العدد 17 شتاء 2009

 

الصوت الناصع

 

(عن البريكان وشعره)

 

عبد الكريم كاصد


أكان يدرك الشاعر الذي نأى بنفسه عن السقوط الجماعي، أنه سيصبح يوماً ضحية هذا السقوط؟ وسواء أكان السقوط سياسياً أم غير سياسي، تمثّله سلطة تحترف القتل، أم لصوص عاديون، فإن مقتله دليل على افتقاد أمنٍ، وموتٍ غير مبرّر سيظل باعثاً على الرجفة أبداً، وعلى التفكير طويلاً.
كتب البريكان مرّة في قصيدته «السقوط الجماعي»:
وإذ يرتجف الإنسان في لحظة تفكير

يكون الأمر قد تمّ

وهل للموت تبرير؟


هازئاً بالقوانين «المثبّتة بأطراف المسامير» و«الجماجم الصمّ» و«التواريخ المعاد صنعها بأحدث الآلات» و«الأخبار والتقارير»، وكأنه ينبئ بالمصير: مصيره ومصير آخرين.
ترجع علاقتي بالبريكان إلى بداية الستينات، عندما كنت طالباً في معهد اللغات ببغداد أتعلّم اللغة الفرنسية، غير أني غادرت المعهد بعد أحداث سنة 1963 الدامية، لأكمل دراستي في جامعة دمشق، في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية. التقينا أنا والبريكان ثانية في البصرة سنة 1968، مدرسين في معهد المعلمين. هو يدرس اللغة العربية وأنا علم النفس، كان لا يخفي سروره من حياد مادّة اللغة العربية، فقد جنّبته الكثير من المشكلات التي اعترضتني أثناء تدريسي علم النفس ولا سيّما علم النفس التحليلي، مفضّلا في كثير من الأحيان أن أرافقه إلى مطاعم المدينة ومقاهيها، لنمضي فترة ما بعد الظهر في أحاديث مختلفة، متثاقلاً من العودة إلى منزله في قضاء الزبير الذي يبعد أميالاً عن البصرة، وكأنه في نزهاتنا هذه، يستعيد عزلته السعيدة في بغداد، حيث يمضي جلّ وقته منفرداً أو بصحبة صداقات قليلة جداً.

لم الحظ أيّ توتّر أو شعور بالملل رافق عزلته هذه وإذا كان تسكّعه في بغداد وليد رتابة ما في حياة اعتيادية لمثقف عراقيّ، فإنّ تسكّعه في البصرة هو أقرب إلى النزهة منها إلى الشعور الحاد برتابة الحياة. وأودّ أن أقول هنا لهؤلاء الذي يبحثون في تفصيلات حياته عن معنى لإضاءة شعره إنهم لن يعثروا على ما يسعفهم في فهم هذا الشعر أو اكتشاف ما وراءه من قيم شعريّة كبيرة لانّ البريكان ليس من هؤلاء الشعراء الذين نجد لديهم ذلك الفاصل الكبير بين حياتهم وشعرهم.

لعلّ الحدث الكبير في حياته هو مقتله الذي سيهب مجرى حياة البريكان توتّراً لن ينتهي صداه أمداً طويلاً، مضيفاً إلى شعره وحياته غموضاً وتطابقاً آخر بعد أن تطابقا من قبل.  
كان البريكان، في شعره وفي شخصه، واحداً من شعراء معدودين يؤثرون الصمت على الضجيج، والوحدة على الاحتشاد، والصداقة المتفرّدة على المجموع، وهو إذا كان استثناء في المشهد العام، فإنه ليس استثناء في المشهد الخاص الذي ألفته مدينته البصرة. فإلى جانب البريكان كان هناك محمد خضيّر ومحمود عبد الوهاب المسكونان بهاجس الكتابة وانشغالها بواقع استطاع هؤلاء الثلاثة اختراقه إلى طبقاته الأعمق ليكتشفوا ما هو كامن فيه من جذر اسطوريّ أو من جوهر عصيّ على الاكتشاف، جوهر يربطهم بماض عريق ومستقبل أبعد، في زمن واحد هو زمن الكتابة الذي ينأى بصاحبه عن زمن الآخرين.
كان البريكان ومحمد خضير ومحمود عبد الوهاب نماذج البصرة البارزة، وخفاءها الملغز، وعبقريّتها التي لا تستنفد، وإدراكها الحصيف. ليس بمقدور أية سلطة عابرة أن تجرّدهم منها، أو تجرّدها منهم، وقد عادت طاقة خلاّقة تحملهم بعيداً إلى مستقبل يتجاوز ما هو آني إلى ما هو جوهري، دون أن تهمل هذا الآني و تفصيلاته، ففي هذه التفصيلات يتجلى الجوهر، ولعل عنايتهم الفائقة بهذا الجوهر المتجسّد في التفصيلات هو ما جعل فنهم ثورة بحدّ ذاتها.. ثورة ليست في الشكل، كما يظن البعض، بل في صميم التعبير الإنساني عن الوجود، لأن التأكيد على الفن في ظرف ما، هو تأكيد على الإنسان وحماية أعزّ ما لديه: حريته، بعيداً عما يراد له من تحقيق منفعة عابرة أو غرض عابر.

يقول البريكان في قصيدة له عن الحرية:

دعوتموني لاكتشاف قارة أخرى/وأنكرتم عليّ رؤية الخريطة/ أودّ أن أبحر في سفينتي البسيطة/ فإن تلاقينا تحسن الذكرى.

جئتم بوجهٍ آخر جديد/ حسب المقاييس المثاليهْ/ شكراً لكم لا أشتهي عيناً زجاجيّهْ/ فماً من المطاط/ لا أبتغي إزالة الفرق. ولا أريد/ سعادة التماثل الكامل/ شكراً لكم. دعوه يبقى ذلك الفاصل/ أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد

إن المسافة التي يشير إليها البريكان في هذه القصيدة ليست هي المسافة الفاصلة بين العبد وسيّده، ولا مسافة الإنسان المتفوق، بل هي تلك المسافة المنبعثة عن رغبته العميقة في النأي عن سعادة التماثل الكامل التي كان ثمنها فادحاً للكثيرين: العيون الزجاجية، والأفواه المطاط، والأضواء البرّاقة المعشية للأبصار.
كان يعبّر لي عن الصعوبة التي يلاقيها في قراءة شعراء كثيرين ملأوا الساحة الشعرية بضجيجهم، وعن سوء استخدام لفظة «شاعر كبير»، لأن لفظة «شاعر» وحدها كافية لتقييم أي شاعر حقيقي، وهي لا يمكن إطلاقها إلا على نفر قليل من الشعراء.
إن تفرد البريكان وانفراده لم يشغلاه عن العالم المحيط به، بل جعلاه أكثر إدراكاً لهذا العالم، وانشغالاً به وبموجوداته المهدّدة بالعنف:


ليس الحب مستحيلْ /ولا الجمال خدعة / ولا ندى السحر/ خرافة.. لكن يفيض مرقص البشر/ بالعنف والعويل

وقد ساعده في ذلك قدرته على المزج بين الإحساس والفكرة، إذ من الصعب، في شعر البريكان ، أن تفصل الإحساس عن الفكرة أو الفكرة عن الإحساس، فوراء كل إحساس مهما صغر ثمّة فكرة، ووراء كل فكرة مهما عظمت ثمّة إحساس متجّسد:


على المشهد/ أسمّر نظرتي، لكن لي حلمي/ ولائي هو للأجمل والأبعد/ وعبر الصخب اليومي أنمي صوتي الناصع/ وألقي وهج الفكر على الواقع

وهنا لابدّ من الإشارة إلى ما ينفرد به البريكان من عمق فكرةٍ، وجلاء أسلوب ما جعل شعره ذا طبقات عديدة، كالآثار الكلاسيكية، بالنسبة إلى قرائها المختلفين. لقد ساعدت الفكرة في شعره على تحديد الشكل، مثلما ساعد جلاء الأسلوب في مدّ الفكرة بالظلال والإيحاء، وهذا على النقيض مما يُكتب في هذه الأيام من شعرٍ يتّصف أغلبه بتسطح الفكرة وتعقّد الأسلوب ، لذلك يبدو البريكان غريباً لكثير من شعراء الأجيال الأخرى المعنية بالكلمات التي تعني كلّ شئ ولا تعني شيئاً.

لعلّ شعراء قليلين في شعرنا العربيّ استطاعوا أن يجمعوا بين عمق الفكرة ووضوحها، دون أن يفقد شعرهم قدرته على الإيحاء بما يتجاوز الفكرة نفسها. وإذا كان أسلوب البريكان يبدو مهلهلاً أحياناً في جزء منه، فما ذلك إلاّ تعبيرٌ عن موقف البريكان من بلاغة معينة وسعي لتقريب لغة الشعر من الحياة اليومية، بعد أن جفّ نسغها على أيدي صنّاع الشعر:

ثمّ إلى العمل/ يمضي على عجل

إنّ هذين البيتين يبدوان عاديّين تماماً لكنّهما ليسا كذلك في صلب القصيدة وبنائها الأساسيّ. قد يستخدم البريكان أكثر من وزن في القصيدة، وقد يخرج على الوزن، أو يستخدم ما هو عاديّ من الكلام ولكنّه في كلّ ذلك يبقى الشاعر الماهر الذي يخفي صنعته، في حين يتباهى الكثير من الشعراء في إبداء صنعتهم التي يجد فيها النقّاد مادة للحديث في ما لا يفيد الشعر. وبدلاً من أن ينهمك النقد في الكشف عن هذه القيم الشعرية في شعر البريكان، نراه يؤكد على قيمة واحدة هي عزلة البريكان أي القيمة الحياتية لا الشعرية، وانقطاعه عن النشر وهو الذي نشر عشرات القصائد التي تدلّ على تفرّده، دون أن يدرك هذا النقد أنّ هذه العزلة قابلتها شمولية في الرؤية ورحابة في الفكرة ندرتا في شعرنا العربيّ، ممّا يدفعنا إلى البحث عن القدرة على الاستبصارلدى شاعر مثل البريكان وقدرته الكبيرة على التخيّل. وعلاقة هذا الاستبصار وهذا التخيّل بواقعه في كليّته. وليس بواقع عزلته المحدودة وشخصيته الاجتماعية التي تبدو أقرب إلى الإذعان منها إلى التمرّد الذي نلمسه في شعره. وفي هذا مفارقة للنقد المهموم بتفصيلاته الحياتيّة. كذلك قد ينهمك النقد في البحث عن موقعه الشعريّ بين شعراء جيله وفي ذلك إضرارللشعر والنقد معاً، لأنّ البحث عن المواقع في الإبداع ينتمي إلى عصور طبقات الشعراء ونقّادهم. إنه الشاعر الذي انتمي إلى وحدته ومدّ جذرها إلى ما يجعلها شجرة تظلل الأشياء والناس بأفيائها.
لم يزعم البريكان أنه الكون أو العالم، بل أعلن عن حضوره في هذا العالم، وولائه لما فيه من جمال وبعد، وهو في نظرته هذه يختلف عن شعراء كثيرين نعوا العالم وأسقطوه حجراً في بئر ذواتهم، وكلما حدّق البريكان في العالم اكتشف حياة أخرى، حياة تسكن حتى الصخر، متجاوزاً، بنظرته هذه، الراهن إلى المصير والمصير إلى الوجود والوجود إلى التساؤل الممض الذي ينتصب في هذا العراء المحيط بالإنسان.. يقول البريكان في قصيدة (صخرة صحراوية):
مزولة عظيمة للشمس في الصحراء/ علامة على رمال التيه/ إجابة على سؤال الماء/ شاهد قبر هائل مندرس الأسماء

من جهة أخرى، ينكر البريكان على الذات، أيّا كانت عادية أم غير عادية، نزوعها إلى تشكيل العالم كما تريد. ونظرتها إلى تماثله لا إلى غناه وتنوعه وحياته الخبيئة حتى في أصغر كائناته وأبعدها عن الحياة. وقد تتمثل هذه الذات في اليد التي تسحب الطفل إلى الداخل، أي في أدنى تجلياتها كما في قصيدة (نافذة للطفولة):
المشهد الطريف/ مكرّراً: الولد العابث/ يسلق القضبان/ منتصراً، تمتد من ورائه يدان/ يُسحب للداخل

أو تتمثل في اليد التي تمارس التعذيب، أي في أبشع تجلياتها وأشدها تدميراً:
وذكرت ما أكل المشيب من النواحي في سجونك/ وجميع ما شرب التراب وما تبخر في الهواء/ في السحق والتعذيب. يا لذكاء قلبك في جنونك/ كان انبعاث الرعب أكمل ما تطوّر في فنونك/ لكن بأي براءةٍ ترنو إلى القمر المضاء/ في الليل حيث يظلّل الغزل الرقيق على جفونك/ ويدور وجهك في السماء

هذه الرؤية هي التي منحت شعره هذا الامتداد وذلك العمق الإنساني النادر الذي غمر بحنانه الموجودات صغيرها وكبيرها. لنقرأ هذا المقطع المليء بالحنان لـ (صخرة في المحطة):
تاركةً بمنتهى الأمومه/ ذراعها للقادم المتعب/ صديقة المسافرين، الكهلة الممتعة/ حارسة الأمتعه/ حاملة المصباح في الظلام

وقد يتجسد هذا الحنو بأشكال أخرى عبر هاجس الشاعر القلق على مصير الموجودات المهدّدة بالتدمير، كما يتجلى ذلك في قصيدة «رحلة قرد»، حيث لا يعرف القرد شيئاً عن موته في المختبر المسوق إليه:
رحلة القرد تبدو كشيء من السحر لا ينتهي/ إنه يتفحص ما حوله/ كلّ ما يستطيع/ إن يحدق/ لا يعرف القرد شيئاً عن المختبر/ غرفة الأجهزة/ والمجاهر والمبضع الدموي/ حيث تصنع من مخه الأبيض المستدير/ عينات التجارب/ من فجوات القفص/ ينظر القرد، يلقي على كل شيء/ نظرة ساكنه

ولعلّ هاجس التدمير ظلّ يسكنه في معظم القصائد التي نشرها أخيراً.

