الفنان ورسائلُه
الرسام فان غوخ (1853-1890) في "الرويال أكاديمي". ولكنه ليس وحدَه هذه المرة، بل بصحبةِ فان غوخ كاتبِ الرسائلِ الشهيرة. عرضٌ مزدوجٌ ولكن داخلَ وحدةٍ، تُشعرك أن هذا الفنان الاستثنائي لا يمكن أن يُفهمَ بوضوحٍ إلا عبر هذين النشاطين. معظمُ رسائلِه تنطوي على تخطيطاتٍ، يسعى فيها إلى توضيح رؤيته، استخدامِ ألوانِه أو خطوطه، علاقتِه بالطبيعة، بالوجهِ الإنساني، بحياةِ الفلاحين، بالحياة، وبالله. والعديد من هذه التخطيطات كانت سكيتْشاتٍ للوحات وضعها فيما بعد بالأسود، أو بالألوان. فكرةُ تضمين الرسائل جاءت متزامنةً مع إصدارِ طبعةٍ جديدةٍ خاصةٍ لهذه الرسائل، الشهيرةِ باسم "رسائل إلى ثيو"، أخيه الذي يصغره سناً، في ستّةِ مجلداتٍ، بألفيْ صفحة، وأربعةِ آلاف صورة.
أحدُ النقاد لم يسترحْ لفكرةِ المعرض كثيراً، لأن الرسائلَ ستفرضُ نفسها وسيطاً بين الفنانِ والجمهور، وهو يفضّل أن تنفردَ اللوحةُ في التعريف بنفسها. رأيٌ قد يبدو مشروعاً، ولكنه في حقيقتِه افتراضي. لأن الرسائلَ عادةً ما تنشغل بالجانب التقني، واللوني، أو تنطلق بعيداً إلى آفاقٍ تأمليّة بشأن الدين، أو الحياة، أو الكون. بمعنى أنها لا تنفردُ بلوحةٍ لتجتهدَ في شرح ما تُخفيه من أسرارِ الفن. حتى في الإشارةِ المؤثرة إلى "كرسي غوغان"، حين كتب قائلاً بأن صديقه الرسام عادةً ما كان يجلس عليه. "وهو في اللوحة يحاول أن يرسمَ غيابه الموحش." إشارةٌ لن تتركَ المشاهدَ على الحياد، بل تفيض عليه بعاطفةٍ إضافيةٍ ما كانتْ لتتوفر مع صورة الكرسي وحده، دون كلمات الرسالة.
إلى جانبِ وفرةِ الرسائل التي تنطوي على تخطيطات، هناك أعمالُ رسمٍ بالأسودِ كبيرةِ الحجم وكثيرة، وضعها فان غوخ في مرحلةٍ مبكرة من حياته الفنية عن الفلاحين. ولكن حياة فان غوخ لم تمتد لأكثر من عشرة سنوات، كان الجنونُ يتكاثف في مرحلتها الأخيرة، بصورة ألقت ظلها الثقيل على رؤية الناس لأعماله الفنية جميعاً. مع أن هذا المعرضَ يكشفُ، بصورة لا التباس فيها، أن هذا الجنونَ الذائعَ الصيت لم يمسْ عملاً من أعماله بعبث غير مسؤول في حركة الفرشاة، أو في انعدام التوازن داخل اللوحة. حتى في لوحاته النارية، مثل لوحة "أشجار السرو في سينت ريمي"، و "أشجار الزيتون". في مرحلة حمّى الرسم كان فان غوخ يضعُ لوحةً كلَّ يوم، دون أن يفتقدَ قوةَ السيطرةِ على ملاحقةِ اللون، الراقصِ بإيقاع متوازنٍ داخلَ الإطار. على أنه كان يكتفي بتخطيطٍ بالغِ الاختصار لموضوع اللوحة قبل رسمها. "حقل حنطة غب المطر"، آخر لوحاته التي رسمها قبلَ أيامٍ معدودةٍ من موته، كانت معبأةً بطاقة لم تفلُتْ من التوازن بين الفراغِ والضوءِ الذي يُشيع السكينةَ والصمت. إن كثافةَ التوتر في لوحتِه خلاقةٌ وليست تدميريةً، لأنها تصدرُ عن رغبةٍ في التوازن بين عاطفتِه الملتهبة وبين أسلوبِ التعبير النظامي والمنهجي. وهذا الأمرُ ينعكس بصورة أكثر وضوحاً في رسائلِه التي تكشف عن فكرٍ غايةً في التألق. في السابعة والعشرين من العمر قرّرَ فان غوخ أن يصبح فناناً، وانصرفت رسائله لأخيه، في جملتها، إلى الرسم. وجولةُ المعرض تستعرضُ نشاطَه في التخطيطِ والرسمِ والكتابةِ عبر سبع قاعات كبرى، تبدأُ من مطلع نشاطِه في بلده هولندا، منصرفاً إلى التخطيط باعتبار "التخطيط جذر كلِّ شيء"، على حد تعبيره، داخل حقل الطبيعة الريفية، وحياة الفلاحين. مرحلةُ تجربتهِ مع المشهد الطبيعي تبدأ في القاعةِ الثانية، وفي الثالثة يرحل إلى باريس ليجرّبَ حظَّه مع "باليت" الألوان، وطلاقةِ التقنية في نظرية التقابل اللوني (أحمر وأخضر، أزرق وبرتقالي، أصفر و بنفسجي). ثم يستقبل موجةَ الفن الياباني مع من سبح فيها من فناني فرنسا. في القاعةِ الرابعة نستريحُ مع فن البورتريت: "إن أكثر ما يستهويني، من بين فنون الرسم جميعاً، هو فن البورتريت الحديث. وبحثي فيه يتم عبر اللون." وكذلك فن الأدب. ثم تنصرف القاعةُ الخامسة، السادسة والسابعة إلى رصد مشاهدِ الدوراتِ الطبيعية في الفصول والزراعة، والتعبيرِ عن قتامة حالهِ الداخلية بأكثر الألوان غنىً وصمتاً: طبقات الأخضر، الأزرق و الأوكر. ثم ننتهي بقاعة المرحلة التي أنهى حياته فيها، في 29 تموز 1890.
|
|
||
|