الشاعر في عزلته المضيئةعلي جعفر العلاق
-1- كان مساء لندن في الخارج ممعناً في رماديته . وكنا ، فوزي كريم وأنا ، نتهيأ لتقديم أمسية شعرية في منتدى الكوفة . كنت أستعد لقراءة مجموعة من قصائدي بينما يقوم فوزي كريم بمهمة التقديم لتلك القراءات . كانت القاعة الصغيرة مكتظة بجمهور نوعي في إصغائه ومداخلاته ، صقلته الغربة وعذبه الحنين إلى بلد الأنهار والشعر والكوارث . كنت أصغي إلى فوزي كريم وهو يقدمني بعذوبته المعهودة ، وكأن صوته يفوح من جدران القاعة محملاً بوعود الستينات وأمطارها البعيدة .
-2-يمكنني القول أن فوزي كريم واحد من الشعراء القلائل الذين عكفوا على مشروعهم الشعري بمثابرة دائمة . كان شعره ، وسط صخب الستينات ، ملاذاً لذاته المرعوبة الشكاكة العزلاء . ومع أنه واحد من شعراء الستينات ، إلا أنني لم اكن أراه واحداً منهم تماماً . وحين اقترن اسمه بالبيان الشعري، الذي أصدرته مجموعة من شعراء ذلك الجيل ، كان الأمر بالنسبة لي مثار استغرابٍ واضح ؛ لأن فوزي كريم لم يكن منتمياً إلى عقيدة سياسية ، ولم يكن صاحب ادعاءات كبيرة ، كما أنـه كان بعيداً عن ركـوب الموجات المثيرة للجـدل . لقد كان شاعراً بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، ولم يستمد قيمته من أية صفة أخرى غير الشعر . لـم يكـن شعـره خيطاً متجانساً مـع نسيـج السجادة السـتينية التي حاكتهـا مصـادر ثقـافية عديدة : متنافرة حيناً ، أو منتزعة من منجمٍ بعيد عن لوعة الذات في أحيان أخرى . -3-مازلت أذكر تلك الأمسية التي التقيت فيها فوزي كريم للمرة الأولى0 كان ذلك عام 1968, في إحدى المقاهي المطلة على نهر دجلة . كان مساءً طرياً وموحياً . لم يكن من عادتي ، وبدافع من غرور الشباب ربما ، أن أسعى إلى التعرف على الآخرين ، خاصة إذا كانوا من سني . لكن الاستثناءات تظل قائمة دائماً . كانت مجموعته الشعرية الأولى ( حيث تبدأ الأشياء ) قد صدرت قبل أسابيع . قرأتها باهتمام كبير ، فذكرتني قصائدها بأجواء السيّاب وأدونيس معاً : شجن السيّاب وانضباطه الموسيقي ، وغنائية أدونيس في ( أغاني مهيار الدمشقي ) بوجه خاص . وقد كان لتلك المجموعة نبرة خاصة ، تتصاعد كنسيم الوديان صافية و تلقائية . -4-كان فوزي كريم قد حسم أمره منذ البداية : ترك مهنة التدريس مبكراً ، وكرس حياته للشعر والسفر والموسيقى بعيداً عن أي امتياز اجتماعي أو وظيفي . لحية خفيفة ووجه سمح وصوت مفعم بالعذوبة وهو يغني قصائد السيّاب والبياتي وأدونيس وأغاني عبد الوهاب والمقام العراقي . وكانت دراجته الهوائية التي يذهب بها إلى عمله ، محرراً في مجلة ألف باء ، أحد مكملات صورته المعروفة . لقد مثّل فوزي كريم ، ومنذ بداياته الأولى ، نموذجاً للشاعر المفتون بحلمه الشعري ، والمستعد للتضحية بكل شئ من أجله : بنعمة الوظيفة ، ومباهج العائلة ، وضوء الشهرة . وقد أعجبني فيه انقطاعه إلى الشعر وافتتانه بالحياة معاً : كان مقبلاً على الحياة دون ابتذال ومبتعداً عـنهـا دون ذبول أو عزلة . كانت ثقافته عميقة دون تجهّم ، وكان مرحه طفولياً إلى أبعد الحدود . -5-في شقته ، في ضاحية ( كرين فورد ) ، كان كل شئ ، بالنسبة لي ، ينضح بأمطار الروح ورغباتها العميقة : جدران مغطاة بتأوهات ريشته الندية كرفيف الذكرى ، لوحات وتخطيطات لوجوه غيّبها الموت أو الصمت أو الرحيل ، وأخرى لفوزي كريم نفسه . كـانت شقته تكريساً لعزلته المضيئة حيث لا شئ إلا الكتب ، ودواوين الشعر ، والرسوم ، والاسطوانات الموسيقية . كانت أحاديثنا نافذة ترتطم بها رياح الماضي تارة والأحلام المشكوك فيها تارة أخرى . لقد كنا ، في نقاشاتنا المحتدمة ، لا نتوقف إلا عند واحدة من اثنتين : نتفق دون محاباة ، أو نختلف بعذوبة بالغة . -6- منذ بداياته ، كان فوزي كريم مهتماً بكتابة النقد والشعر معاً ، مع أرجحية واضحة للشعر ؛ فقد كان ميدان نشاطه الأهم . وقد كان ، في كليهما ، مدفوعاً بموهبة حقة وثقافة رصينة . كان يحاول ، على الدوام ، أن يتأمّل أعماق الموج وما يشتمل عليه من إيحاءات ، أو همهمة ، أو مخاطر بعيداً عن طيور الزبد أو ريشها المتناثر في الريح .
-7- كنت أعرف فيه اهتمامه بنقد الشعر بالدرجة الأولى ، وكنت أراه ، في الوقت ذاته ، ميّالاً إلى التنوّع . لقد اتسعت اهتماماته النقديّة لتشمل الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى الشعر . لم ينبهر بالموضات العابرة كما قلت ، ولم تجتذبه غوايات الحداثة أو الركض وراء ظواهرها على الرغم من أنه من جيل عُرف بنزعته الحداثيّة حدّ الهوس . وما كان يلفت انتباهي ، وفي فترة مبكرة ، أن فوزي كريم لم يكن يرى في الحداثة الشعرية أو النقدية قطيعة مع التراث أو انقلاباً عليه ، بل كان يبدو باحثاً عن حداثة لا تجافي الانتماء الرصين لروح الأسلاف ، وعن احتفاء بالجذور لا يحجب عنه هواء العالم . لذلك يمكنني القول إنه كان يتجه في كتاباته النقدية ، رغم قلتها مقارنة بشعره ، وجهةً خاصة . كان ينأى بنفسه عن صخب الجوقات ، ودويّها القاحل . وكان يبدو وكأنه ، في شعره ونقده معاً ، كلاسيكي جديد . وقد يكون في ذلك تفسير لكتاباته المبكّرة عن أسماء أو أعمال لم يكن فيها أي بريق حداثي : معلّقة لبيد ، شعر الجواهري ، قصص ادجون صبري على سبيل المثال . ويمكن اعتبار كتابه الأول ( من الغربة حتى وعي الغربة ) نموذجاً لنزوعه المبكّر إلى تفحّص القيم الراسخة بعقل متفتح وذائقة جديدة . وكان هذا الكتاب إفصاحاً عن ملامح حداثته الحذرة المتسائلة التي تطوّرت ، فيما بعد ، لتتجاوز الحذر إلى الشك ، وتتخطّى المساءلة إلى الرفض ، وقد تجلّى ذلك ، بوضوح صارم ، في مجلته ( اللحظة الشعرية ) تحديداً وفي بعض كتاباته المتأخّرة بشكل عام .
-8- لم أكن أتوقّع أن يصل فوزي كريم ، في موقفه من الحداثة الشعرية العربية ، إلى التخوم التي وصلها أخيراً . مع أن شاعراً مثله ، بموهبة ممتازة وذاكرة شجيّة ، لابدّ أن يجد نفسه غريباً على هذا المشهد الشعري الملئ بالشروخ والإدّعاءات ، وتبادل المنافع ، والذي يتحرّك ، أحياناً ، بعافية زائفة . وقد كان فوزي كريم جريئاً ، جرأة حقيقية ، في تعريته لهذه الظواهر حتى بدا ، لي ، في بعض الأحيان عدوانياً على غير عادته . كما بدا ، في أحيان أخرى ، وكأنّه منقطع ، حدّ الإدمان ، إلى نموذج شعري لا يرى أفقاً غيره ، ولا نافذة سواه . ومع ذلك ، فإنّ حياتنا الشعريّة في حاجة ماسّة إلى من يقف ، بجرأة ، أمام هذا الطوفان الشعري الذي يعترض معظمنا على معظمه سراً ، لكننا نندرج في سياقه في علانية لا نتحرّج منها . وإذا كان فوزي كريم قد بدا في مجلته الغاضبة ( اللحظة الشعرية ) نافد الصبر ومستاءً ، فإنني كنت واثقاً أن هذا الانفعال العاصف سينتهي به إلى موقف نقدي أكثر احتكاماً إلى المعايير . وقد حدث ذلك ، إلى حدّ واضح ، في كتابه المميز ( ثياب الإمبراطور : الشعر ومرايا الحداثة الخادعة ) .
-9- النقد ، لدى فوزي كريم ، ليس رطانة ، أو استعراضاً لعضلات ثقافية مقززة ، بل هو لغة فيّاضة ، وانغمارٌ في روح النّص ، أو معانقة لحرائقه الداخليّة . قد تعترض عليه لأنه لا يلتزم ، أحياناً ، منهجاً نقدياً محدد المعالم ، وقد تؤاخذه على عدم الاحتكام ، في أحيان أخرى ، إلى أبنية النصوص وتلويناتها الأدائية . إلاّ أن النقد الذي يكتبه فوزي كريم يظلّ نقداً نستمتع به دائماً ، ونحتاج إليه باستمرار : إنه النقد الذي يرى في القصيدة تجربة روحيّة عميقة ، وجهداً تخيلياً شديد الإثارة .
-10- لماذا يذكّرني فوزي كريم بالبحر دائماً ؟ كلّما رأيته تذكّرت هدوء السطح وتوتّر الأعماق : حين عرفته للمرّة الأولى لم أكن أدرك أن هذا الوجه الطفولي ، المرح ، الحزين يخفي وراءه كل هذا التوتّر والارتياب والأسى . مظهرٌ غارقٌ في هالة من التصالح مع الأشياء والناس والحياة لكنّه ، في الوقت ذاته ، يتشظّى كالزجاج أمام قلق روحي محتدم : يندفع بصمت ، ويتنامى على مهل . كنت أغبطه على تماسكه الفريد ؛ كان قادراً على كبح ردود أفعاله ، وتذويب أكثر انفعالاته خشونة ، بعذوبة الطفل ، ومرح العابث . كنت أحسّه ينسحب من الحياة إلى الحلم ، ومن فظاظة الخارج إلى دفء الذات وكأنّه يهرب من انفعال الجسد إلى بهاء المخيّلة . وبذلك كانت انفعالاته الآنية ، وردود أفعاله قابلة للتأجيل على الدوام . كان يدفع بها إلى الداخل لتختمر ، وتتشابك ، وتصبح جزءاً من مكونات فعل شعريّ مكتمل وبطيء ، بدل من أن يجعل منها محفزاً لانفعالٍ حياتيّ متعجّل لا يعمّر طويلاً . وهكذا كنت أحسّ أن الشاعر ، في فوزي كريم ، هو الأشدّ ضراوة من الإنسان فيه ، كما أن القصيدة ، لديه ، أكثر بهاءً من الحياة ، وأعمق جدوى منها . إنّه الشاعر الذي " سرقته الخيول " ، الشاعر الذي ظلّ ، حتى هذه اللحظة ، مفتوناً بالأحلام ، وهمهمة الموج ، ونداءات الطفولة . وفوزي كريم حين يتفحّص أشياء الحياة ومواقفها فإنه لا يفتت كثافتها بالاستطراد ، ولا يهتك دلالاتها الخفية بالمباشرة ، بل يلمسها برهافة موجعة : تماماً كالحالم ، أو العاشق ، أو المرتاب .
-11- تتضافر قصائد فوزي كريم على إضاءة مناطق عديدة في الروح وفي الحياة : الطفل المسكون بالدهشة ، والإنسان الذي يعصف به الخوف والكوابيس ، والشاعر الذي يتوزّعه الرحيل وليالي المنفى . لا تضعني قصائده أمام العموميات ، أو صخب الجماعة . بل أمام نفسي وهي في أوج عذابها أو طفولتها . إنّ قصائده ، كما قلت عنها ذات مرة ، إصغاء لعذاب الفرد وتمجيد لعزلته الموجعة . وهذا الفرد الأعزل والمعذّب لا يخرج من دائرة عذابه أو عزلته إلا ليدخل دائرة أشدّ قتامة ورعباً . لقد وجد فوزي كريم نفسه في حقبة تاريخية بالغة التعقيد وشديدة التناقض أيضاً ، اختلط فيها كل شيء بنقيضه : الدجل بالحقيقة ، والنقاء بالانحطاط ، والثقافي بالسياسي . كان مهرجاناً مخيفاً يمتلئ بالإدّعاءات والزيف ، والشعارات الواهية . وكان فوزي كريم المذعور الوحيد وسط ذلك الحفل ، مثلما كان اليائس الوحيد وسط تلك الآمال الكبيرة . ولم تكن قصائده إلا تجسيداً لذعره ويأسه وعزلته ، لقد كان يشمّ ريح الانهيار القادم ، وغبار الكارثة المقبلة بعمقٍ نادر .
-12- كانت عناية فوزي بالإيقاع تلفت انتباهي دائماً ، وكنت أحسبه امتداداً للسيّاب في هذه الناحية بالذات . لقد ظلّ مفتوناً بالوزن حتى اليوم ، كما ظلّ إلحاحه على القافية سمة شديدة الرسوخ في شعره ، وكان هذا الإلحاح يفصح ، أحياناً ، عن قصدية واضحة . ومن الطريف ، مثلاً ، أن قصيدة ( تباشير عام 1966) وقصيدة ( قارئ مثلك يكفي شاعراً مثلي ) تشتركان في الكشف عن ظاهرة واحدة . ومع أنهما كتبتا في فترتين متباعدتين ، وأن الفاصل الزمني بينهما يزيد على ثلاثين عاماً ، فإنّهما تندفعان إلينا من بحر شعري واحد وتلجان على القافية ذاتها . إنّ فوزي كريم شاعر يعيد الاعتبار للذات المقموعة المصادرة ، ويعلي ، بطريقة أخّاذة ، من شأن الإيقاع دون أن يكون هذا الإيقاع مقصوداً لذاته ، أو مفصولاً عن تجربة القصيدة وتموجّاتها الدلاليّة والنفسيّة .
(مجلة الصدى، عدد 235، 2003) |