فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

مختارات من "يوميات نهاية الكابوس"

(صدر عن دار المدى، 2005)

 

مقدمـــــة

 

    أهواء المثقف العربي والعراقي اللاعقلانية، وهذا ليس عيباً، بل قد يبدو ضرورة في أحيان كثيرة، ذات مخاطر غير محدودة النهايات، حين تدخل بهو الفعل والنشاط السياسيين. المثقف العارف بمقدار الفاصل بين أهوائه وبين التزام العقلانية في الفعل السياسي المسؤول، يقدر بالتأكيد على الانتفاع من حرارة الأهواء، وتوليد عاطفة نافعة. ولكن التجربة الطويلة مع إسهامات المثقف العربي والعراقي في الفعل السياسي، والايديولوجي، أثبتت العكس تماماً.

    تحول النص الخيالي، والنص النظري، بين يدي المبدع والدارس الى يوتوبيا، مثقلة بقناعة قابليتها للتطبيق العملي. صار الشاعر، بدل السعي للكشف عن التباسات الشرط الإنساني، وإضاءة الأركان المعتمة، أو نصف المضاءة في الانسان، يسعى على النقيض الى فرض حلول سحرية بقوة الكلمة، داخلاً المعترك الأرضي، يداً بيد مع المغامر السياسي، لتطبيقها. طبعاً عادة ما يكون الشاعر أو الكاتب الخيالي، لضعف تأثيره العملي وضعف حيلته، مع السياسي، أو تحت ظله، أو خلفه، يزوّده بدفق المشاعر التي يفتقدها الأخير، ثم مع الأيام يجد نفسه وقد تقزّم الى مؤيد ومطبّل، للسياسي الذي استلم زمام السلطة.

    حدث هذا بصورة غاية في الملموسية والتاريخية مع ثقافة ورؤى البعث القومية، والثقافة المعارضة لها في العراق. خرج الشاعر الذي لا يرى إلا "جنةً عرضها الوطن العربي"، معززاً بالشاعر المعارض له الذي يراها جنة " بذلة العمال الزرقاء". وبدأت معهما مخاضة الدماء، التي انتهت بصعود الدكتاتور.

    أكثر من نصف قرن لم يترك فيه هذا المعترك الدامي بين الأهواء الثقافية، التي أخذت لبوس السياسي ونزلت الى الشارع، فرصة لرئة العربي والعراقي للتنفس الصحي. وكما ابتنى معترك الأهواء اللامسؤولة سلماً لصعود الدكتاتور، كذلك ابتنى الدكتاتور سلماً لبلوغ نهايته المحتومة.

    هذه أوراق بمثابة يوميات، كنت أكتبها في جريدة "المؤتمر" المعارضة، التي تصدر في لندن. يوميات تتأمل، داخل المساحة الزمنية المتبقية للدكتاتور، خطوات الزمن باتجاه نهاية الكابوس.

                                                                       فوزي كريم

 لندن 13/1/2004       

 

وحدة الشاعر المفتقدة
 
    في سنة السبعينيات الأولى كنت أعيش في بيروت. تركت التدريس في سنته الأولى، فالتشرد يليق بأول الشباب. انحدرت لدمشق، وكان فيها مؤتمر للأدباء العرب. هناك التقيت الشاعر حسين مردان.
    عرّفني عليه سعدي يوسف، وتركنا في صحبة استثنائية. كان حسين يقول لي: إنني أثق بموهبتك، لأنك معتدل بشأن التجديد وتحترم موروثك. يقولها وكأنه يجلس على قمة مرتفع. وأنا أضحك عاري القلب.، لأن حسين مردان، حين نتحدث، يُشعرني أنه خارجُ دائرة الأدب ، الذي يأتمر بشأنه الأدباء . داخل الاسطورة التي تعرّفتُ عليها في الكتب، وبحثت عنها في العزلة. شاعر يأكل مثل أوڤيد، ويحتسي خمرته مثل أبي نؤاس، ويسير وحيداً مثل رامبو، ويعشق مثل بودلير، ويخشى الليل مثل الأطفال، ولا يعرف لمَ يقرأ الكتبَ، ويكتب الشعرَ، ويعاف الوظيفةَ، ويجد ألفةً مع امرأة الليل المجهولة! حين نكون معاً أمسّ البشرة الخشنة للشعر فأجدها حقيقة لا خيالاً. أقول له معقّباً على رأيه فيَّ: أبو علي، أنا لست معتدلاً بشأن التجديد بل حذراً منه لفرط السهولة الخادعة في مظهره، ولا احترم الموروثَ بل أعيش فيه، لا عن فضلٍ ومنّةٍ، بل عن ضرورةٍ لا خيار لي فيها! كل سائد ينتمي إلى دائرة الأدب، وأنا لست أديباً. الجديد فيه موضة سريعة الزوال، والموروث يصون الكيان الشعري عن تسارعها القشري. أنا واليقين طرفان متعارضان. وها أنت تشهد كم يزدحم الشارع بالعقائد اليقينية. إنني لست حراً، ولا آمن الحرية كثيراً. لأن كل حرية ما إن تطلق جناحيها وتحلق حتى تأسرها شباكُ العقائد المطلقة اليقين. تأسرها وتعطيها صبغتها، وتطلقها ثانية. ألا ترى عدد الحمائم؟ يلتفت حسين الى نافذة البهو، في فندق أمية، ويضحك. كان يرى الحمائم تتزاحم. لأن الفاصل بين الواقع والخيال في حياته متلاشٍ تماماً. مرة جاء الى الفندق بعشرات من روايات الجيب المترجمة. غادرنا معتذراً ليختلي بها في سريره، يصرف الوقت معها بدل القيلولة اللازمة. بعد ساعتين خرج إلينا على غير توقع مصرحاً: هذه الرواية الثانية اللعينة مليئة بالوطاويط. وطواط يدخل مرآة الخزانة، وآخر يفلت من النافذة! أخذت قميصي وبنطلوني على عجل، وقلت ألحق بكم. جلس بيننا فدب دفء الوحدة بين الاسطورة والتاريخ في خلايا الجميع. كنت أعرف أن في هذه الوحدة بين المخيلة والواقع، وبين ما وراء الطبيعة والطبيعة، تكمن فرادة هذا الشاعر ـ الانسان. يكمن عصيانه الدائم على الانضباط داخل الفكرة و المبدأ و الأدب . ولذلك عاش حياته "على قمة أڤرست يعلك الصبار"، على حد تعبيره، وحيداً بين المجموع، شارداً خارج الصياغة، جاهلاً وسط تيار اليقين، حالماً تحت نجوم محباته، التي يقول عنها الفانون: إنها مجرد أوهام "أبو الوييوْ" المعهودة.
    كنت أعرف أن حسين مردان لم يكن واهماً في لحظة من حياته.
    كان يعرف معنى الوهم وهو يتأمل العابرين.
    لم يغادر قصيدته باردة على الورق ليدخل ثياباً دافئة.
    كانا واحداً، على الورق وداخل الثياب.

 

21/7/01

 

ما يحتاجه الشاعر


    يقول الآخر محتجاً: كيف يمكن أن يحيا الانسان دون عقيدة، ودون إيمان؟! أنا الآخر أقول ذلك. ولكنني أقول أيضاً أن الشاعر والفنان والفيلسوف والعالم يحتاج الى شيء غير هذه العقيدة وغير هذا الإيمان. لكي يرى الحياةَ والإنسانَ والأفكارَ لابد من فاصل بينهما. لابد من مسافة لكي يرى بوضوح. ألجواهري يقول في قصيدته عن أبي العلاء:" شيخ أطلّ عليها مشفقاً حدبا..." ، أي على الحياة والإنسان والأفكار. والإطلالة تفترض مسافة، وتفترض علواً، بالمقارنة مع أكثر شعراء العربية الذين، بسبب توحدهم مع الحياة والإنسان والأفكار، يضطرون الى إحالتها الى مفاهيم مجردة.
الشاعر باحث عن الإيمان واليقين مثل كل البشر، ولكنه كتب عليه، دونهم، أن يظل كذلك دون أن يصل. كتب عليه أن يوسع من أفقه، ويزداد رحابة حتى يحتوي على كل الحياة والناس والأفكار، بكل ما تنطوي عليه من تعارضات. الاستعارة، وهي جوهر تقنيات الشاعر، ما هي إلا تكوين رمزي مصغر لهذه التعارضات والتناقضات والتنوع في داخله وداخل الحياة. إنها، كما نعرف، تجمع متعارضين لا يُجمعان. وكذلك شأن القصيدة بجملتها. إنها محاولة للتماس بين الواقع واللاواقع، بين الحقيقة والخيال، بين الممكن والمستحيل.
إذن، كيف يمكن التصالح بين احتضان التعارضات والتنوع في زوايا رؤية الحقيقة، وبين الإيمان واليقين بفكرة واحدة وزاوية نظر واحدة؟
إن الميل الى اليقين غريزة لدى الكائن الإنساني، لكي يأمنَ القلقَ ويستكينَ الى هدأة البال. الشاعر والفنان والفيلسوف والعالم يملك غريزة مختلفة تماماً، وبسبب هذا الاختلاف أصبح ما هو عليه. الشاعر الايرلندي ييتس يقول إن الشعر وليد صراع محتدم مع النفس لا مع الآخر.          ألجواهري له أكثر من إشارة الى هذا المعنى. في إحداها يقول عن سنوات منفاه:


