فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

فوزي كريم: نموذج مختلف في المشروع الستيني

يحاول بيتاً، فيختطفه ثور آشوري

 

محمد مظلوم

 


     في ترجمته لسير شعراء الستينيات في كتابه التوثيقي عن الجيل الستيني (انفرادات الشعر العراقي الجديد ـ الصادر عن دار الجمل عام 1992) يصرح عبد القادر الجنابي في ما يتعلق بالشاعر فوزي كريم بأنه (كان يجب عدم ضم فوزي كريم في هذا الكتاب) وإنما في جزء يتعلق بما أسماه محافظي التجديد في الشعر العراقي المعاصر، لكنه كما يقول، عدل عن هذه الفكرة وعاد فضم فوزي كريم وسامي مهدي إلي الكتاب كنموذج (لتجربة عاشت في الستينيات دون الإخلال بوفائها الخالص للتيار المحافظ.)
    لقد شخّص عبد القادر الجنابي. وإن بنيات أخري، وجود شاعرين داخل جيل الستينيات يستحقان فعلاً دراسة مقارنة كونهما سعيا إلي البقاء داخل المتن الصعب للشعر العراقي، ويمثلان في الوقت نفسه افتراقاً في الموقف الذي عبر عنه كل منهما إزاء السلطة وليس في اندراجهما معاً في سياق شعري دأب علي انتهاجه عدد (لا بأس به من شعراء السلطة الستينيين) كما يدعي الجنابي جزافاً.
    فوزي كريم وسامي مهدي إذن يمثلان نموذجاً مختلفاً داخل المشروع الستيني الذي اتسم بركوب موجات المغامرة والانعتاق من تقاليد شعرية قارة، في أول اعتراض جدي علي تجربة الرواد وهو اعتراض، لا يخلو في الأحوال كلها، من ضرورات محكومة باشتراطات التمايز والنزوع للاختلاف كجزء من ثقافة شاعت آنذاك سياسياً واجتماعياً وفكرياً.
لكن السؤال الآن: كم ابتعد المشروع الستيني عن تلك النزعات وإلي أية تخوم وصلت تلك التجارب راهناً؟ وما موقعها في المتن الشعري العراقي تمثيلاً وتأثيراً؟ ربما لهذه الأسئلة إجابات في مكان آخر. ولكن في ما يتعلق بتجربة فوزي كريم تحديداً أعتقد أنها ظلت محكومة بتطور طبيعي في سياق الشعر العراقي ولم تشكل في أي من مراحلها قفزة عمياء في ظلام لا تخوم واضحة له.
    تجربة أولي متجذرة فعالة بالداخل ومترسخة ومتواصلة في الخارج، وأخري اتضحت تخوم اليقينية لديها وكأنها اكتملت كمنجز ضمن إطار سلطوي، يعيد السؤال حول دور الشاعر وصورته ومكانه وتأثيره داخل هذا الإطار الذي يصبح جزءاً منه ومن حدوده المرئية غير القلقة! وبهذا المعني فقط يمكن مقارنة تجربة فوزي كريم بتجربة شاعر كسامي مهدي كون الأولي تحولت في الزمان والمكان عبر صيرورة الحرية، والفقد، والبحث، عن الحقيقية وسؤال التاريخ، والثانية ظلت وكأنها امتلكت الحقيقة من خلال مرجعية أحادية تعسفية تقوم علي الصدور عن أيديولوجيا ورؤية الجمال والخير والشر من خلاله، أو لنقل أيضاً إنها تسهم بهذا كله في تغذية الأيديولوجيا ذاتها في أحسن الأحوال.
    ولأن هذه المقارنة ليس مكانها هنا فإنني سأكتفي بهذه المقدمة لأعكف علي تجربة فوزي كريم من خلال مجموعته الشعرية (قصائد من جزيرة مهجورة) التي تضمنها المجلد الأول من أعماله الشعرية الصادر عن دار المدي بدمشق، و(قصائد من جزيرة مهجورة) هنا ليست المجموعة الشعرية التي صدرت للشاعر عام 2000 بالعنوان نفسه بل هي كما يشير في مقدمتها (هذه المجموعة لم تنشر ولم تصدر في كتاب) ولعل هذه الإشارة كانت حافزاً لي علي قصر دراستي علي هذه المجموعة بالذات دون باقي المجموعات التي ضمتها الأعمال الشعرية، لأنني أعتقد بأن تجربة الأعمال الشعرية تستدعي وقفة أشمل وأطول، وربما كانت من مهمة النقاد ومسؤولياتهم بالدرجة الأساس.
    حافز آخر دعاني إلي دراستها بالذات، فهذه المجموعة برغم أنها الأحدث زمنياً قياساً إلي مجموعاته الشعرية التي بدأت مع (حيث يبدأ الأشياء 1968) إلا أنها وعلي غير المعهود في تنسيق الأعمال الشعرية التي درج الشعراء علي تصنيفها من الأقدم إلي الأحدث، فقد تصدرت الجزء الأول من الأعمال الشعرية لفوزي كريم.
    كما يثير عنوان المجموعة (قصائد من جزيرة مهجورة) أكثر من تساؤل، فهي تكرار لعنوان مجموعة سبقت هذه مباشرة بالصدور وتداخلت معها في زمن الكتابة كما تشير بعض تواريخ قصائد المجموعتين. ومن بين تلك الأسئلة: هل أراد الشاعر بهذا العنوان أن يقف وحيداً في مكان غادره الآخرون! أم ثمة إيحاء بأن عالمه مهجور تماماً وهي المقولة التي ارتبطت بجيل الستينيات وجماعة البيان الشعري الذي كان فوزي أحد الموقعين عليه بغض النظر عن موقفه الحالي وموقف بقية الموقعين علي البيان الذي صار معروفاً بأن فاضل العزاوي هو من كتبه؟
    لا شك إن القصائد تنفي الاحتمال الثاني، فهي تقوم أساساً علي حضور الأشخاص بل تكاد المجموعة كلها تتخذ من الأشخاص موضوعاً أساسياً لها، رثاءً، واستدعاء، ومحاورة.
أشخاص ـ مبدعون تحديداًـ عرفهم الشاعر قبل أن يرحل القسم الأكبر منهم ويبقي من بقي نموذجاً لحالات أخري تقرب الشاعر من التأمل في المصير البشري، يشكلون المادة الأساسية لقصائد المجموعة: محمود جنداري، هادي العلوي، نجيب المانع، وأيضاً سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر.
    لكنه يقف علي ما يبدو وحيداً، فقط ليستطيع محاورة كل هؤلاء الأشخاص بحرية أكبر.

