استقبال الشاعر لنصه

 

قراءة في شعرية سركون بولص

 

صالح زامل

 

يمكن إن يعود الشاعر لنصه مثل أي قارئ، لكنه قد يكون قارئا منحازا أو مفبركا، لأنه سيكون أكثر القراء حرصا على ترميم هذا النص أو تحميله دلالات قد لا يقف عليها أي قارئ آخر، قد يكون ذلك حقا للشاعر بوصفه هنا قارئا وليس شاعرا.

وإذا كان الشاعر يمتلك هذا الحق، فهل كتب أدونيس- مثلا- نصوصا أخرى في إعادة طبع أعماله وما أجراه عليها من تعديل، بمعنى هل يستمر المؤلف في ممارسة سلطة على النصوص بعد نشرها؟ إذا كان ذلك أيضا حقه، فان النصوص التالية وقراءتها تحمل على أنها نص جديد، ويمكن إن يعود النقد إلى الأولى- أي النصوص بطبعتها الأولى- ليفحص ما حصل عليها من التغيير- حذف أو إضافة أو إعادة صياغة- وهو ما يلتفت إليه سركون بولص في قراءته لأحد نصوصه، وسنشير إليه في موضعه، فقد حرص على الإشارة أن لا تكون قراءته منحازة عندما اختار أحد نصوصه نموذجا لقراءة معينة وهي الحديث عن جيله.

قد تبدو قراءة الشاعر أي شاعر محاولة لتوجيه النص لقراءة معينة، وهي ما يقدم بها الشعراء نصوصهم أو يعودون إليها في صلب الحديث عن موضوعة ما تقارب أحد قصائدهم، وقد أكثر منها الشعراء في عصرنا وألفناه من خلال حديثهم غالبا عن تجاربهم الشعرية[i]، بل صارت

 

تتصدى له مؤسسات اقترنت بالشعر[ii]، إذن الظاهرة لصيقة بالمؤلف، لأنه يرغب لو أن نصه

 

يبقى مفتوحا للإضافة والتعديل والحذف، فضلا عن الرغبة في الكمال التي يعرض بها النص، وذلك ضرب من المحال وأمنية ظلت تراود المؤلفين أبدا، كما يقول الراغب الأصفهاني، فالنصوص بمجرد ذيوعها لا تعود للمؤلف الأول سلطة عليها، والتصرف بها هو بالتأكيد يخلق نصوصا أخرى لها قراءة ثانية.

لقد ألفنا قراءة الشاعر للشاعر في التراث العربي، وقلما نجد قراءة الشاعر لنصه نقديا، بل لخص المتنبي هذا الانشغال بموقف اللامبالي، وقد يفهم منه التعالي على القارئ ببيته المعروف:

أنام ملء جفوني عن شواردها    ويسهر الخلق جراها ويختصم

 

منهج القراءة

هذه القراءة غير محايثة وتحاول أن تقارب قراءة اسماها الناقد ناظم عودة القراءة الاستكمالية فيرى "أن الممارسة الأدبية ضرب من العمل على إنشاء مجال مضمر يقع بين النص وعالم الذوات المرتبطة به بنشاطات متعددة، نشاطات الذات المؤلفة، والذوات المضمنة مرجعيا،

 

والذات القارئة، والذوات المتخيلة للزمان والمكان والاشياء"[iii]. وهذا العود للذات المؤلفة

 

والانا الثانية للمؤلف فضلا عن فضاء الممارسة الزماني والمكاني، الذي تحاول قراءتنا استثماره، لتوآخي بالمحصلة حسب القراءة السابقة بين( النص والتاريخ).