سبعٌ توهّمتُها سبعينَ لا كدراً
لكن لحاجتها القصوى الى الكدرِ


وفي قصيدة أخرى يفصّلُ هذا المعترك:


تضيقُ بعيشةٍ رغدٍ
وتهوى العيشةَ الرغدا
وتخشى الزهد تعشقه
وتعشق كلَّ من زهدا


    وكل هذا معترك مع النفس لا مع الآخر. وشعر ألجواهري في تياره الصافي، دون مؤثرات "الأغراض" الخارجية، شعر معترك مع النفس. لا فكرة واحدة يعلّق عليها، كالمشجب، كل كيانه ولا يقين. انه ابن ظلمة التساؤلات والحيرة:


أنا أعمى في متاهتها
كيفما حطت بها قدمي
لم أجدْ في العودِ من وترٍ
واحدٍ يقوى على نغمي


    ولكن ألا تبدو هذه الحيرة واللايقين مقرونة بالعتمة والضياع؟ ربما، ولكنهما عتمة وضياع السعي الذي لا يكل من أجل الاكتشاف. إن رؤى الشاعر والفنان والفيلسوف والعالم لم تتوقف عن الإضاءة منذ ملحمة گلگامش، حتى آخر قصيدة كتبها شاعر حيرة في أيامنا هذه. ودونها تتهاوي الرؤى اليقينية، التي لا تحيد عن الفكرة الواحدة، باردة، عمياء، يجرفها التيار الى النسيان، لأنها وليدة ظرف تزول بزواله.

 

28/7/01

 

 


جسدي خرقة...


    أريد أن أتوقف معكم عند بيت واحد لأبي العلاء المعري، الشاعر المفضل لدي، لأنه لا يصحبني إلا مع حفنة أسئلة كبرى. أقرأه لكم وأحاول أن أقطفَ منه ثمرةً نافعة. البيت يقول:


                جسدي خرقةٌ تُخاط إلى الأرضِ، فيا خائطَ العوالم خطني


    المعنى الظاهر لا لبس فيه. المعنى غير الظاهر قابل لكل اجتهاد. ولكن المسألة التي حفزني إليها البيتُ غير معنية بدلالته، بل بموضوعة الجمال والقبح في الفن والشعر خاصة. نحن اعتدنا، في موقفنا النقدي الذي نحكم بواسطته على النصوص، وفي ذائقتنا التي نحقق بها المتعةَ أو نقيضها، على ربط الجمال بالشكل. ولذا نتحدث عن الاسلوب الجميل، والتناول الجميل، واللغة الجميلة، والشكل الجميل. وعلى هذا الضوء حكمنا على نثر طه حسين، وعلى شعر نزار قباني.
    في بيت أبي العلاء، بهذا المعيار الذي اعتدناه، تثقل علينا هذه الحروف الخشنة: الخاء والطاء كثيراً، في : تخاط، خائط، وخطني. وبهذا المعيار تبدو هذه الحروف والإلحاح عليها نابيةً على الأذن، التي تطمع بما يطرب، وقبيحة .
    ولكنني، على امتداد سنوات محبتي لهذا البيت، وتكراري له، لم ألمس خشونته ولا قبحه. كما اني لم أر أحداً، ممن أعرف، التفت الى هذه الخشونة والقبح، على كثرة من قرأته لهم. ردة الفعل الوحيدة التي شهدتها منهم هي الدهشة، تأخذهم مرغمين، والإلتماعة المفاجئة في أعينهم، التماعة من يقف أمام أمر مهيب، يتصل بقدر الكائن البشري، العصي على الفهم.
كيف ننظر الى هذه الاستجابة لبيت من الشعر. كيف نفسر ردةَ الفعل بالفم الفاغر، بفعل الإحساس بالعمق، والغموض، وحتى بالروع؟
   
إن الدهشة التي تأخذنا بفعل التماعة الحقيقة الخاطف، هي دهشة من يرى، وللحظة، أرفع آيات الجمال. تماماً كما رأى موسى الجبلَ الذي تجلّى ربُّه له (وخرّ موسى صعقاً).
    ما من جمال حقيقي يتولد من سطح أو مظهر خارجي. اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية تتوسل مظهراً خشناً قبيحاً أحياناً كثيرة لكي تكشف عن جمال الأعماق الخفية.
    إن بيت أبي العلاء يضع شعرنا العربي وذائقتنا لهذا الشعر، على مر العصور، وخاصة في مرحلة حداثتنا، موضع المحاكمة بشأن مفهوم الجمال، الذي طالما اعتدناه شكلياً، وعلى السطح.
    الثمرة التي يمكن أن اقتطفها لكم من خبرة القراءة في هذا البيت هي ثمرة أن الجمال يكمن في المعنى الشعري الخبيء وراء السطح، لا في الشكل، الذي كثيراً ما نسميه أسلوباً. ومعايير الرداءة أو القباحة، وهي معايير تكاد تهيمن على كل قراءتنا الشعرية وذائقتنا، إنما هي معايير شكلية وقاصرة بالتالي. وكم أبيات اختارها لنا النقاد نموذجاً لسهولة مخارج الحروف وحسن الصياغة ورشاقة الحركة لا تكشف الذائقة فيها عن أي جمال حقيقي وراء سطحها الفورمايكي.
أعد قراءة بيت أبي العلاء مرات، ودع الخاء والطاء تجرح مخارج الصوت حتى يبدو النسيج خشناً. عبر هذا النسيج الخشن ستبدأ بتحسس خشونة الرؤيا الشعرية العلائية:


جسدي خرقةٌ تخاط الى الأرض، فيا خائط العوالم خطني

 

4/8/01

 

أفق الشرق المفتقد


    أقرأ الشعر الهندي والصيني، والإيراني، والتركي باللغة الانكليزية، وهي وساطة نافعة دون شك. وأجد، دائماً، غنى روحياً في هذه القراءة. ولكن داخل هذا الغنى الروحي كثيراً ما تنبعث رائحة تشبه رائحة صلة الرحم، هي رائحة الانتساب للشرق، لا أشعرها عادة وأنا أطالع الشعر الأوروبي، والغربي عامة!
    ولكن هذه الرائحة تثير حيرةً وتساؤلات أيضاً. فشاعرنا، والشاعر الهندي، والصيني، والإيراني، والتركي جميعاً في ثقافتنا الشعرية المعاصرة، يعتمدون مصدراً يكاد يكون واحداً، هو المصدرُ الأوروبي، أو الغربي عامة! مع أن رائحة صلة الرحم تلح في داخلنا على إشباع ميولها الطبيعية. تقول لي دائماً إن حاجتي الى النص الشعري التركي، والإيراني، والصيني، والهندي أعمق جذراً من حاجتي لقصيدة إليوت، وأودن، ورامبو، على أن الحاجة لنصوص هؤلاء لا تحول بيني وبين الحاجة لنصوص أولئك! ولكن ثقافة الغرب أصبحت هي ثقافة عصرنا. وبمقدار ما في هذا من صحة، إلا انه غمر الشعر العربي أيضاً بظله. فأصبح شعر الغرب هو شعر عصرنا! مع ان العصرية ليست معياراً من معايير حقيقة الشعر، خاصة هذه العصرية المحددة بمكانية وزمانية حضارة الغرب.
    إن في هذه المفارقة تكمن جذور اغتراب حقيقي داخل كيان شعرنا الحديث، وأكثر، داخل كيان شعرنا، الذي يزعم انه تجاوز حداثته، تماماً كما تجاوز شعر الغرب حداثته! إن هذا الاغتراب في شعر أحدنا شديد الوضوح، ولكن أحداً لا ينتبه اليه لشدة شيوعه وطغيانه، وكأنه طبيعة جوهرية فيه. إن أكثر قصائدنا اعتمدت قاعدة مقلوبة، فهي لا تبدأ من قاعدة المحلي الى أفق العالمي، بل تبدأ من قاعدة العام ثم تحاول الانحدار الى المحلي. ولكن هيهات! فمن يبدأ محلقاً لن يحقق قاعدة لجذوره. والجذور لا تنبت إلا في البدء، على كل حال.
    هذا ما حدث لنا جميعاً. فنحن اعتدنا، منذ أكثر من نصف قرن، على التطلع لجهة من الأفق واحدة، هي جهة الغرب. وقد يصح هذا في حقل العلوم، وحتى في حقل الفكر. ولكنه لا يصح أبداً في حقل الشعر، وما يحيطه من حقول الإبداع الخيالي عامة. لأن الانتفاع من الشعر الآخر يتطلب مجرى دفيناً داخل التاريخ، داخل الماضي، داخل الوجدان الجماعي للشعوب، التي اختلطت فيها شرايين التاريخ، والأسطورة، والأديان، والحضارات بصورة لا مجال للتمييز فيها.
    القصيدة العربية الحديثة لن تحقق حضوراً صحيحاً إلا إذا التفتت الى ضرورة إعادة هذا التوازن المفقود، وضرورة الاستدارة، في التطلع، الى أفق جديد، هو أفق الشرق. ففيه، بالتأكيد شعر عظيم أيضاً، وفيه وعد بثمار أوفر صحة وفائدة.

 

11/8/01

 

بالونة النظريات


   تنظر اليوم الى النشاط النقدي، في حقل الأدب، فتُدهش. لأن هذا النقد يخرج من بالونة النظريات.
    الموهبة النقدية الشابة تولد، تنشأ، وتنضج في حقل النظريات النقدية الذهني. وهذه النظريات النقدية، بالإضافة لذلك، ولدت ونشأت ونضجت في تربة الغرب. تأتي الموهبة الشابة، تقطف ثمارها الجاهزة. تستسلم الى مذاقها، تتبناها، وتباهي بها. ولكي لا تتحرج، وهي تنظر في مرآة نفسها، تحاول، وهي تتكلف الجدية، أن تكون ربيبة الحداثة العربية، أو ما بعد حداثتها بصورة ندية. بحجة ان هذه الحداثة وما بعدها هي قدر كل إنسان على الأرض.
    تولد الموهبة النقدية وتنشأ، وتنضج داخل النظريات النقدية الجاهزة. ثم تُقبل على النص الأدبي، والشعري، بصورة خاصة. فيتم لقاء بين عالمين لا صلة بينهما: عالم الشعر، وليد لغة، ومشاعر، وأفكار، وموروث عربي واحد. وعالم النظريات، وليد حضارة ولغة على درجة عالية من التعقيد والتفوق. ما الذي يحل بالقصيدة المسكينة على يد الذهن النظري المغترب عن نفسه؟
سأضرب مثلاً مقرباً.
    البنيوية ، التي اجتاحت حركة النقد العربية، من المغرب حتى الخليج، خرجت من تأمل فرنسي، وأوربي بشأن اللغة، وبعدها اتضحت معالم التفكيكية ، التي خرجت من محاولة التمرد على هيمنة العقل الغربي على مقدرات الحضارة، على امتداد قرون. الظاهرتان كونتا شيئاً من ملامح ما بعد الحداثة. اللغة فيها فاضت بقوى المعرفة والاتصال والمعلومة الى حد بعيد. وكذا الحياة والإنسان فاضا بهيمنة العقل. فأراد الغربي أن يتشكك. وله الحق في ذلك. على أن تشككه لم يُقبل جميعه وبرضا!
    جاء العربي وقطف ثمار الأول فأراد ان يتشكك، مثله، بقدرة اللغة على إيصال الدلالة، وأن يتشكك بدور العقل.
    ونحن نعرف أن لغتنا لم تطور قاموساً عن لسان العرب ، الذي يقف صامتاً منذ مئات السنين، وأن حياتنا جملةً تفتقد الى ضوابط العقل، ولم تدخل مرحلةَ الانتفاع منه بعد.
بمعنى آخر، أننا أشد جوعاً للغة دقيقة ذات دلالة، ولسيادة عقل قادر على أن ينتشل الحياة والإنسان من تخلفه ومن فوضاه!
    نصوص النقد، لذلك، تقف ذاهلةً، هذه الأيام، عن نفسها، وعن النص الذي أمامها، في محنة مع نفسها ومع النص الأدبي. ركامٌ من مقالات الصحف والمجلات ومن الكتب يعافها القراءُ من مجرد قراءة العنوان، أو الفهرس.. إلا أن كتابها النقاد يواصلون، وتواصل الصحف والمجلات ودور النشر، مثل كتيبة خرساء، لا ترى ولا تسمع.

 

18/8/01

 

أطفال الليل


    في مهرجان جرش قرأت مرتين، كنت فيهما أشبه بجهاز تسجيل. يحدث ذلك أحياناً في المهرجان الرسمي. الجمهور فيه يحمل عواطف جاهزة لأغراض شعرية متوقعة.على أني كنت في عمان دون غرض، غير التطلع الى أصداء خطا العراقيين على أرصفتها. في مقهى "السنترال" جلست إليهم، ومعهم أكلت كباب الكاظم أكثر من مرة. في كل يوم يطل وجه جديد، عميق السمرة، عميق الأسى. يحمل كتباً كالعادة، وبضعةَ أوراق يستجير بها لرجل التحكيم في الامم المتحدة ، علها تكون جوازَ مرور للمنافي المجهولة. وأنا لا أكف عن ترديد: ألف مبروك على المنفي الأخرس الصامت، ألف مبروك على الليل الطويل المقبل. في زيارات سابقة لعمان ودمشق رأيت عشرات من هذه الوجوه، سبق أن حملت ذات الكتب وذات الأوراق، ولقد وجدت مستقرها الآن. أطفال الليل هؤلاء لا يكفون عن كتابة الشعر، يسحبون النثر من عروته ويعبئونه بالشعر، بفعل التباس أرواحهم، بفعل التباس ما حدث لهم، وما يحدث، وما سيحدث! حين يدب الليل يهجرون بيوتهم. يهجرون مقهى "السنترال". وبفعل جاذبية أجسادهم، وبفعل الإحساس بالبرد، برد من أُلقي عارياً على الرصيف، يبدأ تقاربهم، وتجمّعهم الأثير على رصيف بعينه مقابل المقهى . هناك تستند الكتلة الشعرية، المهجورة، الطريدة، المنتهكة، اليتيمة على القاطع الحديدي، الذي يفصل الرصيف عن العجلات المسرعة. يفصل الرصيف عن الهاوية.
   
وسط هذه الكتلة، التي تشبه تزاحم الأسئلة حيث لا إجابات، كنت أصرف الوقت في الحديث. ومن هذه الكتلة تم الاتفاق على إقامة أمسية شعرية: لم لا نجتمع في بهو، بدل هذا الرصيف؟ شاعر يلتقي بجمهوره العراقي، بعد ربع قرن، على مشارف النهايات! وتم الاتفاق سريعاً بيننا. وبعد أيام وجدت نفسي في إطلالة على مدينة عمان، في بيت الشعر هناك، ومع جمهور عراقي طالما افتقدته، وطالما افتقده كل شاعر عراقي في منافينا البعيدة. كنت أقرأ ونظرتي لا تخطئ الأسماك وهي تتواثب بين أمواج مشاعرهم. لا تخطئ رائحة الطلع تتدفق من سحناتهم. لا تخطئ الأقمار، وهي تأتلق في ليل الحدَقات العميقة:


الشعر أباطيل
إن لمْ يستر عريانا
قضّيتُ العمرَ به مُزدانا،
والناسُ عرايا حولي.

25/8/01

 

 

ضفادع ألجواهري وأورويل

 


    في لحظة نادرة يقف ألجواهري إزاء كائنات الحياة الصغرى، مغنياً، متأملاً، ومسبحاً. نادرة، لأنه اعتاد الوقوف إزاء الأشياء الكبرى، منشداً، يقينياً، ومتعالياً معها. والشعر عادة ما يخرج من الأولى، على غير الظاهر الذي وجدنا أنفسنا متفقين بشأنه.
    في قصيدته "المقصورة" واحدةٌ من هذه اللحظات النادرة. فهو في غمرة مشاعره الاحتضانية لوطنه، والتي تبدأ بـ "سلام على هَضباتِ العراق..."، يتدفق بحب قلبي رائق، غريب على الطبيعة الغاضبة في القصيدة: حب يحيط النخيلَ، سعفاتِه، ورطبَه، وعذوقَه في موسم الطلع والحمل واليبوسة، ودجلةَ التي تري العراقيَّ في الحالتين.. ، والقمرَ الليلي والنجوم، والجسر، والضفادعَ، والحمامَ، والجنادبَ، والبومَ، والثعلبَ، والديكَ، والقطارَ، وعاطرات الحقول...
    ولكن جاعلات النقيق.. تستحق أكثر من وقفة تأمل تليق بوقفة الجواهري التأملية. إنها من اللحظات النادرة، التي يخترق بها الشاعر سطح الحياة الظاهر الى غير المرئي (غير المرئي من قبل العين التي أعمتها العادة). فمن يتوقع هذه الوقفة المفاجئة المسحورة أمام ضفدع، من قبل شاعر ترعاه عين الزمان، ويهفو لجرسه سمع الدُّنى.. ، ولا يني يردد على نفسه:
تساميْ فانك خير النفوس.. !!
    الجواهري، في الأبيات الثلاثة عشر الضفدعية، بدأ لي أسمى منه في كثير من قصائده المتعالية، التي تتعامل مع الهموم الكبرى (كبرى بالعرف السائد). إن كلمة "سلام" فيها لتبدو أرق من دمعتين في عين إله الشعر لدى الأقدمين: "سلام على جاعلات النقيق..".  وهذه المعاتبة التي تشبه تنهدات من صدر الأرض: "لعنتنّ من صبية لا تشيخ.." ، وهذا التقافز، كتقافز الجن، بين الصخور، والاندساس تحت مهيل الرمل.
    كتب الجواهري مقصورته عام 1947. وفي العام المجاور لعام انشغاله برسالة محبته القلبية الى الضفادع رُسلِ الربيع ، كان الروائي الانگليزي جورج أورويل منشغلا بكتابة واحدة من أجمل مقالاته الأدبية: "بضعة أفكار عن الضفدع"( 1946).
    أورويل يري في الضفدع مظهراً روحياً، الجواهري يرى فيه السمح الذي ينادم ركب الخلود. ويرى لديه أورويل "أجملَ عينين وُجدتا لمخلوق حي، عينان يشبهان الذهبَ، أو بصورة أدق، الحجرَ الكريمَ ذا اللون الذهبي" ، تماماً كما وجدهما الجواهري "ياقوتتين صاغهما جوهري". ويعجب أورويل " بأن الشعراء لم يؤخذوا بهذا المخلوق الآسر"، تماماً كما استنكر ألجواهري "من عابهنّ بما لا يُعاب" ، وكأن قصيدته استجابة لحيرة الكاتب الانكليزي، من ركن قصي ومنسيّ.

 

1/9/01

 

ما الموسيقى الجدية


    إذا كان بيتهوڤن أكبر عقل ألماني في مطلع القرن التاسع عشر، وهو الموسيقي الذي لم يمارس الكتابة، فما الذي يختفي وراء أعماله الأخيرة إذن؟!
    وتوماس مان، حين يجد سعادته المثلى تتحقق في الساعات التي لا حدود لعمقها،  يصرفها مع موسيقى ڤاگنر ـ هذه السعادة عقلية وروحية معاً، كما يقول ـ فأي غذاء فكري يفيض من أوپراته تُرى؟! ونحن نعرف أي طراز من كتاب الجد توماس مان...
    بوسوني Busoni (1866-1924)الإيطالي الأصل الألماني النشأة، تلح عليه الرغبةُ بالقبض على المجهول: "ما أعرفه الآن هو اللامحدود، ولكنني أطمع بالذهاب أبعد في كونشيرتو البيانو"، الذي يمتد لأكثر من ساعتين. فأي هدف أعمق مدى في حقل المعرفة من محاولة القبض على المجهول؟!
    عازف الچلو الشهير كازالس Casals (1876-1973) يقول إنه يحتاج موسيقى باخ كلَّ صباح أكثر من حاجته للماء والطعام. والفيلسوف الدنماركي كيركگور يقول إنه مدين لموتسارت بكل شيء. كما أن برناردشو يعتقد بأنه تعلم من موتسارت بأن يقول أشياء مهمة في حواراته. هو المفكر العقلاني!
    فما الذي يتخفى وراء ألحان باخ، موتسارت من قوى روحية وفكرية تغذي عقلاً لكيركگور وبرناردشو؟!
    باسترناك لا يقرن الموسيقي الروسي سكريابن Scriabin (1872-1915) إلا بدستويفسكي وبلوك: " فكما أن الأول ليس روائياً فقط، والآخر ليس شاعراً فقط، فالثالث الموسيقي ليس موسيقياً فقط، بل علة مهرجان ثقافة روسيا وتجسيد انتصاراها".

    هذه الموسيقى لا يمكن أن تهدف إلى التطريب والتسلية وحدهما، لأنها، بتعبير أمرسون: تأخذنا خارج المعتاد، ولنا تهمس بالأسرار الخفية، التي تثير الروع مثل: من نحن، ولأيّ علة، ومن أين، والي أين ؟
    والحياة تبدو للفيلسوف نيتشة ضرباً من الخطأ دون موسيقى. وهذه الأخيرة، بالنسبة للفيلسوف إفلاطون، قانون أخلاقي. إنها تعطي روحاً للكون، وجناحين للعقل، وقدرةً على التحليق للمخيلة، وسحراً للحزن، وحياة لكل شيء.
    إخوان الصفاء، الفارابي، الغزالي... وآخرون لم يقولوا شيئاً أقل جدية من هذا بشأن الموسيقي.
    الهاجس الذي يدفعك للبحث، في رفوف الكتب، عن عمل لأبي حيان التوحيدي، أو لأبي العلاء المعري، أو لنيتشة، أو لتي.أس.إليوت هو ذات الهاجس الذي يدفعك في مناسبة مختلفة، للبحث في رفوف الاسطوانات، عن عمل لباخ، أو لبيتهوڤن، أو لڤاگنر.
   هذا الهاجس تصح عليه صفة الجدية، في مقابل هاجس لا يطمع بغير التسلية وقضاء الوقت برواء واستراحة.

    هذه تداعيات قد تنطوي على إجابة كافية لتساؤل البعض عما أعنيه بالموسيقى الجدية. وعما أعنيه بفقر موسيقانا من هذا الجانب، حيث لا رفوف للاسطوانة تقابل رفوف الكتب، التي نلجأ إليها، حين يدفعنا هاجس البحث عن التوحيدي، أو المعري، أو نيتشه، أو إليوت.

 

8/9/01

  

المعارضة: المعادلة الخاطئة


    النسبة الكبرى من الملايين الذين هجروا وطنهم العراق هاربين، في أسوأ الأحوال من الموت، أو متحاشين، في أحسن الأحوال، المهانة وسوء الظن، هي من الطاقات والعقول الشابة، التي استخدمت الكلمةَ في التعبير والاعلام والنغم والحركة والتمثيل. هؤلاء في مجموعهم هم الطاقة المثقفة. شعراء، وروائيون ، وكتاب، ومسرحيون، وصحفيون، وفنانو تشكيل ونحت، ومسرح، وسينما، ومفكرو علوم اجتماع، وفلسفة وتاريخ، ونفس، وممارسو علوم عملية من أطباء، وصيادلة، ومهندسين، ومعماريين، ورجال قانون... الى آخر ما نعرف من المواهب العراقية الثرية.
    هؤلاء جميعاّ هربوا من الموت والمهانة، وفضلوا حياة الكفاف واللايقين، في هذا المنفى الغامض، على الموت والمهانة الأكيدين. وتوهج مواهبهم وقدراتهم في فراغ هذا المنفى الموحش هو أرفع مستويات الاحتجاج، وأسمى المعارضات ضد ظل الطاغية الذين يحيط بالوطن كله. القلوب المعبرة، والعقول الباحثة أبداً، لم تعرف هدأةَ الإجهاد أو اليأس على امتداد ربع قرن. الكتّاب يخرجون كتبهم، حارةً بفعل العوائق والمشاق. ويصدرون مجلاتهم وكأنهم يتحدّون الخرس الذي يحيطهم مرتاباً. ما من جالية منفى ثقافي أصدرت مجلات كالجالية العراقية: الاغتراب الأدبي، الثقافة الجديدة، المسلة، اللحظة الشعرية، فراديس، عيون، الأيام، غجر. تتنفس واثقة، حتى لو شح الهواء وضاقت الرئة.  وما من صفحات جرائد ومجلات حفلت بأقلام أكثر كثافةً من الأقلام العراقية. ولك أن تتخيل مواهب الفن التشكيلي، وللعراق منه إرث استثنائي، ومواهب النحت، ومواهب المسرح، التي تبدو خشبة عائمة في فضاء لا مستقر فيه. ولك أن تتخيل عقول العلم وهي تتكاثر كالنخل على امتداد قارة أوربا وأميركا، وغيرهما من قارات الأرض. لك أن تتخيل شعباً من المثقفين تمثل كل حركة فيه، وكل بادرة، وكل فعالية، صورة سامية من صور الاحتجاج والمعارضة، ضد دكتاتور أبله، دموي، ورديء.
    إنني لم أعرض لهذه الظاهرة ـ الكارثة كاشفاً عن سر، فهي أقرب الى البديهة، يعرفها كل عراقي، وكل عربي، ولا يجهلها الغرباء.
إنني أعرض لها ظاهرةَ احتجاج ومعارضة، أرادت ذلك أو لم تُرد، محاولاً، بقصد التساؤل، مقاربتَها بالمعارضة التي تقدمت الصفوف بفعل تمثيلها السياسي.
    أين هذه من تلك؟
    وإذا كانت ظاهرة الاحتجاج والمعارضة الثقافية بهذا الحجم، الذي يذكرنا بكثافة النخيل، فلم لا تقربها المعارضة السياسية، تحاورها، تلتحم معها، وتنتفع بها؟
    ورجال المعارضة السياسية، من تراهم يمثلون خارج هذه الآلاف من العقول المتزاحمة في منافي الغرب والشرق؟
   
ولمَ ترجع المعادلةُ الخاطئة ذاتها، حتى ونحن خارج سطوة الدكتاتور، حيث آلاف المثقفين لا يمثلون إلا أنفسهم، وحيث أنفارٌ من السياسيين يمثلون الناس أجمعين؟!

 

18/9/01

 

 

آخر الشوط


    أشعر أنني قطعتُ شوطاً، منذ أكثر من عقدين في المنفى، لا يشبه مراحل الدراما الثلاث، التي تنتهي بعد الذروة بالحل. ولا مراحل العمر، التي تنتهي بسكينة الشيخوخة، وما بلغتها بعد. إنه شوط لا يقل غرابة عن الشوط الذي يقطعه لاعب السيرك، بعد التهريج الضاحك، الذي ينتهي مع الدمعةِ الوحيدة على الخد الملطخ بالأصباغ، داخل جدران الوحدة.
    الشاعر يبدأ، مع أول مراحل المنفى، كمهرة بعد ساعة الولادة. مهرة أمامَ مرج مليء بغرائب وغنى الطبيعة، تأخذ خطواتها فيه على حذر، ولكن بتوق المتعطش الى الحياة الجديدة، ثم سرعان ما يبدأ التجوال الحر، وقطفُ الثمار، واستعادةُ الفتوة.
    الشاعر يتعلم لغة جديدة، تشبه فردوساً فيه ما يشته العقل والقلب. اللغة الانكليزية تعوض عن كل اللغات، حتى الموروث العربي يعيد اكتشاف نفسه عَبرها. وكذلك ثقافة الشرق. وإذ يصبو الى الموسيقى كمصدر للمعرفة، تفتح لندن له من أجل ذلك أكثر من ذراع. حتى لتبدو عاصمة للموسيقي دون منازع. وكذلك حين يصبو الى الفنون البصرية جميعاً.
    يحيط بكل ذلك، كما تحيط المهرة بالمروج. ثم تحوجه هذه الإحاطةُ الى الوحدة المختارة مع النفس، من أجل أنْ تقطر عصارتها، عصارة خبرة المعرفة، على الورق، في نص من الشعر أو النثر، يهب بعدها، شأن المهرة، عائداً الى المروج.
    وهكذا يلملمُ ثمارَ نشاطه الروحي بين حين وآخر لينشره على الناس، مليئاً بالثقة، متعالياً على بعض عثرات المنفى، متعالياً على الحياة الغريبة، التي لا تكف عن الهمز واللمز من حوله، بأنه يوهم النفس ، شأن المهرج، بالدور الضاحك.
    مرة ينتبه الى أنه، حين يلملم ثمار نشاطه الروحي لينشره على الناس، إنما ينشره على لا أحد. فيكتب نصاً شعرياً أو نثرياً عن ذلك!
    ومرة ينتبه الى إنه، حين يعود الى الوحدة، يجدها لا تشبه في شيء وحدةَ العائد من مكتبة الدرس والبحث. أو وحدة العائد من مباهج مروج الخبرةِ والمعرفةِ، بل عودة المهرج من سيرك إيهامِ النفس، من سيرك المنفي. فيكتب نصاً شعرياً أو نثرياً عن ذلك.
   
وهكذا تتزاحم نصوصه من حوله. تزاحمه نصوصه. ثم يبدأ يتحاشى النظر الى المرآة، خشية أن يرى نفسه منفياً.
    من هذه الخشية يبدأ آخرُ الشوط، الذي قطعته منذ أكثر من عقدين من الزمان. آخر الشوط الذي بدا لي، ويا للمفاجأة، حائطاً إسمنتياً لا منفذ فيه.
هل هذا آخر المنفى؟ أم هو المنفى الذي لا عودة فيه؟ 

22/9/01

  

من هو المثقف السياسي حقاً؟


    أكثر ما يستعصي على المثقف العربي أن يحدد معنى السياسي ، الذي يلحق كصفة بالإنسان، أو بالموقف: ما هو، ومن هو؟
    تجربتي الشخصية كعراقي جعلتني على علم بالمفهوم التالي حول المعنى المتداول للسياسي: الإنسان السياسي هو الملتزم بموقف عقائدي، أو المنتمي حزبياً. والموقف السياسي هو ثمرة هذا الالتزام والانتماء. ومن شأن أي مثقف أن يجيب بيسر عن موقفه، حين يُسأل: ما هو موقفك؟ أما الذي يعجز عن الإجابة، أو من يقول بأن لا موقف له، فهو غير سياسي ولا تليق به، بالتالي، صفة مثقف. ونحن نعرف أن صفة سياسي، بهذا المعنى، تكاد تكون مرادفة لصفة مثقف، في المعترك العراقي على امتداد نصف قرن.
    في الستينات كانت الموجة الصاخبة أو الحية (صفتان استعملتا في عنواني كتابين لسامي مهدي وفاضل العزاوي حول الجيل) موزعة على مقاه حسب الانتساب العقائدي، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين. وكان كل مثقف لائقاً بصفة "سياسي"، لأنه قادر على الإجابة حين يُسأل عن موقفه.
    في الستينات كان هناك، بالتأكيد، كتاب وشعراء لا يميلون الى واحدةٍ من هذه المقاهي العقائدية. كتاب وشعراء يجدون في الإجابة عن "ما هو موقفك؟" أمراً مستحيلاً. ولذلك لم أجد لهم أثراً في الكتابين اللذين أرّخا لهذا الجيل. والكتابان محقان في ذلك. لأنهما يؤرخان من وجهة عقائدية لمرحلة عقائدية. فما قيمة محمد خضير، الذي لا يملك إجابة عن أي موقف، ولا تشغله الأفكار اليقينية!! قاص غارق في مملكة الانسان الباطنية السوداء. شأنه شأن شاعر مثل محمود البريكان، الباحث عن الوحش الرابض في كهف الباطن الذي لا يقل سواداً!
    ما كان أحد منهما مثقفاً سياسياً في العرف العقائدي العام. صرت أنا الآخر أعرف ذلك عن خبرة. الوعي السياسي يفترض زاوية نظر. وما من إنسان يفتقد هذه الزاوية، وهي بديهة. إلا أن زاوية النظر هذه توجَّب عليها أن ترتدي عدسةً بلون. فأصبحت كلَّ زوايا النظر بنظاراتٍ ذات مقاس محدد، يُرى بها الشيءُ، والمشهدُ، والإنسانُ، والمحيطُ، والكونُ بهذا المقاس، في المدى ودرجة اللون. حتى صرت أسأل المثقف السياسي: كيف يتخذ موقفاً من أمر تنعدم بينه وبينه الرؤيةُ ؟

    مع الأيام صرت أجرؤ على السؤال الاستنكاري، خاصة وأن الكلمات والأفكار والعقائد لم تعد، بسبب عماها، تولّد عثراتٍ فقط، بل تحولت من كتب ومقالات ولافتات ومكبرات صوت الي ثعابين وسكاكين وحبال شنق، ثم تجسدت في هيئة دكتاتور قادر على اختزال الإنسان الى مجرد فكرة لا يعرف أحد مقدار صحتها أو كذبها. ومن بين أصابعه تفجر نهر الدماء.
    واليوم، وأمام الشاهدة الجماعية للقتلى بلا عدد، لم يعد المثقف السياسي يجيب على سؤال "ما هو موقفك؟" دون إشفاق على النفس. ينزع عن زاوية النظر نظارة العقيدة، ثم يهمس: لا موقف لي!
    اليوم صرت أجرؤ على سؤاله: من هو المثقف السياسي حقاً؟

 

29/9/01

 


من يجرؤ على المثقف؟


    على امتداد السنوات العشرين الأخيرة، لمْ تفارق رأسي ومشاعري فكرةُ أن المثقف العربي لعب دوراً خطيرا في إرساء قاعدة تهديم المؤسسة والدولة، ودفع موجة الانقلاب (الثورة) الى ذراها، التي تجسدت بهيئة دكتاتور. هذه الفكرة نضجت مع السنوات وأصبحت أكثر تعقيداً. على أن التوفيق بين هدم الدولة و بناء الدكتاتورية ليس عصياً على أية خبرة، مهما كانت فقيرة. إلا أن الجانب المعقد فيها يكمن في إمكانية الإقناع، لأن هذه الفكرة تخاطب المثقفين الذين لا يحسنون، منذ نصف قرن، سوى صياغة أسلحة اتهام الآخر لا النفس، وسوى صياغة سبل للمحاججة، لا سبل للحقيقة.
    المثقفون عززوا قداسةَ الفكرة. وهم يعرفون أن قداسة الفكرة تعني، وبصورة مباشرة، تهميش الانسان. وإذا تمثلنا مناخَ الطقوس الأولى، فان قداسة الفكرة تحوجُ الفكرة الى أُضْحيات. وتهميشُ الانسان يهيئه لأن يكون هذه الأضحية. ونشيدنا القومي يقول:


لبيك يا علمَ العروبة كلنا نفدي الحمي
لبيك، واجعل من جماجمنا لعزّك سلَّما


    وشعرنا الحديث، ونثرنا الحديث يذهب هذا المذهب بصورة مباشرة حيناً، وأحياناً كثيرة بصورة غير مباشرة.
    المثقفون بنوا صرح الاعلام لدى الحزب الذي ينتمون اليه، أو لدى السلطة التي شادها الحزب. وهذا الاعلام يعتمد معايير، تعتمد بدورها على أفكار. ومن يجرؤ أن يمس قداسة الفكرة! وحتى أولئك الذين قُتلوا على مذبح إيمانهم بالفكرة، إنما قُتلوا بيد مؤمنين بقداسة فكرة أخرى! الاعلام يكفل، بأسلحة محاججته، تفنيدَ الآخر المغيّب. حين تغيب حرارة البحث عن الحقيقة، تنعدم الأسئلة، وينشأ اليقين. وينشأ مع اليقين الحزب، تنشأ اليوتوبيا، مخاضة الدماء.
    المثقفون بناة اليوتوبيا في كل مكان، في التاريخ. ولكنهم وجدوا، على مدى سعيهم، مثقفين أشداء في الخلاف معهم ونقدهم. المثقفون لدينا جميعاً ذوو موقف. والقلة، التي وقفت محتجة دون موقف، سرعان ما سحقتها الجماهير، أو عجلة التاريخ (هذان مصطلحان من قاموس ثقافة الاعلام).
    ما من حزب قاد انقلاباً، أو عسكري مارس ذات التقليد، إلا وجاءا محمولين على أجنحة الأفكار التي عمّدها المثقفون بأرواحهم. ما من عائلة حاكمة تتسلط على رقاب الناس وثرواتهم (وكل سلطة ثورية ذات مبادئ عائلة حاكمة) إلا وهي ثمرة ناضجة من ثمار الشعارات (الأفكار) التي تزاحمت في شوارع المدن منذ الخمسينات.
    من يجرؤ أن يصل خيوط هذه الكارثة، التي تملأ الأفق العربي، بأطرافها الخافية في الكتب ومقالات الصحف والأناشيد؟
    من يبحث في سُحنة الجلاد عن نسغ الأفكار المغذية؟
    أو يروي حكاية السجين السياسي، الذي يتأمل سجانه عبر القضبان، كيف أصبح سجاناً يتأمل جثة سجينه السياسي تحت التعذيب، ولا يتذكر؟

6/10/01

 

 

 

 

من يقرأ لوكريتيوس؟

 


إنني على وعي تماماً بمدى الصعوبة
في أن تعيد إلى الضوءِ، بواسطة الشعر اللاتيني،
كلَّ مكتشفات اليونان العميقة.
أعرفُ أن مصطلحاتٍ جديدةً يجب أن تُستحدث،
لأن لسانَنا فقيرٌ، وهذي المعاني جديدة عليه.
ولكنني مقتنع، بفضل تفوقك
وبفضل ما تنطوي عليه صداقتنا
من توقع أثير لاحتمال أي جهد،
بأن أواصل مراقبتي
عبر الليالي الهادئة، باحثاً عن كلماتٍ،
عن أغنية تنير العقل
بذلك الضوء الرائع الذي به تستطيع
أن ترى أشياءً عميقة الخفاء...


    هذا المقطع للشاعر ـ الفيلسوف الروماني لوكريتيوس (95 ـ 55 ق. م)، من قصيدته الفلسفية الشهيرة "في طبيعة الأشياء"...، وهي قصيدة تنطوي على خلاصة الفكر الأبيقوري. وهو مقطع مثير يعنيني في حديثي هذا، على أن القصيدة الفلسفية بمجملها أكثر إثارة. لك أن تتخيل أنه كتب من قبل شاعر عربي هذه الأيام، يتحدث فيه عن اللغة العربية (أو الشعر العربي) بدل الشعر اللاتيني، وعن صعوبة إعادة كل مكتشفات الغرب العميقة (بدل مكتشفات اليونان) الى الضوء، عن طريق هذا الشعر العربي (لا اللاتيني). ولك أن تتخيل أن الشاعر العربي يعيش نفس المأزق الروحي للشاعر الروماني العظيم، أمام الحاجة للمصطلح الجديد، وأمام اللسان الفقير الذي تستعصي عليه المعاني الجديدة. لك أن تتخيل شاعراً عربياً يرتفع الى مصاف الإحساس بالمأزق، حيث يعرف بعمق وبصدق فقرَ لسانه أمام فيض المعاني الجديدة، التي يعيش في بُحرانها الغرب.
    هذا المقطع رائع في الكشف عن المأزق الثقافي للشاعر الروماني. هذا الشاعر الروماني عميق الصدق، والثقافة، والإحساس بالمسؤولية، ولا يجد فاصلاً بين مأزقه الثقافي وبين سعيه المُلزم لتجاوز المأزق، بفاعلية احتمال الجهد، أي جهد، في أن يواصل مراقبته، عبر الليالي الهادئة، باحثاً عن كلمات، عن أغنية تنير العقل بذلك الضوء الرائع.. ، وهو يقصد ضوء عطايا الحضارة اليونانية.
    مادة المقطع الشعري تكاد تصلح بصورة دقيقة على مأزق ثقافتنا العربية ومأزق روحنا. ولكن ثمة فارق عميق مؤسف بين لوكريتيوس والشاعر العربي. فالأول، وهو يعيش مأزق قصور لسانه (لغته) عن المعاني الجديدة، يعرف هذا المأزق، ولا يحب أن يغفل عنه. ولذا فهو مناضل في البحث عن أغنية تنير العقل. في حين يعيش الشاعر العربي ذات المأزق في قصور اللسان، ويكاد يعرفه، ولكنه يغفل عنه، بإرادة العاجز أو المكابر، ولذا لا يعنيه البحث عن أغنية تنير العقل. إنه يفضل أن يتوهم تكافؤاً مع الغرب يُغنيه عن الاعتراف بالقصور، ويعفيه من مشاعر الذنب الثقيلة.
    وبدل أن يدفعه قصور اللسان الى الاعتراف المتواضع، شأن لوكريتيوس، ثم البحث الشاق عن الإضاءة من المعاني الجديدة، تراه مدفوعاً، بفعل عقدة النقص، الى التسامي عن مأزق القصور، وإيهام النفس بمأزق التفوق . ولذا تراه ما بعد حداثي، وبامتياز!

 

20/10/01

 

 

 

الزهرة التي تتفتح في المنفى

 


    حين هرب السياب الى الكويت المجاور للبصرة كتب، وهو يتطلع الى حدود وطنه:


عراق ليس سوي عراق.. ..

 

    الجواهري طمغ في حافظة العراقي مناجاته:


حييت سفحك عن بعدٍ فحييني، يا دجلة الخير.. 

 

