتها المحلية والعربية والكونية، بعد الانتقال الى السلطة، كلحظة فيها تختلف عن لحظة ما قبل السلطة. إن هدف حركة التحرر الوطني ليس الثورة بحد ذاتها وإنما التغيير التاريخي للمجتمع، أي الانتقال من لحظة الى أخرى ومن زمن الى زمن جديد. وهنا تكون المهمات الأساسية للثورة، وهي مهمات لحظة الحداثة تلك في الوقت ذاته: تعميق الوعي بالحرية الفردية والسياسية والاجتماعية..."(76)

    إنه يرى القيمة الحقيقية لأي كاتب عربي تكمن في ما يسميه الروح النقدية التي "تهدم وتبني في آن، أن تحفر ممراتها في دهاليز الواقع المعتمة ومنارات الحلم البعيد الذي يرتبط باليوتوبيا، أن تكشف العلاقة بين الخاص والعام، بين المحلي والعربي والعالمي، بين الحاضر والمستقبل."(71) تبدو حريته طليقة بلا حدود في اجتراح خيوط اتصال بين دهاليز الواقع والتماعات اليوتوبيا، بين الخاص والعام، والمحلي والعربي والعالمي، والحاضر والمستقبل، ما دامت خيوطاً لغوية، بيانية متوفرة بالمجان. يعزز هذه الحرية الطليقة بلا حدود كونها مستوحاة بالمجان من كتب الغرب المترجمة أيضاً. ما من خسارة ولا جهد هنا. هذه خصيصة جوهرية في تطرف ستينيينا، تبعدها عن تطرف ستينيي روسيا القرن التاسع عشر.

    جيل الستينيين الروس جاءوا مع القيصر اليكساندر الثاني الذي شرع بمرحلة الإصلاح، والتي توجت بتحرير العبيد عام 1861. كانت منجزات الإصلاح كبيرة، لعل أبرزها حرية المفكر في الحوار والاجتهاد. ولكن هذه الحرية لم تمنح الستينيين من المثقفين الشباب إلا معانقة أكثر الأفكار لا واقعية، والطمع بتغييرات جذرية تذهب مدى لا وجود له إلا في المستحيل. كان دستويفسكي واحداً منهم، إلى أن حكم بالاعدام (1849)، ونفذ منه بمعجزة. بعدها عاد الى الانسان، يعالج أهواءه ومخاطر أفكاره.

    الستينيون العراقيون حققوا هويتهم داخل حركة ثقافية استثنائية في مرحلة حكم العارفيْن، التي جاءت مثل هدأة صمت، بعد مرحلة البعث الانقلابية الدموية. لم تكن مرحلة إصلاحية، بل مرحلة فراغ، والسلطة فيها ليست كلية الحضور في حياة الفرد والمجتمع. هذه الهدأة منحت الستينيين فرصة الحركة والحياة بطلاقة غير معهودة. سامي مهدي يفتتح كتابه عنهم بقوله: "كان إرهاب السلطة العارفية يخيم على العراق كله، وكانت السجون تكتظ بالمناضلين، والمقاهي تعج بالعاطلين عن العمل والمفصولين منه لأسباب سياسية، وكانوا هم، أو أغلبهم، شباناً خرجوا تواً من تجربة سياسية مريرة تفوح منها رائحة الدم..."(17) سامي مهدي كتب ذلك عام 1994، أي بعد ثلاثين عاماً، وعلى امتدادها، من تجربة حكم البعث، التي لم يشهد العالم شبيهاً لها في دمويتها. رائحة الدم التي تفوح من تجربة الستينيين السياسية لا صلة لها بمرحلة الهدأة العارفية. بل هي رائحة مخالب المناضلين التي جربت جسد الأحياء في 1963، وسعت طوال سنوات الهدأة لشحذ المخالب من أجل المذابح التالية.

    فاضل العزاوي أكثر نفعاً في إبراز مفاتن الستينيين الصارخة، فلنتابعه يؤرخ لهذه المرحلة:

    "كانت اللوحة السياسية في عراق منتصف الستينات متنوعة، تحمل أثراً من كل لون، أكسبها ذلك الغنى الثقافي الروحي الذي أضفى على الحياة بهجتها المفتقدة منذ زمن طويل. وكان سر ذلك كله يكمن في ضعف الدولة وكفها عن التدخل السافر في حياة الناس، ذلك النزوع الذي يشكل الجوهر الفعلي لكل الدكتاتوريات. وفي مقابل النزوع التسلطي للدولة على المجتمع كان ثمة انحسار كامل في النزوع التسلطي لللأحزاب والحركات السياسية لفرض وصايتها الايديولوجية على الناس مثلما كان يحدث في الماضي. كانت الحياة نفسها قد فرضت هذا التطور الذي مكن الشعراء والكتاب من العودة الى أنفسهم والتفكير برؤوسهم بدل التفكير برؤوس الآخرين"(161-162)

    في النص التباسات مربكة، فكيف يكون كف الدولة عن التدخل السافر في حياة الناس جوهراً فعلياً لكل ديكتاتورية؟ وما معنى أن تكون الحياة نفسها تفرض التطور وتعيد الشعراء والكتاب الى أنفسهم، دون تأثير من النظام السياسي؟ فاضل العزاوي لا يريد أن يعطي للشيطان حقه، إن صح التعبير الانكليزي. إنه، وسامي مهدي، يجدان الفترة مظلمة لأنها لم تمنح المثقفين فرصة تجريب النظرية الثورية في الفعل الثوري الانقلابي. المثقفون كانوا طلائع الأحزاب الثورية، التي كانت بدورها طليعة الجماهير. والجميع بدأ يستثمر سنوات الاستراحة القليلة لتأليب النفس باتجاه "حلمه الفردوسي": البعثيون يحذرون من الدكتاتورية العسكرية المقبلة. القوميون يجربون انقلابهم الذي فشل. شيوعيو القيادة المركزية "يفجرون القنابل في الشوارع ويحلمون بالزحف الى بغداد من الأهوار".

 

    المسافة بين ستينيي روسيا القرن التاسع عشر وستينيي الغرب، التي اختلف بشأنها المتطرفان ستيفان وشاتوف، أقصر بكثير من ذات المسافة بين ستينيي العراق وستينيي الغرب، دون أدنى شك. هناك دائماً ظاهر خادع يغري أحدنا، نحن المتفرجين على منجزات الحضارة الغربية الحديثة، بالمشاركة، التي تمنحنا إحساساً إيهامياً بالمساواة. الحركة الستينية العراقية تفجرت بحكم الهدأة السياسية، التي منحت للحياة وللأفراد فرصة للتنفس. المثقفون الذين انتفعوا من هذه الهدأة لصالح حركة الإبداع، طمعوا أيضاً في تأليب تطلعهم العقائدي الى "الحلم الفردوسي". فأعطوا شرعية للفعل السياسي الذي أشرنا اليه في الفقرة السابقة. إدعاء القرابة مع الموجة الستينية الغربية ضرب من إيهام النفس، يشبه إستيهامات المراهق مع الممثلة الأمريكية على شاشة السينما.

    حركتنا الستينية كانت وليدة استراحة المحارب من حمامات الدم، وخيبات الأمل، والأحزان. في حين كانت ستينيات الغربيين وليدة ترف بكل معنى الكلمة. صحيح أننا أبناء ذات السحر اليوتوبي ، والتطرف، ولكن على سبيل المحاكاة والتقليد. خرجت الشبيبة الغربية على مؤسستها الوطيدة الراكزة، وعلى عائلتها المكينة المستقرة، وعلى الحرم الجامعي العتيد، مدفوعة بالملل والرغبة بالفانتازيا. في حين اجترحنا هيئة عائلة صارمة من عائلتنا البسيطة المسكينة، وتوهمنا مؤسسة طاغية الثبات من حياة خالية من ظل مؤسسة، وتخيلنا قلاع جامعة عبوس من نشاط تربوي وعلمي واهي القوى وثرنا عليهم. أحدهم وصف بطرس في "الشياطين" قائلاً: "أقول لك يا سيدي إنه من السهل عليه أن يعيش في هذا العالم، لأنه يرى الناس على نحو ما يتخيلهم، لأنه ذاته يتخيل شخصاً ثم يعيش داخل هذا الشخص الذي يتخيله".(1،434 مع بعض التصرف في ترجمة الجملة الأخيرة التي لم تكن دقيقة، واضحة في ترجمة الدروبي) فاضل العزاوي ظل أوسعنا خيالاً في أن يرى الناس والظواهر على نحو ما يتخيلهم:

    "الروح الجديدة التي أطلقتها الستينات داخل المجتمع العراقي، متخذة شكل الانتفاضة الثقافية، كانت ظاهرة عراقية بالتأكيد ولكنها لم تحدث بمعزل عن الروح الجديدة التي كانت تعصف بالعالم كله آنذاك. فقد اتفقت الشروط الداخلية مع الشروط الخارجية ضمن لحظة تاريخية نادرة المثال بطريقة يصعب الفصل بينها. في تلك الأيام بدا العالم وكأنه يسجل مصيراً للبشرية كلها. انتفض الجيل الجديد في أوربا وأمريكا ضد كل بؤس الرأسمالية ودعاواها الفكرية والأخلاقية. ولكنه رفض في الوقت ذاته الجمود المرتبط بفكر اليسار التقليدي، مانحاً الثورة معنى جديداً: تحرير العقل والجسد من تابوات الماضي."(165)

    هذا الربط بين ما حدث في العراق وما حدث في باريس وبرلين ولندن، يرضي النزعة "الكونية" للظاهرة الستينية عند فاضل في كل كتاباته، كما يرضي النزعة "الرافضة بصورة مطلقة". إنه يتبنى من الأولى نداء غيفارا الأخير لخوض حرب العصابات من أجل تحرير العالم كله." ولا يغفل ماوتسي تونغ "يعلن الثورة الثقافية ضد الحزب الشيوعي الصيني وشبان الحرس الأحمر يقتادون القادة في الشوارع وقد عُلقت في صدورهم لافتات تقول: "أنا رجعي"...الخ

    ومن الثانية يتبنى هاجس الرفض المطلق، الذي سبقه أدونيس إليه. هذا الهاجس المجرد الذي يترجم الى رغبة عملية بالتحطيم، جسده بطرس في رواية "الشياطين": "...سوف ننادي بالتدمير...فلماذا...لماذا كانت هذه الفكرة فاتنة آسرة الى هذا الحد؟ نعم، يجب على المرء أن يرخي أعضاءه أحياناً! ... سوف نشعل حرائق! ... سوف ننشر أساطير. ومن أجل تحقيق هذا ستفيدنا أيسر حلقة صغيرة. سأجد لك بين هذه الحلقات هواةً يطلقون النار فرحين، بل يرون أنهم نالوا شرفاً عظيماً لأنهم كانوا الأوائل. وعندئذ إنما تبدأ البلبلة والثورة. وسنشهد انقلاباً لا عهد للعالم بمثله من قبل ... سيهبط على روسيا ضباب كثيف ... وستبكي الأرض آلهتها القديمة ..." (2، 61)

    هذه الفكرة الصغيرة الفاتنة التي أزهرت من جديد بين شبان الطبقة الوسطى الغربية فدفعتهم في باريس وبرلين ولندن ونيويورك الى إنكار المؤسسة والعائلة والجامعة والدولة، يراها فاضل عنصر قرابة روحية مع حركة الستينات العراقية "لا تُخطئها العين" (171). "إنها أبعد وأعمق من المحاكاة الشكلية. إنها قرابة الموقف المشترك من قضايا عصرهم ضمن جيل واحد." (173)

    "لقد أسس البيتنكس رؤيتهم الفكرية والشعرية على أساس الاعتراض والاحتجاج ضد أسطورة "طريقة الحياة الأمريكية" التي واجهوها بأسطورة مضادة. واجهوا التطرف في النظافة بالعثور على المتعة بالوساخة وهاجموا مثال العصامية الأمريكية، حيث يصنع المرء نفسه من الصفر بالعمل الشاق المضني، وامتدحوا الكسل. كما سخروا من الأخلاق البيوريتانية الرفيعة. وفيما بعد أطلق الطلبة على هذا "السباق نحو القمة" بكل احتقار اسم "سباق الفئران".

    "من صلب هؤلاء الرافضين انحدر ذلك الجيل الجديد الذي اتخذ احتجاجه في البداية طابعاً بدائياً ومعاكساً لجوهره، عندما شكل عدد من الشبان في كاليفورنيا بعفوية عصابات تقود الدراجات البخارية وتعتدي على المارة، مطلقين على أنفسهم "ملائكة الجحيم ـ Hell`s Angels". ولكن هؤلاء الذين ما كانوا يمتلكون أي محتوى فكري سرعان ما انقرضوا مع ظهور الهيبيين الأوائل في مطلع الستينات، بوجوههم الشاحبة الرقيقة مثل وجه المسيح، بشعورهم المنسدلة الطويلة، بورودهم، بسراويل شركة ليفي شتراوس الزرقاء المثقوبة، بقلاداتهم المتدلية من العنق، بسجاير الماريوانا، بالجنس الحر، بسلميتهم وحياتهم الجماعية في الكومونات. كان الهيبيون التجسيد الحي للقيم الأدبية التي أبدعها جيل البيتنكس. فقد رفضوا القيم الرأسمالية لمجتمعاتهم ودعوا الى الوفاء للداخل الانساني وغزوا العالم بشعارهم المثير الذي أصبح شعاراً لجيل بأكمله "Make love not war". في كانون الثاني (يناير) 1967 بلغت الموجة الهيبية أوج تألقها في الممارسة الجماهيرية العلنية للحب الحر الذي أقدم عليه ألوف من الشبان والشابات في متنزه "غولدين غيت" في سان فرانسيسكو. لقد ابتكرت الحركة الهيبية في الحقيقة "ثقافة مضادة"، امتزجت فيها العناصر المضادة للرأسمالية مع التحرير الجنسي ومعاداة الحرب والعسكرية ورفض الروح الاستهلاكية وإعادة الاعتبار الى الحلم والتأكيد على المغامرة. هذه الروح المضادة تحولت في الوقت ذاته الى حركة شاملة في الفن والأدب أيضاً وشكلت معنى الكتابة الطليعية الجديدة.

    "إن القرابة الروحية بين الستينيين العراقيين والبيتنكس هي أبعد وأعمق من المحاكاة الشكلية. إنها قرابة الموقف المشترك من قضايا عصرهم ضمن جيل واحد، وهي دليل على أنهم كانوا في قلب زمنهم ويدركون روحه الحية."(172 -173)

     

   

  

 

2

 

    "الشياطين" رواية ذات أفقين: أحدهما سياسي يعالج أزمة تطرف العقائديين الستينيين في روسيا القرن التاسع عشر، الذين قاربناهم مع أزمة ستينيينا في القرن العشرين، والآخر ميتافيزيقي، ينصرف فيه دستويفسكي الى معالجة قضايا كبرى كالخير والشر، والله، والحرية.

    كاتب آخر معاصر لدستويفسكي، ولا يقل شهرة وموهبة عنه، هو تورجينف، عالج أزمة تطرف الستينيين وانصرف لهم وحدهم في روايته "آباء وأبناء". والموقف منهم فيها أكثر عقلانية وموضوعية من موقف دستويفسكي، لا بل يبدو موقفاً حانياً، ولكن غير متعاطف. الأمر الذي يعكس شخصية تورجينف ذاته، مقارنة بشخصية دستويفسكي الحادة، المعتمة، الموسوسة.

    ومن أجل مزيد من إضاءة ظاهرة ستينيينا رأيت أن أعود الى جذور التطرف اليوتوبي لدى الشبيبة المثقفة، التي يحلو لها ان تختلق حلولاً وهمية للإنسان والمجتمع والعالم والكون، كما رأيناها في لغة فاضل العزاوي، وتحاول جاهدة أن تدفع الناس إليها داخل مخاضة من الدماء، محتفظة لنفسها بحق ارتقاء الناصية الآمنة للمراقبة. حدث هذا في القرن التاسع عشر في روسيا، وفي ثلاثينيات القرن العشرين، وفي ستينياته. ولقد اعتمدت في حديثي هذا على معالجات ثلاث، الأولى للكاتب البريطاني الروسي الأصل إزايا برلين، والثانية للإنكليزي جورج أورويل، والثالثة للشاعر البولندي ميووش.