مرثية الذات عبر الآخر


    المجموعة الأولي تكاد تختزن مادة أولية خاصة بسيرة الشاعر الشخصية في مرحلة ما وكأن الثانية جاءت متممة لها بهذا التداخل بين عالمين: رومانسية متطلعة، ووقائع تالية صادمة تشظت من قوتها بقايا التطلعات وجعلت الشاعر يلقي نظرة تشاؤمية علي ما تبقي من شظايا تلك الوقائع في مرثيات لجيل كامل من المهجورين في أرخبيلات عدة تشبه أرخبيله الشخصي
    ولعل قصيدة (مرثية الحمل الضال إلي محمود جنداري). بيان واضح وبفصاحة جارحة لهذه العزلة التي تحكم مصير من هنا أو هناك علي حد سواء.
    فالقصيدة تبدأ من جملة تلخص الهرب من العراق واختيار المنفي بوصفه مصيراً فردياً واختياراً شخصياً لا يستلزم بالضرورة نمطاً جماعياً وإن كان قسرياً.
    إنها غياب من يتوغل في الضباب دون أن يلتفت لأنه قد يجد الهاوية في أية خطوة في الطريق. فهي تبدأ هكذا..


لم أكن عظة لأحد
لم يكن وطني، يوم غادرت، غير القميص الذي أرتدي
واحتمالات أن لا أعود.


