استعادة جزء من حقبة السبعينيات
زاهر الجيزاني
استعادة جزء من حقبة ماضية يفصلني عنها اليوم أكثر من خمس وثلاثين سنة انطلاقا من تثبيتي عام 1974 نقطة رؤية - أمر ليس سهلا- فصورة مقطع من الزمن تشابه أحيانا صورة مقطع من المدينة أية مدينة - لن ترى المدينة إلا حيث تقف أنت، ولن تنجح في رواية جزء من حقبة ماضية إلا من خلال نقطة زمنية كنت تتحرك فيها. وهذا ما يجعل للمدينة الواحدة مئات الصور المتنوعة ويجعل أيضا صورة حقبة ماضية تستعاد بمئات النسخ المتنوعة ومن مئات الزوايا, وهذا ينطبق أيضا على الحركات الأدبية والتيارات، والاتجاهات والمجموعات التي تظهر بوصفها محركا ثقافيا فعالا - ولم يحظ أي سؤال بجواب واحد وقاطع، فهناك عشرات الأجوبة المختلفة للسؤال الواحد - ليس في ثقافتنا العربية وحدها بل في كل ثقافة - حتى هذه اللحظة ليس هناك (أرخنة)أصلية حول من بدأ في تجديد الشعر - السياب العراقي أم باكثير اليمني أم - أبو شادي المصري - وفي العراق السياب أم نازك - وفي الشعر المرسل الزهاوي أم روفائيل بطي – أيضا. ذات الأمر ينطبق هنا في امريكا - هناك نقاد يعتقدون أن قصيدة نثر كتبها آدغار ألآن بو-عنوانها يوركا- عبرت المحيط لتصل باريس وتؤثر في بودلير فيكتب بعدها قصائد نثر سواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا فهي تدخل أيضا في التباس المرويات، وينطبق عليه بيتا الزهاوي هل يخرق العادات فيما جاءها الا جرئ لا يخاف ملاما من يحسب الاوهام منه حقائقا يجد الحقائق كلها أوهاما
ممكن استعادت جزء من حقبة السبعينات بالنسبة لي من نقطة عودتي من( فيينا)بداية عام 1974. في ليلة شتوية في اتحاد الادباء عرفت ان مجلة اسمها-الكلمة- تنشر قصائد وقصصا ومقابلات لشبان في عمري اطلقت عليهم (جيل ما بعد الستينات). وفي تلك الليلة اقترب الناقد سليم السامرائي من الطاولة التي أجلس عليها برفقة اصدقائي الشعراء الشبان آنذاك خزعل الماجدي وهاشم شفيق وسلام كاظم وفاروق يوسف وخليل الاسدي. بعد لم أتعرف على كمال سبتي وورعد عبد القادر. اخبرنا الاستاذ سليم السامرائي أن مجلة جديدة في طريقها الى الظهور اسمها-الطليعة الادبية-تهتم بأدب الشباب ويدعونا للنشر فيها. وطلب مني قصيدة للعدد الثاني. هناك عدد آخر من المجلات يهتم بالادب الى جانب الصفحات الثقافية. في جريدة الثورة والجمهورية وطريق الشعب والفكر الجديد. ايضا اتحاد الادباء المكان الاكثر حميمية، يشبه مرآة ليلية تزدحم بصور اشباح صاخبة تحت ضوء خافت-النظرة البعيدة التي يقولها دائما العقلاء الذين طحنتهم الظروف وأعطتهم مرانا على الانشغال بالقادم أكثر من انشغالهم بما هم فيه. اليوم بعد اكثر من ثلاثين سنة استطيع التحدث عن حظي السيئ-في عام 1968 كان عمري تسع عشرة سنة في ذروة استقبالي للحياة وذروة الطاقة الفتية التي تدفعني أن اعمل شيئا ما مفيدا بالنسبة لشاب فتي -فكنت مواظبا على حضور امسيات جمعية الكتاب والمؤلفين-التي تقدم أدبا وثقافة تقليدية . مذكرات لضباط متقاعدين شارك البعض منهم في حروب فلسطين. وأبحاث وثائقية ( اجدها اليوم في غاية الاهمية) عن تأريخ التعليم في العراق- عن الارض والفلاح والاقطاع-كان معظمها سرودا ومشاهدات وتوصيفات-يمكن النظر اليها -كمادة خام-يحتاجها باحثون حرفيون اضافة الى شعراء عموديين على أصابع اليد يتقدمهم الشاعر نعمان ماهر الكنعاني وجميل حافظ وعبد الرزاق محيي الدين، وحشد من محامين واكاديميين. لم تكن تلك الجمعية حرة في اختياراتها الثقافية ثمة نزعة حزبية(اغلبهم من القوميين العرب) الذين خسروا امتيازاتهم بمجيء البعث الى السلطة عام 1968، وهو العام السيئ بالنسبة لي-اغلقت الجمعية وحل محلها افتتاح المقر الجديد لاتحاد الادباء-قبلت عضوا فيه عام 1972 على أثر اشتراكي في مهرجان شعري أقامه السيد مصطفى جمال الدين في النجف. القيتُ قصيدة عمودية .كنت أصغر شاعر في المهرجان وهناك تعرفت على عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وخالد علي مصطفى وسامي مهدي الذين شاركوا في المهرجان ودعوني لحضور امسيات اتحاد الادباء تشجيعا لي -كانت لدي حيوية تفتقر الى-النظرة البعيدة-لدي تطلع عارم لا يفقه كمائن الطريق-بينما كنت أنظر الى نفر من الادباء ،عيونهم تشع بالامل وكأنهم على بصيرة لا تخطيء هدفها. سرب من أدباء جاءوا من المحافظات الى بغداد وفي الاخص من محافظة النجف والحلة، يدعم آمالهم حزب أعد نفسه للبقاء طويلا في السلطة وأتاح لهم فرصا واسعة وسهلة لبناء مستقبلهم على عجل. فعبد الامير معلة الذي يكبرني بخمس سنوات اعطاه الحزب طريقا مستقيما قصيرا جدا للصعود من محرر في قسم ثقافي الى مدير عام ثم وكيل وزارة ومثله حميد سعيد -والتفت حولهم مجموعة ممن تمارس الكتابة الادبية والصحفية. وشيئا فشيئا ظهر جو ثقافي أرتبط وجوده وديمومته بوجود الحزب وديمومته-وكانت الدرجة الحزبية مفتاحا اساسيا لهؤلاء المثقفين الجدد الذين حلوا محل مثقفين اختفوا وأختفى نتاجهم الادبي باختفاء حزبهم الحاكم (-جماعة عبد السلام عارف). فقد صرح مرة الدكتور محسن الموسوي متأسفا لو لديه درجة عضو لصعد الى وظائف اعلى-رغم أنه كان مديرا عاما والامين العام لاتحاد الادباء ورئيس تحرير مجلة آفاق عربية واستاذ في الجامعة. شكل بعض الادباء الوافدين من النجف والحلة جدارا عازلا في بغداد بعد استقوائهم بسلطة الحزب، ترافقا مع اهمال عدد كبير من مجايليهم من الادباء -كان المنصب الوظيفي هدفا لبعض الادباء الا أنه لم يكن كذلك لعدد كبير منهم. هذا العدد الذي انشغل بشكل الحرية الذي رسمته الكتب والروايات ومجاميع الشعر المترجمة التي تفد الينا في تلك الفترة من بيروت والقاهرة ودمشق. وكانت السينما حاضرة بقوة في تلك الفترة الى جانب ازدهار مسرحي طارئ. لكن أقوى المعالم الثقافية بالنسبة لي كانت المقهى. في الوقت الذي تتقدم آمالنا الثقافية ببطء يزداد المظهر المتماسك للحزب والادباء الذين ارتبطت آمالهم به. وبسرعة تم ايجاد مكان عمل في مفاصل الاعلام لهؤلاء أما أنا وعدد كبير معي كان مكاننا الدائم-حديقة اتحاد الادباء-بلا فرص عمل حقيقية-هذه البطالة الالزامية منحتني وقتا فائضا تم صرفه بدأب على القراءة والكتابة. وأصبحت مكتبة الخلاني وعبد القادر الكيلاني والمكتبة الوطنية ومكتبة المجمع العلمي العراقي أماكن يومية لي . في مكتبة الكيلاني كنت استنسخ مقاطع من كتاب-هياكل النور للسهروردي-كانت نسخة واحدة مخطوطة وكتبها الخطاط بلونين الاسود والاحمر-طبعا اليوم لم تكن تلك المقاطع التي نقلتها بشغف آنذاك -هامة أو مجدية، لكنه هوس وطاقة تتحرك بلا هدف. الآمال-آمالي تتناقص يوميا وغيمة اللاجدوى تتسع وهي تظلل جزءا كبيرا من روحي. مجموعة الشعراء الشبان-نحن آنذاك-المجموعة الكبيرة انحلت الى مجاميع أصغر وتخذت لها مسارب شتى وفقا لأهوائها أو آمالها. او ربما، وهذا رأي جدير بالتأمل، ان خياراتنا ضاقت وعلى كل منا ان يسلك الطريق الذي وجد نفسه فيه. صدرت مجموعتي الشعرية الاولى "تعالي نذهب الى البرية" عام78 . عمليا هذه المجموعة انجزت في السنوات-(75-76). تأخرت سنتين في مديرية التأليف والنشر-كانت هذه المديرية يرأسها الشاعر حميد سعيد وتعمل فيها مجموعة من الادباء ممن كانوا يحسبون ضمن جيل الستينات-منهم موسى كريدي وحميد المطبعي وموفق خضر ومنذر الجبوري وكامل الشرقي وعبد الامير معلة. اضافة الى أخرين ممن كانوا مقربين لهذه المجموعة منهم (رزاق الاقرع)وبقية لم أعد أتذكر أسماءها. هولاء جمعتهم رابطة المدين. اغلبهم من النجف وكربلاء والحلة، بعثيون امتدت هيمنتهم الى اتحاد الادباء، ووزارة الثقافة، ودور النشر ووظائف الحكومة . كان الكثير منهم أدباء جيدين ولهم نتاج مقروء-تأريخيا النجف مدينة ثقافية. اضافة الى دورها الاساس كمدينة دينية وبحكم امتيازها الثقافي التقليدي-كانت تخرج منها بستمرار شخصيات ثقافية وسياسية وتجارية ودينية مرموقة. وبحكم هذا التوصيف لمجتمع مدينة النجف فلابد أن تظهر منها جماعات ذات ميول مختلفة . ففيها بعثيون وشوعيون واسلاميون ومستقلون-لكن في الاقل ان هذه الرقعة الجغرافية يستولي أبناؤها على الامتيازات دائما عكس المناطق الفلاحية في جنوب العراق. يكاد يكون القسم الاكبر من جيل السبعينات الشعري في بغداد ينحدر من المناطق الفلاحية في الجنوب ولم يتقدم هذا القسم في الحصول على امتيازات-وهنا تبارى التاجر والفلاح في كسب الشوط. ايضا الكسب تم تفسيره لاحقا على أنه -مكانة معنوية بالغة الثراء فالسياب والبياتي وحسب الشيخ جعفر المنحدرون من الارياف، وكذلك نازك الملائكة ويوسف الصائغ وسامي مهدي المنحدرون من بغداد والموصل كسبوا الشوط المعنوي شعريا، في حين فازت الجماعة الادبية النجفية وتوابعها بالامتيازات. وكان بعض الادباء والمثقفين ممن يسعى أن يحصل على مكان ما في هذا التراتب-تتحول وظيفته من متحمس الى التجديد الى عائق يصد أية هبة فيها شيء جديد-لذلك كثرت العوائق. وكان الصوت الاعلى الرافض لتوجهنا صوب التجديد يأتي دائما من تلك الجماعة التي ترتبط مصالحها بالاحزاب-لذلك فضل نقاد قريبون من الحزب الشيوعي تفادي الكتابة حول تجربتنا الشعرية وكتبوا مبشرين بمجموعة من جيلنا انتمت . كان جزء من روحي الادبي كلاسيكيا -مبكرا منذ 1970 تجمعت لدي حصيلة أدبية تقليدية وفيرة ما عادت تشغلني كثيرا، حين أغواني الانشداد الى الجديد. قد أكون مدينا اليوم الى ما كنت أعانيه من روح مريضة ليس بالمعنى المجازي أو السلبي-انما بالمعنى الاكلينكي-السريري-تعرضت روحي الى مرض وكنت أكتب الشعر بهذه الروح المريضة وقد أطلق عليّ الشاعر سامي مهدي لقب(المعنىّ) وصديقي الشاعر مرشد الزبيدي-لقب الحزين-وطوال فترة السبعينات والثمانينات كنت أحمل هذه الروح التي وضعتني في آخر القافلة-كشخص عاش طوال تلك الفترة هامشيا
may-30-2010
شجرة
1974 هذه الشجره تحتها تلتقي خطوتان من جهات بعيده وبعد دقائق تفترقان وتضرب كل خطى في طريق ولن تتبق سوى كلمات وحيده كنعيّ نمر عليه سريعا ونطوي الجريده هذه الشجره ربما نسيت خطوتي وملامح وجهي وموعدنا في الظهيره وبين زحام الزمان الكثيف ترى نترآى لها في ظلال صغيره وحدها هذه الشجره سمعت ما يقول الفتى للفتاة وماقالت العين في غفلة من عيون الوشاة يدها في يدي ويدانا ومن حيرة تخصفان الورق على عرينا في نهار ثقيل ربما أثر هاهنا أو دليل شظية من حديث وقهقهة وأنتعاش وما يترك العاشقان وراءهما-نسمة – في هواء الزقاق الطويل هذه الشجرة جثة يابسة وعويل على خشب يابس وعويل هذه النار في صورة النار واقفة كيف لي من رماد الهشيم أعيدك ثانية وأنادي باسمك ثانية من وراء السديم
1974بغداد
|
|
||
|