 

    في طبعة پنگوين الشعبية لرواية "آباء وأبناء"(4) لتورجينف وقعت على دراسة طويلة للمفكر إزايا برلين، شاءت دار النشر ان تنتخبها مقدمة لطبعتها. وهي واحدة من الدراسات الكثيرة التي كتبها برلين ولم تجمع في كتاب. كان تورجينف شخصية أخاذة، بالرغم من الغلالة الشائهة التي يلقيها عليه دستويفسكي في "الشياطين". فعقله لم يُصغ للخلاف السياسي، بل صيغ لفهم الطبيعة، العلاقات الإنسانية بين الأفراد، طبيعة المشاعر البشرية، وكيفية التعبير عنها عن طريق الفن. "كان ينطوي على شكل متطور جداً مما كان يسميها الشاعر كيتس بالمقدرة السلبية، مقدرة الدخول الى معتقدات، ومشاعر، ومواقف غريبة عليه، ومتعارضة مع مواقفه."(9) "لقد حاول أن يقف جانباً ويرى المشهد بصورة موضوعية. على أنه لم ينجح دائماً في ذلك."(10) المتطرفون الثوريون عادة ما يسمون موقفاً كهذا انتهازياً، أو هروبياً، أو ما شاءت ثقافتهم التجريحية من تسميات. وليس صعباً تخيل مقدار الاتهامات التي ألصقت بموقف تورجينف. ولكي نتعرف على الطبيعة الجوهرية للموقف المتطرف على اختلاف الأزمنة لنقرأ موقف فاضل العزاوي من هذا الذي "يقف جانبا، ويرى المشهد بصورة موضوعية": "من الأمور الطريفة في الثقافة العربية الآن ضمن طرائف كثيرة أخرى هو أن بعض الشعراء والكتاب العراقيين بالذات راح يتباهى على أقرانه بأنه لم يتدخل في السياسة في أي وقت وأنه ظل بعيداً عن كل المعارك التي شهدها بلده، مكتفياً ربما بمناجاة النجوم والقمر، باعتبار أنه لا ينبغي للشاعر أو الكاتب أن يقول أي شيء، يهم الناس. إن هؤلاء الذين لا يقولون أي شيء حقاً ربما لا يعرفون أو حتى يعجزون عن معرفة حقيقة أن الشاعر أو الكاتب أو الفنان العربي الذي يعزل نفسه عن أفق حركة الحداثة العربية الشاملة ويخلو رأسه من أي فكرة تثير اهتمامنا ويصعب عليه أن يكون ضميراً تاريخياً للثقافة الإنسانية الجديدة داخل مجتمعه يصبح عبئاً على الثقافة نفسها وأداة تمسيخ لها. ولكن بما أننا نحترم حتى حق الانسان في الخطأ فسوف نتركهم يواصلون لا شيئهم، كجزء من فكاهة الأدب في مجتمع التخلف."(348)

    اللهجة شرسة ولا تقبل التسوية، وادعاء رحابة الصدر في السطر الأخير (احترام حق الانسان) سخرية أكثر شراسة. الراديكالي ينطلق في موقفه من مركز الأهواء فيه، ولغته وليدة هذه الأهواء، فهي غير معتمَدة عقلياً. الذي ينأى بنفسه عن معترك الأديولوجيات والعقائد العمياء لا تعود له، في نظر الراديكالي، غير مهمة مناجاة النجوم والقمر! وكأن مهمات الكاتب والشاعر محدودة بهاتين المهمتين! والأفكار التي تثير اهتمام الراديكالي لا تخرج إلا من "أفق الحداثة العربية الشاملة"، حتى لو كان هذا الأفق بالونة هواء أو دخان لغوي لا غير.

   

   " تورجينف الذي يحذر اندفاعة الراديكاليين كان عرضة لاتهامات الراديكالي دوبرولايوبوف، المحرر الأدبي لمجلة "المعاصر"، عن رواية "في المساء": "...بينما يتحدث تورجينف عن المساء، نسأل نحن عن فجر اليوم الحقيقي متى يطلع؟ إذا لم يكن قد طلع بعد فبسبب أن الشبان المتنورين الأخيار، أبطال رواية تورجينف، عاجزون ومشلولون، وسوف ينتهون، بسبب كل كلماتهم الحلوة الرقيقة، متكيفين مع قناعات الحياة المحافظة لمجتمعهم، لأنهم مرتبطون بقوة بالنظام السائد، بشبكة العائلة والعلاقات الاقتصادية والمؤسساتية التي لا فكاك منها...إيرزِن وأوغاريف يقيمون في لندن ويضيعون وقتهم في فضح وعرض حالات الظلم والفساد والفوضى في الامبراطورية الروسية. ولكن هذا على بعده ربما يساعد على إزالة مخاطر نهايتها ويطيل عمرها. المهمة الحقيقية هي في تحطيم كل النظام اللاإنساني...إن هؤلاء، ومن ضمنهم تورجينف، يريدون إصلاحاً وما يؤمن الراحة. نحن نريد تحطيم ما هو ماثل. نريد ثورة وبناء أسس جديدة للحياة. ما من طريقة أخرى كفيلة بتحطيم عهد الظلام."

    قناعة تورجينف لم تحصنه من المخاوف من تأويلات الراديكاليين لرواياته. كان في حالة ازدواج من مشاعر الاعجاب والعطف إزاء هذه الشبيبة التي تتحلى بشجاعة في المجابهة، والقدرة على التضحية في وجه الرجعية، والشرطة، والسلطة، الى جانب ازدراء وعدم احتمال لتوجههم النفعي المضاد والخشن لأي حس جمالي، ورفضهم المتطرف لكل ما هو عزيز عليه من ثقافة ليبرالية، وفن، وعلاقات إنسانية متحضرة.

    كان تورجينف يشارك المفكر هيرزن وأصدقاءه كراهيتهم لكل أشكال الإستعباد، والظلم، والقسوة، ولكنه على غير شاكلة بعضهم لا يرتاح كثيراً داخل أي مبدأ أو نظام إديولوجي. كانت تلك المبادئ بالنسبة له تجريداً يثير استنكاره. رؤيته بقيت دقيقة، حادة، صلبة، وواقعية. المذاهب الهيجلية، يسارية ويمينية، المحيطة به يوم كان طالباً في برلين، وكذلك المادية، والاشتراكية، الوضعية...بدت له جميعاً محض تجريدات.

    هيرزن يرى شبان الستينيات هؤلاء دوغماتيون، نظريون، تستحوذ عليهم الرطانة اللغوية...إنهم يريدون أن يحطموا نير الطغيان القديم، فقط لكي يعوضوا عنه بنير آخر من صنع أيديهم. إن جيل الأربعينيات (جيله وجيل تورجينف) ربما كان ضعيفاً، أحمقاً، وأبلهاً، ولكن هذا لم يكن يعني أن الجيل التالي، شبان الجيل الستيني الساخر، الخالي من الحب، الخشن بقسوة، هو بالضرورة أرفع منزلة منهم!

    كان تورجينف والليبراليون يرون بصورة عامة كل الميول الفكرية والمواقف السياسية وظائف للكائنات الإنسانية، وينكرون أن تكون الكائنات الإنسانية وظائف للميول الفكرية والمواقف السياسية. الأفعال، الأفكار، الفنون، الأدب، هي تعبيرات الأفراد، لا تعبيرات قوى موضوعية يصبح المفكرون معها مجرد تجسيدات لها. إن إنزال الانسان الى مستوى أن يكون مجرد حامل أو وسيط للقوى اللاشخصية أمر مرفوض بالنسبة لهم.

    إن رغبة هؤلاء في أن يتم التعامل معهم كبشر، لا كمجرد السنة ناطقة عن الاديولوجيات كانت خبرة أو تجربة نادرة، بحيث بدت ضرباً من الترف في عرف المنفيين الثوريين الروس...

    "التحولات الحاسمة في التاريخ تحدث، هكذا أُخبرنا، عندما تبدأ أشكال الحياة ومؤسساتها تعوق وتلجم القوى المبدعة الأكثر حيوية في المجتمع ـ  القوى الاقتصادية، والاجتماعية، والفنية، والثقافية ـ ثم لا تقدر على مقاومتها. أمام نظام اجتماعي كهذا تتحد الجماعات والأفراد من كل الأنواع والطبقات. حينها تشيع الاضطرابات (الثورة) التي تنجز، أحياناً، نجاحات محدودة. عدنها تحقق بعض مطالبها التي تكتفي بها، لأنها تشعر بأن أي مواصلة لا طائلة وراءها. إنها تتوقف. أو تواصل دون يقين. التحالفات تنهار. الأكثر حماساً وعاطفية، وتعصباً، خاصة بين أولئك الذين تبدو أهدافهم أبعد عن التحقيق، يرغبون عادة في المواصلة، لأن الوقوف في منتصف المسيرة يبدو لهم خيانة. المجموعة المتخمة، أو الأقل رؤى وأحلاما، أو أولئك الذين يخشون بأن النير القديم قد يُستبدل بآخر أكثر اضطهاداً، عادة ما تتوقف. إنها تجد نفسها عرضة للهجوم من طرفين، من المحافظين الذين ينظرون إليهم كمؤيدين مترددين، في أحسن الحالات. وفي أسوئها منسحبين وخونة. ومن الثوريين المتطرفين الذين ينظرون إليهم كحلفاء جبناء، أو على الأغلب كمرتدين. رجال من هذا النوع يحتاجون الى مزيد من الشجاعة ليقاوموا جاذبية كلا المحورين، وليعززوا محور الاعتدال في هذه الحالة المضطربة. من بينهم من يرون، ولا يملكون إلا أن يروا، وجوهاً عدة للحالة الواحدة. بالإضافة الى من يدركون بأن أي دافع إنساني مسيّر بفعل أهداف أو غايات لا رحمة فيها، إنما يشكل خطورة في أن يتحول الى دافع مضاد: دافع التحرر يتحول الى دافع للاضطهاد باسم التحرر، دافع مساواة  يتحول الى حكم قلة جديد، ودافع عدالة يتحول الى تحطيم كل نزعات التخلي عن الالتزام بالعقائد، ودافع حب الانسان الى دافع كراهية لكل أولئك الرافضين للطرق الوحشية التي تقود الى هذا الحب. إن هذا الموقع الوسط مرفوض، خطير، ومحظور. والحالة المعقدة لأولئك الذين يرغبون، داخل المعترك، في مواصلة الحديث مع الطرفين كثيراً ما تُفسر على أنها رخوة، انهزامية، مصلحية، وجبانة. هذه الصفات التي تلحق بالبعض، لم تكن تصح على رجل مثل إيراسموس، ولا على مونتاني، ولا على اسبينوزا، حينما وافق على الحديث مع المحتلين الفرنسيين لهولندا. إنها لم تكن تصح على بعض الليبراليين المندحرين في 1848، أو على أعضاء اليسار الأوربي ذوي القلب الشجاع الذين لم يقفوا الى جانب كومونة باريس عام 1871. ليس الضعف ولا الجبن الذي منع المنشفيك من الالتحاق بلينين عام 1917، أو الاشتراكيين الألمان التعساء من أن يصبحوا شيوعيين عام 1932. إن تأرجح معتدلين كهؤلاء، الذين لم يكونوا مستعدين لتجاوز مبادئهم أو خيانة دوافعهم التي يؤمنون بها، أصبح ميزة مشتركة لمرحلة ما بعد الحرب الأخيرة. نشأ جانب من هذا بسبب الوضع التاريخي لليبراليي القرن التاسع عشر، الذين كان عدوهم عادة من اليمين: الملكيون، القساوسة، الارستقراطية المؤيدة لحكم الأقلية الاقتصادي والسياسي. أولئك الذين ما كان يعنيهم جهل، ومجاعة، ومظالم، واستغلال الناس. إن الميل الطبيعي لليبراليين كان، وما زال، باتجاه اليسار. باتجاه كل ما من شأنه أن يحطم الحواجز بين البشر. حتى قبل الانقسام، الذي لا محيد عنه، كانوا مضطرين للاعتقاد بأن هناك أعداء لهم بين اليسار. ويشعرون من الناحية المعنوية بالغضب من التصرفات العنيفة والقاسية من قبل بعض حلفائهم. إنهم يحتجون بأن طرقاً كهذه سوف تعرقل الطريق الى الهدف المشترك. حدث هذا مع ليبراليين كالشاعر هاينه، أو لامارتين عام 1848. مازيني، وعدد من الاشتراكيين الجيدين، الذين كان لويس بلانك من خير ممثليهم. كانوا محبطين من أساليب كومونة باريس عام 1871. وبعد عبور الأزمات والتئام الجروح، استؤنفت الصراعات السياسية المعتادة من جديد. وانتعشت بعض آمال المعتدلين. فالورطات التي وجدوا أنفسهم غارقين فيها قد تكون وليدة لحظات انحراف لا تدوم. ولكن في روسيا، من ستينيات القرن التاسع عشر حتى ثورة أكتوبر 1917، أصبح هذا الشعور القاسي المربك، الذي تعمق عبر سنوات الاضطهاد والرعب، حالة مزمنة، وتعمداً للأذى لا يتوقف ضد الشريحة المتنورة من المجتمع الروسي. أزمة الليبرالية أصبحت لا حل لها. إنهم يرغبون بتحطيم السلطة التي تبدو لهم شراً كلها. إنهم يؤمنون بالعقل، وبالحياة الدنيوية، وبحرية الرأي، حرية الجماعات، والأجناس، والأوطان. بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية، وبالعدالة فوق كل شيء. إنهم يميلون الى تكريس الجهد الذي لا أنانية فيه. والخالي من المصلحة. وبشهادة أولئك الذين يضحون بحياتهم، بغض النظر عن تطرفهم، إلا أنهم يخشون من أن الخسارات التي تنتج عن عمليات الإرهاب والطرق اليعقوبية قد لا تعوض، وتكون أعظم من أية أرباح. كانوا فزعين من تعصب وهمجية اليسار المتطرف، بسبب احتقارهم للثقافة الوحيدة التي يعرفونها. وبسبب أيمانهم الأعمى بما يبدو لهم فانتازيات يوتوبية، فوضوية كانت أو شعبوية، أو ماركسية. وهؤلاء الروس يؤمنون بالحضارة الأوربية كمهتدين يؤمنون بشيء جديد ومرغوب فيه."

 

  

    يواصل برلين عن تورجينف: "... إن هؤلاء الذين مازالوا يظنونه فناناً غير ملتزم، مترفعاً عن المعترك العقائدي، ربما يدهشون لمعرفة أن ما من أحد في كل تاريخ الأدب الروسي، أو ربما الأدب عامة، قد تعرض لهجوم ضار ومتواصل، من قبل اليسار واليمين مثل تورجينف.   

 "إن الاستعمال المقصود للفن من أجل أغراض دخيلة عليه، كالأغراض الإديولوجية، والتعليمية، والنفعية، وخاصة كسلاح متعمد في حرب الطبقات، كما كان ثوريو الستينيات يريدون، كان مهمة كريهة لديه."(10-11)

        

   

   

   

                             

 

 

    

 

 

     

  3

 

    النزعة الراديكالية لدى المثقفين باتجاه اليوتوبيا كانت علامة فارقة للجيل الستيني في روسيا القرن التاسع عشر، ولقد انتظرت مئة سنة لكي تعاود الظهور لدى ستينيي الغرب في القرن العشرين. ولا بأس أن تجد من يمثلها لدى ستينيي العالم الثالث، في محاكاة ألفناها في حياتنا الثقافية  طوال القرن العشرين. إلا أن السنوات بينهما لم تخل تماماً من نزعات تسعى الى اليوتوبيا أو تستلهمها من بعيد. حدث شيء من هذا في الثلاثينيات بين مثقفي إنكلترا، ولكن على الطراز الانكليزي الميال الى الاعتدال، بسبب اختلاف الدوافع والظروف. كانت حصة الشعراء بين المثقفين هي الأكبر، وكان أودن في موضع القيادة. ومن يراجع أوراق جيل الأربعينيات والخمسينيات من الشعراء العراقيين لابد وأن يعثر على ذات الرغبة بالمجاراة، باسم التواصل الأممي. فأسماء أودن، ستيفن سبندر، ماكليس، دَيْ لويس...كانت في متناول اليد. ولقد استبعد حينها جورج أورويل علناً، وأُلحق بالقائمة المشبوهة السوداء. كما استبعد سرّاً كل التحول الدراماتيكي الذي حل بأودن وجيله باتجاه المحافظة والدين، بعد الحرب الأهلية الاسبانية مباشرة.

