عندما رسم فوزي كريم حسين مردان بقلم الرصاص عواد ناصر الشعراء، دائما، يعيدون تشكيل الكائنات والأشياء. الكائنات والأشياء بأشكالها الراهنة لا تعجبهم. ثم أنهم أكثر من غيرهم عرضة للضجر، والأشكال الراهنة مضجرة، مدعاة للكآبة والسخرية. لم يكتف أبولونيير بكتابة الرسائل الى أصدقائه وهو مختبئ في أحد خنادق الحرب،.. فرسم الرسائل على هيئة أشكال تشبه رسوم الأطفال ليبدد الضجر ويضفي على الخندق الحربي براءة اللعب والتخفيف من وطأة الرماد والدخان. سمع جماعتنا بهذا فقلدوه وأطلقوا طيورا صناعية اسمها (القصائد البصرية). ورسم إنطون إكزوبري(الأمير الصغير) فخدعنا، صغارا وكبارا، بتلك القبعة التي لم تكن قبعة بل ثعبانا يبتلع فيلا. الأمير الصغير، وحده، اكتشف الخدعة. اكتشف سر الرسم، بعد أن تقمص بصيرة الرسام. فوزي كريم يعرف هذا لكني لا أدري إذا كان حسين مردان يعرفه أو لا، كلما أعرفه أن حسين كائن مسكون بالحرية أكثر من موهوم بالكتب، لأن من لا يملكون لا يخافون، ومن لا يخاف كائن حر لا شكل راهنا له، ومن هذه النقطة انطلق فوزي كريم ليخطط حسين مردان بالقلم الرصاص الذي يشبه لون حسين: الرمادي المضبب القابل للحضور والمحو معا. يجد رسام حسين مردان صعوبة ما في رسمه، لأنه كائن غير ساكن، ومن يرسم شاعرا غير الذي يرسم طبيعة ساكنة. يجلس حسين في اتحاد الأدباء، على مضض، فكم هي ضرورية مهمة القفص في حبس الطير، لكن مسافات الطيور أبعد شأوا من مليون قفص مصفوفة جنبا الى جنب.. وعلى فوزي كريم أن يرسم طيرا اسمه حسين مردان لا يستجيب لأي قفص حتى لوكان ورقة للرسم بالرصاص أو قماشة للرسم بالزيت. يقرع الشاعران كأسيهما، تطفر قطرة عرق أبيض وتستقر على يد حسين لولؤة صغيرة توشك على التلاشي. ينهض فوزي. يمد يدا تسند حسين، الذ ي يحتاج دائما من يسنده، يخرجان باتجاه الجسر. الجسور لا تغري الرسامين، حسب، مثل مونيه، ولا المعماريين، ولا العابرين بين الضفاف لسبب ومن دون سبب، فجسر حسين الذي رسمه فوزي هو مسافة البندول التي يقطعها الحائرون فوق العادة، وفي لحظة رعاية ودلال غامرين يجعل الرسام من الشخص عريسا: (وذات اليمين وذات الشمال النساء يمتن ويحيين ظلك) في مشهد يختصر أكبر أحلام عبد الأمير وأكثرها تركيبا وبؤسا: شاعر بلا امرأة. بالرسم أو الشعر يهدي الشاعر/ الرسام صديقه الشاعر المحروم باقة من النساء يمتن ويحيين ظله. ( وخطوك ما حل في الجسر ما جاوز الجسر كنت وحيدا وكنت على الجسر واقف). ألم أقل قبل قليل إن الجسر هو المسافة الوهمية التي يؤتيها البندول الحائر.. القلق؟ فخطو حسين مردان ما حل في الجسر ولا جاوز الجسر، ثم ها هو وحيد على الجسر واقف، لم تغره ضفة، ولم يستجب لخندق..هو شاعر في منتصف الجسر، لكأنه بؤرة النهر والضفاف والمجرى. ولم يقف إلا ليحدق في الماء مثل نرسيس، وهو أدق وصف يليق بشاعر. علاقة فوزي كريم بحسين روحية أكثر مما هي إجتماعية، فقد وجد الأول في الثاني بديلا موضوعيا، وليس حلا شعريا، في مرحلة ملتبسة تشي بالإحتمال ونقيضه. لعل الجسر نقطة افتراق، أكثر مما هو واصلة بين ضفتين. الجسر لحظة ابتلاء عندما يتحتم عليك أن تكون في ضفة دون سواها. تكتمل الصورة (البورتريه) - وهل ثمة صورة مكتملة؟ التي رسمها فوزي كريم بالقلم الرصاص لحسين مردان، على هيئة شاعر حائر، تتجاذبه ضفتان، والأمر لا يخلو من صعوبة لأن الشاعر/ الرسام يرسم شاعرا لا طبيعة ساكنة. بتنافذ الشعر والرسم خرجت تلك الروح الأمارة بالفن في لوحة وأكثر من قصيدة وضع فيها فوزي عبد الأمير كتميمة خضراء عبر سنوات الرحيل والإقامة تشهد عذابات الشعراء خصوصا أولئك الذين يرقبون جريان الأنهار وهم يقفون في منتصفات الجسور.
(جريدة المدى، |