هذه الدراسة تقدم أربع قراءات حول نص واحد، القراءة الأولى هي قراءة الشاعر وهي قراءة انعكاسية، والقراءة الثانية أسطورية (مهملة) يحيل إليها الشاعر لكنه يهملها، وهاتان القراءتان كانتا قد تخللتا شهادته عن جيل الستينات، والثالثة تتداخل معهما وهي قراءة نقد النقد، والقراءة الرابعة تعود للنص فتقرأ العتبات فيه، وهي قراءة النص الموازي، وستقارب إلى حد ما الفضاء الذي أرادت قراءة الشاعر أن تضع النص فيه، وقراءة العتبات متحررة من النصية وغلافها الخارجي، هو الفضاء حول النص، فتخلق نصا موازيا للنص الذي نسميه قصيدة، فهي تعنى بـ(العنوان والمؤلف والإهداء والعرض للمجموعة) وكلها عتبات من خارج النص، وتطل عليه لتكون لها وظائف عديدة، والأخيرتان هما القراءة النقدية التي نزعم تقديمها، ونجعلها إلى حد ما متواشجة مع قراءة الشاعر رغم اختلاف المدخلات في القراءتين قراءتي الشاعر وقراءتي الناقد.

 

القراءة الانعكاسية

يقف سركون بولص أمام قصيدته (صديق الستينات) في معرض الحديث عن تجربته وتجربة جيله الستينات، ويذكر انه كتبها في أوائل الثمانينيات، وهو يختارها نموذجا من ديوانه ( الحياة قرب الأكروبول) ويعدها نموذجا للروح الستينية، فيقول عنها "أردت فيها أن اقتنص روحا معينة كانت بالنسبة إلي  جانبا من الستينات كما عشتها... وأفضل أن آخذ هذا المدخل أيضا لا لأنني أريد أن أتحدث عن قصيدتي هذه من أجل ذاتها، بقدر ما أريد أن أتقصى ظروف كتابتها، وكيف ولدت من أية عناصر دفينة، لم أكن واعيا بها حتى المباشرة بالكتابة. فما يهمني هنا هو الروابط الخفية التي كشفت عنها عملية الكتابة بالذات بين عمل الذاكرة والواقع من جهة، وبين طبيعة التجربة الستينية ببعدها الإنساني ( وهي موضوع القصيدة) وصيرورتها الشعرية المعقدة من جهة أخرى"[iv].

 

والقراءة هنا لها ملامح:

1-     انه يحاول التخلص من دوافع معينة في أخذه لهذا النص.

2-     إن ما سيتحدث عنه لم يكن بالضرورة واعيا له لحظة الكتابة وهو بالمحصلة قارئ هنا ويقرأ نصا مكتوبا.

3-     إن النص يرصد روحا ويحاكم النص على انه واقعة لها.

والوقائعية هي انشغال قراءة سركون بولص في نصه مدار الدراسة، وهو ما يلتفت له بوقت مبكر، لكنها هنا تبدو مجردة من دعاوى الآيديولوجيا الطافحة، في ملاحظات له على مجموعة من النصوص المنشورة أواخر الستينات (1967) ويهتم فيها بمشكلة التوصيل، حتى يفهم منها أن غاية الشعر أن يصل إلى اكبر مساحة من المتلقين، لذا يقف أمام ازدواج اللغة بين الشعر والحياة، فقد تكون المضامين شعبوية لكن التعبير عنها يتلكأ، فيقول" الشعر الذي يكتب لا يقرأه غير الشعراء أنفسهم أو المثقفين والمتعلمين أنفسهم، وهذه مصيبة مخيفة ولا ريب، فلغة المثقف هي غير لغة المستخدم أو العامل، ولغة خاصة لاستعمالات برجوازية وللكتابة فقط وضمن نطاق ضيق"[v].

 

أما الحل فيرى في أنه "خليق بالشعر إذن أن يخلق وسائل جديدة للتفاهم مع الآخرين حتى لو كانت شاذة وخارجة على قوانين الشعر الرجعي الصادرة عن عقليات بالية ومثقوبة لا تستوعب رشح هذا العصر المتألق"[vi].

 

تبدو الفقرتان السابقتان تشتغلان غير بعيد عن منطقة الآيديولوجيا، وهذه الرؤية وان كانت منشورة في السبعينات (1970) إلا أنها لا تفترق كثيرا عن شهادته في مجلة فراديس المنشورة في التسعينات 1992، سوى أن الأخيرة مهذبة كما قلنا من بهرج الآيديولوجيا.

لذا حرصت الشهادة وهي تحلل قصيدة (صديق الستينات) أن تقارن مرجعيات القصيدة في الواقعة، وتحاول أن تجد مقابلا لكل شخص من الشخوص فضلا عن الأمكنة، فتلك وان كانت ميزة للسرديات فهي قرينة أيضا بقصيدة النثر التي يغلب عليها السرد، لكن واقعيتها إنما تكون في القدرة على الإقناع أو إحساس المطابقة، وهي جزء أيضا من الإغراء الذي تقدمه أفلام السينما عندما تفتتح عرضها أو تختمه بالإشارة إلى أن الأحداث حقيقية، ومعروف ولع هذا الجيل بالسينما[vii].

 

إن قصيدة (صديق الستينات) تجسد شخوصا وفضاء حقيقيا توزعه قراءة الشاعر الانعكاسية كالآتي:

صديق الستينات/

-      هو عبد الستار الدليمي

-        شاعر

-        وسجين سياسي

-      ويقيم حاليا بحسب الشهادة في براغ، يقول (أنا اصف حالته بالحرف).

الممرضة الليلية سعاد/ فقد كانت شخصية حقيقية، وكانت تعطف على الشعراء والمثقفين، وكانت مثقفة واذكر أنها كانت تقرأ (رواية شتاينبك عناقيد الغضب).

المقهى/ هو (مقهى إبراهيم أو المعقدين أو العظماء) الذي كان بالفعل يواجه ساقية للوحول.

الأحداث/ هي الأخرى منتشلة بحسب تعبيره من صلب واقع الستينات.

-        ( رجال دفنوا وهم أحياء) تشير إلى ما حدث في منطقة أم الطبول ببغداد زمن عارف والحرس القومي.

-      ( شعارات ترش في الليل بمنفاخ دراجة، على الجدران) مأخوذة من تجربتي الشخصية في كركوك، وهي مدينة دراجات أكثرها ماركة رالي المجهزة بمنفاخ ضخم عادة يكفي إذا امتلأ بالدهان الأحمر لتغطية عدة جدران بالكتابة.

ثم يختتم شهادته فيتحدث عن حركتين يكتنفهما النص:

" القصيدة تقع في حركتين الأولى تبدأ من لحظة رؤيتي له ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة الممرضة، وهو ما يجعل شريط الذاكرة ينسرح ملقيا بي (أو الراوي) في الماضي، ماضي ذلك اليوم في المقهى، وماضيه هو عندما يروي قصة خروجه من السجن. والحركة الثانية تلتقطه في الحاضر وهو مازال ينزل الدرج عندما يشعل سيجارة ويسحب النفس الأول، وهي حركة مصبوبة كلها في جملة واحدة لها إيقاع نزولي بطيء يلم في طريقه الوقائع المشهدية الصغيرة كإيقاع نزول الدرج، ثم يتسارع في النهاية عندما يتجلى معنى بطولته الحقيقي، بعد أن مارس الحب واستعاد بذلك نفسه وعالمه قبل لحظات، وكان علي أن التقط تلك اللحظة لتسكب فيها القصيدة على شكل حركة منذ رؤيتي له وهو ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة سعاد إلى حين وصوله إلى الأرض، أي اقل من دقيقة هكذا تكون اللحظة مشحونة بحمولة حياة كاملة تنفتح حتى مداها الأخير، لتحتضن في عناقها المدينة بنهرها ومنائرها والشمس التي تغرب على العالم"[viii].

 

تستمر قراءة الشاعر في تجسيد مشهد حسي حكائي متح منه الشاعر في صياغة نصه، والخطاب في النص يقوم على خطاب مرجعي فالتقرير واستحضار الحدث هما سماته الحكائية.

 

القراءة الأسطورية (المهملة)

يقدم سركون بولص إغراء بأن القصيدة يمكن أن تُحمل على بعد أسطوري لكنه تهرّب من هذا التأويل، وله أسبابه وأظن لإيمانه بالقراءة الانعكاسية وحرصه على أن تجد القصيدة فضاء التوصيل الذي تتوجه له، فيقول" وكم من الوشائج، رمزية وأسطورية محتملة خطرت لي أثناء كتابة القصيدة دون أن انوه بها في النص بالضرورة عبر قراءاتي المتكررة لها، ومحاولتي استيعاب أبعادها ومعناها النهائي- بين الممرضة والشاعر الجريح المحطم الذي يذهب إليها ليبعث ثانية من سراديب التعذيب جحيم الزنازن السفلية إلى العالم، هذا العالم الذي سيواجهه متحديا مرة أخرى ووجهه مرفوع بحدة إلى درجة أن يبدو في نهاية القصيدة (كأي فاتح عاد منصورا من معاركه) رغم أني لم انوه بأي ملمح أسطوري مثل هذا في القصيدة كما هي... اعترف أنني كدت لا أقاوم ضعفي أمام إغراء أسطورة مذهلة كأسطورة دموزي ونزول إينانا إلى العالم السفلي، لكي تتوسط من اجله لدى آلهته الشريرة التي عرفت بالمكر والخداع..."[ix].

 

بل يرى أن غياب هذه الإشارة له مقاصده أن يكون النص في صلب الواقعية اليومية، من تناول الواقعة إلى لغة النص التي يحرص أن يتناولها من اليومي أيضا، فيقول:

" وقصدت أن تكون لغة القصيدة عارية من أي زخرف، تمثل فقر الكلام البشري العادي ذلك إن أية نبرة غنائية أو ملحمية أخرى كانت ستبدو دخيلة على السياق، وتحاشيت ذلك لأنني في هذه القصيدة بالذات كنت أريد أن أقول شيئا من فرط إنسانيته انه تجرد من كل ما يمت إلى الأدب واللهجة الشعرية المقبولة رسميا على أنها شعرية بصلة، مما يجعل صوت الراوي في القصيدة صوت إنسان حقيقي أكثر منه صوتا مشذبا وبليغا لشاعر، وهذه كانت تحيتي الباطنية المتواضعة لصديق الستينات أن أراه كإنسان أولا وشاعر ثانيا"[x].

 

هل يحتمل النص هذه القراءة التي تواشجه بأسطورة البعث، فإذا أخذنا إغراء الشاعر، فأن استهلال النص تهيمن عليه مفردة النزول( رأيته ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة سعاد) التي ستكرر في المقطع الأخير، ولكن ليس لغرفة سعاد ولكن لامتدادها الشارع والسيكارة التي سحب النفس منها سيجعله في ارتفاع للرأس مهيب. إذن تقدم (رأيته ينزل) حمولة الاقتران أولا بالنزول إلى العالم السفلي، وهذا التأويل يغري بتأمل (رأى) أيضا حيث تحيل إلى ابتداء ملحمة كلكامش (هو الذي رأى). مع اختلاف القصتين في التفاصيل لكن كل منهما من أساطير رحلة بحث.

لقد أهمل سركون بولص هذه القراءة وسوغ إهماله لها، ونحن نحاول قراءة النص وفق المرجعيات الأسطورية، أسطورة نزول تموز وغيبته في العالم السفلي وبعثه، وهي من أساطير البحث، وإن لأسطورة البحث ثلاث مراحل أساسية كما يقول كامبيل وهي (الخروج، والعبور، والعودة)، فيغامر البطل بالخروج من عالم الحياة المألوفة إلى منطقة دهشة غيبية، وهناك تجري ملاقاة قوى خرافية، كما يتحقق الفوز بانتصار حاسم، ويعود البطل من هذه المغامرة الحافلة بالأسرار بسلطة منح العطايا لأخوته البشر.[xi]

 

وفي النص نقرأ هذه المراحل فيكون:

الخروج؛ يخرج البطل (صديق الستينات) من الدنيوي إلى العالم السفلي (السجن) وهي العبور؛ ومن هناك يحلم بالثأر لرجولته:

وعن أحلامه بالثار

في زنزانته، بامرأة لإثبات رجولته مهما كانت الوسيلة ثم أراني

في ظهره آثارا خلفتها أسلاك الكهرباء

رغم أن عنقه المهتزة من مركز في النقرة كلما

توقف عن الحديث، تكفي

وتكفي إيماءاته اللاإرادية الناتجة من ضربات جلاد

ثم العودة؛ إلى الدنيوي (سعاد) تكون العودة بهذه الجائزة وهو الثأر للرجولة، بالنزول إلى غرفة سعاد (الممرضة الليلية هنا في القصيدة هي روح لبغداد الأخت والأم والعاهرة بنفس الوقت- كما يذكر الشاعر):

رأيته ينزل الدرج المؤدي، غير آبه

بشظايا الزجاج ولا بالدمية المكسورة أو الملاط المتهافت على ياقته

من الجدار، يده في جيبه، وعلى وجهه المرفوع بحدة

لسحب النفس الأول من سيجارة أولى

يتلقى الشمس الغائصة بين منارتين وراء دجلة

كأي فاتح عاد منصورا من معاركه، متدثرا

بجلود الذئاب.

هذه القراءة يمكن أن نسقطها على نص آخر بعنوان (حياة الميكانيك عبد الهادي من باب الشيخ)، (رجل من الستينات)، فليس من بعد بينهما مادام الشاعر قد قدم الإنساني على الشاعر لصديق الستينات.

فالميكانيك عبد الهادي يخرج من الحياة اليومية، الأحلام والسكر أمام البندقية إلى أن يكون في الصحو يفكر بدوريات الحرس الليلي... وعلى النهر مظاهرة ليجد بعدها نفسه مكسور الذراع، هنا العبور بالغيبة التي يطل بعدها ليجد المرأة واقفة مفتوحة الذراعين ليهوى إليها حيث تكتمل الرحلة بهذه العودة، فتنطوي بعد ذلك القصيدة على وحدات رحلة البحث.

فتكون الرحلة من اليومي الإنساني إلى السجن ثم العودة المكللة بأحضان المرأة في النصين، ولا تصبح الأسطورة خصيصة بالنص الأول.

إن قراءة النصين من خلال مرجعية أسطورية يعني انه من الممكن أن نسقطها على الستينات بتوصيفها الزماني، فهي رحلة بحث لها تلك السمات الأسطورية في بعديها الاجتماعي والسياسي، فهي الخروج من الثورة إلى سجون وموت الستينات (1963 وما بعدها) لتكون العودة بالهجرة والمنافي العديدة- التي تمنح خلاصا أول الأمر- لكنها بالتأكيد مقطوعة عن العودة الحقيقية.

 

استقبال الناقد

نحاول أن نعرج على القضايا التي قرأها سركون بولص، ولكن من وجهة أخرى سنسميها استقبال الناقد، ناقد قدمت له إغراءات أو مفاتيح من قراءة الشاعر، وهي بالمحصلة تحرص أن تعطي توجيها للنص بوجهة معينة.

افتتاح النص

يفتتح نص (صديق الستينات) بصفحة بياض تسبقه ويتوسطها ثلاثة أسطر للشاعر الأمريكي وليم بليك هي:

           لكل من في الصحراء طافوا

           تمنح الأشجار حلاوة النشوة

           حتى يصار إلى بناء أكثر من مدينة

 

تمثل السطور رحلة التحول إلى الحداثة، وتحيل السطور إلى بنية اسميها التراكم وهي أن يفضي الطواف في الصحراء إلى التعرف على حلاوة النشوة في مكان آخر، ليفضي هذا المكان إلى فضاء آخر هو المدينة والتحول يكون من جدب إلى حضارة، وبينهما خضرة ووفرة، ومن البسيط إلى المعقد، ومن الفراغ إلى الامتلاء، لكنه عود على بدء، فتصحر المدينة الحديثة بعمارتها وتقاليدها الاسمنتية لا يختلف عن الصحراء بالمحصلة، إن تراكم المعرفة الذي تقدمه المدينة أيضا لم يقد إلا إلى القلق، عالم ضاج بالحياة لكنه يضيق بالإنسان.