    كان جورج أورويل شيوعياً، اندفع الى إسبانيا ليحارب في صف اليسار، ثم أصابه ما أصاب بقية رفاقه من المثقفين الانكليز من صدمات، وخيبات أمل من نزعة التطرف العقائدية. ولكنه انفرد دونهم بتكريس موهبته في معالجة المخاطر المتخفية وراء نزعة اليسار، ووراء السلطات الشمولية التي ولّدتها.

    رواياته في هذا الشأن أكثر من معروفة، بالرغم من أن الجيل الستيني المسيس في العراق لم يلتفت إلا الى عناوينها، في حين ذهبت نصوصها المحرمة، مع دكتور ژيڤاگو لباسترناك، أدراج الغيب. أما مقالاته، وهو كاتب مقالة من الطراز الأول، فتكاد تكون مجهولة عنواناً ونصاً. واحدة من هذه المقالات بعنوان "في بطن الحوت"(5) كتبها عام 1940. وكما عرض إزايا برلين لظاهرة المثقف اليوتوبي المتطرف في روسيا عبر رواية "آباء وأبناء" وشخص كاتبها تورجينف، يعرض جورج أورويل لظاهرة الجيل الثلاثيني الانكليزي، جيل الشاعر أودن، عبر رواية "مدار السرطان" لهنري مِللر. تتحدث المقالة عن أجيال الأدب الانكليزي الثلاثة في العصر الحديث. ما يعنيني هنا الانتفاع من عرضه لظاهرة الجيل الثالث، جيل أودن.

    بعد حديثه عن الفكرة الأساسية، التي أسرت الجيل الأول من "الشعراء الجيورجيين"، وهي فكرة "جمال الطبيعة"، يتحدث عن "الإحساس التراجيدي بالحياة" للجيل الثاني، جيل إليوت أو جيل التشاؤم: "الفكرة التي لم تتمتع بوضوح كاف هي التي قادت كتاب العشرينيات الى أن يكونوا متشائمين. فما الذي يتخفى وراء كل هذا الإحساس الدائم بالانحطاط، بالجماجم والصبّار، وكل هذا التطلع وراء الايمان الضائع، والحضارات المستحيلة إن لم يكن الرخاء الجم والراحة الاستثنائية للمرحلة التي ينتمون لها ويكتبون فيها؟ في زمن كهذا فقط نجد "اليأس الكوني" قابلا للازدهار. الناس الذين ببطون جائعة لا يفكرون بهذا اليأس الكوني، ولا يفكرون حتى بالكون... مرحلة ما بين 1910-1930 كلها كانت مرحلة ازدهار ورخاء. حتى سنوات الحرب كانت محتملة مادياً. فالحرب انتهت، والسلطات الشمولية لم ترتفع بعد. المحرمات الأخلاقية والدينية بكل أنواعها قد تلاشت، والقدرة الشرائية في أحسن حال ...وليس من الصعب التمتع بتذكرة ذهاب وعودة رخيصة الى حافات الليل."

    ولكن ثمة شيء حدث في السنوات 30-1935. المناخ الأدبي تغير تماماً، وظهرت مجموعة جديدة من الكتاب تختلف تماماً عن الجيل الذي سبقها. استحوذت عليها فكرة "الأهداف الجدية" بدل "الإحساس التراجيدي"، وبدلاً من الاتجاه الى الكنيسة اتجهت الى الشيوعية، ومن ماركسيتها التقطت ثمرتها النبوئية، كمادة جديدة للشعر معبأة بالامكانات.

يقول سپِندر في إحدى قصائده:

 

                  نحن لا شيء

                  انحدرنا الى العتمة وسنتلاشى.

                  فالتعرفْ إذن، أن في هذه العتمة

                  أمسكنا بمحور فكرة سرّي

                  تدور عجلته المضاءة الحية في سنوات المستقبل خارجاً.

 

    طبعاً أن تكون شاعراً ماركسياً لا يعني لدى جيل أودن أن تكون قريباً من الجماهير. على أن هذا الانتماء صار موضة المرحلة، كما كان الانتماء للكاثوليكية موضة الجيل السابق.

    يرى أورويل "أن الحركة الشيوعية في أوربا الغربية بدأت بالرغبة لإحداث انقلاب عنيف للرأسمالية، ثم انحدرت، بعد بضعة سنوات، الى أداة في يد السياسة الخارجية الروسية. وهذا أمر لا يمكن تجنبه حين يهن الهياج الثوري ويموت بعد الحرب العظمى.

    "التبعية للمركز الذي تتحكم به مصالح الحكم، والقيادة المستبدة، عادة ما يكون عرضة للتذبذب، وتغيير القناعات. ولذلك يرى أورويل  "أن كل شيوعي في الحقيقة قابل في كل لحظة لتغيير القناعات السياسية، أو أن يترك الحزب. فالاعتقاد القاطع يوم الاثنين قد يصبح هرطقة ملعونة يوم الثلاثاء، وهكذا! حدث هذا كثيراً في السنوات العشرة الأخيرة. حتى أصبح الحزب الشيوعي في أي بلد غربي كياناً غير مستقر بصورة دائمة، وصغير الحجم. والعضوية الطويلة فيه عادة ما تكون محصورة في حلقة من مثقفين مرتبطين بالبيروقراطية الروسية، أو في مجموعة أكبر عدداً من الطبقة العاملة ممن تشعر بولاء تجاه روسيا السوفياتية دون فهم بالضرورة لسياستها. أما البقية فهي عضوية غير مستقرة، عرضة لأن تغادر، أو تنظم وفق تغيرات مواقف الحزب...

    "لا شك أن في عالم 1935 كان من الصعب على أحد أن يظل لا مبالياً سياسياً. ولكن لم اتجه هؤلاء الشبان الى هذه الشيوعية الروسية الغريبة عليهم؟ لمَ افتتن الكتاب بهذا الشكل من الاشتراكية الذي جعل صدق الفاعلية العقلية أمراً غير ممكن؟ السبب الحقيقي يكمن في بطالة الطبقة الوسطى." هناك عامل آخر دون شك يسهم في موجة الاعجاب بروسيا بين أفراد الطبقة الوسطى الانكليزية خلال هذه السنوات. يكمن هذا العامل في عمق الدعة، والنعومة، وضمانة العيش في انكلترا نفسها. قد تبدو ملامح مظالم هنا وهناك، ولكن انكلترا ما زالت أرض سيادة القانون، والأكثرية من الشعب الانكليزي لا عهد لها بخبرة العنف واللاشرعية. فإذا ما نشأت في مناخ كهذا لن يكن يسيراً عليك أن تتخيل طبيعة الحكم الاستبدادي. كل الكتاب المؤثرين في الثلاثينيات تقريباً ينتمون الى الطبقة الوسطى، ولم يذوقوا بحكم السن مرارة وويلات الحرب العالمية الأولى، ولا ذكرياتها. ولذا لا تبدو لهم مرعبةً مفردات مثل: التطهير، الشرطة السرية، الإعدامات الجماعية، السجن بلا محاكمة...الخ. إنهم قادرون على قبول فكرة السلطة الشمولية لأنهم لا يملكون غير خبرة الليبرالية. تأمل، على سبيل المثال، هذا المقطع من قصيدة "إسبانيا" للسيد أودن (وهذه القصيدة بحكم الصدفة من بين القصائد القليلة المهذبة، التي كتبت حول الحرب الاسبانية):

      

        الغد للشبيبة، وكالقنابل يتفجر الشعراء،

        التجوال بمحاذاة البحيرة، أسابيع الألفة الحميمة،

               والغد لرهان الدراجات

        تقطع الضواحي في مساءات الصيف. ولكن لهذا اليوم النضال.

 

        لهذا اليوم المزيد المتعمّد من فرص الموت،

        والرضا الواعي بالذنب في الجريمة الواجبة:

               لهذا اليوم اتساع القدرات

        في المنشور الزائل ولقاءات الخلايا الممل.

 

    "في الفقرة الثانية يعمد الشاعر الى أن يضع تخطيطاً موجزاً ليوم في حياة رجل حزب مخلص. في الصباح بضعة جرائم سياسية، ثم فاصل عشرة دقائق لخنق مشاعر الندم البرجوازي، بعدها وجبة عداء سريعة وعصرية مشغولة ثم مساء يُصرف بالكتابة على الجدران وتوزيع المناشير. كل الفعاليات هادفة، ولكن لاحظ عبارة "الجريمة الواجبة". إنها يمكن أن تُكتب فقط من قبل فرد لا تبدو "الجريمة" بالنسبة له أكثر من "كلمة". بالنسبة لي لا يمكن أن أتحدث عن الجريمة بهذا اليسر. فقد حدث أن رأيت عدداً من أجساد الرجال القتلى ـ لا أعني بهم من قتلوا في معركة بل من قتلوا عن عمد. ولهذا أعرف شيئاً من المعاني التي تنطوي عليها كلمة "جريمة قتل"، الرعب، الكراهية، عويل الأقرباء، الدم، الرائحة. الأمر الذي لا يمكن إلا أن أتجنبه، كما يتجنبه أي إنسان سوي. الذين ينتسبون لهتلر أو لستالين يجدون جريمة القتل ضرورية، ولكنهم لا يعلنون عن قسوة قلوبهم هذه، ولا يتحدثون عنها كجريمة قتل: إنها في لغتهم "تصفية"، "تخلص من"، أو بعض من هذه العبارات المسكنة...إن الكثير من أفكار اليسار ضرب من اللعب بالنار من قبل أفراد لا يعرفون حتى إذا ما كانت النار حارة وكاوية...

    "هناك أكثر من نوع من أنواع عدم القدرة على تحمل المسؤولية بين الكتاب. التيار المعتاد نجده بين الكتاب الذين لا يرغبون في ربط أنفسهم بحركة التاريخ: منهم من يحاول تجاهلها، أو من يحاول الوقوف ضدها. الذين استطاعوا تجاهلها قد يبدون حمقى، والذين فهموها بعمق من أجل امتلاك القدرة على الوقوف ضدها قد يحصلون على رؤية كافية لمعرفة أنهم لن يستطيعوا تحقيق النصر...في الجانب الآخر هناك "التقدميون" التظاهريون، المندفعون أبداً الى الأمام لمعانقة إسقاطات ذاتية يتوهمونها مستقبلاً. كتاب العشرينيات التزموا الخط الأول، أما الخط الثاني فالتزمه كتاب الثلاثينيات...

    "أهمية عمل هنري مِللر "مدار السرطان" يكمن في تجنبه الالتزام بأي من الخطين السابقين. إنه لم يحاول أن يدفع حركة التاريخ الى الأمام، كما أنه لم يحاول سحبها الى الوراء. ولكنه أيضاً لم يحاول تجاهلها. إنه في موقفه هذا قد يكون أكثر صلابة في الاعتقاد بالانهيار الوشيك للحضارة الغربية من الأكثرية الساحقة من الكتاب "الثوريين". فقط لم يكن يشعر أنه ملزم بعمل أي شيء تجاهها. إنه عازف الكمان أمام روما التي تحترق. ولكنه، على خلاف أكثرية الناس الذين يعزفون مثله، كان يعزف كمانه ووجهه لا يفارق التحديق باللهب...

    "تحدث السيد أي.أم.فورستر مرة كيف أنه في عام 1917 قرأ قصيدة "بروفروك" مع قصائد مبكرة أخرى لأليوت، وكيف شدّ من عزمه، في زمن كذلك الزمن، الحصولُ على قصائد "مبرّأة من مشاعر المصلحة العامة public spiritedness ". يواصل فورستر:

'القصائد غنت مشاعر شخصية بشأن الإشمئزاز وانعدام الثقة بالنفس، وغنّت مشاعر أناس أصيلين على ما يبدو، لأنهم كانوا غير مُلفتين للنظر، وضعافاً... كان هذا احتجاجاً، ومن نوع ضعيف وواهن، وأكثر انسجاماً بفعل ضعفه...إن من يلتفت جانباً من أجل الاستماع الى شكوى سيدات وغرف استقبال إنما يحفظ لنا حفنة صغيرة من احترامنا لأنفسنا، ويواصل بذلك الحفاظَ على التراث الانساني.'

 

    "هذا تعبير رائع. الشاعر ماكنيس اقتبس هذا الشاهد وأضاف باعتداد:

    'بعد سنوات عشرة اندفعت احتجاجات من قبل شعراء أقل ضعفاً، والموروث الانساني واصل ولكن بصورة مختلفة. تأملات العالم المتشظي أصبحت مملة للذين جاءوا بعد إليوت، وهم يطمعون بإعادة نظامه.'

   ... إنه يرغب قي أن يرانا نعتقد بأن الذين جاءوا بعد إليوت (السيد ماكنيس وأصدقاؤه) كانوا أكثر تأثيراً في احتجاجهم مما فعله إليوت حين نشر مجموعته "بروفروك"، في الوقت الذي هاجم فيه جيش الحلفاء خط هيندينبيرگ. ولكنني لا أعرف أين أقع على هذه الاحتجاجات. ولكن في التعارض بين تعليق فورستر وتعليق ماكنيس نقع على كل الاختلاف بين رجل يعرف تماماً ما كانت عليه حرب 1914-1918، ورجل لا يكاد يتذكرها. الحقيقة أن في عام 1917 ما كان تفكير الشخص ولا حساسيته بقادرين على فعل شيء، باستثناء ان تبقيه إنساناً، إذا كان هذا ممكناً. والإشارة الى حالة العجز، وحتى العبث، ربما تكون أفضل الطرق لعمل ذلك. لو كنت جندياً محارباً في الحرب العظمى، كنت أكثر رغبة في الحصول على قصائد "بروفروك" من الرغبة في الحصول على قصائد "رسائل الى الشبان في الخنادق". كنت سأشعر مثل السيد فورستر بأن الوقوف ببساطة بعيداً، والاحتفاظ بالتماس مع مشاعر ما قبل الحرب، قد جعل إليوت يواصل الاحتفاظ بالموروث الانساني. فأي ارتياح وفرج سيكون في وقت تملك فيه أن تقرأ ترددات مثقف من الطبقة الوسطى مصاب بالصلع. إنه أمر يختلف تماماً عن القراءة حول التدريب على الطعان بالحراب. بعد تساقط القنابل ومشاهد طوابير الطعام وبوسترات الدعوة للتطوع، نقع على صوت إنساني! أي ارتياح وفرج!"

 

    أي ارتياح وفرج حقاً!        

 

     

  4

 

    من بين "الروح الحية" و"الموجة الصاخبة" الستينيتين في العراق لم تخرج إلا بضعة أصوات شعرية خفيضة، أعطت شرعية لبضعة تنهدات رأت فيها "صوتاً إنسانياً"، ومبعث "ارتياح وفرج". إذ ان تلك الروح الحية والموجة الصاخبة مثلت بصورة جد صادقة هستيريا الرغبة في "تجريد" الانسان الى مجموعة أفكار. وأعطت الشرعية لسحقه تحت عجلة رمزيته، أو تعزيز هذه الشرعية التي سبقتهم لدى شعراء اليسار جملة. كانت صدى لا إنسانياً لما حدث في ستينيات الغرب، التي قادها الطلبة باسم حرب ڤيتنام، ولكن الى الهدف الأسمى المتمثل في تحطيم سلم القيم، والمؤسسة، وعلى رأسها الدولة.

    حين جاءتنا قصائد أدونيس كانت، كما شاء لها الشاعر أن تكون، "إنجيل الرفض". طبعاً لم يسعَ أحد لتحديد معنى هذا الرفض وحدوده، ولا حتى أدونيس نفسه. كان الجميع يطمع به رفضاَ شاملاً لكل ما أعطاه التاريخ، والخبرة. وقبولاً شاملاً للطبيعة، بكل ما فيها من قوى اعتباط وفوضى.

    القصائد التي كنت أكتبها كانت أشبه بأغنية في حنجرة راع فوق رابية، تطل على مدينة تحترق. كنت أرى الإعلان عن عجزي التام شجاعةً، والحديثَ الشجيَّ الهادئ عن "القمر والنجوم"، على حد تعبير فاضل العزاوي الساخر، عزاء وسلوانا. وكنت أرقب الإسهام المتحرق، المؤلب لمزيد من الثورة، ولمزيد من التجاوز، ولمزيد من الجنون، ولمزيد من الهدم، وأرى فيه نبوءة مروعة. كنت دائم الرؤيا لسد مأرب وشيك الانهيار. ولكن قراءاتي كانت بمعزل عن كل توجسي الروحي. كانت تحيا في بهو الثقافة العام. كنت أغني أدونيس ولا ألتفت الى مخاطر الفعل فيه. أغني: "مدينتي أرض بلا خالق/ والرفض إنجيلي"، وأنا في حمى البحث عن خالق، وحمى البحث عن الرضا. وأغني عبد الصبور في ذات الوقت: "حين فقدنا الرضا/ بما يريدُ القضا/ لم تثمر الأشجار...". إزدواجية المثقف بي هي التي أنهكت قواي الروحية والجسدية في تلك المرحلة المبكرة من التكوين. ولكن مناعة الشاعر ضد مرض تحويل الانسان الى رمز، وضد سحر الايمان العقائدي كانت ثابتة.

    قبل مجيء أدونيس كان الشعر العراقي قد قطع شوطاً مثيراً في إنضاج صفتين متناقضتين، ما كانت لتنتصر واحدة على أخرى لولا الظرف السياسي الذي طوى الشعر والشعراء تحت جناحيه. الأولى صفة الشاعر المتسائل، والثانية صفة اليقيني. شاعر الحيرات اكتشف حيرته مع اكتشافه عنصر الجدة في الشعر. ولذلك بدت الحيرة والجدة وجهين لجوهر شعري. شاعر اليقين جاءت به الحداثة، لا الجدة. لأن الجدة اكتشاف، في حين لا تعدو الحداثة أن تكون استيراداً من مكان وزمان الحداثة الغربية. وكما أن الجدة ابتكار في قوى التعبير الشعري، تبدو الحداثة استيراد أفكار ومفاهيم.

    كان السياب، الملائكة، البريكان، بلند الحيدري، حسين مردان أسياد الأولى. في حين انفرد البياتي، وعدد من الشعراء الأقل شأناً في حقل اليقين المعزز بحركة اليسار: أممية، قومية، أو دينية. بعد انقلاب 1958 اضطربت القاعدة بعنف، بحيث اندفع شعراء من موقع الحيرة الى موقع اليقين، وبالعكس. صارت نازك الملائكة ذات حمية قومية، ثم دينية، على أثر فزعها من المد الشيوعي، وتخلت عن هالة الشاعر المتسائل، المجرد من أقنعة الانتسابات الفكرية العارضة. حسين مردان اطمأن لكذبه، وكذبه أبيض ككذب الأطفال، حين أصدر ديوانه "أغصان الحديد". السياب تعرض لضغوط قاهرة هرست قدرته على البقاء شاعراً رائياً، أو حتى إنساناً حياً. بلند الحيدري فضل أن ينتسب للحياة العابرة، وجعل الشعر ملحقاً بها. في حين انتسب البريكان وحده للشعر، وبقي داخله حتى مقتله. من شعراء المدرسة الثانية غامر البياتي مرات في التخلي عن حقل يقينه، ودخل خبرة شاعر الحيرات بنجاح تجاوز فيه صوته الآخر.

    من حصاد اضطراب القاعدة على أثر 1958 أيضاً، ظهور جيل جديد محير في حقل توزيع الأجيال. جيل الثورة عن حق. لم ينتسب للجيل الرائد، ولم يظهر كوجود في منتصف الستينيات، بل هو ابن مرحلة التحول التي كانت ثقافياً من حصة اليسار عن جدارة. هذا الجيل صار عرضة للزوال، تماماً كمرحلة التحول التي ينتسب لها. سعى الى إعطاء صبغة نهارية حتى لليل. أسس جمعية باسم "همنغواي"، وباسم "الميناء"، وصار ينسب لنهاره المشمس قصائد شعراء مثل ناظم حكمت، نيرودا، أودن، وحتى لوركا. ولكن ما من أحد من المعسكر الاشتراكي الذي ينتصر له! ضعف هذا الجيل امتصته موهبة سعدي يوسف الكبيرة، بالرغم من الأصوات المراوحة بين دعة الصگار، وشجا رشدي العامل. لم يعد سعدي يوسف ينتسب لهذا الجيل، جيل التحول، قدر انتسابه المراوح لجيلي الرواد والستينيين. كان حلقة الوصل المؤثرة، ولكن باتجاه تعزيز شرعية الشعر الذي لم يعد يستسيغ مرارة الحيرة، ولا غصة التساؤل.

    هذا التيار المتدفق حفر مجراه في أرض عراقية جاهزة. كان "مفهوم" الثورة قد ارتفع كفاية في سماوات الثقافة الثورية العراقية. وصار فكر اليسار ينشغل به وبما تحيطه من سحب المفاهيم الأخرى المعادية السوداء. صار لمفهوم الثورة أعداء. بدأت "الحياة" تأخذ، في تحولاتها الخطيرة، شكل مفاهيم وأفكار. المعترك العقائدي صار بديلاً لمعترك المعاش. كل شيء حي تحول الى رمز ميت، ولكن مثير للجدل. بلغ الأمر بالإنسان أن صار يُعرف باللون الذي يمثله. والألوان رموز العقائد. هذا أخضر، وهذا أحمر. وسرعان ما سهل سحق الانسان وتصفيته ما أن تجرد الى رمز. كانت دعوة غير واعية للإبادة الجماعية، دعوة بمكبرات صوت تسهم فيها قصائد الشعراء الثوريين، والبيانات الأدبية والسياسية. صارت قصيدة "بروفروك"، على بعدها، ظاهرة مرضية لشاعر ملكي في السياسة، رجعي قي الفكر، كاثوليكي في الدين! وصار ماركوزة، على بعده، نبي "الحساسية الجديدة" التي كسرت الحدود بين المجالين الرأسمالي والاشتراكي، وراعي "مهرجان التجديد النظري" (6) وصار گينسبيرگ، على بعده، مصدر إلهام شعري عربي لا منافس له!

    طلع الجيل الستيني إذن على بستان قد تمكنت منها أشجار الشر تماماً. أسهم في تغذيتها هو الآخر، ورعاية أغصانها، وقطاف ثمارها. ولكن ساعة القطاف فاجأته بثمار مرة المذاق حقاً. ما كان أحد من أطفال الليل الحمقى ليتوقع أن يكون صدام حسين واحداً من الأشجار التي أكلت الغاب جميعاً!

 

 

5

 

    في مرحلة "الروح الحية" و"الموجة الصاخبة" تلك، كان هناك شاعر بولندي الأصل قد انتقل أستاذاً جديداً في جامعة كاليفورنيا، جاءها بعد إقامة منفى في باريس. ولد ميووش عام 1911. في سنوات الاحتلال النازي كان عضواً فعالاً في المقاومة السرية، وبعد التحرير عمل في الخارجية ملحقاً ثقافياً في باريس. في 1951 قطع الوصل مع نظامه الاشتراكي، واختار حياة المنفى في باريس، ثم في الساحل الأمريكي الغربي منذ عام 1960. في ذلك العام شعر أنه تحرر من المحيط الثقافي الباريسي الذي لم ينظر إليه والى كتاباته إلا من زاوية سياسية: "لأن ما كان جحيماً لدي، رؤيا من الجحيم، كان لدى المثقفين الباريسيين مجرد سلاح في لعبة سياسية تدار لسبب من الأسباب"(7) وطمع في أن ينشغل في تأملاته الروحية والفكرية حراً من قسر التفسير السياسي. مع الطلبة اختار أن يدرس دستويفسكي، عارفاً أن بينهم وبين المثقفين الروس الذين هاجمهم دستويفسكي أكثر من شبه. عرض لحكاية المسيح الذي طلب من حواريه أن يهتدي به باعتباره كائناً حياً من لحم ودم، لا باعتباره فكرة. الحواري اهتدى وأُنقذ لا بفعل معرفة مجردة، بل بفعل لمسة لجراح المسيح. الكلمة المخلصة جاءت الحواري كجسد، تماماً كما جاءت الحكمة المخلصة لراسكولنيكوف بهيئة الإنسانة سونيا. وكما مكّن التجريد راسكولنيكوف من قتل المرابية العجوز(باعتبارها رمزاً)، كذلك مكن التجريد المفتش الأعظم في "الأخوة كرامازوف" من عقلنة فكرة "ربما يحيا الوطن بمقتل إنسان" ويخطط لموت المسيح.(8) شعار "نموت ويحيا الوطن" الذي كنا نردده بحماس في العراق، ولعل له أصداء عديدة في الوطن العربي والعالم الثالث، ينتسب كشاهد لأطروحة ميووش.

    مع الطلبة الستينيين وجد ميووش نفسه مقحماً في السياسة من جديد. كانت محاضراته حول روايات دستويفسكي، ولقد وجد الطلبة في "الشياطين" منها وفي حديث ميووش عنها مادةً مربكة. كان يرى أن دستويفسكي يعتبر مرحلة التنوير مرضاً أصيبت به أوروبا. الليبراليون في القرن الثامن عشر دعوا لمبادئ الحرية، الإخاء، والمساواة. ولكنهم استخدموا سلطة العلم ليثبتوا أن الإنسان قادر على الحفاظ على نوعه عن طريق اكتساب المعرفة، عن طريق الأفكار التجريدية. لقد وعدوا بتحقيق المدينة السماوية على الأرض. ولكن ما أثارته الثورة الفرنسية من ذعر كان إشارة كافية لما يمكن أن يتحقق من وعدهم. الحركة الليبرالية، بصورة عامة، لم تكشف عن جانبها الشيطاني بعد في أوروبا الغربية. كانت مرضاً لم يُمت الأوربيين بسبب المناعة التي لديهم ضده بفعل تعرضهم الطويل له. الأمر يختلف تماماً في أوروبا الشرقية.

    الأفكار التي تطلبت من الأوروبيين قرابة ثلاثة قرون لإنضاجها، هضمها المثقفون الروس ببضعة عقود قليلة. (المثقفون العراقيون والعرب ابتلعوها ببضعة سنوات!!). وإذا كانت تلك الأمراض قد صاحبت أهلها الأوروبيين دون أذى، فأنها كانت قاتلة في بلدان خارجها. لقد اخترق المرض المثقفين الروس بصورة خاطفة. جعلتهم أفكار التنوير الغربية كالرجال المأخوذين، المنحنين بجنون على تدمير ذواتهم. إن تدميراً عدمياً للذات كهذا هو الذي شخصه دستويفسكي درامياً في روايته "الشياطين". ولقد أشار ميووش أمام طلبته بأن هذه الرواية مرآة قد يرون فيها صورهم معكوسة:

    "منذ بضعة سنوات في بيركلي، كنت أراقب أربعة عشر ألفاً من الطلبة الجالسين على المقاعد الحجرية في المسرح اليوناني يهتفون بروح عدائية ضد الخطاب الذي يلقيه رئيس الجامعة كلارك كير (ليبرالي)، ولقد اتضح لي أن إدراك ما يحدث يحوجني الى مقارنته ببلد آخر، في قرن آخر. إن قوة المشاعر الجماعية لا تتناسب مع العلة التي سببت عدم ارتياحهم، وستبدو تافهة في أية محاكمة عقلية. إن الطلبة في المسرح اليوناني قد وحدهم استنتاج بدا لهم منطقياً بأن أي سلطة تصدر عن نظام شرير وتسعى لحماية ذلك النظام هي شر خالص. أليسوا هم مثقفو القرن التاسع عشر الروس ذاتهم؟"(9)

    حدث أن رأى ميووش بنفسه فراغ باريس ما بعد الحرب: "الروح الأوروبية كرهت ذاتها، استدارت ضد ذاتها، وسخرت من المؤسسات التي أنجزتها، ولذلك غطت بقناع على إحساسها المؤلم بالخزي." حينها أصبحت الثقافة "طقس عربدة، ومدينة غثيان جحيمية." ومُقادة بأحاديث تفرضها الموضة حول الغثيان، العبث، والاغتراب." ويتنافس المثقفون الباريسيون فيما بينهم لفرض " مزاج العقم، الموصول بتهريج عابس" على جماهيرهم الواسعة. وفيما يكرس هذا العقل الأوروبي الغربي النفس للضحك المضطغن، ينعم جسده "بالشرب، والأكل، وشراء السيارات الفارهة، وأجهزة التبريد (بفضل أمريكا)"

    ربما لم يأخذ الفرنسيون عدميتهم، وليدة الموضة، مأخذاً جدياً، ولكن هؤلاء الطلبة الأمريكيين، تسلّموا هذه العدمية بجدية خالصة، تماماً مثل مثقفي القرن التاسع عشر الروس.

    وفي الكتاب أيضاً يتذكر ميووش زيارته لمدينة ساكرامينتو:

    " مغفل من الطلبة سألني عن الحياة في مدينته مقارَنةً بالحياة في معسكر للاعتقال. حاولت أن أوضح له برقة الفارق الكبير بينهما، وأقول برقة لأن أية محاولة إقناع ستكون باطلة لشخص عاجز عن التمييز بين ثُقيب ومخلعة تعذيب. هذا الشاب المغفل لم يواجه في حياته مجاعة، يأخذ حمامه كل صباح، يقود سيارته التي هي ملكه حتى لو كانت قديمة. يستطيع استعارة كتب لينين وماو تسي تونگ من المكتبة، ولا يعرف ما هي حاجة الانسان الأولى في سلم الحاجات."

    محبة ميووش للإنسان وحنوه عليه جعله حذراً من "ثوريي الشعور الطويلة، أبناء العوائل المرفهة في المدن الكبيرة،" الذين لا يعرفون أن حفنة أفكار طائشة قادرة حلى تحطيم كل مصادر الحياة. في كاليفورنيا وجد قوى العتمة في شاغل، ووجد في جامعتها أكثر الفلاسفة تأثيراً، الماركسي هَربرت ماركوز. كانت كتاباته، في رأيه، "تنضح كراهية مخيفة للإنسان كإنسان، باسم الإنسان الذي يجب أن يكون." الشبيبة وجدت ماركوز فاتناً لأنه، كما يرى ميووش، وفر لهم الذريعة في أن يضعوا اللوم كله على المجتمع الذي أزعجهم. "دستويفسكي انتبه الى الميل نفسه لدى المثقفين الروس، الذين لم يتبينوا الخطيئة الفردية، وألقوا المسؤولية على المحيط." الطلبة الأمريكيون، وتحت وطأة دواعيهم الأخلاقية، أصيبوا بالدوافع ذاتها المحركة لتدمير الذات، التي شخصها دستويفسكي في "الشياطين".    

 

                                                                    (لندن، 2003)   

    

 

 (1) كتابان عن الستينيات لكل من سامي مهدي وفاضل العزاوي.

(2) الروح الحية، فاضل العزاوي، ص78.

(3) الموجة الصاخبة، سامي مهدي،ص19-20

(4) Ivan Turgenev, fathers and Sons, Penguin, 1975

(5) George Orwell, Inside the Whale, Penguin, 1971

(6) الروح الحية، 186.

(7) Milosz, Emperor of The Earth,1977, UCP 3

(8) للتوسع مراجعة: L.Nathan and A.Quinn, The Poet's Work, Harvard,1991

(9) Milosz, Visions From San Francisco Bay, New York,1969,127

 


[1] كتابان عن الستينيات لكل من سامي مهدي وفاضل العزاوي.

 

من الغربة حتى وعي الغربة
 

ادمون صبري- دراسة ومختارات

 

مدينة النحاس

 

 ثياب الامبراطور

     منصور عبد الناصر  

 

 العودة الى كاردينيا

      كاظم الواسطي

       مقداد مسعود

       فاطمة المحسن

       ماجد السامرائي

       د.حسن مدن

      كاردينيا كاظم محمد

      جاسم العايف

      ابراهيم عبدي

     ماجد السامرائي  

     شكيب كاظم

     توفيق التميمي

 

 الفضائل الموسيقية
 

 يوميات نهاية الكابوس

        كاظم محمد
         محيط

         البيان

 

كتاب تهافت الستينيين

       ابراهيم عبدي

       جريدة البيان

        صحيفة الثورة

        مشعل العبدلي

       سعد هادي

 

القصيدة، لحظة الولادة، قيد التأليف
الشعر الإنكليزي المعاصر، قيد التأليف

اللحظة الخالدة، قيد التأليف
الموسيقى والتصوف
الموسيقى والرسم، قيد التأليف
الموسيقى والفلسفة، قيد التأليف
رسول السحب،، قيد التأليف
صحبة الآلهة، قيد التأليف
مراعي الصبّار، قيد التأليف
 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail