نهار سركون بولص : ليل الاشوريين الطويل
قراءة "قومية" لهامش محلي
محمد غازي الأخرس
مدخل في واحدة من عبارات عرف بها دائما، يتذكر سامي مهدي كيف كان "الستينيون" ينظرون الى سركون بولص عام 1963 . يقول " كنا يومئذ نرى سركون بولص وهو يتابط دفترا سميكا دون فيه بعض قصائده وكان يقرأ لنا في احيان نادرة شيئا منها ولكن قصصه كانت تلفت النظر اكثر من قصائده اذ لم يكن في هذه القصائد من روح المغامرة الشعرية سوى تخليها عن الوزن القافية والا فهي قصائد ذات مناخ يتقلب بين الرومانسية والرمزية ومنطق نثري يغلب عليه الوعي والتصنع" 1. بالمقابل ، وفي كتاب من 350 صفحة[H1] ، لا يفرد فاضل العزاوي لسركون سوى بضعة اسطر في "ملحق" عن جماعة كركوك فيقول متذكرا كيف جاءه ذات يوم : " في اواخر عام 1958 وانا جالس في المقهى في شاطرلو تقدم مني شاب أثوري وقدم نفسه لي قائلا انه يتابع كتاباتي وقصائدي مشيرا الى انه يكتب هو الاخر الشعر عارضا علي بعض قصائده المقفاة على طريقة الشعر الحر ولكن الخالية من الوزن على عادة المبتدئين"2. العينان ، عينا مهدي والعزاوي، ربما كانتا واحدة ، وهماـ او هي ـ ستكونان معنيتين في هذه المقالة، وليس سركون . ذلك ان الشاعر"الصغير"، غير العارف بالوزن، كان لا يعدو ذلك بالنسبة لتينيك العينين: انه مجرد "هامش" في سردية سادت منذ تكون الدولة العراقية. سردية تمركزت حول عروبة الدولة طاردة كل من فهم على انه نخر لها من الداخل . المقصود هنا الاقليات الأخرى والاعراق "الصغيرة " المحتقرة كاليهود والتركمان والاشوريين، والاخيرون هم قوم سركون واهله. فمن هم الاشوريون يا ترى .. وكيف ارتهن سركون بمأساتهم شعرا وسيرة؟
حكاية الاشوريين لا ترد مفردة الاشوريين في قصائد سركون بكثرة تناسب المأساة التي تشربت روح ذلك الشاعر. وذلك راجع برأينا الى ان سركون ، مثل جميع شعراء "الهامش"، لم يستطع الانعتاق من قسر المتن ، بل ظل حتى آخر لحظة من حياته اسير ذلك النسق الرهيب، يفكر في نطاقه حتى ليكاد يدافع احيانا عن وجهات نظر طارديه من السردية الكبرى، سردية "عروبة" الدولة وعروبة راسمالها الرمزي . لكن هل كان ذلك لينفع مع شاعر شديد الحساسية مثله! اقصد هل كان بامكان سركون دحض ذاته الحقيقية المتفجرة عذابا للفوز بمكان لائق في الثقافة "العربية" التي لا تعترف بتلك الذات؟ كلا، بالتأكيد، والدليل انك تستطيع بيسر الانصات لصراخ جماعي مهول ينطلق من بين كلماته. تستطيع ان ترى ، ليس بالعين المجردة، اطياف اولئك النازحين ، اهله، وهم يقتلون ببرود قبل ولادة سركون باحد عشرعاما فقط . الحال اننا لا نعرف كيف انتقلت عائلته للسكن في كوخ طيني حقير في الحبانية قبل الانتقال الى كركوك. لكننا نستطيع تخيل الطفل منصتا لاحزان ابيه المعدم ، الخروف المسيحي المثالي، وهو يؤدي اعماله الروتينية كنجار. لاحقا سيستعيد سركون صورة ذلك الاب في نفسه ، ذلك انهما ، الاب والابن ، كانا تمثلا ، رغم ارادتيهما ، صورة الخروف الاشوري المذبوح في "الديره بون" ، ولكن المختزن ، في الوقت نفسه ، روح النسر الصياد الثاوي على الهضبة ياكل فريسته بهدوء. يقول بولص في "يوميات رجل عادي "
انا في النهار رجل عادي يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي كأي خروف في القطيع لكنني في الليل نسر يعتلي الهضبة وفريستي ترتاح تحت مخالبي.