في متاهة الفراشة تنجذب الفراشة إلى نبضات نيون مصنع ضخم فتلقى حتفها:

لمحت فجوةً وانعكاساً من الضوء/ فانجذبت نحوه/ سقطت وسط هاويةٍ معتمه/ ......../ رأت نفسها في الهواء/ بنصف جناحٍ/ ونصف جسد/ ولم تستطع أن تحرك أطرافها/ ولم ترتعش غير ظلّ ارتعاشهْ/ وكانت هناك/ على الأرض تزحف،/ نصف فراشه

ويمكننا قول ذلك عن الموجودات الأخرى في بقية قصائده:

فالسفينة:

راسية بجوار الرصيف/ تستقرّ بهيكلها المتآكل/ تخفي بداخلها صدأ الأزمنه

والنسر:

يتسمّر بين الطيور المحنّطة الساكنه

وجواد السباق الأصيل:

يسحب جثته داخل الطرق المتربهْ

والنافذة تُغلق:

كأنما لآخر الزمن/ ومثلما يغلق تابوت إلى الأبد

والغرف:

تتحجّر فيها ساعات الحائط/ وتلوح عقاربها/ ساكنة منذ عصور

موجودات هي عرضة للتدمير.

ولم يكن الشاعر بمعزل عن هذا المصير الذي تنبأ به للأشياء وقد شارك الموجودات حيواتها وسكنه هاجس الموت:

على الباب نقرٌ خفيف/ على الباب نقرٌ بصوتٍ خفيض ولكن شديد الوضوح/ يعاود ليلاً. أراقبه. أتوقّعه ليلةً بعد ليله/ أصيح إليه بإيقاعه المتماثل/ يعلو قليلاً قليلاً/ ويخفت/ أفتح بابي / وليس هناك أحد

ولكن أكان يدور في خلده حقّاً أنّه سيكون يوماً عرضةً للتدمير أيضاً؟

 

 

زيارة إلى قبر البريكان

 

قلتُ

وقد طالعني شبحٌ:

"كفنٌ أم ثوبٌ ابيضُ ما تلبسُ يا محمود؟ "

كان هنالك غيمٌ

(مع أنّ الفصلَ هو الصيف)

وظلالٌ تجلسُ مطرقةً

كنساء يندبنَ

وتاجٌ من شوكٍ تصبغهُ شمسكَ تلك البردانة،

كم تنزف!

كم ينزف هذا الشبحُ الواقف

هل أدعوهُ لندخل ذاك المَغسَل عند البوّابة ؟

(ما أشبهَ أحجارَهُ بخلية نحل!)

ليزيل اللطخة عن ثوبه،

يصحبنا الدفّان بدرّاجته المدفوعة بين الأشجار

وكوفيته البيضاء

 

حين وصلنا طرف المقبرة استيقظت الصحراء

ومضت تحمل فوق ظهور الإبْل

مقابرها

 

البصرة - حزيران 2007

 

 

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 


خزعل الماجدي: لا أحد قرب قبري
ياسين طه حافظ: حياة عبد اللطيف الراشد وموته


*


ملف: محمود البريكان


محمد خضير: سُدم/ عوالم/تكوينات
عبد الكريم كاصد: الصوت الناصع
حسن ناظم: الشعرية المفقودة
علي حاكم صالح: في الطريق إلى البريكان
سعيد الغانمي: شعر البريكان، هواجس انتظار المصير
ناظم عودة: دوائر سود على بحيرة بيضاء
فوزي كريم: البريكان، احتفاء بالانسان وأشيائه الزائلة


*


حصاد المحرر: الشعر


الشعر الباحث أم الشعر المغير
الهجين الأمريكي
شعراء المحج الروسي
رومي
في لوديف

 

*

 

حصاد المحرر: تشكيل


الحديقة والكون
رياح التجريد الروسية
ريتشارد لونغ
نداء بالبل

 

*

 

حصاد المحرر: موسيقى


بروميثيوس
جريمة قتل في الكاتدرائية
ثلاثية دانتي الموسيقية

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009