    البياتي يعلن في قصائد منافيه هذه النجوى، وهي أكثر حرارةً ووجدانيةً في قصائد منافي سعدي يوسف. وكذا شأن هذه المحبة الممرورة للوطن لدى أكثر من شاعر. ولكن قصائد السياب والجواهري والبياتي وسعدي وآخرين لم تكتب جميعاً في المنفى. فهناك قصائد مماثلة في العدد كُتبت على أرض الوطن.
    في قصائد شعراء الأجيال المتتابعة، قصائدنا، التي كتبت داخل العراق، داخل الرحم الطبيعي لميلاد القصيدة، لا تكاد تقع على ذلك الوجدان المحب الحار باتجاه الوطن!
    لن تجد أغنيةً نديةً، رضيةً، مستريحةً، باتجاه السفح والنخل والنهر. باتجاه كل مفاتن الوطن.. وكأن هذه المفاتن لا تنفتح زهرتُها أمام بصيرة الشاعر إلا حين يغادرها، مرغماً، الى المنفى!
    لم تُكتب القصائد عن رائحةِ السمك، وأشواكِ سعف النخيل، والسِّعدِ في الشتاءات، وتلويحةِ ابنة الجيران فوق السطوح، ورائحة العرق الطافية مع الأسماك على جرف أبي نواس، ومعطف عبد الأمير الحصري كراية يتامى، والسماء العميقة في قاع النهر: وفسيفساء الأجناس البشرية! أقول لمَ نكتب القصائدَ عن أرض وطننا حين يكون أحدنا على أرض غير أرضه؟ ولمَ حين يتمرغ بالوحل عليها لا ينشدها قصيدة حبه مع قيثارة في يديه؟ لأن هذا الوطن شديد القسوة مع أبنائه؟ أعني أن أبناءه شديدو القسوة على أنفسهم؟ وهم بفعل ذلك لا يلهمهم حضورهم فيه بقصائد الحب، التي يشعرها المصري وهو فوق أرض أم الدنيا، واللبناني وهو في أحضان جبل الأرز؟
    إن القسوة الحاضرة مع رائحة التراب تجعل الشاعر العراقي يؤجل محبة التراب الى حين. يؤجلها الى مرحلة المنفى لتتفتح فيه. المصري يغني أرض مصر وهو عليها. غنائية أحمد شوقي تولدت بفعل رخاء المحب في أحضان من يحب. لم تكتب قصيدة من مصري عن حب مصر خارج حدود مصر. في حين لم يكتب الشاعر العراقي لوعة الحب هذه إلا من خارج الحدود. إن شعره ذو طبيعة هجائية على أرضه، وذو طبيعة محبة وغفورة بعيداً عنها.
    ما علة ذلك؟ هل شغله حبُّ العقيدة، عن حب وطنه؟ وحين يخرج الى المنفى يخمد مصطرع العقائد، وتزهر من جديد تلك المحبة للسفح والنخل والنهر؟
    لا بد أننا نعرف أسباباً عدة!

 

10/11/01

  

معنى التطهر، معنى الكتابة!


    الكاتب العراقي، في العقود الخمسة الأخيرة، ما كان ليحتاج الى القصة أو القصيدة وحدهما، أو أي نص إبداعي خيالي، لا يعتمد المباشرة في معالجة أزماته التي تتنازع كيانه التاريخي والاجتماعي والثقافي والنفسي. إنه يحتاج الى نثر الاعتراف، ومكاشفة النفس، وتأمل ما حدث. ما من أحد قادر على فهم كل ذلك الذي حدث له، في داخله وفي التاريخ. وهو ذاته قد يعجز عن فهم ما حدث، لا بفعل غموضه، أو بفعل عجز في قدرات العراقي، بل بسبب قناعات تحزب لها، وزوايا نظـر تحجر في خنادقها. فأصبح يتقن معنى زاوية نظره بما حدث، لا معنى ما حدث بالفعل.
    أن يخرج الكاتب العراقي من خندق زاوية النظر الى العراء. من زاوية النظر الثابتة الجاهزة. من خلف زجاجة المنظور الملونة الى وسط المشهد. أن يؤلب الكاتب العراقي زميله في الكتابة، وقارئه ، الى الخروج معاً، كما يخرج الموتى ساعةَ البعث، الى عراء ما حدث. الى مئات الآلاف من السجناء والمعذبين بين يدي رجال الحزب ورجال الأمن. الى مئات الآلاف من قتلى التطاحن العقائدي (عرباً بعرب وأكراداً بأكراد)، والى مئات الآلاف الأخرى من قتلى حرب السلطة مع الأكراد، الى مئات الآلاف من قتلى حربين لن يقبلهما التاريخ إلا في حقل العبث والحماقة، الى مئات الآلاف من المطمورين في المقابر المجهولة، الى مئات الآلاف من المهجرين والهاربين الى حيث لا يعرفون. وسط هذا العراء، عراء ما حدث، سيجد الكاتب العراقي أن عشرات الخنادق التي هجرها، خنادق زوايا النظر، ليست إلا عاراً لا تتشرف به قصيدة، ولا قصة، ولا أي نص من نصوص الكلام. وسيجد ألوانَ زجاجة المنظور العقائدي لا تليق بفحص جثث القتلى، ولا تنهدات المهجرين والهاربين.
    الكاتب العراقي، في العقود الخمسة الأخيرة، كان أحوج الى أن يراجع كل قصيدة كتبها، وكل قصة، وكل نص من نصوص الكلام، علّه يكشف فيها عن خيط من خيوط حبل مشنقة، أو شفرة سكين، أو أصبع مؤلب للضغط على الزناد، أو أثر من قفاز أسود. علَّ هذا الكشف يُشعره بأنه لم يكن بعيداً عن ارتكاب الجريمة، وأن مساهمته كانت خفية ولكن عظيمة الفاعلية.
    بنثر الاعتراف، ومكاشفة النفس، وتأمل ما حدث، خارجَ خندق زاويةِ الانتماء، يعرفُ الكاتب معنى التطهر، ومعنى الكتابة أصلاً.

 

17/11/01

 

 

 

شاعر يحمل قيثارة.. في جزيرة مهجورة

 


    منذ السنة التي أقمتُ بها في لندن (1979) وأنا أشعر بأني مع حقيبة سفر، منتظراً في محطة قطار لا هوية لها. أُخرج بين الحين والآخر دفتراً صغيراً أخطط فيه، مثل رسام، سكيچاً لقصيدة جديدة، ثم أطويها وأحفظها في الحقيبة. أنا والحقيبة والقصيدة في انتظار. ومما يجعل الصورة كابيةً أن هذا الانتظار لا ينطوي على معنى العودة. لذا اعتادت قصيدتي أن تتحدث عن عودة خيالية، ولكن الى الماضي. الذاكرةُ والمخيلةُ عنصران أساسيان في هذه القصيدة. الذاكرة تعوي والمخيلة تستجيب. أحيانا أخرى أشعر بأني في بهو مكتبة عظيمة الحجم، وإقامتي في لندن إقامةٌ في مكتبة، كتلك المكتبة التي تخيل بورخيس الفردوسَ على هيئتها. العلاقةُ مع الانگليزي، والمحيط الانگليزي، مستحيلة أحياناً، ومبتورة في معظم الأحيان. إنه كريم معي في حقل المعرفة، يسلمني كتبه جميعاً ولكنه لا يتحدث، يسلمني ما أحتاج إليه وهو يبتسم برضاء ولا يتحدث. الشوارع لهذا السبب مثل جدران البيت، والضجيج الذي يملأ أفق هذه المدينة لا يصلني، فأنا في بهو مكتبة عظيمة الحجم، أنتخب من رفوفها ما يروق لي وما احتاجه، وأنا اقرأ وأكتب ولا أرفع رأساً إلا لكتاب جديد وأوراق جديدة.
وقصيدتي مع الأيام تُشحن بتيارات المعرفة الدفينة، تيارات تشكل العنصر الثالث في قصيدتي، الى جانب عنصري الذاكرة، التي أعطت للماضي طعمَ، ورائحةَ، ولونَ الحاضر، وأقامت فيه، وعنصر المخيلة.
    المعرفة، الذاكرة، المخيلة، داخل قصيدة مغتربة، عائمة في مجرى ضال، ليس لها قارئ حاضر، ليس لها من هدف محدد، ليس لها وطن بديل، تمتص رحيق أزهار الغرب، ولا تشعر أنها تنتمي الى حداثته. فالحداثة صفة لمرحلة الغرب الأخيرة، التي يعيشها ونعيشها معه مرغمين، ولكن دون ثمار، لأننا ببساطة  على غير تربته التي أنشأت حضارته.
    المؤسف أن هذه الموجة أوهمت الشاعر العربي بحداثته. أوهمته بحداثة مصنوعة. فقصيدته تكاد تكون وليداً مشوهاً لقصيدة الغرب المترجمة الى العربية. والمعرفة في إقامتي الغربية أصبحت دليل قصيدتي للعودة الى موروثي العربي، عودة اكتشاف وتصفية نقدية. ولأن المعرفة في إقامتي الغربية معرفة موسيقية في جزئها الأعظم، فقد أصبحت دليلاً باطنياً لعودة باطنية. الموسيقى حاسة جديدة لغير الظاهر، تمنح الشاعر قدرةً على صياغة الشكل، ولكن لذاته. بل ليكشف، مثل الزجاجة السحرية، عن الشعر الحقيقي الذي وراءه. الشكل الموسيقي على الورق وسيطٌ مهذّب للقصيدة وراءه.
    كانت هذه الانتباهة دليلي الى القصيدة العربية منذ القرن الخامس الميلادي حتى اليوم، ودليلي الى القصيدة الخادعة التي تدهش، ولا يشف الشكل عن أية قصيدة خفية. والمحزن أن الكثير من الشعر الطبيعي اليوم ينتمي الى هذا الشكل المدهش الذي لا يخفي قصيدة وراءه.
    إقامتي الطويلة في الغرب لم تلغ قناعتي القديمة بأن الحضارة عادلة دائماً، وبأن العدالة نسبية، بالرغم من أن تجربتي كعراقي وكعربي أغرقت كياني بمذاق مر، وتركت علاقتي مع الأرض، ومع التاريخ، بالغةَ الاضطراب والتشوه.
    إن انقطاع الجذور عن التربة التي أنتمي إليها، وهو انقطاع يشبه قدر الدراما اليونانية، أورث قصيدتي إحساساً بالفقدان.
    المعرفة في إقامتي الغربية، تغذي هذا الفقدان بالأبعاد، حتى أصبح واسع الأفق، عظيم الغني.
    الموسيقي جعلته لحنا وأنا مولع بأدائه.
    شاعر عراقي يحمل قيثارة في جزيرة مهجورة.

 

20/11/01

 

 

 

أبناء الجملة المترجمة


    أكاد أحس بأننا، نحن مثقفي الأدب، أبناء جملة مترجمة. حدث ذلك منذ الستينيات. أجيالنا رأت في الثقافة المترجمة الى العربية كل ما يجده السجين من نقاهة في هواء الحرية. كثير من الأوكسجين وفي أفق جديد مفتوح. النقاهة،  والجدة، والانفتاح، يُفترض أن تكون حصيلة حياة متكافئة، ومتكاملة الفاعلية على أكثر من صعيد، لا حصيلة إطلالة مواربة من ثقافة أخرى، حتى لو كانت على شاكلة التنوع الذي تتمتع به الثقافة الغربية. ولكن هذا ما حدث فعلاً. وجدنا أنفسنا نستبدل ثقافة بثقافة، ضعيفاً بقوي. أحببنا الرواية، والمسرح، والشعر، والنقد، والدراسة، في حللها الجديدة. أحببنا غناها وجدتها، ولكننا أحببنا غرابتها أيضاً، وخاصة في المفردة، وصياغة الجملة، والسياق الذي بدا غير منطقي. ولم ننتبه الى علة هذه الغرابة، ولم نتساءل، لأن في الغرابة ذاتها متعة خالصة. ولذلك حسبناها خصيصة عجيبة من خصائص أساليب الإنشاء الغربية، فحافظنا، عليها وزدنا عليها قليلاً.
    هذه الخصيصة استفحلت مع الأيام، وأصبحت خصيصة لغة حداثتنا، ومع الأيام بدأت أحس بأن هذه الخصيصة هي ثمرة تلك الهُجنة، التي رأيناها في الجملة المترجمة، واحتفينا بها، وتبنيناها.
    في آداب الغرب كثيراً ما تتردد نداءات الحاجة الى الترجمة من آداب الشرق. من أجل نسائم جديدة. أحسب أن صوت الشاعر تيد هيوز كان أبرزها، حتى أسس لمجلة "الشعر المترجم" المعروفة. ولكن الفارق جوهري هنا. فثقافة الغرب (الانكليزية مثلاً) ثقافة مؤسسة بصورة إسمنتية. ثقافة حضارة العصر الحديث. وإذا ما احتاجت نسائم من الشرق، أو أي منطقة من العالم، فلأنها تعرف قدرتها على استيعابها وامتصاصها. كل شيء يدخل الانكليزية يأخذ لون ومذاق وطاقة دمها. ومجرد مقارنتها ومقاربتها مع العربية وهم وخداع للنفس. تماماً كالوهم الذي تعامل به بعض الشعراء والنقاد حين قرنوا الأوزان الانكليزية بالأوزان العربية، وتبنوا في هذه ما اعتبروه ظاهراً في تلك! ولكن، للأسف، هذا ما حدث. مع جملة مفارقات حادة إضافية. فالمترجم لدينا قد لا يحسن اللغة الأخرى، وقد لا يحسن العربية للحد الذي يحقق فيها أسلوبه الخاص. وهو ليس رجل اختصاص في الحقل الذي يترجم فيه، في الفلسفة أو الشعر مثلاً، ويقدمه وفق طلب دور نشر لا علاقة لها بحقول المعرفة، وبمشاعر المسؤولية... إلخ. أضف الى ذلك عاملاً أكثر خطورة وأكثر خفاءً، هو أن الفارق بين التطور المعرفي الذي تعرضت له اللغتان يكاد يشبه هوة.
    تحت وطأة كل هذه العوامل خرجت الجملةُ المترجمةُ لتستحوذ على أساليب الكتابة في حقل الثقافة الأدبية خاصة. واعتدنا على التباسها، وعدم دقتها وفراغها، ودرجناها ضمن خصائص حداثتنا.

 

1/12/01

 

معنى أن ينتصرَ المثقف للدكتاتور!


    أكثر من عشرين عاماً على المنفي الجماعي قطعها العراقيون، وأكثر من ثلاثين عاماً على خبرة الأذى والتنكيل تحت سطوة البعث وصدام حسين ذاق مرارتها الناس جميعاً. وفي ثلث القرن هذا عرفت الثقافة العراقية ظاهرةً لم تنفصل كثيراً عن الظاهرة السياسية: هيمنة المعترك العقائدي الدامي، وصعود الدكتاتورية الدموية. في هذه الثقافة معترك عقائدي لا يخفى على عين. تبطّن معظمَ نصوص الإبداع الخيالي والنصوص النظرية. كما أن في هذه الثقافة أكثر من قاعدة، قد تخفى عن العين، لصعود الدكتاتور، وأكثر من ظل له..
    وأنا لا أريد أن أوزع ظاهرةَ المعترك العقائدي، والانتصار للدكتاتورية، على كل نص الآن. فهذا الأمر يحتاج الى تفصيل وإنارة تكشف عن طياته الخفية وراء الظاهر، الذي اعتاد المثقفون وقراؤهم على اعتباره نصاً: تقدمياً، ثورياً، حداثياً، متمرداً.. الخ. ولكن تكفي الإشارة الى النص الذي بشر بثورة البعث، وتوافق مع مبادئها، أو النص الذي نشأ تحت ظلها، أو الذي استجاب لها، وغنى. ثم النص الذي ارتفعت قامته الإعلامية بارتفاع قامة الدكتاتور، واتسعت وطأته على قلوب الناس باتساع وطأة الدكتاتور عليها. هذا النص في القصيدة، وفي القصة، والرواية، والمقالة النقدية، والدراسة، وفي نثر الصحافة، وفي الإنجاز الإذاعي، والمسرحي والسينمائي، وفي ثقافة اللوحة والمنحوتة.
   
تكفي الإشارة الى هذه الظاهرة، التي شارك فيها عدد كبير من مثقفي العراق، فهي بارزة وما زالت برودتها ملء الكف. وما زال أكثر رجالاتها ينحتون بأزميل اللعنة وجه الموت، باسم حب القومية، وحب الوطن، وحب العقيدة. ويعكسون تجريدات عُصابهم العقائدي على النخلِ، ودجلةَ، وبغداد. وكل مفصل من مفاصل جسد هذا البلد المنهك المنتهك.
    هذه الظاهرة تحتاج اليوم الى استدارة مسؤولة تنصرف إليها، لا الى التفاتة عابرة. استدارة درس وتأمل لكل المثقفين، ولكل ما أنتجوا لأنفسهم وللناس، ولن تكون استدارة ذات نفع إذا ما صدرت من ثقب زاوية نظر ضيق، عن عدسة عقائدية عالية الثقة بالنفس بحجة، منفاها أو شرف معارضتها للدكتاتور.
    إن فهم هذه الظاهرة المريعة، ظاهرة الثقافة التي انتصرت للدكتاتور، لا يمكن أن يتم إلا بإضاءة جذورها: الانتصار للأفكار ضد الانسان، أو بغفلة عن الانسان. وكذلك الإندفاعة الإيديولوجية الخالية من البصيرة، بمعزل عن موضوعة الخير والشر، وبمعزل عن الانسان أيضاً.

 

15/12/01

 

 

من الغربة حتى وعي الغربة
 

ادمون صبري- دراسة ومختارات

 

مدينة النحاس

 

 ثياب الامبراطور

     منصور عبد الناصر  

 

 العودة الى كاردينيا

      كاظم الواسطي

       مقداد مسعود

       فاطمة المحسن

       ماجد السامرائي

       د.حسن مدن

      كاردينيا كاظم محمد

      جاسم العايف

      ابراهيم عبدي

     ماجد السامرائي  

     شكيب كاظم

     توفيق التميمي

 

 الفضائل الموسيقية
 

 يوميات نهاية الكابوس

        كاظم محمد
         محيط

         البيان

 

كتاب تهافت الستينيين

       ابراهيم عبدي

       جريدة البيان

        صحيفة الثورة

        مشعل العبدلي

       سعد هادي

 

القصيدة، لحظة الولادة، قيد التأليف
الشعر الإنكليزي المعاصر، قيد التأليف

اللحظة الخالدة، قيد التأليف
الموسيقى والتصوف
الموسيقى والرسم، قيد التأليف
الموسيقى والفلسفة، قيد التأليف
رسول السحب،، قيد التأليف
صحبة الآلهة، قيد التأليف
مراعي الصبّار، قيد التأليف
 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail