فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

قصائد مثقلة بأسئلة الوطن والمنفى.. والمراثي

الشاعر العراقي فوزي كريم يصدر أعماله الشعرية بجزءين

 عواد ناصر


الشعر، كما الحياة، نضيق به لكننا لا نعيش من دونه، اما الاحلام التي يسبغها الشعر على حواسنا فتحيلنا الى كائنات مختلفة. وكذا صفحات الحياة التي نقلبها (وتقلبنا ايضا) كالحروب، بين كر وفر وليس من لحظة ظفر نادرة.
الشاعر وشعره مخلوقان يتناوبان الحياة ويتبادلان اللغة المنسية التي اوشكت ان تتحول الى سلعة يومية من منتجات «الحداثة» او من مخلفاتها.
الشعر قليل هذه الايام، خصوصا الذي يعيدنا، او نستعيد معه تلك الينابيع التي تورطنا باتيانها مرة او مرات، فاستحالت سرابا لا مآبا.
قراءة الاعمال الشعرية للشاعر العراقي فوزي كريم تستفز الذاكرة المفعمة بذاك الغناء وهذا المنفى، وتضع في راحات ايدينا مخلوقات بشرية متناهية الصغر لا تستحق كل هذا العناء جراء خطر ما تنطوي عليه حتى لو لم تجاهر به خندق الشاعر في هذا الشعر شجن الكلمات البرية قبل ان تدخل ستوديو «الحداثة» التي اضعها بين قوسين لفرط ما دوخت الشعراء العرب اكثر من غيرهم، فقارئ فوزي كريم ينعم بعبور جسر يربط اكثر من ضفتين، وهذا ما حدث لي شخصيا على الاقل، وفي وسط هذا الجسر ملتفتا الى الخلف، مودعا او ناقما، بينما امد يدي نحو الامام لالمس العالم. كهاجس اول سرت في العروق ابيات اتذكرها، ولا اتذكرها، من فوزي كريم منذ تلك الايام، عندما اكتسبت ما اضفاه عليها البعض من ترميزات جعلتها كالاساطير اليومية الصغيرة، وهي من قصيدته «اغنية اعتذار للكلام» ومنها: «... وهواك السلام (أقول السلام الذي بين جنحيه نزف وملح) لماذا اراك حزينا وانت بعز الصبا يا كلام» لدخول الشاعر التجربة اكثر من شكل ومبرر، ومهما حاول النجاة من هذه التجربة فانه لا محالة غارق فيها، مأخوذ بها، كقدر مستنزل لا راد له، وقد ادعى فوزي كثيرا بانه ابعد من ان يدخل الخندق، اي خندق، لكن خياراته الوجودية دفعته الى اكثر من خندق كلما حاول العبور من سؤال الى سؤال.
شيء من هذا جعل الناس خصوصا في فترات التوتر الاجتماعي، ترفع الشعر راية او تتوهمه ملاذا، ولا مهرب حتى للدراويش من عبور حبال النيران. مثل هذه المفارقة الحادة رسمها فوزي في احد اركان عزلته في محاولة لا تخلو من احتراس لاضاءة المسافة المعتمة بين نقيضين: «وقفنا بين صفين» «أضأنا شمعة في ظلمة المابين» «لكن احدا لم ير الا دمه الاسود عند مراياها» «فأخفى وجهه وارتد».
تستقي قصيدة فوزي كريم مادتها الخام من ذاكرة مريرة، ذاكرة تعج بادوات التعذيب وهذا شأن القصيدة العراقية، بعامة، لكن الشاعر يعيد انتاج هذه الذاكرة بما يكفل للتعبير عن حرارته الشعرية.
لم ار فوزي كريم على هذا الاتساق الواضح الا في اعماله الشعرية، فصورته وصوته هنا يرسمان حضوره، كانسان يسعى لالتقاط لحظة الحرية حتى في اشد لحظات غيابها هولا، فهو اذ يتعاطى الرسم او يعبث بالطين في العابه النحتية، بل حتى في معاركه النقدية حول قصائد المرحلة الراهنة، مرورا بشغفه الملحوظ بالموسيقى، لا تكشف هذا الحضور ولا تشير اليه كما تشير هذه الاعمال التي ضمت تجربته الشعرية ما يقارب الاربعين عاما.
القديس المطرود عند تتبع الخط البياني لقصيدة فوزي كريم يتراءى ذلك الاتجاه الصاعد لتأمل العزلة والموت رغم ان شعره بمجمله بلا اي اتجاه مرسوم سلفا، فلكل قصيدة اتجاهها الخاص. وبينما تبدأ الاشارات خفية خفيفة منذ مجموعته «ارفع يدي احتجاجا» فانها تتبلور فكرة او صورة، سؤالا او ايماءة، في ما يلي من قصائد، بل منذ مجموعته التالية «جنون من حجر» وتحديدا منذ تربصه بحسين مردان، حيا او فقيدا، حيث شكل له هذا النموذج المتشرد، غير القابل لشروط اليوم السائد، معادلا موضوعيا سواء في الحياة اليومية في تأملات القصيدة واسئلتها: لنتأمل هذا المشهد الذي يبدو فيه حسين مردان مثل قديس مطرود، يقف في منتصف الجسر:

 «وذات اليمين وذات الشمال النساء يمتن ويحيين ظلك وخطوك ما حل في الجسر ما جاوز الجسر، كنت وحيدا وكنت على الجسر واقف وحدقت في الماء ظلك نرجسة من رماد يلاشيه وجه غريب ووجه يوزع دائرة ... دائرة»

فالرجل الواقف على الجسر، واقف بين ضفتين، وتأمل الماء يليق بأحد اثنين: القديس والنرجسي، وكلاهما يحتملان حسين مردان. وعندما استمعت لفوزي يقرأ القصيدة، المرثية، في السبعينات، في أمسية من أماسي اتحاد الادباء في العراق، تركت في نفس شاعر شاب معنى ان تكون القصيدة تحريضا من دون هتاف وصيحة ضد من دون تهور، بل كانت حلا شعريا تمليه اشتراطات مرحلة ملتبسة تشي بالاحتمال ونقيضه. والقصيدة، هذه ايضا، فكرة بورتريه رسمت شعرا لهذا المتفرد الذي يسير في مكانه و(خطوك ما حل في الجسر، ما جاوز الجسر) لكنه وجه يتفتت «نرجسية من رماد» حيث يرى الشاعر الى صورته في المياه.
وطن الكابوس بخروج الشاعر من وطنه، مثقلا بهاجس الحرية والتخفف من
أعراض «قارات الاوبئة» ـ وهي احدى القصائد البارزة في تجربة فوزي ـ لم تسقط في هوة النهلستية والبحث عن تجريد مجاني للكلمات بدعوى ان الارث الثقيل الذي ناءت به قصيدته، وقصيدة سواه، قد اشبعها احتراسا، بل ذعرا، وهي تسير في حقول الوطن الملغومة، بل حول ذاكرة القصيدة التي استعادت تأملية للبحث عن اجوبة جديدة على اسئلة جديدة، وصار النظر الى الوطن يحتاج الى تلك المسافة الكافية التي تتيح معاينة متأنية تطرح موقفا لا تذمرا، وأظن ان قصيدته «شراع» توجز ما يتشعب: «كل شراع لم يعد اليك يا مخافر الحدود، لا باحثا، سدى، عن المعنى ولكن هربا من المعاني السود فهو شراعي» على ان تحولات الوطن في القصيدة العراقية قد بلغت ما بلغته من مستويات تتراوح بين الحنين والانكار، نراها (التحولات) في مختبر فوزي كريم الوجداني والفكري صفحات مرة المذاق حينا او سخرية سوداء.. لنر الوطن كابوسا يطارد ضحاياه حتى ابعد نقطة من منفاهم: «في إيرلس كورت» رأيت نديما اعرفه مطعونا بالشبهات ـ «من يتبع ظلي حتى هذا الحد» ـ «من يطعم لحم اخيه مخالب موطنه المرتد» ـ «من يطلق كل يتامى الطير من القفص الاسود» من خوفي لم أبرأ من بعد» يلتقط فوزي مادته الخام بحساسية شاعر مثقل بالالم والمراثي، حساسية تعمدت بغبار المكان الاول وتحللت من اوهام ومضطربات كثيرة وهي تعبر نحو اللامكان بالمعنى الميتافيزيقي للعبارة، طالما ان الشاعر اغتراب ماثل مهما استقر به مقام او احتوته زاوية دافئة فـ«من لا بيت له.. سيبقى هكذا ابدا» كما كتب هاينر ماريا ريلكه مرة.
تحولات الامكنة من بين الاستعادات التي يفترضها النص الشعري تلك الامكنة، ومكونات الامكنة، التي تلح على متن المشهد، وربما في هوامشه ايضا، اي حين تكون البؤرة او في محيطها، ولعل الشعر اكثر تفعيلا للذاكرة من سواه، فتأملات الشاعر تحيل المكان الى الماضي او تستعيد الماضي كمكان، وفي قصيدة فوزي تتسمى الامكنة باسمائها، لكنها امكنة الشاعر لا سواه، فطريقة النظر تستقطب باكورة الاشياء والامكنة، وبهذه الاستعادات نستعيد معه تلك الممرات الضيقة التي تضغط العابرين والساحات المكتظة بقامات تتدلى من حبال الموت.
ثمة مرحلة زمنية تتميز بخصوصية العلاقة بين المكان والشاعر، انها مرحلة ذات شقين: الاول هو بداية التشكل اثر معاينة المكان الاول بحساسية اقل مما ستكون عليه لاحقا، اي الشق الثاني: وغالبا ما يجري النظر الى المكان عن بعد، وهذا ما يحصل للمنفيين والمغتربين، عندما يستحيل المكان الى مناسبة للالم او شكل للغربة. فـ «جاردينيا» و«مقهى ابراهيم» و«دجلة (في ثلاث قصائد)» و«ابو نؤاس» و«كوفن جاردن» وفندق «باريس» ومدينة «كازا» ومقهى «البرلمان» او «شارع الرشيد» اذ تدخل المشهد تتحول صفة وليس موصوفا، انها اسماء لامكنة لا تعني غير نفسها كحالة. او مسرح حوار وحركة.. لم تكن بالمرة ديكورا او علامة حنين عابرة.
«...
في ركن مقهى (البرلمان مثلا) او شارع (كشارع الرشيد) تصرعني دوامة الشمس كقطة تعوي على الاسفلت اصغي الى تحطم الزجاج في رأسي» لا يشير المكان الى سكينة او دفء او ملاذ للكائن بل الى حالة الكائن في المكان، وهي عذاب داخلي وصراخ مسموع (قطة تعوي) ورأس يتحطم فيه الزجاج، فالمكان الذي يفترض الحنان يتحول ذاكرة محترقة.
تكاد «قارات الاوبئة» احدى ابرز قصائد هذه الاعمال تختصر سيرة المواطن والحرب والمنفى، كما تشكل نموذجا شعريا يشبه فوزي كريم اكثر من بقية القصائد، وهي خلاصة الحل والترحال في الارض والشعر، وهي من سبعة فصول يتعاقب زمنها ويعاد انتاجه، وكالعادة يكون المكان هو المدخل، المدخل الى المنفى، عندما تتباعد المحسوسات وتستحيل الى مجردات (دجلة يلامس البشرة بالملاحم) ولكن ما ان تعلو نبرة الوطن والثورة وحيث (امتدت في الباب الشرقي حبال الشنق) حتى يخفت صوت القصيدة تدريجيا، واذا شاء له الشاعر ان يعلو ثانية فالنثر يهجو المكان، يهجو «قارات الاوبئة».
«نهلل الى الكالح الذي يلي الالوان، من قارات الانسان الى قارات الاوبئة».

 

  
 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail