السبعيناتُ ما قَبْلها وتَلاها رؤيةٌ في التَّحْقيبِ العَشْريِّ لأجيالِ الحداثةِ الشعريةِ في العراقْ
حكمت الحاج*
هذه المحاولة مني مُهداة إلى الشاعر فوزي كريم فهي منهُ وإليهِ ذكرى لقاءٍ لا يموتُ
رأيتُ أنَّ البدءَ على عادة المؤلفين في هذه المناسبات بالخوض في الاقتباس والنَّهل من هنا وهناك من أجل تقديم تعريف جامع مانع للجيل بوصفهِ كلمةً ومفهوماً وتأسيساً داخل التاريخ المتعين للأمة، إنما هو مضيعةٌ للوقت الثمين، وتعذيبٌ للقارئ اللبيب المعاصر الذي يعرف كيف الولوج إلى الشبكة العنكبوتية والإتيان منها بما يفي بالغرض، بلْ وأكثر. ومن هنا فإنني بشأن تعريف الجيل والتنويع على مفاهيمه نظرياً، سأحيلُ القارئ الكريم إلى مقالٍ كافٍ صافٍ مقتصدٍ مفيدٍ هو للدكتور محمد حافظ دياب كان تمَّ نشره في مجلة نزوى العمانية في العدد التاسع والخمسين منها بعنوان الجيــــــل الأدبــــي مقاربة مفاهيمية، بتاريخ 2009-08-27 ورابط الصفحة على الانترنت هو: http://www.nizwa.com/articles.php?id=3209
وإن شئنا، فسأنتقل مباشرة إلى فحوى الجانب التطبيقي من محاولتي هذه لتكريس الحديث حول جيل السبعينات الشعري في العراق من قبيل الدرس والتحصيل والمُقَايَسَة، مما لا يمنع من تطبيق النظرة تلك على أجيال أخرى وعلى أنماط تعبيرية أخرى كالقصة والرواية والتأليف المسرحي، على سبيل المثال لا الحصر. إذن فهذا ما تواضع عليه الناس عندنا في العراق من الأخذ بتسمية جيل لكل حقبة عشرية من السنوات الزمنية في عمر الفاعلية الأدبية، وصار الترتيب كالتالي عندما يكون الكلام على الحداثة الشعرية في العراق حيث يبدأ العدُّ من جيل الرواد فجيل الخمسينات يليه الستينات ثم جيل السبعينات فالثمانينات و"أخيرا" جيل التسعينات. وقد أوردتُ الكلمةَ "أخيرا" بين ظفرين أعلاه ذلك أنني لم أسمع شخصيا في الأقل، بتسمية تدل على جيل أعقب التسعينات بامتداده، كأن يتسمى بجيل الألفينات أو جيل الألفيات أو حتى جيل الألفية الثالثة مثلا؟ أليس هذا بالشئ الغريب؟ ويا ترى ماذا سَيُسَمّى، أو ماذا سيسمي نفسهُ هذا الجيل الشعري الذي يزاول نشاطه الآن في العراق، أقصد في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين؟ هل للنُّطق علاقة بهذا الأمر؟ هل لصعوبة النُّطق، هل للملفوظ بعامة، علاقة بهذا الأمر؟ إذن ستكون قد فَعَلَتْهَا اللغةُ مرة أخرى مُبْسِطَةً سلطانها المعرفي على التاريخ والنمط الأدبي والفاعلية الاجتماعية، خالقةً هي، أي اللغةُ، الواقعَ، والواقعةَ الشعرية، وليس العكس، كما قد أخبرنا البعض ممن ضللونا تحت عباءات شتى، ليس أولها النظرة التاريخية إلى الشعر، وليس آخرها أوهام وقلة أَفْهَام عُربان البنيوية والحداثة، قَتَلَةُ الشعر في رحم النقد والنظريات. فلا يوجد إذن جيل شعري أتى بعد جيل التسعينات لحد الآن، وذلك لأننا ببساطة شديدة لم نستطع أن نتفق على لفظ كلمة تدل على العشرية التي ابتدأ بها القرن الجديد، مع الملاحظة إن السنوات العشر المفترضة في أية تسمية تحقيبية كما هو متعارف عليه لولادة جيل شعري جديد، هي في نهايات أشهرها الآن ونحن بعد منتصف العام عشر وألفين . وما إن تتحقق ملفوظية الجيل الجدي في كلمة مناسبة سهلة على النطق والحفظ حتى يولد جيل شعري جديد له الحق كل الحق في الوجود والثبات والفعل. هذا يفضحُ هَشَاشة تسمية الأجيال وفق الحُقَبِ الزمنية المرقُومة بالعشْرِ من السنين. لكن هذا أيضا ربما يوضحُ قوة استعمال اللغة لنفسها في انتظام نَسَقِ التعبيرات الأدبية كَبِنْيَةٍ مُتَعَيّنةٍ في لحظةٍ ماْ من التاريخ. الفضحُ أولا يتعلق بالتاريخ، والتوضيح ثانيا يتعلق بالملفوظية، وما يجمع بينهما هو مبدأ جدلي/ دياليكتيكي: كلّما حَقَّبْتَ عُدْتَ إلى التاريخ، وكلّما عُدْتَ إلى التاريخ أفرزتَ حُقَبَاً جديدة.. وهكذا دواليكَ. والقوة هنا إنما تكمن في الرقم عشرة، وفيه اكتمال دورة رقمية من الواحد حتى التسعة حيث للصفر - اللاقيمة لهُ، معنى التمام. فالجيل بهذا النظر ليس حكراً على العشر من السنين بل هو أَزْيَدُ بكثيرٍ كما ترشدنا معظم المعاجم والقواميس العالمية باللغات الحية خذْ مثلا عليها قاموس أكسفورد ومعظم دوائر المعارف والموسوعات حتى وصولا إلى دائرة المعارف الشعبية على شبكة الانترنت التي يكتب فيها أي واحد كل ما يريد وأعني بها ويكيبيديا العالمية، حيث الإجماع واحد على إن الجيل يستغرق من السنين ثلاثين عاما. وهو، أي الجيل بهذا النظر أزيدُ بقليل على العشر من السنين كما ترشدنا مُقايسةُ حسابيةُ إلى واقع التاريخ الشعري الحديث في العراق، كأن يكون ثلاثة عشر عاما أو أربعة عشرَ كما هو الحال مع جيل الخمسينات، أو أن يكون أقل بكثير من السنوات العشر كما الحال مع جيل الستينات الشعري في العراق. كيف يجوزُ لنا أن نقول ذلك؟ كل كتابة في العراق هي واقعية مهما تنوعت مشاربها وأساليبها حتى السريالية إن وُجدتْ والفنطازية إنْ حُددتْ، فهي كتابة واقعية. وتستطيع أن تقول بكل ثقة انه حتى الاتجاهات اللاواقعية في الأدب العراقي تتوسل الواقعية في التعبير عن نفسها. وكذا كلّ حركة أدبية في العراق الحديث، وكل جيل أو جماعة أو خط زمني يجمع في مسيره كوكبة من الشعراء، إنما كل ذلك صدى للتاريخ السياسي على أرض الواقع. فلا شئ كالشعر في العراق هو صُنْوٌ للسياسة، سواء أكان ذلك في الموالاة أم في الرفض. الشعراء في العراق كلهم يسكنهم محمد مهدي الجواهري وجده أبو الطيب المتنبي، وحفيده مظفر النواب، ولا عبرة باعترافهم بهذا الأمر أو بإنكارهم له. انظر إلى تاريخ الأجيال الشعرية في العراق فماذا ترى غير الوجه الثاني للورقة السياسية وهي تمشي على التراب الوطني؟ جيل الستينات بهذا المعنى كان جيل مرحلة حكم الزعيمين العارفين، عبد السلام محمد عارف ومن بعده أخيه عبد الرحمان محمد عارف، وقد عاش هذا الجيل أوج عظمة شبابه ما بين السنوات 1964 و 1968. وقد انتهى الجيل الستيني فعليا بمجئ حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في السابع عشر من تموز يوليو من العام الذي أعقب نكسة الخامس من حزيران سنة 1967. جيل التسعينات وُلدَ في وإبّانَ الغزو العراقي للكويت وبدء الحرب الأمريكية على العراق وانتهى زمنياً بسقوط بغداد في العام 2003 على يد الحلفاء. وكان جيل الثمانينات هو الجيل الوحيد الذي عايش سلميا انحسار الموجة السابقة السبعينية نهاية سنوات الثمانينات، وصعود الموجة اللاحقة أي التيار التسعيني بقوة حوالي العام 1994، ولم يَعمَد إلى مهاجمة مَنْ قبلهم ولا تهميش من أتى بعدهم، على عكس الأجيال الأخرى. أما جيل السبعينات في العراق فمن الخطأ القول انهُ قدْ وُلدَ في السبعينات من القرن العشرين، إما إثر اندلاع الجبهة الوطنية والقومية التقدمية من تحالف الحزبين الشقيقين في السياسة وهما الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي، أو إثر انهيار الجبهة وتحطم الحلم والأمل بوطنٍ سعيدٍ وشعبٍ أسعدَ، بلْ إن ولادته الحقيقية إنما انتظرت عدة سنين حتى يأتي الإمام الخميني إلى رأس السلطة في إيران ويأتي صدام حسين إلى رأس السلطة في العراق وتبدأ الحرب العراقية الإيرانية الطويلة المدمرة لتحصد سنواتٍ ثمانٍ عجافٍ من حياتنا. ولا عجب أن يكون الإعلان الحقيقي لجيل السبعينات الشعري في العراق في العام 1982 مرفوقاً بصدور كتاب "دخان المنزل" للشاعر سلام كاظم ثم صدرت "يقظة دلمون" للشاعر خز عل الماجدي، و"من أجل توضيح التباس القصد" للشاعر زاهر الجيزاني. فإنْ قلتَ شعراءَ السبعينات، أو كان السبعينيون محورَ حديثكَ، فأنتَ تتحدث عن هؤلاء الفرسان الثلاثة تحديداً، وأضفْ إليهم رابعهم صاحب مرايا الأسئلة وأوبرا الأميرة الضائعة، الشاعر الراحل الكبير رعد عبد القادر. وقد يسألُ سائلٌ، وله الحقّ في ذلك، قائلاً أين إذن نضع كل تلك الأسماء وجميع تلك الفعاليات الشعرية التي وُلدتْ وترعْرعَتْ وَنَمَتْ وَسَمَتْ للفترة ما بين عامي 1970 و 1980 ؟ وقد نجيبُ، ولنا الحق في ذلكَ قائلينَ إن أشياءَ كثيرةً حصلت في العشرية تلك ولا ريب، وإن شعرا جديدا بدا وكأنه يولد من رحم الأحداث. فها أنت تلقى شعراء أطلقوا بيان القصيدة اليومية وهم عبد الحسن صنكور وغزاي درع الطائي وخزعل الماجدي، وثمة شعراء مجلة الكلمة التي كان يديرها حميد المطبعي، وكم كان لها من تأثيرٍ تلك المجلة الفريدة من نوعها في فضاء الشعر العراقي، وأخيرا تلك الموجة الهادرة من الشعر والشعراء الذين كانوا الأبناء الشرعيين لإعلان جبهة التحالف ما بين البعثيين أصحاب الأرض والسلطة وبين الشيوعيين أصحاب ديكتاتورية البروليتاريا، مما يمكن أن نطلق عليهم وعليها اسم جيل الجبهة الوطنية. تلك كانت تكونات جنينية وارهاصات وحركات أجهض اغلبها بفعل الظروف العامة المتسارعة بين ولادة وموت سريعين مثل اتفاقية اذار بين الاكراد والحكومة المركزية، ونشوء الجبهة وانهيارها، ولم تفض إلى شيء يمكن التأسيس عليه كي يولد جيل يمثل السبعينات الشعرية تمثيلا دالا وحقيقيا عبر النص والفاعلية الاجتماعية. من هذه الناحية انتظرنا مجيء العشرية الثمانينية لكي تنضج التجربة السبعينية مع بروز ملمحين أساسيين للقصيدة المكتوبة بأقلام ممثلي الجيل السبعيني الحقيقيين، وهما: الالتجاء نهائيا إلى قصيدة النثر وإنجاز أعمال شعرية مفرطة في طولها، مع إضافة عامل آخر مهم جدا ميز الحركة السبعينية ألا وهو إنتاج نصوص مجاورة للنص الشعري، فكثرت بياناتهم ونقوداتهم وتنظيراتهم وحواراتهم، وطالت الحمى هذه معظم المتواجدين في الساحة الأدبية حينذاك، بغض النظر عن انتمائهم إلى هذا الجيل أو ذاك، وبغض النظر عن انتمائهم إلى هذه الحركة أو تلك. أولئك الأربعةُ، وَلْنُسَمّهم بملءِ الفم شعراءَ كباراً بحقٍّ ودون أدنى وجلٍ، هم كانوا لتسع سنوات ابتدأت من 1982 وانتهت في 1991 شكلوا المَتْنَ المتينَ لحركة جيل السبعينات في العراق بشتى هوامشها وروافدها، هذه الحركة التي بشرتْ بقوتها وسطوتها وتأثيرها على مدى حقبة كاملة من الزمن يمكن اعتبارها من أصعب الفترات التي مرَّ الشعر العراقي بها وذلك نظراً للظرف التاريخي الحرج الذي كان يجر وراءه البلاد برمتها إلى الهلاك والخراب، ونظرا لاهتزاز الاعتقاد بجدوى القيم الجمالية والأخيلة الشعرية في واقع يسوده الدم والجنون والدخان . وكان من ضربات القدر على هذه الكوكبة من الفرسان أنْ تَرَجَّلَ مبكراً عن صهوة جواده فارعهم في الطول، وانزوى الآخر في إحدى مدن الصقيع في بلاد الاسكندناف، وتناهبت باقي المنافي فارسَيْها الآخَرَيْن، لكنهم جميعاً تركوا بعدهم عُروةً من الشعر وُثْقَى، وأعطونا جميعاً وعلى حدِّ تعبير "دخان المنزل"، درساً في المحبة وآخرَ في الجمال.
* شاعر من العراق يقيم في لندن hikmetelhadj@gmail.com |
|
||
|