معبد سركون بولص

رحمن النجار

"أكتبُ كلمةً واحدةً في دفتري، وأغلقه. حركة تكفي لكي تتغَيَّر الدنيا"

               سركون بولص

مدخل محتمل لفردانية سركون بولص الشعرية

في "حانة الكلب" التي هي حانة العالم الرذيل، يعطينا سركون بعداً جديداً حتى اللحظة عن رذالة العالم." فم رجل نائم يرصّعه الظمأ يحلم أن فرقة مدربة من الأعداء تهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل في قصبته الهوائية". هذا العالم المدرب لا يكتفي بالنيل منك وأنت صاحٍ، بل يطادرك حتى في حلمك وأنت ظمآن، يطادرك في آخر قلاعك. هذا العالم المدرب  للنيل منك والإطاحة بك، عالم قديم وليس عجوزاً، قِدَمُه بمثل قِدَمِ اللغة، لكن الشيء الوحيد الذي بإمكانه الإطاحة بشراك هذا العالم المدرّب للنيل منا في الصحو وفي النوم، هو الخيال. بالخيال وحده كطريق خلفي، يكون بمقدورنا الدخول لكلّ أزمنة الشعر. في حانة الكلب نراه باكراً يسمي كلّ الشعر بـ"القضية"، بهذا يحول الكتابة والشعر إلى نوع من التوليف أولاً من خلال الشُّغل على اللغة، وهي من جهة أخرى قضية؛ بمعنى أن ما يؤلفه لا ينفصل عن كلّ الشعريات وعبر العصور، إنما يتصل ويستمر به لأنه يمثل ذات القضية التي ستبقى. إن تسمية سركون للشعر بـ"القضية" تعني التأسيس لفردية الشاعر في مقارعة شراك هذا العالم الشرس من خلال فردية الكائن وعزلته. فردية كهذه وَسَمتْ وتَسِمُ جهد العارف الحكيم المعزول. ثمة فرديات كبيرة ومن عزلاتها يأتينا الدرس، وأزعم أن إنكيدو إحدى هذه الفرديات الأولى في التاريخ، فهو قد جاء إلى عزلته من امتلاء حادّ، كذلك الملك البابلي نبوئيد الذي هام على وجهه في الصحراء ويقول الغنوصيون إنه كان أباهم الروحي، المسيح أيضاً، وغاندي، والقديس جيروم،  وكونفوشيوس، ولا ننسى عزلة وفردانية محمود البريكان. هنا لا أذكر كلّ هذه الفرديات على أساس أنها متساوية في الحجم، الحجم لا يهمّ. ثمة نسغ دقيق يجمع الروح القديم، مثلما الشعريات الكبيرة والصغيرة كلها تسهم في بناء تضاريس الخيال.

حين تثلج سماء الشاعر في آب

"ما يخبزه المعبد طوال الليل، يلتهمه العباد في الصباح الباكر". هذا ماورد في أسطورة إلهة العشق إنانا. الشاعر معبد ليليّ وهذا هو حال سركون، فيه سهر العابد وخبز اللغة يقدم حاراً على طاولة صباح العالم. عيشه هو هذا الاستقطاع المرير من الموت مثلما يقول أوجين مونتاله "عيشي استقطاع من الموت، أن تتلاشى، تلك فرصة الفرص". لذلك فإن سركون كان أكثرنا معرفة بالعيش عبر العزلات وطقس القصيدة والموت.

... خلال عيشه، عند خرس عالمنا هذا ورضاه الخدر، يتطلعُ بين الحين والآخر،نحو" مدخل محتمل لقصيدة "، يرى زوايا عيشنا، " علّ حرب الأشباح أفضت إلى كيانات بملامح "، يواصلُ مجانبته لتلك التبويبات مثل أضابير دائرة نفوس لأجيال الشعر والشعراء، لأن الشعر، وعلى ضوء ما تراه قصيدته، أقرب ما يكون عدّاء بريد عبر أزمنة. واللغة ابتدأت مغامرتها الوحيدة شعراً، إشارات خام توازي روحاً سريّة، حنين نحو كسل ٍ بدائي، سكون غامض بحدٍ خطره. " أن تلامس الخطر بحدّ ريشة". الشاعر الآن و الشاعر الأقدم، على ضوء ما تراه قصيدة سركون، ما زالا يعالجان كيفية الإمساك باللغة وهي في طريق عودتها نحو الينابيع كجرار عطشى.

أحدهم يسلم صحافة روحه للآخر، قائلاً:

- خذ الوثيقة، سارع، فالأمر متروك لك الآن، قد فعلت ما بوسعي،عبر " طاقة الأنين "، لتدمير زهرة الفيزياء والكيمياء في الجسد ولم أبق لك سوى طاقة زهرة الروح- السري- في تماه تام مع الوقت والرب، خذ الوثيقة، خذ الروح. الوثيقة والروح إنما هما، " الأول والتالي "، عبر الأزمنة، الأبقى لمن يبحث عنهما. الشاعر الآن والشاعر الأكثر قدماً، على ضوء ما تراه قصيدة سركون، ما زالا يؤكدان: - أن تكتب أن تهاجم - وأنت في حالة صحو- لغة ثملة. هي ذات الكينونة في حياة الغابة - الحيوان والإنسان، من يهاجم الآخر، من اليقظ المهاجم ومن هي الطريدة الثملة من جراء الهرب بين أهوال الدروب؟

"الله على لسانه حليب رائب"، هذا هو الرب لدى سركون وهو الوقت، طفل لا يشيخ. حيث الأديان هي مؤانسة، عندما انتقلت الحياة بالكائن من عصور الوحشية نحو أولى القرى.

الشعر لدى سركون بولص هو وصول، عبور، كشف بضوء الفانوس عن مغامرة عقل بدائي لصنع فأس لغوية، يقشط بها ما ترسب من تغضنات على أصلية التمثال الأول لوجودنا. ثمة ذاكرة مريرة. والكشف بضوء الفانوس لهو أجدى وأشد سطوعاً من غروب سماوي. الشعر لدى سركون، هو العوده نحو مملكة الأشياء المفقودة المتروكة الضالة المحببة. الشعر على ضوء ما تراه قصيدته، كشف و تحرر من السلطة بكل تجلياتها في اللحظة التاريخية التي هي ذاتها لحظة العيش، لأنه ما من توارثات جينية، مذهبية، قبلية أو مهنية في الشعر. ثمة توارثات في الانتماء لهذا السعي في الوصول إلى المعنى الأعمق، إلى الإشاره، إلى ماهية اللحظة التي توترت بين اليد المفكرة الخالقه وطين الخلق عبر الأزمنه، ذلك لأن في الأصل ما من ماضٍ لقصيدة محتملة.

اللحظة الشعرية تتفتح على الدوام مثل برعم بري في غابة قصيّة، بلا رعاية، بعيداً عن أيّ عين، لها هذا التماس الشديد مع الأبد الآبد الممتلئ بالحيوات الأرضية عبر الأزمنة. تفتح البرعم أو اللحظة الشعرية إنما حادثة عشق بري، تمتص الطبيعة الخام نحو قلبها بلا علوم، بل بإشارات لأن لها تلك السلالة القوية الهائمة من الماضي. الشاعر يحسدُ قوة الأشياء الفطرية غير الواعية، لأنها تتحقق في الخارج، في الطبيعة دونما تردد، دونما وعي. بإمكان السماء أن تثلج في آب، وتبدو أكثر شعرية.

" في الماضي كنتُ راع، يفترسُ أرخبيلاً ممزقاً من الأرواح"

لكن الماضي بالنسبة للشاعر أشياء قد تحققت. لكنها ليست فطرية، ذلك لأن للماضي البشري فحوى إنسانياً. بهذا، فإن عالم الشاعر غير مؤكد، متغير مثل خربشات ليلية. اللحظة الشعرية هي حرية الشاعر التي من خلالها يرى العالم بحالة انخطاف وتغير، عالم بحالة سحرية قابلة للتشكيل مثل طين الخلق. عين الشاعر الفطرية، لحظته الشعرية توازي طبيعة تتحقق على الدوام. و هنا، بإمكان سماء الشاعر أن تثلج في آب. سماء قصيدة سركون كانت حرة في انفعالاتها عبر الفصول و عبر الأزمنه، عبر عيشه وانقطاعه، ذلك لأن لها سلالة قوية هائمة من الماضي والوعي العميق به عبر قاموسه شبه البدئي المشذب، شغفه وبحثه في الأزمنة.

رقص مع الدراويش.. هارموني

أن تُدعى إلى الليلة الكبيرة وترى رقص الدراويش لا ينجيك من العدوى

لأن في لحظة ما لا تدري كيف لحمى الرقص أن تأخذ بيدك، تطيح بك على أرضيتها.

شعرية سركون بولص اختلاط عذب، مرير مثل ليلة دراويش كبيرة، الرقص والراقص، الموشَّح والوشّاح، الإلهي والبشري في انسجام. أدرك سركون منذ البدايه أن الكتابة إنما عيش وانقطاع وعزلة وحالة المرء المتلقي هي الأخرى هوى وانقطاع وعزلة، لذلك عليهما معاً أن يندمجا في لحظة مقتطعة من سربلة الوعي المعتاد، اندماج في الرثم والمعنى والجو المشحون وما من شيء أقرب إلى تلك الحالة سوى الرقص مع الدرويش... إنما هارموني.

أدرك سركون أن شكل ومحتوى العيش يحدد شكل ومحتوى القصيدة، لا يمكن لأحدهما التعويل أو الاختفاء خلف الآخر مثلما لا يمكن التفريق بين الرقص والراقص، البشري والإلهي، تواز ضروري يقود في النهاية إلى حالة تماهي مثلما الزوج والزوجة بعد عيش طويل كالأبد، يشبهان بعضهما بعضاً كتوأم. على الشاعر أن يضع كلمة مقابل كل شعور غامض ويحافظ على ما للكلمة من سرّية؛ بهذا فالقصيدة في حديقة سركون لا تأتي من وهم أو تصعيدات حاذقة عالية، بل هو هذا التناسق الضروري من أجل إغواء المعنى المستتر أن يكشف عن نفسه مثل مروض جياد حاذق أو معرض ضوء يتبدى فيه المشهد الإنساني برمته.

لا بد لحلمٍ باحث عن ضالته بين "معابد غريقة"، بين "خواتم أرباب سومر" و"مسامير إسكافي كركوك المُرّة"، لا بد لهُ أن يتبع " كأساً طافية بين يديه" نحو عواء مدينة كينسبرغ مروراً بحوانيت الليل المريضة، شوارع هرمة، أجناس بشرية و رقص ، "ملصقات أعمدة مترو" و هواء " أرخبيلات ممزقة ".  " أدراج تخفي نساء بعيون ساحرة خلف بيبان زرقاءَ في ميناء يوناني" لابد لهكذا حلم في نهاية كل رحلة أن يأخذ حماماً ساخناً في حمامات الأزمنه، تلك التصالحات التي لا تهدأ بين الوقت و التاريخ، بين الله و الرغبه، لا بد لهكذا حلم ان يفرك جلده "بكمشة حروف  و فوارز مثل طيور النورس بين أشرعة السفن".

لا بد لهكذا حلم أن يرتقي مدرجاً أثرياً، علّ تعويذة أو و صفة صلاة قديمة سقطت سهواً من يد عابد منذ طوفانات ، لا بد لهكذا حالم أن يمتهن العطش كصحارى و الارتواء أزمنة و صلوات.

حديقة سركون و بائع الشاي في باب المعظم

التراب في حديقة العائلة شخصي، زهور و شتلات، طابو العائلة عبر أجيال. بيد أن هواء وأمطاراً ربما حميمية، تدفعُ بالحدائقِ سراً نحو الجميع مثل رعاة وقطعان ماشية. لا داعي لأن نتواعد، سنلتقي أبداً ما دمنا ندفعُ بالماشية عبر المسالك والشعاب! هكذا كانت أغنية رعاة البقر في أمريكا. لا داعي للمواعيد أو الأجوبة لأننا سنلتقي ما دمنا ندفعُ بالأسئلة عبر أرحام وولادات. نلتقي عبر سركون، دوموزي وعشقه، نحن وهذا الوله مثل كأس نبيذ عتّقَ بمحبة كاهن قديم. حديقته الشعرية ومن يقصدها.

بائع الشاي في مقهى الجُباة في باب المعظم يعتقد أن أفضل كأس شاي ينبغي أن يكون حاراً، دبقاً وبخيط مرارة. حديقة سركون بولص شخصية فيها زهوره تنمو بعذاب عاقل وجميل، تمجدُ خيط المرارة تلك القوة الدافعة. أنساغ أشجاره أوردة وشرايين. لأن الكلمة قواعد، مفاعيل وضمير حي يتفتح عبر " ليل يتكوم على أبرشية "عذابات وحلم. يعرف أن الدورة الدموية داخل الكائنات ولادات دائمة والولادة ألم، عليه أن يموت في أروقة الدورة الدموية للقصيدة كي يرى الرب. يعرفُ مثل صائغ أو غطاس عماني أن ذرة الرمل تؤرق عيش حيوان المحّار، لكنهُ يعرف كذلك؛ أن كل مقاومة، كل ألم وكل ذرة رمل تؤرق عيش المحّار، إنما هي لؤلؤة بالنهاية.

" اتبعُ كأساً طافيةً بين يدي "

عابد على ضياء خافتة و بأدوات عشاء بسيطة، يعدّ لصلاة، صلاة حارة و دبقة و بمسحة مرارة يدفعها سراً نحو دروب مثل كأس بشرية يشرب منها الجنود و الموتى و كلما أكمل كلمة صب عليها خمسة غرامات ضوء من " حامل الفانوس في ليل الذئاب" كي تُرى و يراها الذئب و يتدفئان.

... " تعال الى حافة القلب، هناك سأكون كلامك. "

في رسالة يكتب سركون ما يلي: "... أريد أن أتعافى وأعود إلى نفسي بعد العملية - رغم أني لا أعرف ما هي نفسي؟"

هل كان سركون يفكر بهذا المقطع أعلاه " تعال إلى حافة القلب، هناك سأكون كلامك " عندما كتب عن نفسه في الرسالة ولا يعرف ما هي نفسه؟

تُرى هل كان يفكر في تلك العملية، التي أجريت لهُ في القلب، أنها ربما خَرّبت حوافَ القلب، تلك الحواف التي يدعونا إليها هو، ليكون كلامنا.. هل خشي خراب الحواف من أجل نفسه التي لا يعرف أم من أجل الشعر وما سوف يقول لنا هناك، أن انتظرنا عند الحواف ليحدثنا عن القضية برمتها؟

دعونا نقرأ هذه القصيدة لسركون بولص:

لا شئَ منذ ُ آدم

مقطوعة ٌ من الجذر هذه الأنشودة.

هذا الفيضُ من الدُعاء ِ ليلاً ، وإلى مَن هوَ مرفوع ٌ؟

تنزلُ الفأسُ ، وما من حَطـّاب.

لا الغابة ، بل الشجرة

وحدَها ، تتلقّى الضربة.

في غَور البُستان ، تتلعثمُ الظلمة

تعلوها سماءٌ مستورة ٌ بصوفٍ

من غَزْل النجوم ِ، فوقي ، أنا المتعرّي من هذا

القميص ِ، ولستُ حتى يوسف.

تذهبُ الأغاني . تجيءُ المراثي.

لا شئَ منذ ُ آدم غيرُ ملحمة التُراب.

السماءُ تحتضنُ غيمتـَها اليتيمة

والليلُ يقبلُ أن تـُرقـّـعهُ ألفُ نجمة.

سركون بولص

·       كتبت هذا الانطباع كتجربة للعمل على ذاكرتي كقارئ لسركون بولص بوصفه زمناً شعرياً، وحاولت بعض الرقص مع الدرويش. كانت التجربة عميقة بالنسبة لي، كلّ المقاطع المكتوبة بالخط السميك المائل هي مثلما تعرفون لسركون بولص، من قصائده، عناوين قصائده، أو أنها من الذاكرة التي علقت بذهني عنه كأجواء كلام.