وهو التمهيد الذي أراده الشاعر للنص، وهو موائم جدا لأجواء نصه ثم للظاهرة التي يرصد روحها بحسب تعبيره، فالستينات في الثقافة العراقية، مثل بناء أكثر من مدينة، اخرج النص من منطقة البساطة إلى التعقيد، ويمثل صورة من صور الاحتجاج المشبع بالايديولوجيا يتمرد عليها بذات روح الآيديولوجيا.

النص في سياق المجموعة

وسياق المجموعة أيضا في نص آخر يحتفي بالستينات (حياة الميكانيك عبد الهادي من باب الشيخ) (رجل من الستينات) هذا العنوان الثاني للنص، فإذا كان صديق الستينات شاعرا يشترك مع الشاعر/ القارئ بهم ثقافي وإنساني للنخبة، فان رجل الستينات رجل من العامة وهمومه غير نخبوية. رغم اختلاف مرجعيات الشخصيتين غير أن منطقة لقاء الإنساني في النصين واحدة فالمشتركات كثيرة- السجن/ الجنس/ العنف.

يقدم النصان مشتركا إنسانيا هو طهرانية عالية للأرواح في مقابل فضاء مادي وضيع، ومثله سمو الإنساني والوضاعة للجسد، لذا تشابه (الشاعر، والبغي، والميكانيك عبد الهادي) الأول مرهف إنساني. والثاني عطوف رؤوم. والثالث إنسان بسيط حالم ببندقية. أما المادي فهو جسد الشاعر تحت تصرف الجلاد وما تتركه آثار الجلاد، وجسد البغي متاح للمفلسين، والميكانيك بندقية وعبث قرين بانقطاع للسكر، وجسد تحت تصرف الجلاد أيضا، والفضاء الذي يحيط بالشخوص متشابه بالنتانة هناك المقهى المطلة على ساقية من الوحول، والنص الثاني مكان العمل تفوح من رائحة الزيوت الميتة... وبالبول أيضا من زمن خيول العثمانيين.

الإهداء

إهداء المجموعة هو الآخر ينتمي لفضاء الاشتغال الذي أشرنا إليه، فيكون لصديق من المهاجرين أيضا؛ هو (كاظم جهاد) فيخاطبه (في قلب الأكروبول، بالضرورة) والأكروبول عدا الحصن الذي يقع في بلاد اليونان، هو الحياة المقيمة قريبا منه كما يحيل عنوان المجموعة (الحياة قرب الأكروبول) وهو استعادة للتاريخ بتسويره الزماني البعيد والمكاني الحاضر بذاكرة تستعيد الزمان أيضا. وعنوان المجموعة يحاول اختزالها وإن كان مستلا من أحد عناوين المجموعة، وهذا النص(الحياة قرب الاكروبول) يكون فيه الزمان مهربا للحضور في زمان مكاني، لكن بقي النظر من زاوية تنظر لمرتفع لذا تراه بتبجيل وإهاب يقول فيه:

عندما رفض الوقت طيلة مساء كامل أن يكون منقذي

..

سائرا بين أزقة أثينا الحجرية بلا غاية محددة

..

تحت الاكروبول دون أن ارتقي الأدراج نحو الأعمدة

الرخامية البيضاء الخربة حيث تعيش آلة استنساخ الأطياف

الأثرية لاجتذاب السواح

اقتباس من ريتكه

سياق المجموعة يدلنا على احتفاء بالزمان في مفتتحها وبعد صفحة الإهداء حيث توسطت عبارة ثيودور ريتكه (في أزمنة الظلام تبدأ العين بالرؤية) حمولة العبارة تدفع إلى زمن المحنة، وفضاء العبارة مفتوح، فهي حكمية، وهو ملائم إلى حد بعيد للستينات التي ولدت في تفردها كـ(هاجس قوي) في زمن البطش والقسوة والإلغاء، فكانت رؤية كما أرادها أفرادها تتجاوز واقعتها[xii]، فالبطش والدكتاتوريات قد تدفع أحيانا بدون قصد إلى آداب عظيمة،

 

فالكثير من أعمال بريخت وريماك وليدة الموقف من الفكرة النازية ومنافيها فضلا عن أمثلة كثيرة.

عناوين قصائد المجموعة يحيل هو الآخر إلى انشغال بالزمان إما بإحالة مباشرة بلفظة تدل على الزمان أو بلفظة تحيل من خلال السياق إلى الزمان.

قراءات من غلاف المجموعة

يمكن الإفادة من الاقتباسات في ظهر المجموعة التي منها نص صديق الستينات، فنصوص الاقتباسات، كما سنلاحظ، يفهم منها هيمنة الإنساني، نأخذ من اقتباس سعدي يوسف يقول "مدخله المد الشعري الأمريكي. مجد النص المتصل. أطروحة تظاهرة الطلبة، حيث القصيدة والقيثار والساحة العامة". ومن جاد الحاج قول سركون بولص ليوسف الخال" أنا هنا، هربت من سجن بلادي ومن شجونها وما معي سوى هذا القلم". ويرصد الاقتباسان فضلا عن الإنساني الصلة بالواقعة اليومية، وهو ما لازم الكثير من نصوص سركون بولص، فقد ظل أمينا لرؤاه دائما في مجاميعه الأخرى، وذلك ما أكدناه في رصدنا لقراءة نصه التي وقفنا عندها وهي منشورة سنة 1992، وقارناه برؤيته للشعر العراقي المنشورة 1970.

إذا كان لابد من خلاصة لدراستنا فإننا حاولنا قراءة الستينات من خلال قراءة نص كان إغراء الوقوف عنده هو اختيار الشاعر له، وقد وجدنا أن سياق المجموعة التي ينضم إليها النص، من خلال قراءة العتبات، تهيمن عليه رؤية النص الذي وقفنا عنده، ولم تكن قراءتنا بريئة أو مجردة من إغراء التوجيه للنص الذي وضعه فيه الشاعر، لذا كانت المقاربة له واعية، وهو جزء من القراءة التي استعرنا بعض آلياتها، وهي القراءة الاستكمالية.

 

الملحق

قصيدة (صديق الستينات)

رأيته ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة "سعاد"

الممرضة التي تعطف على الشعراء المفلسين في مقهاهم المتواضع

قريبا

من غرفتها، حيث يجلسون قبالة ساقية

من الوحول تجري وسط الزقاق.

الممرضة الليلية ذات الحذاء الابيض الحزين

البغي المتساهلة في النهار، "سعاد"

وحياني شارد الذهن ومن بعيد، بايماءة باهتة

هو الذي قضى معظم النهار يحاصرني

على اريكة المقهى لاسلفه نصف دينار، متحسسا بقجة

صغيرة جاء بها قبل ساعات من السجن

كلما روى قصة اعتقاله الأخير في الليل، وروى

عن مطابع تهرب بين السراديب، رجال دفنوا وهم احياء

شعارات ترش في الليل، بمنفاخ دراجة، على الجدران وعن

أحلامه بالثار

في زنزانته، بامرأة لإثبات رجولته مهما كانت الوسيلة ثم أراني

في ظهره اثارا خلفتها أسلاك الكهرباء

رغم ان عنقه المهتزة من مركز في النقرة كلما

توقف عن الحديث، تكفي

وتكفي إيماءاته اللاإرادية الناتجة من ضربات جلاد

رايته ينزل الدرج المؤدي، غير ابه

بشظايا الزجاج ولا بالدمية المكسورة أو الملاط المتهافت على ياقته

من الجدار، يده في جيبه، وعلى وجهه المرفوع بحدة

لسحب النفس الأول من سيجارة أولى

يتلقى الشمس الغائصة بين منارتين وراء دجلة

كاي فاتح عاد منصورا من معاركه، متدثرا

بجلود الذئاب.


 

[1] يمكن الإشارة لنماذج نازك الملائكة في مقدمتها لـ(شظايا ورماد)، والبياتي في( تجربتي الشعرية) وهناك عدد خاص لشهادات شعراء ما بعد الستينات عن تجاربهم  في مجلة الكلمة العدد5 أيلول 1974.

[2] هناك نادي الشعر باتحاد الأدباء وبيت الشعر العراقي.

[3]  ناظم عودة: نقص الصورة، تاويل بلاغة الموت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت ط1 2003  1/15

[4]  سركون بولص: الهاجس الاقوى، خواطر حول الستينات، مجلة فراديس، العدد 4/ 5 آب 1992

[5]  سركون بولص: ملاحظات عامة على الشعر وخمسة نماذج، مجلة الكلمة، العدد 4 آذار 1970.

[6]  المصدر السابق

[7]  لا يقتصر هذا على السينما، ولكن الكثير من النصوص الروائية تحرص أيضا أن تذكر أن الوقائع والشخصيات حقيقية. وإغراء المطابقة يفسر إقبال الكثير من الناس إلى قراءة المذكرات، ومتابعة قصص الفضائح، بل وقراءة التاريخ فالأخير بحسب أرسطو يسرد أحداثا حقيقية وقعت بالفعل، فضلا عما تراه السرديات الحديثة أن التاريخ مثل كل السرود يخضع للفبركة.

[8]  سركون بولص: الهاجس الاقوى

[9]  المصدر السابق

[10]  سركون بولص: الهاجس الأقوى

[11]  الأسطورة والحداثة/ بول ديكسون- ترجمة خليل كلفت، المجلس الأعلى للثقافة، مصر ص37.

 

[12]  لم نفصل في هذا البعد وهو موقع الستينات في الثقافة العراقية وفضاء الستينات عالميا ومرجعياتها، ويمكن العود إلى ملف الستينيين في مجلة فراديس العدد4/5 ، والموجة الصاخبة لسامي مهدي، والروح الحية لفاضل العزاوي، وتهافت الستينيين لفوزي كريم، وقد عمدت الدراستان الأولى والثانية على التركيز على الفضاء السياسي فضلا عن الثقافي،  لكنها كانت كتابة ضد، انظر قراءتنا لهما في (قراءة الآخر جيل الستينات في روايتين)، أما الثالثة فقد ركزت على مرجعيات الجيل وموقعهما من الثقافة العالمية، فضلا عن قراءة روايتي سامي مهدي وفاضل العزاوي عن الجيل.

 

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 

غريْهَم هولدرنَس : قراءةٌ لقصيدة فيليب لاركن

عبد الكريم كاصد : تحولات البياتي

طالب عبد العزيز : أغلال الوجود الحر

عبد الخالق كيطان : خماسية الصباح

خزعل الماجدي :  آخر صفحات الشعر الرافديني

نصير فليح : 3 قصائد

 

*


ملف: سركون بولص

 

محمد غازي الأخرس : نهار سركون بولص

 علـي جعفـر العـلاق :  شـعـرية الطـوفــان  

حسن ناظم : مآل ُسركون بولص

فوزي كريم :  مشروع نص نقدي

سركون : قصائد مبكرة

باسم فرات : حوارات عابرة للزمان

يوسف الناصر: خطوط وألوان لاحتضان الشاعر

رحمن النجار: معبد سركون بولص

صالح زامل : قراءة في شعرية سركون بولص

 

*

 

حصاد المحرر: الشعر


أبجدية الرمل

عروس الثلج

 

حصاد المحرر: الموسيقى
 

عزلة الكورال

مقتطفات كافكا

 

حصاد المحرر: الفن

صادق طعمة : من العباسية إلى سومر

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009