اما النسر فهو روح الاشوريين التي طردت من المتن، واما الفريسة المرتاحة تحت المخالب فهي الدولة التي اجبروا على الاندراج في سرديتها الدامية رغم انوفهم. ولكي تفهموا قرينة هذا التأويل سأذكركم بحكاية الامة المقهورة التي ينتمي لها سركون بولص. تعود حكاية الاشوريين الى عام 1915 فقد ثاروا ، وهم الساكنون في اصقاع "حكارى" التي تقع ضمن حدود تركيا شمال شرق العراق ، ضد الأتراك بتحريض من روسيا القيصرية. وعقابا على تمردهم طردهم العثمانيون من موطنهم فنزحوا الى ارومية في فارس ثم الى همدان جنوبا. وهناك عطف عليهم البريطانيون ونقولهم الى مخيم للاجئين في بعقوبة3. في العام 1920 الغى البريطانيون المخيم ونقلوا الاشوريين الى منطقة "برواري بالا " في الموصل . بعد خمس سنوات بتت عصبة الامم بمسألة حدود العراق مع تركيا فكان ان وقع كل اقليم "حكارى" داخل تركيا في حين وقعت " برواري بالا " الى الجنوب منه بسكانها الاشوريين داخل الحدود العراقية. التفاصيل تقول ايضا ان الانكليز، وجريا على عادتهم في البلدان التي يحتلونها، سارعوا الى تشكيل قوة من المجندين الاشوريين أطلقوا عليها تسمية الليفي . وضمت، هذه القوة، بضعة الاف مسلح جميعهم مجبولون على الروح القتالية ومهجوسون باقامة وطن قومي لهم ، سواء في العراق ام في موطنهم الاصلي . كانت مهمة الليفي ، على ما يبدو ، تتلخص في تحمل جزء من الاعباء الملقاة على كاهل البريطانيين. ومن ذلك قمع حركات التمرد التي يمكن ان تنشب هنا او هناك . وقد قامت تلك القوات بالفعل بالتصدي لبعض الثورات الصغيرة التي فجرها الاكراد. الامر الذي باعد بينها وبين باقي الأكراد، من جهة ، والعرب المسلمين ، من جهة اخرى ، اذ نظر لهم الجميع على انهم مرتزقة وعملاء لا يستحقون ادنى احترام . ـ هل كانت تلك النظرة غائبة عن اذهان زملاء بولص الستينيين؟ لاحقا ، عام 1933 تحديدا ، ستتفجر مشكلة الاشوريين عموما وقوات الليفي بشكل خاص بعد انضمام العراق الى عصبة الامم واعلان استقلاله اذ اعتقد هؤلاء ان الانكليز خانوا قضيتهم وتركوها معلقة حين اعترفوا بالعراق دولة مستقلة ولم يعبأوا بهم. من المؤكد ان هذا الشعور بالاستقلال كان قد قوي كثيرا بفضل الانكليز أنفسهم فعدا تاسيسهم قوات الليفي ، عمد الانكليز الى التعامل مع زعيم الاشوريين الروحي المار شمعون شيلاي الثالث والعشرين بطريقة توحي باستقلاله عن الحكومة العراقية. وهو ما شجع ذلك الزعيم على تقديم طلب الى عصبة الامم لاقامة وطن منفصل للاشوريين في العراق . واذ اهمل الطلب قدم اخر يقترح فيه توطين الاشوريين في اوربا ، فاذا فشل هذا الامر فليكن ذلك في سوريا. وبالرغم من فشل كل هذه المساعي فان قوم سركون بولص لم يتوقفوا عن ممارسة الضغط على الحكومة العراقية . ومن ذلك تقديم اقتراحاتهم الشهيرة بعد عقد مؤتمرهم شبه "القومي" الذي تزعمه المار شمعون ومنها ان يعترف بهم كملة داخل العراق وليس كجماعة دينية فقط، وان يحدد لهم موطن في اماديا وزاخو ودهوك . وان تفتح هذه الاماكن لكافة الاشوريين ثم ان ان يعاد انشاء وحدات الليفي العسكرية التي سبق ان حلت لتشكل كتيبة في الجيش العراقي . وان تضم الاراضي التي اعطيت الى تركيا سنة 1925 الى الوطن الاشوري بواسطة الحكومة العراقية . و أخيرا اضاف الاشوريون اقتراحا استفز العرب ومؤداه ان تعترف عصبة الامم بالمار شمعون على انه بطريق الجماعة الاشورية وان تدفع له اعانة سنوية. لقد رفض الملك فيصل هذه المطالب وظلت المسألة بين اخذ ورد الى ان جرى ترتيب المجزرة الشهيرة على يد الجيش وكان قائد حامية الموصل الذي أشرف على المذبحة هو الضابط الكردي بكر صدقي. ففي تموزعام 1933 عبرت جماعة من المقاتلين الاشوريين، بقيادة ضابط اشوري مثير للقلاقل يدعى ياقو بن اسماعيل، نهر دجلة الى سوريا لاسباب غير معروفة بالنسبة للحكومة العراقية ، الامر الذي اقلق السلطات فقرر الجيش منعهم من العبور واعادتهم الى قراهم بعد تجريدهم من السلاح . في الوقت نفسه طلبت الحكومة العراقية من الفرنسيين فعل الشئ نفسه وتجريد الاشوريين من الاسلحة وتسليم من عبر منهم الى الجيش العراقي . في الثلاثين من تموزعبر الاشوريون ثانية الى العراق ، بعد ان اعاد لهم الفرنسيون اسلحتهم ، ثم هاجموا مواقع للجيش في " ديره بون" . وهنا عثر الجيش على ذريعة انتظرها طويلا لتنفيذ العقاب . يقول عبد الرزاق الحسني، وهو مؤرخ قومي ـ عروبوي عرف بوصفه ناقلا أمينا لوجهات نظر الحكومات العراقية المتعاقبة اثناء العهد الملكي : " فلما تقدمت القوات العراقية المعدة لاستلام العائدين ـ الاثوريين ـ فاجأها العائدون خوضا وسباحة بنار حامية و سرعان ما اكتشف قادة الجيش العراقي بعض الربايا الخفية التي تكونت للغدر به وعلموا ان النسطوريين لم يعبروا دجلة لغرض الاستسلام بل لمباغتة الجيش والايقاع به فكان من الطبيعي ان تحصل مصادمات بين الجيش والعصاة خسر فيها الغادرون زهاء الف قتيل وخسر الجيش العراقي 28 جنديا وثلاثة ضباط عدا افراد الشرطة الذين غدر بهم العصاة" . ان الحسني الذي ينقل وجهة نظر الحكومة التي تراسها رشيد عالي الكيلاني ذو التوجهات القومية ـ العروبية ـ المتطرفة ربما نجح ، دون ان يدري ، في نقل المزاج الشعبي العراقي الذي القى بظله على احداث تلك المرحلة الخطيرة . فالعراقيون ، عموما ، نظروا الى الاشوريين على انهم جماعة ترتبط بالمحتلين وتنفذ مخططات أجنبية تحاول " نخر الدولة العراقية" عن طريق اقامة "حكومة نسطورية"، ومن ثم، النيل من الاستقلال الذي حصلت عليه الدولة العراقية حديثا. والان استميحكم عذرا ، فلكي اجعل المقالة اكثر تشويقا وطرافة سأترك باقي تفاصيل المجزرة الرهيبة واعدكم بالعودة اليها لاحقا.
سركون ـ الستينيون : كركوك ـ بغداد لا احد يستطع المجادلة في ان الذهاب الى بغداد في الخمسينيات انطلاقا من المدن الأخرى كان يشبه الذهاب الى المنبع ، الى المركز، الى ما تشاؤون تسميته. لا يتعلق الأمر بسركون بولص القادم من كركوك بل يشمل جميع الخمسينيين والستينيين، اولئك الذين وجدوا انفسهم مضطرين الى الذهاب باتجاه المتن والاندراج فيه ليحظوا بالشرعية اللازمة، ليتمدنوا، مثلا ، او ليخطوا اسماءهم "القروية" في هذا العالم "النيوني" البراق. كان الجميع مؤمنين ، دون ان يعوا ذلك ، ان ذهابهم الى المركز معناه مغادرة الهامش ونسيانه ما امكن. وكانوا غالبا ما يتحدثون عن هذا الامر بفخر. تراهم يحاولون اثبات انهم كانوا السباقين في المجيء الى بغداد والاندماج فيها وهو ما يعني خلع "اسمالهم" القديمة وحتى احراقها. حين يتحدث فاضل العزاوي ـ مثلا ـ عن الذهاب الى العاصمة يحاول ان يسرب مجدا معينا يميزه على باقي اقرانه. تراه يلح في بعض الفقرات على انه ابكر الكركوكيين انتقالا الى "المتن"، منتقصا من زميله جليل القيسي على سبيل المثال بقاءه في كركوك، متذكرا عبارات التأنيب التي كان يوجهها القيسي لزملائه المصرين على السفر: " كان يسرع قادما من كركوك الى بغداد وينصح لنا بعدم المغادرة : انظر ماذا حدث بالذين رحلوا، انهم لا يكادون يكتبون شيئا"[H2] . 4 سركون لم يكن استثناء فهو ضحية التراتبية نفسها: ان تذهب الى بغداد فمعنى ذلك " الخروج من الأحلام والسقوط في حلم آخر كبير. فبغداد هي الحلم وكنا نحلم نحن شعراء المدن النائية كمدينة كركوك بتلك الروضة المليئة بالنيون والمليئة بالملذات كما كنا نتخيلها نحن القرويون تقريبا . ذلك لأن الكركوكي بالنسبة للبغدادي في الفترة التي أتحدث عنها وهي فترة الستينات كان نوعا من القروي، وهو يمثل التفكير الريفي بالنسبة للتفكير المديني الذي كان يجسده رجل العاصمة حيث الحانات وحيث الانفتاح من الناحية الاجتماعية في الجنس والنساء والحب" 5 . ليس الجنس بالتاكيد سببا كافيا لاستماتة الستيني كي يجد مكانا له في بغداد. ان المسألة اعمق من ذلك بكثير وهي تتعلق بمركزية مطلقة وسياق صنعته الدولة القومية حيث مركز تصنيع الراسمال الرمزي للدولة يوجد في العاصمة لا في المدن الهامشية. ومن العاصمة تحديدا تنطلق الجيوش لاعادة صهر الآخرين، فيها توجد المؤسسات ومقرات الحكومة والاحزاب والمجلات والجرائد والاذاعة والتلفزيون والجامعات. أجل كانت العاصمة مركزا لصنع كل شئ يثبت انك تنتمي الى هذه "الهوية" الرمزية المتخيلة. بل كانت ، بالاحرى ، سلطة قاهرة يستحيل الفكاك منها وعليك، اذا اردت الحصول على اعتراف بانتمائك اليها، الاندراج في نسقها والتعامل معها على انها "مصهر" للهويات. اغلب الستينيين القادمين من الهوامش كانوا يعون هذا لذا فقد بدا من النادر ان يتحدثوا في النصوص وخارجها عن هوياتهم الفرعية وانحداراتهم المدينية. ان ذلك غير مسموح به بالمرة في سياق الخمسينيات والستينيات. لا الجنوبي يجرؤ على الحديث عن جنوبيته ولا التركماني يستطيع التحدث عن تركمانيته. بل انك لا تستطيع غالبا تلمس ملامح الاماكن التي كان اولئك يتحدثون عنها او يترسمون عوالمها خصوصا في القصص والمسرحيات. ان سركون بولص نفسه يبدو ضحية هذا الوهم ، وهم تحييد الهويات الفرعية وتناسيها ، ففي غضون تقييمه لرواد الحداثة الشعرية يصل الى بلند الحيدري ليقول " كان كردياً، ولكن هذا الانتماء العرقي لم يؤثر في شعره، بالرغم من أنه كان يشير إلى ذلك أحيانا"ً 6. هكذا ببساطة شديدة يغدو غياب تاثير الانتماء العرقي في النصوص مزية في سياق الخمسينيات . بمعنى ان اصحاب تلك الهويات الفرعية كانوا مجبرين على تقديم الاثبات تلو الاثبات على انهم اكثر عروبة من "العرب" انفسهم وانهم متشربون بالتراث ورموزه ولغته. بل عليهم المنافحة قدر الامكان لدرء تهمة وجود مصادرانكليزية او محلية في ثقافاتهم. جماعة كركوك ربما اشهر مثال على هذا المأزق، ففاضل العزاوي ـ مثلا ـ يجهد نفسه، في فقرات كثيرة من "الروح الحية" للتدليل على انتمائه لدائرة الثقافة العربية. انه يبدو احيانا وكانه يدرأ تهمة "خبيثة" الصقها به البعثيون واولهم سامي مهدي من ان ابناء الجماعة ، سركون بولص ومؤيد الراوي وقحطان الهرمزي وانور الغساني وفاضل العزاوي وجان دمو ويوسف الحيدري وجليل القيسي وصلاح فايق والاب يوسف سعيد ، بعيدون عن روح التراث العربي وشبه منقطعين عنه . العزاوي كان مهجوسا بهذه الاتهامات لذا فانه يزعم قراءة القران قبل دخوله المدرسة 7 . اما سامي مهدي فلم يكن ليقتنع بشئ من تلك "الادعاءات" فهو يقول "ولكنهم ـ جماعة كركوك ـ مع هذا كانوا ابناء بيئة اجتماعية وثقافية واحدة وكان لهذه البيئة خصائصها فاثرت عليهم . فكركوك مدينة تتعدد فيها القوميات وتختلط اللغات .. ولذا كان كل اديب من هؤلاء يعرف اكثر من لغة محلية . ولكنه لم يكن يتحدث بها خارج كركوك الا في حالات نادرة وبيئات خاصة. وكان لكل منهم ميل الى تعلم اللغة الانكليزية وله محاولات جادة او مدعية في الترجمة عنها في مقابل جهله الملموس في التراث العربي ونفوره منه وتعاليه عليه" 8. ليس هذا حسب بل " لقد ذهب بعضهم الى اتخاذ لقب عربي وما هو بعربي فهم بين كردي وتركماني واثوري ومنهم من يجمع نسبين في ان واحد احدهما عن ابيه والاخر عن امه" 9. الأشارة لا تحتاج الى كثير شرح ، فزاوية النظر "العروبية" هذه تتجه مباشرة الى "التجريح" في اصالة الانتماء الى العراق كما اقرت هويته منذ العشرينيات. وهو اسلوب لتسقيط الاخرين عرفته الثقافة العربية منذ تشكلها في عصر التدوين. ولئن يبدو سامي مهدي ، هنا ، امتدادا طبيعيا لاولئك الذين قاموا بمجزرة "ديره بون" على اعتباره ممثلا ثقافيا شبه رسمي للدولة القومية بطبعتها البعثية، الدولة التي كررت المجزرة في حلبجة والجنوب، فأن سركون بولص، شأنه شأن جميع المندرجين في المنظومة حيث عروبة العراق مركز كل شيء ، يبدو هو الآخر مقرا ومعترفا بهامشيته مع زملاء جماعة كركوك. فحين يستعيد سبب اطلاق التسمية عليهم يقر ان" كتاب بغداد العرب هم الذين أطلقوا علينا لقب "جماعة كركوك"، ربما ليميزوننا عن البقية، كما أرى، ويفردوننا باعتبارنا غير عرب" .10 انه ، هنا يكرر حرفيا ما يقوله سامي مهدي لكنه مع هذا ، ولكي يظل متمتعا بشرعية كونه ابنا لـ"عروبة" مقدوحا بها ، يعود بعد لحظات ليؤكد ان " اللغة العربية، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك" 11 .
عودة الى المجزرة
لحسن الحظ فأن عبد الرزاق الحسني لم يكن الوحيد الذي دون وقائع مجزرة الاثوريين في اب 1933 . ولئن دونها اعتمادا على ملفات حكومية رسمية ، فان رونالد سيمبل ستارفورد ، المفتش الاداري البريطاني المقيم في الموصل ، في تلك الايام ، كان اقرب الى الحدث لدرجة انه بدا أحيانا بوصفه شاهد عيان رأى الكثير وجاء ، بعد ذلك ، ليخبرنا . لقد دون هذا البريطاني أهم تفاصيل تلك الاحداث ، بروح متتبع شغوف ، محايد، لكنه انساني . والنتيجة انه ترك لنا مصدرا لعله الوحيد الذي يمكن الوثوق به الان. كان الكتاب بعنوان "مآساة الاشوريين " وقد ترجمه جرجيس فتح الله كاملا في موسوعته "نظرات في القومية العربية مدا وجزرا حتى عام 1970 " ان جزءا من الكتاب ، في الواقع ، يحفل بوصف مقزز ومرعب لما جرى على ايدي العسكر خلال ايام اب الرهيبة، لنقرأ ـ مثلا ـ هذه العينة: "في منطقة دهوك كان يحمل الاشوريون في لوريات على دفعات تتألف الواحدة من ثمانية او عشرة فتأخذهم الى مسافة غير بعيدة عن قراهم ويؤمرون بالخروج ليحصدوا حصدا بصليات الرشاش وفي مناسبة واحدة على الاقل مرت سيارة مصفحة ثقيلة على اجساد الموتى والمحتضرين". في اليوم التالي ، كان ثمة مجزرة أخرى أكثر بشاعة مسرحها قرية صغيرة تدعى "سميل" تقع في الطريق الى زاخو وتضم قرابة مائة منزل وعشرة بيوت عربية ويسكن هذه البيوت أكثر من سبعمائة اشوري . دخلت قوة عسكرية الى تلك القرية يرافقها القائمقام ، وأمام قلق السكان ، وقف القائمقام طالبا من الأشوريين تسليم اسلحتهم . كانت لهجته طيبة ، لكنها مخادعة ، وفحوى الخديعة تفيد ان الحكومة ستحميهم . وبالفعل سلم الرجال بنادقهم الى مخفر الشرطة الذي كان يرفرف فوقه علم المملكة. في اليوم الذي تلاه جاء المزيد من الجنود ، بدون القائمقام ، هذه المرة . ثم ما هي الا هنيهة حتى لاحت شاحنة عسكرية ومصفحات وهي تدنو من القرية ، وفي لحظة لا تصدق لفرط رعبها، فتح الجنود النارعلى السكان العزل فأردوهم في الحال . واذ هرب الاخرون الى البيوت ، صوب العسكر بنادقهم الى النوافذ ورشقوها حتى لم يتبق في القرية أشوري على قيد الحياة . كان عدد القتلى ، في تلك المجازر، يربو على الستمائة شخص حسب افادة السلطات، غير ان الاشوريين ذهبوا الى القول ان العدد تجاوز ثلاثة الاف . ليس هذا حسب فـ"نذالة" الجيش العراقي وصلت جسب شهادة الضابط البريطاني لدرجة انه "قرر بصورة باتة ابادة الاشوريين بقدر الامكان " . ويضيف "لم يكلف ضباط الاستخبارات انفسهم حتى باجراء تحقيق مع الاشوريين المقبوض عليهم فكانوا يقتلون رميا بالرصاص حال الامساك بهم " 12 بغض النظر عن كل ما قيل حولها ، يتوجب على المرء التفكير مليا في التداعيات التي أعقبتها وطبيعة المزاج الشعبي الذي فهمت في اطاره . خصوصا اننا نتحدث عن مرحلة تاريخية ذات خصوصية واضحة حيث مخيال الهوية الوطنية كان لا يزال في طور التعبئة. الحال ان المجزرة استقبلت من العراقيين ،لا سيما العرب، بطريقة يندى لها الجبين اذ عدت دفاعا مشروعا عن الدولة الوليدة وترسيخا بطريقة مشرفة لها . وكان من المنطقي ان يتحول الفريق بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني الى بطلين في نظر شرائح كثيرة بما في ذلك المثقفون الليبراليون حتى ان جماعة "الاهالي" التي طرحت نفسها كجماعة تقدمية مضادة، بشكل كامل ، للاتجاهات القومية والعرقية انضمت الى حشود المتغنين بالانتصار، شأنها في ذلك شأن شريحة عريضة من المثقفين وصناع الرأي العام من صحفيين الى شعراء الى موظفين كبار ورجال دين كان السياق الذي صنع به مثل ذلك المزاج هو السياق نفسه الذي انتج لنا ذلك الشكل من الدولة القومية القائمة على تذويب الاقليات والأعراق والطوائف في بودقة واحدة ذات هوية عربية. لكن الطريف حقا ان يتم ذلك على يدي ضابط كردي هو بكر صدقي لا غيره . بالعودة الى ادبيات تلك المرحلة يبدو من الغريب ان يتحدث الكثيرون عن ان مذبحة الاثوريين انما رتبت عن سابق قصد وتصميم لتوحيد المسلمين سنة وشيعة بعد سلسلة من التمردات اجتاحت مدن الجنوب والفرات الاوسط الشيعية في السنة ذاتها وهددت بتفكك الدولة . هذا ما يذهب اليه المؤرخ ايلي خضوري وجرجيس فتح الله في وقت ينفيه خلدون ساطع الحصري وغيره . في كل الاحوال وبغض النظرعن ان تكون المذبحة مرتبة عن سابق تصميم ام كانت بنت ساعتها فان راي الحكومة العراقية في تلك الايام ، وكما تعرضه الوثائق الرسمية ، يسدل الستار على أي جدل . المسالة كانت منتهية : الاشوريون خونة وعملاء ويريدون ممارسة دور حصان طراودة الاستعماري في العراق . لنقرأ بعض ما قاله توفيق السويدي الذي سافر الى جنيف لبحث مسالة الاثوريين في لجنة شكلتها عصبة الامم انذاك لبحث المعضلة . يقول " الاثوريون في العراق كانوا قد اتوا الى البلاد على امل ان يؤسسوا لانفسهم وطنا قوميا فيه فيعيدوا مجد اجدادهم الاشوريين في شمال العراق وتساعدهم في مهمتهم هذه الدولة البريطانية المنتدبة فيكونوا نقطة ارتكاز خطيرة في السياسة الاستعمارية لتجعل منهم نوافذ مفتوحة لمراقبة جميع الاعمال في ايران وتركيا والعراق وسوريا وهكذا يصبحون احسن ملجأ لسياسة التوجيه والافساد في الشرق الاوسط واخبث وكر للدسائس الاجنبية" 13
قصيدة النثر : ليل آخر هل كان الستينيون من امثال سامي مهدي قد تشبعوا بذلك المزاج وهم ينظرون الى اشوريي كركوك القادمين مع قصائد النثر المتمردة على التراث العربي ؟ ان ذلك شبه مؤكد والدليل هو قصيدة النثر ذاتها فقد وجدت الاخيرة نفسها شبيهة باتباع المار شمعون ، حصان طراودة، وكان عليها ، مثلهم ، تحمل الرصاص "الثقافي" والاهانات والتجريح والتهم المستلة من المنطق نفسه. ان حاملي لواء قصيدة النثر ، سواء كانوا كركوكيين ام شاميين ، لم يخرجوا عن دائرة "الشعوبية " التي تريد ضرب الثقافة والتراث العربيين والعودة الى ميراث ما قبل الاسلام . فحسب نقاشات سامي مهدي المستفيضة حول هذا الموضوع يتضح ان جماعة مجلة "شعر" ـ مثلا ـ هم مجموعة مارقة من "الشعوبيين". ودليل شعوبيتهم الموقف من اللغة العربية التي عدت ، حسب وجهة نظرهم ، عائقا يجب ازالته . المقصود ، هنا ، يوسف الخال تحديدا والقائل بضرورة تقعيد "اللغات المحكية" واتخاذها بديلا عن الفصحى في وقت ركز اودنيس على احياء المهمش والمقصي من تراث الشعوب العربية. يقول سامي مهدي في "نمط [H3] الحداثة وحداثة النمط "ان "اتهام تجمع شعر بمعاداة تراث الامة العربية او الانقطاع عنه ليس اعتباطيا ولا تعسفيا بل هو ناجم عن نظر عميق في اشعارهم وتفحص دقيق لاقوالهم " 14 . ويضيف ان "اولئك الشعراء يعتبرون التراث العربي جزءا من واقع لغوي ليس لهم خيار فيه ... اما التراث الذي يؤمن به شعراء تجمع شعر فهو تراث المراحل الوثنية والمسيحية التي مرت على المشرق العربي . بل الهلال الخصيب على وجه التحديد" 15. هذا هو جوهر النظرية الذي يتبناه المثقف القومي في صراعه ضد قصيدة النثر. ويبدو من المنطقي ، وفق هذه النظرية ، ان تتكرر التهم ذاتها ضد جماعة كركوك . اقصد الانقطاع عن التراث ، الجهل بعروض الشعر ، الذوبان في اللغات الأخرى والخ . لهذا وذاك ، لم يكن الأمر مصادفة بالتاكيد ان لا يطيق سركون بولص البقاء في السياق الثقافي العراقي ويسارع هاربا الى بيروت سيرا على الاقدام . وهناك يرتمي في احضان مجلة "شعر" وليرتبط بعلاقات وثيقة مع "الشعوبي "يوسف الخال . بل انها ليست مصادفة ايضا او من دون دلالة حين يقرر سركون ، بعد الوصول الى بيروت ، التحرر بشكل نهائي من الأوزان التي تعلمها، كما يظن سامي مهدي ، متأخرا بعض الشيء . لا بل ان تلميحات مهدي بـ"وحدة مصير" المضادين للعروبة، المنادين بالتحرر من قيود التراث ، كانت جد واضحة وهو يضع سركون في موضعه من خارطة الستينيات :" يمكن القول ان سركون بولص كان اسبق هؤلاء ـ الستينيين ـ الى كتابة القصيدة المتحررة من الاوزان تحررا كاملا فقد نشر بعض هذه القصائد في مجلة ـ العاملون في النفط ـ منذ زمن مبكر سبق به الجميع، واغلب ظننا ان سركون لم يكن يعرف الاوزان الشعرية في تلك الفترة ـ التشكيك بالانتماء للعروبة ـ ولذا كان مسوغا له ان يبدأ هذه البداية لكنه سرعان ما تعلم بعض الاوزان فاخذ يكتب قصائد موزونة الى جانب قصائده الاخرى الى ان قرر التحرر من الوزن تحررا كليا بعد سفره الى بيروت وعمله في مجلة ـ شعرـ اللبنانية في فترتها الثانية" 16. لعل ما اريد قوله، هنا، هو الاتي : المثقفون في كركوك وبيروت حلفاء استراتيجية واحدة وهم منذ بداياتهم الباكرة ينصتون الى نداء مشترك ويهربون الى اساطير متشابهة. وهم ، بسبب غربتهم في "الوسط" العروبي ـ الاسلامي يحنون لتشغيل مخيال واحد ، ويمدون جسورا مع مصادر تقع خارج الدائرة. فسركون بولص ـ مثلا ـ " بدأ بداية متواضعة كان فيها اقرب الى الشعر الرمزي وكانت قصيدته تبدو وكأنها قصيدة مترجمة وذلك لاغترابها وبعدها عن محيطه " 17 . هذا الامر كان في بداياته ـ حسب سامي مهدي ـ لكن مع توسع المدارك، بدأت الطامة الكبرى فبدا سركون اميل الستينيين الى صوغ ثلاثة ملامح في شعره " اولها بناؤها المتاثر بالشعر الحر الانكلو سكسكوني ، ثانيها صورها ومفاجآتها السوريالية ، وثالها ، غنائيتها الشفيفة التي تنضح بتاثيرات الصوفية المسيحية " 18 . قدر تعلق الأمر بالمشهدية الدرامية التي يتوفر عليها شعر بسركون ، وانتبهوا لنمط القراءة القومية الذي لا يحيد عن سكته، يبدو الانصاف الوحيد الذي يحظى به سركون هو تالق الصور الشعرية وعدم ركونها الى تلفيق الغرابة كما عند فاضل العزاوي . هذا التألق عائد ، برأي سامي مهدي ايضا وايضا ، الى اختزان بولص آلام شعبه الذي اجبر على الهجرة من اراضيه . يقول وهو بصدد تحليل قصيدة لسركون بعنوان "في تلك الايام" وفيها نقرأ لسركون " في تلك الايام ، وهم يحملون العاريات على المهفات ، كانوا يجرون العبيد بالشباك من الانهار، ليلا، وتحت غطاء من الاسرار ، عرفوا الجماعات الهاربة في لفاع الطاعة ، تحت يد لا تسقط منها كأس الرمل الا غصبا ، الا وهي مبتورة ، تطفو على المتاريس التي جف عليها الدم ومن العنف ، من الصبر الطويل كصف من العبيد ، هذه الحاجة التي تطفر بوثبة الخ" يرى سامي مهدي ان هذه القصيدة لا تحيل الى الافلام السينمائية التي شغف بها الستينيون رغم ان الامر يبدو كذلك . بل انها تحيل الى آلام جماعية يتمثلها سركون الاشوري ويوظفها شعريا ذلك ان "العارف بانتماء سركون بولص القومي وبالكيفية التي اجبر بها اجداده على الهجرة من منطقة ارومية في تركيا الى منطقة همدان في ايران ومنها الى معسكر قرب بعقوبة ، ومن هذا المعسكر الى معسكرين اخرين قريبين من الموصل . نقول ان العارف بكل هذا لا بد له من ان يذهب في تأويل هذه القصيدة والكشف في رسالتها مذهبا بعيدا ينتهي به الى الهجرات القسرية الاليمة وعندئذ سيجد ان الصور التي تسربت الى القصيدة من افلام سينمائية تعج بالملوك والجواري والقراصنة والمهربين والمغامرين وتجار العبيد لم تتسرب اعتباطا بل نتيجة تفاعلها مع صور اخرى شبيهة بها او قريبة منها، صورتسربت في الذاكرة الجماعية الاثورية " 19
ذاكرة سركون : نهار الاب "أيّها الماضي أيّها الماضي ماذا فعلتَ بحياتي؟".
يرد النداء المريرهذا ، نداء الماضي ،المنتهي بالسؤال المعذب في ثنايا قصيدة يستذكرها كاظم جهاد اثر حادثة وقعت لهما، هو وسركون ، في مقهى باريسي . ففي ذات لقاء احتد سركون على جهاد بسبب صراخ الاخير على نادل ثقيل السمع . حينئذ صاح سركون بصديقه " ما لكَ تصرخ به؟ إنّه بعُمر أبيك". 20 يقول كاظم جهاد عن سركون "مراراً عديدة توهّج سركون أمامي بالكلام على مآثر والده البسيطة والمكتنزة بالمعنى. فهو، أي أبوه، كان مثلاً يخلب ألباب جيرانه بالكلام، بصورة مسحورة وساحرة، على أحلامه التي يقول إنّه كان يتلقّى فيها زيارة السيّد المسيح ويحظى ببعض نصائحه وتوصياته. بهذه الإضافة الرّوحانيّة والرؤياويّة كان والده يستعين إذَنْ ليطوّع عناءه، عناء العامل اليوميّ المجهَد الذي تصوّره القصيدة" 21 . اما القصيدة التي يشير لها جهاد فهي "ابي في حراسة الايام " التي يتوقف عند اربعة ابيات منها لعلها الاروع التي وصف بها أباً مقهوراً من ملة مضطهدة : "كان أبي، في حراسة الأيّام يشرب فنجانَ شايهِ الأوّل قبلَ الفجر، يلفّ سيجارته الأولى بظفر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة. تحتَ نور الفجر المتدفّق من النافذة، كان حذاؤه الضّخم ينْعس مثلَ سُلحفاة زنجيّة"
الحقيقة، وبغض النظر عن استغراق كاظم جهاد في فك التعاضد المحكم بين الكناية والاستعارة وتشابكهما الشديد ، وهي مزية اثبتها سامي مهدي ايضا ، تبدو العبارات الاربع وكأنها مصداق لعذاب السؤال : ايها الماضي ايها الماضي ، ماذا فعلت بحياتي؟ بمعنى ان سركون ، وهذا ربما هو سر جمال شعره ، يبدو في اغلب قصائده وكأنه مرتهن بذلك الماضي ، اسير له ولصوره. لا يتعلق الامر فقط بابيه بولص المولود في منطقة "كاور" والساكن في كوخ حقير في الحبانية، انما يشمل اولئك الاجداد البعيدين الذين يقول احد الكتاب ان سركون ربما تعرف الى الامهم وانصت الى عذاباتهم واحلامهم ولما يزل طفلا. الزعم يعود ، هذه المرة ، الى "روبين بيث شمويل"، مؤلف اول كتاب عن سركون وكان بعنوان" سركون بولص .. حياته وادبه"، فحسب هذا المؤلف ثمة دلالات مبثوثة في بعض النصوص ربما تؤكد ان سركون كان قد سمع بالام قومه "من اجداده واقربائه وبالاخص من جدته لوالده التي كانت تقص له في صغره في الحبانية مآسي هجرة اجداده الاشوريين من تركيا عبر ايران الى ان وصلوا بعقوبة، الرحلة الماراثونية الاشورية ابتلعت 35 يوما والاف الشهداء قرباناً لوجودهم القومي والديني" 22 . ان في ذلك ، براينا ، سر اسرا ر هذا الشاعر الأشوري . فهو لا ينفك يسرب الكثير من اصداء ماضيه المختزن ، ماضي ابيه واجداده ، احلامهم ومآسيهم ، تناقضهم وتوزعهم بين الايمان بعالم المسيح الذي قد ياتي اليهم في الاحلام معزيا ومشجعا وبين الشك في وجود عدل الهي في هذه الدنيا الشريرة. دنيا بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني وسامي مهدي وصدام حسين . يقول سركون في قصيدة تشي بهذا التشتت " وصلت الرسالة قُلتَ أنك تكتب والقنابل تتساقط، تُزيلُ تاريخَ السقوف تَمحقُ وجهَ البيوت. قلت أكتبُ إليك بينما اللّه يسمحُ لهؤلاء أن يكتبوا مصيري. هذا ما يجعلني أشكُّ في أنه الله" من المؤكد انكم ترون معي اطياف المجازر في هذا التجديف. تماما مثلما ستلمحون صورة المحارب الذي يختزنه الاشوري في لاوعيه العميق في الكثيرمن القصائد . لنستعد ـ مثلا ـ "لحظة الجندي" التي لا ينفك سركون يعيشها ليلا ، في الشعر والشعر فقط :
"تلك اللحظة التي أشِكُّ فيها حَربتي الصدئة جانبيّاً، بلا هِـمّة، في جَنب المسيح هو الذي يحتقرُ إمبراطوريّتي، وروما، كلَّ روما، بنظرة أنا الجنديّ التافه الذي قد يذكرهُ التاريخ بكلمة أو كلمتين لأنهُ أهانَ النبيّ، ألبَسهُ تاجَ شوكه، سَقاهُ خَلاًّ… أنا الدودةُ الحيّة في تُفّاحة العالم"
ليس خاتمة بل وعد كان بولص ، والد سركون ، يحلم بالمسيح كما يخبرنا كاظم جهاد اعتمادا على ذاكرة الابن. وكان المسيح يحنو على الأب باذلا له اليقين والوعد بالحياة الرغيدة غدا ..متى ؟ لكن ..لماذا لم يأت المسيح الى سركون الابن فيريحه كما اراح ابيه؟ لماذا لم يبذل لروحه السلام والطمأنينة ولم يعده بشئ ؟ ان ذلك عائد براينا الى ان سركون فكر في لحظة ان يقوم هو بهذه المهمة لنفسه فيطمن مخاوفها. لذا فقد هرب ذات يوم من بيت ابيه في كركوك وذهب الى بغداد ، متن المتون ، وهناك وجد انه يمكن بالكلمات فقط صنع "متنه" المغيب ، وبالاشعار وحدها يمكن تجسيد الحلم . كان غاضبا ، ثائرا ، يكتب كما لم يفعل قتلى "الديره بون" وفلاحو "كاور" المنسيون. لندع كلماته تجسد لنا الوعد :
" وجهي مُعَلّى للسماء وما من زاويةٍ للتنَحّي شَعري مُعَفَّرٌ بأتربة الشمس، والهواءُ يدخلُ قُمرات سفينة أبعثُ بها الى البحر، بين آونةٍ وأخرى، مصنوعة من كلماتي. كلماتي المليئة بالنذائر، والنُذُر، ومفاجآت أيّامي. هي الأثقَل من تُراب قبر أبي المجهول في مسقط رأسي. لا لستُ الطريحَ الذي قد تتخيّل، على سرير انعزالاتي أبعدَ من أن تصلني صيحاتُكَ المجيدة النورُ يُملّسُ وجهي، والرؤيةُ قد تُحيلُ جدرانَ غرفتي إلى مسرح ٍورَقيّ، يُشعلُ فيه النارَ عُودُ ثقاب. ... (آه، يا أوجُهَ التواريخ الجريحة!) هذا أنا: صوتُ أجراسي الخفيّة في اللحم، أعلى من عاصفةٍ وشيكة" 24 .
1 ـ ينظر سامي مهدي ، "الموجة الصاخبة ـ شعر الستينيات في العراق" ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد الطبعة الاولى عام 1994 ص 131 2 ـ ينظر فاضل الغزاوي ، "الروح الحية ، جيل الستينات في العراق " ، الطبعة الاولى ـ دار المدى ـ دمشق عام 1997 .. ص 315 3 ـ للتوسع في تفاصيل حكاية الاشوريين ينظر جرجيس فتح الله ،"نظرات في القومية العربية مدا وجزرا " الجزء الرابع دار ئاراس للطباعة والنشر ـ اربيل 2004 وفي الجزء المذكورترجم جرجيس فتح الله النص الكامل لكتاب المقدم رونالد سيمبل ستارفورد "مأساة الاشوريين". كذلك راجع مقالة "راي لقومي عربي في احداث اب 1933 وما سبقها " لخلدون ساطع الحصري والمقالة معاد نشرها في الجزء نفسه . 4 ـ ينظر فاضل العزاوي ـ مصدر سابق ص 297 5 ـ ينظر حوار مع الشاعر سركون بولص اجراه عدنان حسين احمد ونشر في عدد من المواقع منها موقع الشاعر سركون بولص 6ـ ينظر حوار مع الشاعر سركون بولص منشور في مجلة "اللحظة الشعرية" العدد 14 سنة 2009 7 ـ ينظر ـ مثلا ـ قوله في الصفحة 286 "وقبل ذلك ، في طفولتي كنت قد قرات القرأن قبل ان ادخل المدرسة وفي المدرسة الابتدائية حفظت الكثير من الشعر العربي القديم واعدت قراءة اجزاء من الف ليلة وليلة " 8 ـ ينظر سامي مهدي ـ مصدر سابق ص 82 9 ـ المصدر نفسه ص 81 10ـ ينظر حوار مع الشاعر سركون بولص منشور في مجلة "اللحظة الشعرية" العدد 14 سنة 2009 11 ـ نفس المصدر 12 ـ ينظر جرجيس فتح الله ، مصدر سابق ـ الجزء الرابع ص 1809 13 ـ نفس المصدر ـ الجزء الخامس ص 2361 14 ـ ينظر سامي مهدي ـ افق الحداثة وحداثة النمط ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1988 ص 41 15 ـ المصدر نفسه ص 41 16 ـ ينظر سامي مهدي ـ الموجة الصاخبة ، شعر الستينات في العراق ـ ص 323 17 ـ المصدر نفسه ص 323 18 ـ المصدر نفسه 324 19 ـ المصدر نفسه ص 293 20 ـ نشرت في وقع "إيلاف" الثلاثاء، بتاريخ 18/12/ 2007 21 ـ المصدر نفسه 22ـ نشر الحوار في العديد من المواقع الألكترونية نقلا عن الاذاعة الهولندية 23ـ القصائد المثبتة في هذه الدراسة منشورة في العديد من المواقع الالكترونية نقلا عن دواوينه ومن بين هذه المواقع "الورشة" و"جهة الشعر" وغيرها اضافة الى موقع الشاعر سركون بولص .
|
|
||
|