أدباء عراقيون:
فوزي كريم
ياسين
النصيِّر
1
للشاعر
فوزي كريم مواقف قد لا يتوفر عليها شعراء آخرون. وهي أنه
يستطيع من خلال الشعر والنثر أن يقول القول السياسي دون أن يكون منتميا
لفئة أو
حزب. هذه
الخاصية جعلته في موقع متراوح بين أن يكون مخلصا لفنه، وبين أن يكون
منتميا للحركة. كل ما عمله هذا الشاعر الناثر هو أنه فضل مناخ الكتابة
على مناخ
آخر. ولكن
شعره وحياته يصبان في العملية الفكرية التقدمية للثقافة العراقية. ويوم
قرر
الخروج من العراق، كنا معا نجوب شوارع بغداد ليلا. كان ذلك في أوائل
السبعينات.
ذهبنا معا
نتجول ونعيد تواريخنا الصغيرة والكبيرة، وألاعيب السياسة. وما يتعرض له
من
ضغوط في أن يكون منتميا لحزب السلطة. لكنه برفضه المبكر وخروجه كان
يخطط لن يكون
منسجما مع
نفسه وموقفه الشعري. كان فوزي قريبا من الثقافة العراقية بكل أطيافها.
يكتب في صحافتها المتنوعة، ويقف كاي شاعر مع قضايا شعبه دون أن يدعي
ذلك . فهو في
انتمائه
للثقافة كان يؤسس لضعف في المواجهات. فآثر السلامة في خروجه ليلتحق
بركب
المثقفين
الذين وجدوا في بيروت مدينة منفتحة على القول دون رقيب. وفي بيروت أعاد
فوزي كريم إنتاج ثقافته من داخل وعيه المتجدد بالشعر وبالنثر، فهو كاتب
في الصحافة
جيد, ناثر
في القضايا اليومية جيد، وشاعر يكبت من داخل ذهنية متفتحة جيد. بدأ
أدونوسيا وخرج من عباءته في باكورة أعماله الشعرية. " حيث تبدأ
الأشياء" عام 1968
ويهدي
ديوانه إلى أمه. ومن ثم طور ذاته ليجد أن القصيدة عنده لا تقف عند
ملامسة
الحدث
السياسي، بل تقول فيه عبر تكوين لغة تصبح رديفا للصوت النقدي السياسي.
وهكذا
وجد نفسه
منساقا بحكم طاقته الروحية لأن يكتب عن ما فعلته السلطة بمثقفيها،
ويدين
ضمنا
تصرفات سدنة الثقافة البعثية. فيجد نفسه مرغما بفعل كيمياء القصيدة في
صفوف
الشعراء
الذين لا يتنكرون لثقافة وطنهم ولا لمثقفيه:
آه يا صوت
بلادي
آه
لو
ازرع في
خديك قبلة.
صدقيني يا بلادي
أن
في دمعة عينيك ضياعي.
في عام
1973
يكتب
ديوانا جديدا هو " ارفع يدي احتجاجاً". وفيه يجد الناقد أن فوزي كريم
بدا
يبتعد
كثيرا عن مناخ قصائده في ديوانه الأول هنا يقترب من القول المباشر ومن
القضية
الملتهبة
أنه يمهد للخروج من الجحيم. كنا نحن أصدقاؤه نلمس روح التمرد فيه من
خلال
صمته
ومناقشاته اليومية الحادة وكلها تصب في القصيدة والشعرية الجدية وفوزي
يحب
المناقشات
بل ويتصنعها ـ و يصنعها عندما لا تكون هناك إلا أحاديث السياسية وكنت
ممن
وجد فيه
صديق يحب أن يتتبع شطحات الذهن النقدي عندي كان يقول إن العبارة
الناقصة
التعبير
ناقصة المعنى وكان يصر على الوضوح في القول وفي الرأي لا يرغب أن يستلم
حوارا مبهما ولا رأيا ناقصا وفيه خصاصة من المتنبي ذلك الذي يجد في
الشعر قولا وفي
النثر قولا
فغلب النثر على الشعر عنده ليصبح لاحقا له في النقد رأي. فنثر فوزي
يحمل
طاقة شعرية
مباشرة وحية ومختزنة للقول الواضح الجميل بينما مالت قصائده إلى
الذهنية
ومن أعمال
العقل كما يقال . كتب فوزي كريم في النقد دون أن يكون له منهجا محددا
إلا
منهج
الذائقة الشخصية المرهفة المتزنة والمحتكمة إلى المقارنة الثقافية بين
ما قرأه
وما يقرأه
في المنقود. فكتب كتبا نقدية ومختارات لمقالات حسين مردان ولأدمون صبري
ولغيرهم ورافق هادي العلوي في بيته ومكتبته وأفكاره، واحتذى حذوه في
الصبروالمتابعة:
يا وطني
الهاربَ خذني، فأنا مثلك هاربْ
عاشرني الحبُّ
فضيَّعني
لكني لم القِِ الحبلَ على الغاربْ،
لم
امسحْ من عتباتِ البابِ حصى
الغائبْ.
يا
وطني ، الغربة، يا وطني
تمرٌ..ورغيفٌ..وأموتُ.
في عام
1977
يكتب
ديوانا جديدا يشكل نقلة في شعره هو " جنون من حجر" يجمع فيه قصائد قيلت
في
بداية
السبعينات. وفيه يجد الشاعر ضالته في القصيدة المقطعية المركزة تلك
التي
أصبحت إحدى
ميزات الطاقة الشعرية المتفتحة على موضوعات عدة في قصيدة واحدة. وفي
هذا
الديوان
النقلة لا يبدو له أن الأمس قد أصبح ماضيا فقد نسيه كله وليس ثمة شيء
يستعيده منه. هذه القطيعة جعلت فوزي شاعرا لا يتكئ على الأيديولوجيا بل
على التجربة
والروح
والطاقة، والفكرة المتجوهرة في الممارسة ويقول أن الأيديولوجيا تنتمي
للتاريخ بينما الشعر ينتمي للأسطورة لذلك تبدو القصيدة التي تردد أصداء
التاريخ
قناعا من
أقنعة الإيديولوجيا لا غير. وهي عرضية لأن تزول زوال المبادئ ولا جوهر
لها.
بعد
ثمان سنوات أي في عام 1985 بينما الحروب مشتعلة والجند الشبان يذهبون
لمحرقة النار، يصدر ديوانا وهو في الغربة اسماه" عثرات الطائر". ليس
فيه إلا الندب
والحزن
والنقد. ديوان يستعيد فيه تجربة الذات وهي تمر من ثقوب الممارسة ففوزي
كريم
الصامت
المقل، لا ينتبه هذه المرة لجوهر الشعر فقط، بل ولجوهر العلاقة بين
الشاعر
ووطنه. فهو
يقترب من السياسي ربما لأول مرة حيث في التجربة بعض مرارة القول
والأسماء. أنه هنا لا يضعف، بل يؤخذ بالنثر الذي بدأ بكتابته كثيرا في
صحافة بيروت
كي يمكن
ذاكرته من الاستمرار. فبدت بيروت في عيون الكثيرين من مثقفي العراق
المهاجرين قاسية ليس بالاجتياح الإسرائيلي - الكتائبي فقط بل بالفرص
القليلة
المتاحة
للعيش. وهي فرص قال عنها بعد ذلك الياس خوري العراقيين لمن غادروا
بيروت
هربا من
الحرب ، أنها لم تكن متاحة للبنانيين أيضاً. بعد ذلك فكر الجميع
بالهجرة
منها. من
بينهم فوزي كريم ليستقر في لندن حاملا أمراضه وولعه بالموسيقى وحبه
للمناقشة والانتماء لصداقة الذات. وفي لندن أسس لنفسه قوقعة صغيرة يطل
بها على عالم
لندن
الثقافي والموسيقي وكلاهما من خصائص ثقافة فوزي كريم. وفي لندن أصدر
مجلة
شعرية هذا
الهاجس الذي يلازم كل مثقف عراقي يجد في الكتاب المنشور أو المجلة
الخاصة
به منبرا
للقول الذي يجب أن يقال. اسماها "اللحظة الشعرية" وجعلها صوتا خاصا به
مع
نافذة
صغيرة على أشعار ونقود الآخرين. وشيئا فشيئا وجدت المجلة بعد أعداد
منها
حبيسة
الرأي المفرد، والصوت الذي يجب أن يراه فوزي حديثاً. ودخل محررها في
نقاش حول
الحداثة
الشعرية في العراق، وكيف بدأت ومن هم قادتها. وبالطبع كان فاضل العزاوي
الذي ينسب له حداثة التجديد في الرؤية الشعرية محورا للمناقشات.
في
اللحظة
الشعرية
يبدأ فوزي كريم بتجربة أن يكون ناشرا أكثر منه شاعراً فيغلب عليه ثانية
صوت
النثر.
وبصحبة مرض القلب الذي لازم عددا من المبدعين العراقيين، أصبحت اللحظة
الشعرية ثقلا أخرا عليه فقرر توقفها. وفي هذه الفترة يكتب " مدينة
النحاس" النص
النثري
الجميل الذي ينفتح على ذاكرة العراق والثقافة. وعلى ذاكرة مثقف يعرف
أين
يقف.
لفوزي كريم جوانب ثقافية قد لا نجدها في مجايليه من الشعراء، فقد كان
رفيقا
لعدد من
الأدباء الذين شغفوا بالموسيقى منذ زمن. وكنت من بينهم، نستمع ونناقش
وقد
لا نفقه
الكثير ولكن الشعر كان يقود هواجسنا اليومية إلى الموسيقى. ومن بينها
حبه
للمناقشة
حول الشعر والقصيدة الحديثة،وطالما اختلفنا في الكثير من الحوارات أخر
ما
اختلفنا
فيه يوم كان هنا في هولندا بدعوة من مؤسسة أكد للثقافة والفنون كي يقرأ
والشاعر عبد الكريم كاصد قصائده. وكان قارئا شغوفا للرواية وللجديد
فيها. يحب
التجول
مشيا ويقول عن الحياتي شعرا بالغة نثرية وعندما يجد أن فرصة الكتابة
تتيح له
أن يطل على
عالم غريب لا يتوانى من الخوض بها. يهمه كذلك الوضوح في العبارة وخاصة
في
قصيدة النثر التي لا يميل إليها كثيرا.
في
عام 1988 يصدر ديوانا جديدا هو" لا
نرث
الأرض" وفيه يمزج بين تجربة دانتي وأبي علاء المعري. البحث عن فردوس
مفقود
والعيش
مفردا. في هذا الديوان يكثر من الحزن ومن الخوف من الوحدة، فالرقص
يغويه
ولكنه يغوى
بالراقصة قبل الراقصين والحرب لا تجد لها إلا مغتربا مفردا بها. وليس
من
أحلام سوى
دفء السرير. هذه المحبطات كانت مرافقة لمرض القلب وفقد بدت هواجسه
تنساب
في طريق
مفرد وموحش ولا أحد ينقذه إلا الموسيقى..
في
عام 1991 يصدر ديوانا أخر
هو " مكائد
آدم" وفيه مواصلة للنشيد نفسه: صوت مفرد يحيطه عالم مظلم ويبحث فيه عن
كوة
للخلاص. محنة فوزي في هذه التجربة الطويلة تكمن في أنه يريد خلاص
العالم عن
طريق الشعر
وهو ما لم يتحقق أبداً
وفي
عام 1991 يكتب سيرته الذاتية شعرا" يوزعها
إلى
فصول وفيها يعيد تركيب ذاته الموزعة بين الوطن والمدن الأخرى.
في
أخر ما كتب
يكثر فوزي
من البرد والمناطق الباردة ومن هروب الضوء والشمس والدفء ويقرن ذلك
بهروب
الحنين
والعيش في القسوة. وثمة نداء خفي للرب أن يمنحه عشاءه الأخير دون تعب.
yne.alnasayyir@wanadoo.nl
|