قبل الأوان وبعد الأوان خالد القشطيني الفاكهة في هذه الأيام غير زكية، والسبب هو أنهم أصبحوا يقطفونها قبل الأوان لينقلوها بالطائرات. فالشيء لا يتزكى ويطيب خارج زمانه. كذا الأمر مع الانسان. عيبنا الرئيسي كعرب، هو أننا لا نعيش في وقتنا. بعضنا الكثير يعيش بعد الأوان وبعضنا القليل يعيش قبل أوانه. منهم صديقي الشاعر فوزي كريم. انه يكتب شعرا حداثيا تستذوقه الأجيال القادمة. انه رجل ولد قبل أوانه. ولكن هناك آخرون كثيرون ولدوا بعد أوانهم كأستاذنا خير الدين حسيب، وكل هذه الشلة العاملة في مؤسسة الوحدة العربية. اوانهم وراءهم. وأنا واحد منهم ولدت بعد أواني. فمهما اكتب عن الوضع الحالي للعراق والأمة العربية ومستقبلها فلا احد يعبأ به. ولكن كل ما اكتبه عن أوان الماضي «أيام فاتت» و«أيام الخير» في العهد الملكي وأيام العصمانلي وزمان الجان والخنفسان، يهتز له الجمهور وتنهال علي التهاني والشكر. وهذا يدل دلالة واضحة على أنني ولدت بعد أواني. ولكن مثلما يوجد ناس ولدوا قبل او بعد أوأنهم، يوجد ناس ماتوا قبل أو بعد أوأنهم. مثلا الرئيس عبد الناصر رحمه الله. مات بعد أوانه. فلو انه توفي في 1956 لمات عزيزا وبطلا منتصرا يخلده التاريخ بعد انتصاره على العدوان الثلاثي. ولكن لسوء الحظ لم يمت في حينه وبقي وتوفي بعد نكسة 1967 فمات مهزوما مكسور الخاطر. وأصبحنا معه مكسورين ومكسوفين. هذا رجل مات بعد أوانه. قلت آنفا إن صديقي الشاعر فوزي كريم من الأدباء الذين ولدوا قبل أوانهم. هذا شيء أعرفه. ولكنني لم أعرف انه أيضا مات قبل أوانه. أصبحت معتادا على قراءة مقالاته الغنية عن الموسيقى. قلت لنفسي هل أنا غلطان؟ هل فوزي كريم ليس بشاعر وإنما بموسيقي؟ فأردت التأكد من الموضوع. فتحت موقع معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين وقرأت نبذته. إذا بي أجد كما يقول المعجم انه توفي عام 1999. يا سبحان الله! إذن فهناك فوزي كريم آخر. قررت ان افتح التلفون عليه وأسأله، هل مات أم ما زال حيا؟ أجابني بنفس ذلك الصوت الرخيم الذي تعودنا عليه في قراءاته الشعرية. خطر لي انه ربما هذا شبح فوزي كريم، ولكنني اعرف ان الأشباح لا تستعمل التلفون. سألته فأجاب لا، انا ما زلت حيا ولكن صاحبنا البابطين، أطال الله عمره، حشرني مع الموتى. أفضال صديقنا عبد العزيز البابطين كثيرة وغزيرة على الشعراء والأدباء. وكان منها ان ذكر عنوان الميت فوزي كريم. وهذا شيء مهم لمن يود زيارة قبره وقراءة الفاتحة على روحه. قلت لفوزي يا عزيزي يجب ان تعتز الآن بأنك الميت الوحيد في العالم، الذي له عنوان بريدي ويستطيع المعجبون والمعجبات ان يراسلوك عليه. هذا الشاعر العراقي المبدع لم يولد قبل أوانه فقط، بل وحسب قول الموسوعة، مات أيضا قبل أوانه. أطال الله عمره، رغم ما يقوله معجم البابطين وأبقاه ذخرا للشعر العراقي المعاصر.
(الشرق الأوسط 27 أغسطس 2006) |