فوزي كريم: الدفلى المرّة حسب الشيخ جعفر
في بغداد كان يلوح غريباً..بلحيته الكثة القصيرة، وبحقيبته المثقلة بالكتب دائماً، وبمعطفه وكأنه سائح، ولد وعاش سنواته العراقية، في بغداد، في منزل شعبي على الجانب الغربي من دجلة، قريباً جداً من النهر، وتحت "مراوح" النخيل، لم يعلق بذاكرته غير غرين دجلة "البابلي" الأحمر، ورائحة السمك، والدفلى، والسهرات الغائمة على الجانبين من شارع أبي نؤاس، المحاذي لدجلة أيضاً. ولعله الشاعر العراقي الوحيد الذي نأى بنفسه عن واجهات السياسة واوكارها السرية، لم اعرفه ملتزماً أو متحيزا الى أيّ اتجاه سياسي من شتى الاتجاهات التي لمّا يزل العراق مضطرباً بها، ومضطربة به، وقد بدا هذا غريباً لي حين التقيته، للمرة الأولى في اخريات العقد الستيني، وبعد ما أدركت شيئاً من أعماق شخصيته ذهب استغرابي، وقد وجدتني حيال شاعر لم يتأبط من العالم غير حزمة قصائد كالفلاح العائد من الحقل بكومة حشائش. في البداية كان ميالا الى الزخرف اللفظي والضوء الأبيض، وسريعاً ما فضّل الألوان العراقية الحارة:
يا قطاراً تجاوزني والحقائبَ، في الليلة الماطرة يا قطارَ الغرابة ما استودعتك المحطّة رهناً، وما جاوزَ النخلُ وجهي، يا قطارَ الطفولة..
وكان شاعرَ حق لمْ يبرح صادقاً وأميناً في نظرته الى المرحلة الشعرية الستينية، وهو واحد من أبنائها المميزينن لم يقل يوماً أنه شاعرها الأول كما ادّعى آخرٌ لم يكتب، طيلة العقد، شعراً مذكوراً. ولم يقل إنه منظّرها كما زعم آخر لم يكتب، يوماً ما، قصيدة "جيدة"، ولم يتبقّ من افتعالاته الزائفة، وتهريجه أيّ شيء يُحمد له، فلم يكن ما قال إلا ضجيجاً فارغاً. وبقي فوزي كريم قانعاً بالحظ العاثر..حظ الشعراء.. لا شيء بين يديه غير رؤياه الإبداعية وحقيبة الكتب:
انحدرتُ من "الباب المعظم" الى "ساحة الميدان" ولكي استمري الدقائقَ الخمس التي يقتضيها الطريق توجب علي أن أصغي عشرين عاماً الى نداءِ الأمواج.
لمْ تكن مائدتي الليلية، في حديقة اتحاد الأدباء أو في القاعة الصفراء الساهرة، مزاراً له. كنت منعزلاً ومتوحداً، فلم يشأ هذا الوديع الطيب، أن يزعج منزوى شاعر آخر، غير أننا كنا نلتقي، أحياناً، في منعطفات الوجود الثقافي وممراته الجانبية. أذكر أننا عشنا سهرتين نابغيتين في منزل الشاعر جليل حيدر، وفي منزلي. كان الرهان أو "التحدي" أن نحتفي بالحياة الصعلوكية حتى وضوح الخيط الأول من الفجر. وكان فوزي في كلتا الحالتين خاسراً:
كلُّ شراع لمْ يعد إليك يا مخافرَ الحدود، لا باحثاً سُدىً عن المعنى ولكن هرباً من المعاني السودْ فهو شراعي.
بعدئذٍ تفرقت بنا السبل، وتشعبت المعابر والجسور..غير جسر واحد لمّا يزل قائماً، بين "العباسية" حيث ولد وترعرع فوزي وشارع أبي نؤاس..لم يزل قائماً على دجلة الحمراء وفي قصائد فوزي، كان يجتازه كل يوم من الكرخ الى الرصافة..رصافة الصحف والمجلات واتحاد الأدباء..والمقاهي المعروفة بوجوهها الصحافية والأدبية:
هلْ أقدر أن أخترق اللوحةَ بالفرشاةْ للون الرائق إذْ يتدفق من ملكوت الذاتْ! أمتحنُ ردائي برداء البهلولْ وندائي بنداء الغولْ وقطيع همومي بقطيع الراعي..
ثم أننا التقينا، في الحاضرة الأردنية، بعد أكثر من ثلاثين خريفاًن. التقينا كما يلتقي الطائران الغريبان، الشريدان. كان حاملاً قلبه المتعب المريض في آنية بلّورية..كمّثرى حمراء ثلاثية الزوايا، (كما قال فوزنيسينسكي مرة)، وكان حاملاً "غربتي القديمة" في كيس الغجري الجوّال. ما كان هذا غير لقاء على مفترق، هو عائد الى متهته اللندنية، وأنا قابع في عزلتي الزجاجية. كان المجرى آخذاً اتجاهين، مع أنه مجرى واحد. لمْ أكتب في موسكو، تقريباً، إلا حنيناً الى القرية الجنوبية، وبعد العودة كنت ممتلئ النفس كالكأس الطافحة توقاً الى الحدائق الشمالية الثلجية. وهاهو فوزي كريم، منذ أكثر من ثلاثين خريفاً، كالصندوق المقفل، صندوق الجدّات، لا شيء هنا إلا "الجنة الضائعة"، جنة المقاهي والنخيل والشطآن:
وصديقي الشاعر لا يكترث لغير الكأس وبقايا امرأة دثرها ببياض الرأس! ولأن البرد وشيك، غادر بيت صفيح في عمّانْ واحتال على ماضيه بحاضر لا ينتسب لأي مكانْ.
نادراً ما يتضوّأ الشارع اللندني في "أعماله الشعرية"..نادراً ما تتراءى أوربا إلا أطيافاً تائهة، أبنوساً في ظل موقد، أو جارة إنجليزية يدعوها الى احتساء الشاي في مقهى ياسين، المقهى الذي كان من معالم أبي نؤاس. لم يأخذ من أوربا إلا الموسيقى، وقد انفتحت له قلاعها عن العجائب. فإذا ما عنّ له أن يقترب من المعترك السياسي، فقد يتذكر الدفلى والأصدقاء الموتى.. أي البراءة البرية والخسران. وكأن أوربا ليست إلا رصيف قطار أو تذكرة رحلة عائدة به الى حيث كانت "العباسية"..ظل صفصافة أو منعزل تلميذ يقرأ تحت أضواء مصباح الشارع. لا شيء هنا من الغربة الاعتيادية أو الغربة الرومانتيكية، غربة السياب يوم كان يعالج في لندن، غربة الروح في دنيا من الحجر..إنما هي الغربة الواعية.. أو وعي الغربة كما قال فوزي معنوناً كتاباً نقدياً مبكراً له..ليس منفياً بالمعنى المعلوم..إنما تحت عبء الذكرى الفادح.
(...الأردنية 3/9/2001)
|