    ثمة في القصيدة أيضاً نوع من الإحساس بالإثم تجاه الذات والآخر ولعلها جزء من طبيعة إنسانية تتعلق بالهجر، لكأنها محاورة بين الحرية غير التامة التي يمثلها المنفي مع نقيضها غير المكتمل هو الآخر ـ السجن ـ وإذا علمنا بأن جنداري قضي السنين الأخيرة من حياته في السجن الحقيقي ـ معتقلاً بتهمة مساندة حالمين بالتغيير في العراق ـ، وقبلها وبعدها في السجن المجازي الكبير: البلاد المحاطة بالكوارث والحروب وغروب الأمل. أدركنا الطبيعة الأسيانة لهذا الحوار الذي لا يخلو من ألم.. تصبح المرثية هنا شكلاً من صورة نمطية للفجيعة، صورة تتشظي في مرايا الشاعر لكثرة من دخلوا فيها وما دخل فيها: أشخاص وأمكنة ووقائع لكنها تحضر بكثافة مقصودة يوجزها فوزي كريم بتشظي الذات وشرخها أو قل انكسار صورتها:


ولأن الذي استعيد شظايا
أحاول ترميمها فتعود مرايا
توزع وجهيَ في كل وجه

لم يعد أحد عظة لأحد
هذه الأرض قد خُضبت من تزاحم من قتلوا
وسيأكل ريعها من حصد.


    بعد هذا المقطع فحسب تأخذ المرثية شكل الحوار منتقلة من حوار داخلي منقوص مع الذات، هو سمة المنفي عموماً، إلي حوار مع الوطن. وكأن موت جنداري كان الكلمة الأولي في هذا الحوار.
    ثمة قلب للسؤال الفلسفي لأبي العلاء المعري في هذا المقطع فالتناص الظاهر هنا يقدم الفجيعة بجانبها المرئي البصري بدلالة القتل ـ الدم وليس في الجانب التأملي الباطني بدلالة الموت كما لدي أبي العلاء ـ ما فوق الأرض وما تحتها هو الخيط الذي تتلخص بين طرفيه الحكاية حكاية هذا التزاحم واصطدام الأجساد ببعضها بعضاً حد تخضيب الأرض وتخصيبها أيضاً! واصطدام الجثث تحتها حدَّ انعدام الفسحة فوقها.
    وعبر الموت الذي يصفه الشاعر ببلاغة (الأرض التي خُضبت من تزاحم من قتلوا ـ ولاحظ هنا الحذف المقصود لكلمة الدم التي تقرأ بوضوح، وكذلك بناء الفعل للمجهول) عبر هذا الموت الذي يلتقي فيه الموت العضوي بالموت المعنوي تبقي المرثاة غير متحققة رغم تحقق الموت العضوي فعلياً:


تنتظر عزاءً من أحد؟
إني أنتظر مراثيَ.


    المرثية لها حضور قوي في شعر فوزي كريم منذ بواكير أشعاره نتذكر هنا مرثيته الأثيرة لحسين مردان، وهي غرض شعري لعله من أصدق الأغراض في الشعر العربي وأعمقها لما ينطوي عليها من تأملات في الموت فكرة وحدثاً كما أنها تكشف برأيي عن وعي الشاعر ـ أي شاعرـ ومدي علاقته بهذه الفكرة رؤوية تجربة، بها يتميز شاعر عن آخر وأري أن لفوزي كريم تميزاً بهذا الشأن.
    لكن المرثية في كل الأحوال تبقي حواراً ناقصاً مهما اجتهد الشاعر في اقتراح المقتربات وخلق الصياغات البلاغية لإتمامه ويصل الشاعر إلي هذه الحقيقة في المقطع الأخير من مرثية الحمل الضال:


ما أضيقها كلماتُ الشعر علي الشاعر
وحدودُ الوطنِ علي وطن المنفي.
وظلام الليل علي المصباح!


    ولا أدري لماذا رفع فوزي كريم المتعجب منه فبدا وكأنه استفهام برغم السياق الذي يوحي بالأسلوب الأول واختتامه المقطع بعلامة التعجب ولا أظن ذلك إلا من الغلط النحوي، كما بدا لي الشطر الثاني الذي تتابع به أربع متحركات غير مستساغ عروضياً.

البنية المضمرة للأسطورة


    في قصيدة النرد ص 36 نموذج آخر للقصيدة عند فوزي تقنية وبناء ودلالة فثمة بنية أسطورية مضمرة في هذه القصيدة التي تصلح برأيي نموذجاً لتقصي فكرة اللاوعي الجمعي لدي الشاعر العمق الأسطوري هنا ذو دلالة معكوسة وهو غير مرئي لكنه متجذر في ما يمكن أن نسميه البنية العميقة لكلكامش وأوديسيوس.
    ثمة عناصر عدة في القصيدة تدعم ما أحاول قراءته خلف الجمل التي تبدو في هذه القصيدة بالذات بعيدة ظاهرياً عن أية إحالة لمرجعية ما وأسطورية تحديداً غير أنها في المستوي الدلالي ترشح عن دلالات ومحمولات تحيل إلي بنية أسطورية عميقة، فشاعر كفوزي كريم، يعد من نمط الشعراء المثقفين، لا يمكن له أن يعزل قصيدته، حتي بإرادته، عن جوانية معرفية تشطح أحياناً وتتمظهر في أحيان أخري بجملة ترتبط بحبل سري مع تلك الجوانية في حنين انساني لما يبدو قد هجر حقاً.
    وهنا قد أعبر عن قناعة مختلفة عن شاعرنا الكبير سعدي يوسف في إشارته بتقديمه للأعمال الشعرية الكاملة لفوزي من أن قصيدة فوزي تقترب من الموروث الشعبي أكثر من الأسطورة برغم إشارته الدقيقة إلي وجود آثار خفية للأسطورة لدي فوزي.
    اللعبة القدرية التي يحاول الشاعر عدم الدخول بها تختزن عبرة لما حل بأسلافه الباحثين عن مجد، أي مجد، وهو يتخذ هنا من النرد رمزاً لهذه اللعبة القدرية التي يتركها لمحترفي الرايات:


كموقع ثوب منخرق
لم أقنع طفلي بأني مسكون بنشارة خشب
هي كل بقايا إرثي.


    ما دام الإنسان قد عرف مصيره منذ الأزل فلماذا هذا التكرار الممل لخلق مصير آخر؟ كأن الشاعر يعبر عن العجز الإنساني من أول جملة في القصيدة وهي علي العموم تحيل إلي أديسيوس، ربما إلي بنيلوب تحديداً، وبالتأكيد فإن حتي نشارة الخشب التي بدت لي هنا رمزاً مستلاً من تجربة شخصية لفوزي، تعزز القناعة بأن العجز الإنساني يتمثل في هذه النفايات التي تسكن الشاعر من هزائم من مروا وظلالهم المنكسة البعيدة:


لملمت ذراعي في الأكمام من البرد
يتصلب في تيار دمي كالنرد.


    هنا يتحول الإرث، عبر صيرورة داخل الشاعر عضوياً وأيضاً في مختبره الداخلي مجازاً شعرياً، من النفايات ليمر بمرحلة البرد، ويتحول إلي نرد، ولا أظن أن القافية وحدها آلت بالصورة إلي هذا التحول، وهنا ملمح لنزعة سريالية في هذه الصورة بالذات وتحولها، وفي أحسن الأحوال انحراف كبير في الدلالة والمجاز وربما كان هذا مما لا يحبذ فوزي ولا يدعو له في مفاهيمه الشعرية!


لا، لن ألقيه فأكشف عن رقم مشؤوم
سأخلي الدرب لمحترفي الرايات
وأعود مع الطفلين إلي سكني.


    تنتهي المغامرة إذاً باكتمالها وبهذا المصير الذي ترسمه لنا الأقدار.. قد تكون الرحلة هنا والتجربة أو المرجعية الشخصية القصيدة عموماً مجرد واقعة يومية في مقهي أو جلسة في مكان ما، هذا كله ليس ذا أهمية، لكن العودة إلي السكن مع الطفلين، تذكرنا بالحكمة التي حصل عليها كلكامش من امرأة الحان واقتناعه بلا جدوي البحث عن طموح غائب ـ وزائف هنا كما يقول الشاعرـ وعودته إلي سكنه في أوروك مثلما تذكرنا بعودة أوديسيوس إلي أيثاكاه.
ولكن ماذا بقي من رحلتك أنت يا فوزي؟


ألهو، كمرقع ثوب منخرق، بنواة الصبر
أدفنها تحت وسادة نومي كي لا أحلم.


    تصل الرحلة إذاً إلي مآلها القديم الجديد، رغبة في مقاومة الحلم المستحيل بأي شيء عابر، والزهد بكل ما تأتي به الأمجاد الزائفة أيضاً.
    هذه العناصر المضمرة للأسطورة تعمدت محاولة قراءتها برغم وجودها علي السطح في قصيدة أخري في المجموعة هي (عودة يوليس ص101) تاركاً هذه الأخيرة مفسرة ومؤكدة لما أردت الإشارة إليه حول البنية العميقة غير الظاهرة للأسطورة وعناصرها التي أشرت إليها في قصيدة (النرد).

حوار الإيقاع


    قصيدتان أخريان في المجموعة تصلحان لاستقصاء سمة أخري في شعر فوزي كريم هما يا بديلي (وسعدي يوسف ـ عن انتظار الفجر) والثانية جزء من (ثلاثة تخطيطات بالأسود) فقصيدة يا بديلي يمكن تقطيعها عمودياً تماماً كالنماذج الرائدة للشعر الحر في الكتابة علي البحور غير الصافية وتحديداً الخفيف، لنتذكر هنا المقاطع المدورة في قصيدة أدونيس (هذا هو اسمي) وقصيدة ساعة التذكار لنازك الملائكة، لكن التجربة في (يا بديلي) مختلفة عن الاثنتين، فهي لا تسعي إلي صياغة تراكيب ومعانٍ تستطيل وتدور مع دوران البحر الشعري كما هو الحال مع أدونيس ولا تخضع نهائياً لتقطيع عمودي كامل كقصيدة نازك، فبين جملة محورية تبدأ القصيدة بها وتتكرر في نهايتها (أيها الشاحب الجميل) يتحرك بحر الخفيف عمودياً لكن هذه الجملة المقطوعة المأخوذة من التفعيلتين الأساسيتين للخفيف فاعلاتن متفعلن (أي مستفعلن التي حذف ثانيها الساكن وهو الخبن بتعبير العروضيين) أوحت بأن هناك استخداماً للمجزوء ـ لكن لا مجزوء في القصيدة الحديثة التي أبدلت شطر البيت بوحدة التفعيلة ـ ماذا أراد فوزي أن يقول إذاً؟
    "يا بديلي" خطاب موجه إلي الذات بعد تشخصنها هناك ـ أي في الخارج ـ والنداء هنا دلالة أخري علي الاستدعاء، لكنه استدعاء ناقص لذات مستحيلة وغير متحققة إلا بالعدم حسب الوجوديين:


يا بديلي
يكفيك هذا القليلُ
من بقايا درب نحاوله وثبا
وافق نرتاب في ما يقولُ
سعة الليل في ثيابي وبيتي
نفق عاثر الخطي معقول.


    لا فرق كبيراً إذاً بين المأويين: الثياب والبيت، مادام النفق والليل اللذين يتحرك فيهما الجسد تسميتين لمسمي واحد هو الظلام حيث يبدو التعثر فيه جزءاً من المعقول، التعثر هنا ليس وقفاً علي الخطي في النفق لكنه أيضاً تعثر الجسد في الثياب ربما هنا تناص فعال وغير مرئي مع المتنبي، خاصة وإن البحر المشترك حافز آخر يدعو لها الاعتقاد:


وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام


    هذا الاجتزاء غير المعهود في الخفيف والذي يحيل إلي تداخل عروضي مع بحر المجتث، الذي يقول العروضيون أنه سمي مجتثاً لاجتثاثه من الخفيف، يتكرر في آخر جملة تكراراً مزدوجاً
    أما في قصيدة (سعدي يوسف ـ عن انتظار الفجر) فتتكرر سمة التداخل الإيقاعي في قصيدة واحدة وأراها هنا جزءاً من طبيعة النص، وتقنية نقدية واعية اقتضتها الحاجة إلي خلق مناخاً مجاور، جعلت من هذا التداخل المفترض ـ أقول المفترض لأنه في الواقع انتقال من بحر إلي بحر آخر ليس من الدائرة العروضية ذاتها، جعلت منه شكلاً من الحوار الدرامي: تبدأ القصيدة إيقاعياً من بحر المتدارك فاعلن الذي يتحول أحياناً إلي (فَعِلُنْ متحرك العين) وهو بحر يكثر سعدي من الكتابة به، بينما لا يستخدم فوزي في سائر قصائد المجموعة إلا الخبب (فعْلن ساكن العين) ذلك أن المقطع الأول أراد به الشاعر التكلم بصوت الآخر:


ما الذي حلَّ بالفجر؟!
إني أشتتُ ريحاً لكي يفلت الخيطُ
أستدرج الحلم فوق السرير المهاجر
أقتاد أعمي يعلمني حرفة، وأساوم بين المهرج بي والمشرد!


    لا أدري إن كان هذا المقطع لسعدي فعلاً حتي أنني تقصدت أن لا أتحقق من ذلك، مع أنك تشعر وكأنه من طبيعة صوت سعدي وحتي تجربته الشخصية، واعتبرت الأمر، سواء كان مستعاراُ أو من تصور فوزي، جزءاً من هذا النص القائم علي ثنائية مقصودة وحادة البيان ، ثنائية الصوت التي ينتقل بها الشاعر من صوت الآخر إلي مخاطبته بصوته هو بغنائية (الخفيف):


يا نديمي ويا نديم الثريا
ما لكأس يحل مر المذاق
بين كفي ورغبة باغتباق!
أنفضُ الثوبَ عن بقايا رمادي
ساقطٍ من توهجي واحتراقي.


    ثمة مسافة صريحة بين الصوتين إذاً، مسافة سعي الشاعر بقوة من أجل خلقها وتفريق متشابهاتها، تقنية ومضموناً، ليقول لنا في لقطة نهائية لكل من المقطعين إن كلاً منهما ينتظر الفجر علي طريقته الخاصة فالأول:


لأكن في انتظاري
أتخبط في سحنة تشبه الفجر هذا خياري.


أما الثاني فـ:


يتحاشي ليلاً بكفين، شدت عروة الليل فيهما بوثاق
آه من رغبة تحاول شيا
علَّ فجراً يحنو عليها نديِّا.

الذئب والمانيفست الشعري


    في مجموعة القصائد اللاحقة التي عنونها بـ(خلوة البرق ثمانية تأملات في الشعر) ثمة جامع قد يبدو غريباً بينها، وهي خلق معادل موضوعي داخل كل قصيدة، يتخذ من رمز الحيوان، بصفاته الخاصة، قناعاً للشاعر! بعبارة توضح أي التباس، يقدم بعداً أسطورياً مشتركاً ما بين هذه الحيوانات التي استعار بعضاً من صفاتها، وبين الشاعر الذي تجتمع فيه مناقب شتي منها وربما لا تتركز فيه أي من مثالبها! ثمة محاولة لاستعادة نموذج بدائي للشاعر في هذه القصائد الخاضعة إلي مناخ واحد وفترة زمنية متقاربة في الكتابة حسب التواريخ التي ذيلتها، وهنا تبرز الروح النقدية للشاعر في تبويب شعره، حيث نلاحظ مثلاً في قصيدة ثور من آشور، حضوراً قوياً للأسطورة داخل المكان اليومي:


ثور مجنح من آشور،
يجتاح طريق الخمارات ويخطف شاعرها المخمور.
وعواء رجال يتعالي.


لكن الشاعر المخطوف سرعان ما يستعير جناح الثور مستعيناً به علي مكابدات الرحلة الطويلة:


بجناح الثور،
أباعد شأن الموج، أباعد وأعود
بمذاق الغرين أو رائحة الرحم الأولي.


    يلاحظ هنا أيضاً أن دلالة الجناح في التراث العربي، تحيل إلي البرء من السقم والشفاء، ولهذا يضرب المثل بجناح جبريل علي البركة والشفاء كما أن الملائكة في التراث الديني الإسلامي ذوو أجنحة أيضاً وهكذا يلتقي الأسطوري بالديني باليومي عندما يسعي الشاعر إلي رؤية اللحظة من خلال شساعة المعرفة.
    لتنتهي القصيدة والرحلة مع الثور المجنح بجملة تحمل روح المانيفست الشعري وهو المقصد الأساسي للمقطع برمته:


الشعر صدي لفراغ لا متناه،
يتوسط بين ثياب العبد وبين محيط الله
ما أكثف ظلمة هذا الليل.


    ثم نلمس حضوراً أكثف هذه المرة للحيوان في القصيدة الثانية (محاولة) عبر أنسنة للطبيعة وعناصرها من خلال اللوحة:


أمتحن ردائي برداء البهلول
وندائي بنداء الغول
وقطيع همومي بقطيع الراعي...


    تتكرر كثافة الحضور لدلالة الحيوان في مجمل قصائد هذه التأملات الثمانية، فمرة هو الطائر الذي يدعوه الشاعر إلي الدخول منذ عشرين عاماً بينما أصبح العش مغيباً للشمس، ومرة يترك المدن خلفه ليدرج شيخاً هرماً مع الوحش ومراعي الجان، لكن خلاصة المانفيست الشعري الذي أراد فوزي كريم ارتكابه في تأملاته هذه يكمن برأيي في قصيدتي (الذئب1) و(الذئب 2) خاصة في الثانية القائمة علي ابتكار جو مشحون من قوي الطبيعة وعناصرها البدائية بما يتلاءم مع فكرة المعادل الموضوعي الذي أشرت إليه، هذا التعبير الأليغوري وإيجاد نوع من الجناس المعنوي بين الشاعر والصفات الأسطورية العميقة للحيوان يبرز هنا بفصاحة محكمة:


يقول الذي يكتب الشعر: إني طليق، أرعي قطيع الذئاب.
ولي خلوة البرق،
يشحذ أنيابهنَّ الرهيفة ناباً فناب.
فلي ما لهنَّ: رمال وريحٌ
وفيهنَّ ما فيَّ جوع: وصاب.

    يكتمل مشهد التأملات ـ وهي في الواقع تحولات، بمعني انتقالها من مرحلة إلي أخري، يكتمل بعودة الشاعر إلي ما يمكن وصفه بالزهد الكلكامشي عبر الإقرار بحقيقة البيت والعائلة، ويحاول المقطع الثامن والأخير في هذه التأملات أن يوجز رحلة الشاعر واكتفاءه أو اقتناعه بأهمية أن يحاول بيتاً، فالقصيدة التي حملت هذا العنوان بالذات تلخص ما قرت عليه تجربة الشاعر بعد رحلة من سبعة مقاطع ـ ولا أدري إذا ما كان للرقم هنا دلالة!ـ ليصل إلي سنة الحياة/ مقابل الطموح البدئي (حيث تقوض الحياة عبر مراحل عدة بنيان هذا البيت)، ليلجأ الشاعر إلي حل آخر:


وأبني علي زوجة
وأنجب طفلاً
وأحرث حقلاً
ولا أستجيب لغير احتراق النجوم!


    هو زهد إذاً باقتراحات المانفيست الشعري عبر مراحله السبع، لكنه ينطوي في الوقت ذاته علي أثمن ما في الزهد كفلسفة صوفية: نزعة الانشغال عما هو أرضي، رغم الانغمار القسري أو قل الطبيعي فيه، بالانتباه لفاعلية كونية هي: احتراق النجوم. بورتريهات شعرية
ثمة في مكان آخر من المجموعة اهتمام برسم نوع من البورتريهات الشعرية لنماذج محددة حاول الشاعر رصد مناخاتها بشيء من المعرفة والصياغة التي تتداخل فيها المخيلة مع الخبر، ويتجلي ذلك بوضوح في قصيدتي (البرابرة) و(البوذي) اللتين يغيب فيهما بشكل لافت ضمير الأنا أو المخاطب علي غير سمة بقية قصائد المجموعة، إذ يكتفي فوزي بالتحرك علي الورقة وكأنها لوحة يزدحم فيها هؤلاء المعنيون: فالبرابرة الذين يسرعون علي الأرض ببيارقهم التي تجلب الموت، يتحركون في الوقت ذاته وبالسرعة نفسها علي ورق الشاعر حتي يكادوا يمحقونه، ليختتم القصيدة بجملة محورية تمثل العود الأبدي للقصيدة، حيث تبدأ منها وتنتهي إليها: إنهم يسرعون.
    أما البوذي الذي يحاول الهرب من جسده في حافلة، فيتحرك هو الآخر بمفرده ويكتفي الشاعر بمراقبة تأملاته من وراء النافذة، تلك التأملات التي تقوده للتعب ثم الموت وكأن هذا هو المكمل المقترح للتأملات السابقة التي انتهت، في القصائد التي أشرنا إليها، بمراقبة احتراق النجوم لكنها لم تنجز المشهد بكامله وها هو الشاعر يترك للبوذي خلق نهاية طبيعية لها بالموت، حيث لا يتدخل الشاعر ما بين البوذي وحقيقته.
    هذا البورتريه الذي يغيب ضمير المتكلم عنه، يجسد برأيي تقنية أخري في نمط القصائد التي تصف من الخارج لكن أهميتها تتباين لدي شاعر وآخر، بمقدار ما تحققه من حضور تتضح مظاهره في تجربة الشاعر عموماً، وأعتقد بأن في تجربة قصائد هذه المجموعة، ما يشير إلي تحقق هذا الحضور.
    علي هذا النول أيضاً، ينشغل فوزي كريم في نسج صورة أخري للخيول، وإذ ينتقل من رايات المغول وتأملات البوذي إلي برية أخري، تخرج له (الخيول من مستنقع آسن) لكنها هذه المرة ليست حيادية، بمعني أوضح إن الشاعر غير معزول عن هذا القدوم الذي يوحي بأنه قدوم لخيل الغزاة تحمل حيث تطأ حوافرها (نذر الخراب) وبلقطة أخيرة تعيد لنا المعالجة الأسطورية لرمز الخيول الذي يستهوي الشاعر علي ما يبدو ليعيد لنا تصوير مباغتتها للشاعر، كما باغته الثور الآشوري في المقهي:


من خرس الليل تأتي الخيول
وتذهل الشاعر عما يقول.


    في مجمل الأعمال الشعرية لفوزي كريم وفي قصائد من جزيرة مهجورة تحديداً ثمة اقتصاد شعري واضح: اختزال في الجملة النحوية بناءً وتركيباً وللعبارة ببعدها النفسي والموسيقي إيجازاً، حتي وهي تتحرك في دائرة إيقاعية تبدو عريضة لكنها محكمة بعناية وتعمد إلي نوع من القطع وتكثيف للصورة بلا استطالات فائضة. وتلك خصائص عرفناها متجسدة في شعر الرواد ـ البياتي تحديداًـ وبهذا المعني يمثل شعر فوزي كريم التطور الطبيعي لهذا المتن الشعري الذي يكاد يتراجع في شعر اليوم.

جريدة (الزمان) العدد 1235 التاريخ 2002 - 6 - 15

 
 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail